لندن.. مدينة النور!


منذ ذهب رفاعة الطهطاوى إلى باريس فى عهد محمد على وكتب بعد عودته كتابه الشهير «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز».. منذ ذلك الوقت وكثير من الكُتاب والمفكرين يعتبرون العاصمة الفرنسية «باريس» مدينة النور، ويقصدون أنها عاصمة الحرية الفكرية والأدب والفن.. طه حسين، وتوفيق الحكيم جذبهما سحر باريس فلم ير أحدهما النور فى عاصمة أخرى..
ولقد زرت باريس أكثر من مرة وأعجبت بالثقافة والحضارة والذوق الرفيع، وبالحى اللاتينى وشارع الشانزليزيه وميدان الكونكورد ونهر السين وجامعة السوربون ومتحف اللوفر وغابات بولونيا وبيوت كبار الأدباء والفلاسفة التى تحولت إلى متاحف.. جان جاك روسو، وفولتير، وديكارت، وبسكال، وموليير، وفيكتور هيجو، وعشرات غيرهم أضاءوا العقول والقلوب.. ولكنى أجد للعاصمة البريطانية لندن مذاقا خاصا، ربما لأن الفرنسيين لا يحبون الأجانب خصوصا إذا كانت ملامحهم عربية ومظهرهم يدل على أنهم مسلمون، بينما لندن مليئة بالسيدات المسلمات والجلباب والخمار وأيضاً بالنقاب، وبالرجال بالسراويل الباكستانية والجباب العربى، والذقون الطويلة، واللهجات العربية الخليجية والمصرية واللبنانية والمغربية، ولا أحد يهتم بمعرفة جنسيتك أو ديانتك.. ففى لندن عشرات المساجد والمعابد اليهودية والبوذية ولكل الديانات والعقائد السماوية وغير السماوية بلا مشاكل.. ولا أحد يسألك عن البطاقة الشخصية لأن بريطانيا ليس فيها بطاقات شخصية أو عائلية، ومادمت تسير فى طريقك ولا ترتكب مخالفة فأنت حُر وكرامتك محفوظة وكل من يحدثك يحدثك بمنتهى الأدب.. الإنجليز مشهورون بالأدب فى التعامل.. لا تستطيع أن تحدث عامل النظافة إلا إذا قلت له من فضلك اعمل كذا وبعدها لابد أن تقول شكرا وهكذا مع كل إنسان تعامله ويعاملك..
***
أذهب إلى لندن لكى أتنفس بعد أن أختنق بالتراب والهواء الملوث فى القاهرة ويطلب منى الطبيب أن أبتعد عن القاهرة ونسبة أول أكسيد الكربون من عادم السيارات وصلت إلى درجة ومنتهى الخطورة.. أذهب لأتنفس وأشعر بحريتى وكرامتى.. فى لندن أكثر من 200 جنسية بعضهم من أصول أفريقية أو هندية.. ووفقاً لآخر إحصائية فإن 10% من سكان لندن من الهند وبنجلاديش وباكستان، 5% من دول أفريقيا السوداء، و5% من دول الكاريبى، و4% من الصين وجنسيات أخرى.. أى أن ربع سكان لندن ليسوا بريطانيين، ولذلك يقولون إنها مدينة متعددة الثقافات وهم فخورون بذلك.. ولندن هى أكبر مدينة فى أوروبا يزيد سكانها على 8 ملايين قليلاً، وهى أكبر مدينة سياحية فى أوروبا يكفى أن مطار هيثرو يستقبل طائرة كل ثلاث دقائق.. وهى اليوم من أكبر أسواق المال والأعمال تنافس نيويورك وفرانكفورت وطوكيو، وفيها أشهر فرق الكرة فى العالم مثل مانشيستر يونايتد وتشيلسى، وفيها أشهر فرقة موسيقية سيمفونية وإنتاجها الموسيقى والغنائى من مصادر الدخل القومى، وطبعا هى بلد الصناعة والتصدير، وهى بلد الاختراعات.. القطار.. الكهرباء.. التليفون.. والأدوية.. أما البحث العلمى فهو الصناعة رقم واحد..
***
ولندن عاصمة البلد الذى أنجب العباقرة فى العلم والأدب والفلسفة، والسياسة أيضاً، هى بلد دزرائيلى وتشرشل ومارجريت تاتشر، وهى بلد شكسبير، ودارون، وفريق البيتلز الذى نجح فى غزو العالم، وهى بلد تشارلز ديكنز، وبرنارد شو، ود.هـ. لورانس، ولورد بايرون، وجورج اليوت، وتوماس هاردى، وجون فيلتون، وشارلوت برونت وإيميلى برونت، وغيرهم مئات آخرهم جى. كى. رولينج مؤلفة سلسلة روايات هارى بوتر التى يباع منها عشرات الملايين من النسخ وتحول بعضها إلى أفلام وتحولت شخصياتها إلى تماثيل وألعاب للأطفال وحققت من ورائها مليارات (!)
أذهب إلى لندن لأتنفس.. فى هذه المدينة 1700حديقة فى مساحة 110 كيلو مترات مربعة.. هل تصدق؟ حدائق هايد بارك الشهيرة مساحتها 360 فدانا (!) تجد فيها زحاما من كل الأجناس بعضهم يمارس رياضة الجرى أو المشى، أو قيادة الدراجات أو التزحلق بالأحذية ذات العجلات، وبعضهم يتسلى بتقديم الخبز للبط والحمام عند البحيرة الواسعة أو يركب قاربا لنزهة فى البحيرة، وبعضهم يذهب إلى ركن الخطابة حيث تجد أصحاب الرأى من العقلاء والمجانين يقفون على مقاعد وكل منهم يقول ما يريد والبوليس يقف لحراسته، سمعت واحدا يهاجم الملكة ونظام الملكية ويقول إن هذا النظام يكلف الدولة عشرات الملايين من الجنيهات الاسترلينى من أموال دافعى الضرائب بدون عائد غير مظاهر الأبهة ولم توجه إليه تهمة العيب فى الذات الملكية.. مع أن قصر باكنجهام مقر الملكة فيه جزء مفتوح للزوار بتذاكر لتنمية الموارد (!) وكذلك قصر حدائق كينسنجتون الذى يعيش فيه الأمير ادوارد وزوجته كيت تستطيع أن تدفع ثمن التذكرة وتدخل لتتجول فيه..
لن أحدثك عن بقية الحدائق والغابات.. ريجنت بارك وفيها حدائق الحيوانات، ويرجع تاريخها إلى عام 1820 أنشأها الملك هنرى الرابع.. وجرين بارك.. وسانت جيمس بارك.. وريتشموند بارك وهى غابة تزيد مساحتها على مائة فدان.. هكذا أجد الفرصة لأتنفس هواء نقيا.. وأدعو الله أن أجد فى مصر شيئا منه.
***
ولندن مشهورة بأنها مدينة الضباب وهى كذلك فى فصل الشتاء من نوفمبر إلى فبراير (4 شهور) وفى الربيع من مارس إلى مايو فالجو صحو ليس فيه ضباب، وفى الصيف من يونيو إلى سبتمبر فالجو قريب من جو القاهرة فى سبتمبر، وعشت هذا العام أياما كانت الحرارة مثل صيف القاهرة الساخن..
وفى النهاية:
وطنى لو شُغلت بالخلد عنه
نازعتنى إليه فى الخلد نفسى
رحم الله شوقى أمير الشعراء فقد عبر عما فى نفسى.


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف