الإصلاح السياسى فى أمريكا!
تعكس الصحافة الأمريكية فى هذه الأيام شعور العالمى الأمريكيين بالضيق لما وصلت إليه الأحوال من سوء فى مجال الحريات المدنية، ولا يقتصر النقد الشديد الموجه إلى الإدارة الحالية على ما قامت به من خداع للرأى العام الأمريكى والعالمى لتبرير غزو العراق، ولكن النقد يمتد إلى سلب هذه الإدارة حقوق المواطن الأمريكى الأساسية وحرياته التى كان يعتز ويفخر بها فى العالم.
افتتاحية (هيرالد تريبيون) يوم 23 سبتمبر كانت مخصصة للهجوم على الرئيس بوش، وعلى خطابه فى الأمم المتحدة، لأنه بدلا من أن يعترف بالأخطاء الخطيرة التى ارتكبتها إدارته بشأن العراق، وبدلا من أن يتوجه إلى العالم طالبا المساعدة لإعادة الأمن إلى العراق ومساعدة شعبه على إعادة بناء ما دمرته الحرب الأمريكية، وبعد فشل الإدارة الأمريكية فى تحقيق وعودها بأن يصبح العراق ديمقراطيا وحرا، فقد أصبح ممزقا وجائعا وفاقدا للحرية والأمن، بدلا من ذلك القى بوش خطابا مليئا بالتحدى كعادته، كعادته إعطاء صورة خادعة عن الوضع الأليم الذى صار إليه العراق، ولم يدرك أن العالم على علم بالحالة الحقيقية وبدلا من أن يتوجه بالرجاء إلى الدولة الكبرى لتسهم فى إصلاح ما أفسدته الحرب، توجه إليها بالتوبيخ لرفضها الانصياع لقراراته، وحتى عندما تحدث عن القضايا التى تحظى باتفاق جماعى مثل محاربة الإيدز، وتخفيف الديون على دول العالم الثالث فإنه وجه المديح إلى نفسه وإلى سياساته هو بدلا من أن يطالب بتجمع الجهود الدولية مع أمريكا.
وتقول (هيرالد تريبيون) إن الرئيس بوش لم يظهر الاحترام للأمم المتحدة منذ تولى الحكم، ولا يدرك حتى الآن أن المخرج للولايات المتحدة هو التعاون مع الدول الأخرى فى مشاركة حقيقية.. مشاركة فى رسم السياسات للمرحلة القادمة وفى اتخاذ القرار.. وإذا لم يسارع بكسب الدول الكبرى إلى جانب الولايات المتحدة بمساعدتها فإن الجنود ودافعى الضرائب الأمريكيين سيدفعون ثمنا باهظا بسبب إصرار واشنطن على السيطرة والانفراد بصناعة القرارات العسكرية والسياسية والاقتصادية التى ترسم مستقبل العراق بعد الغزو.. وكان رد فعل الدول هو الاستماع إلى الخطاب دون اهتمام والامتناع عن تلبية مطلب الإدارة الأمريكية بالمشاركة فى الورطة فى العراق بإرسال قوات أو تقديم مساعدات مالية، ومع تدهور الأوضاع فى العراق، ورفض الرأى العام فى الدول الديمقراطية، ليس هناك أمل فى تغيير سياسات الدول بالضغوط الأمريكية، ولا بد من توجه جديد تبدى فيه الإدارة الأمريكية الاحترام للمجتمع الدولى وللمنظمات الدولية، وتتعامل مع الدول كشركاء حقيقيين وليس كتابعين، ولابد أن تأخذ الإدارة الأمريكية آراء ومصالح الدول الأخرى فى اعتبارها، فهذا افضل من الاستمرار فى العناد والتبرير وتجميل الأخطاء وإلقاء اللوم على الآخرين!
ويمتد النقد إلى ما صارت إليه الحريات فى داخل الولايات المتحدة ذاتها، حتى أصبحت الإدارة الأمريكية تفرض السرية على كل شىء تقريبا، وكأن المواطن دافع الضرائب لا شأن له ولا حق له فى معرفة الحقائق والاطلاع على المعلومات، وفقا للتقليد الأمريكى القديم.. وقد أصدر جون دين مستشار الرئيس نيكسون كتابا بعنوان (أسوأ من ووترجيت) قال فيه إن الرئيس نيكسون كان يفرض ستارا من السرية للتغطية على فضيحة ووترجيت، لكن إدارة بوش زادت كثيرا، فهى تفرض سرية مفرطة وغير مبررة وغير معقولة حتى أصبحت حكومة مغلقة، وقد ازداد عدد الوكالات التى تتمتع بسلطة فرض السرية على معلوماتها ووثائقها بما فى ذلك الأجهزة التى تعمل فى مجالات الصحة، ووكالة حماية البيئة، ووزارة الزراعة، وفى مارس 2003 وقع الرئيس بوش على أمر تنفيذى يحول دون معرفة الرأى العام بالمعلومات لمدة تقرب من خمسة وعشرين عاما، ولم يعد فى الإمكان الاستفادة بقانون حرية المعلومات كما كان الحال فى الإدارات السابقة، وزادت رسوم الاطلاع على المعلومات، واصدر الرئيس بوش أمرا تنفيذيا يعطل القانون الذى يسمح بالاطلاع على بعض السجلات الرئاسية السابقة والحالية.. وهكذا لم يعد التاريخ الأمريكى معتمدا على الوثائق، ولم يعد للرأى العام الحق فى الاطلاع على المعلومات.. فماذا بقى من الحريات للأمريكيين؟ أليسوا فى حاجة إلى إصلاح سياسى أولا لاستعادة الحرية وحقوق المواطنة؟