بصراحة.. الأزهر يحتاج إلـى إصلاح شامل
ونحن مشغولون بتحديد أولويات الإصلاح الشامل، فإن إصلاح الأزهر يجب أن يتصدر قائمة هذه الأولويات.
وطبيعة الظروف الدولية، والحملات الشديدة التى يتعرض لها الإسلام والمسلمون فى أنحاء العالم تفرض علينا أن نقول بصراحة إن الأزهر بوضعه الحالى ليس قادرا على القيام بالمهام الجديدة الصعبة المفروضة عليه للدفاع عن الإسلام والمسلمين وإعادة صورة الإسلام بسماحته إلى المسلمين أولا وإلى الغرب ثانيا. وتجديد الخطاب الدينى فى داخل العالم الإسلامى ثالثا!
ولابد أن نتحدث فى الموضوع بصراحة.. لأن السكوت فيما يمس دين الله وشريعته جريمة.
ففى كل يوم تصدر كتب وتنشر مقالات ترسخ فى العقل الغربى العداء للإسلام، وتقدمه فى صورة مشوهة، وتستغل جرائم الذبح والقتل التى ترتكبها الجماعات الإرهابية لتصوير الأمر على أن الإسلام والإرهاب شىء واحد، وتنبش فى الكتب القديمة عن الأفكار المنحرفة التى دسها أعداء الإسلام الذين دخلوا فيه بقصد تخريبه من الداخل، وقدموا أفكارا وتفسيرات تتعارض مع طبيعة الإسلام وادعوا أنها التعبير عن حقيقة الإسلام.
كيف لا تكون رسالة الأزهر تقديم الإسلام على حقيقته للغرب، وكيف لا يكون فى الأزهر جهاز متخصص على درجة عالية من الكفاءة والوعى للرد على هذه الافتراءات.
ولقد انتشرت نظرية صراع الحضارات وأصبحت جزءا من نسيج الفكر الغربى فى هذه المرحلة، وتم اختزالها فى أمر واحد، هو حتمية الصراع والتصادم بين الغرب والإسلام، والادعاء بأن قيم الإسلام تكرس التخلف الفكرى والاجتماعى والاقتصادى، وتتعارض مع التجديد والتقدم، وتدعو إلى قمع الحريات ومعاداة الديمقراطية. ومهما قلنا فإن هذه النظرية موجودة وتزداد انتشارا وتغلغلا فى المجتمعات الغربية، وهناك طبعا من يغذيها ويزيد من اشتعال الكراهية للإسلام. وله مصلحة فى ذلك لا تخفى علينا.
ما يحدث فى الغرب خطير، والأزهر حتى الآن يواجه هذه الحرب بنفس العبارات والشعارات المكررة التى لا تقنع العقل الغربى ولا تناسب ثقافته. الأزهر يكتفى بالحديث إلى المسلمين عن سماحة الإسلام ولا يوجه هذا الحديث إلى الغرب، وليست لديه قنوات اتصال مع الغرب والأزهر يتحدث باللغة العربية ويدافع بها عن الإسلام والناس فى الغرب لا يقرأون ولا يسمعون ولا يصلهم شىء من هذا الجهد.
والإعلام الغربى ينشر صفحات كل يوم عن عمليات القتل التى يقوم بها إرهابيون يدعون أنهم مسلمون، ويشعر الغربيون بالاشمئزاز من هذه الوحشية التى يتم بها قطع رؤوس مدنيين مسالمين لا ذنب لهم ولا جريرة، ويشعر الغربيون بالحيرة ولا يفهمون كيف يمكن أن يسمح دين سماوى بقتل الأبرياء عشوائيا، وكيف يبيح دماء الناس بينما يقول لهم ربهم أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا. ومن حق العقل الغربى أن يعجز عن فهم هذا التناقض بين من يقول بأن دين الإسلام دين التسامح وبين أفعال من مسلمين تدل على التعصب، وكيف يقال إنه دين الرحمة بينما يشاهد الغربيون على شاشات التليفزيون أشد صور الوحشية؟!، وكيف يقال إنه دين الاعتدال بينما يرى الغربيون جماعات المتطرفين يعلو صوتها وتملأ الساحة بأعمالها الشاذة؟!
كيف تقنع الناس فى الغرب بأن هذه الجماعات وهذه الأعمال لا تعبر عن حقيقة الإسلام؟
وكيف نقدم لهم بالقول والعمل معا الصورة الحقيقية للإسلام؟
وكيف نوصل إلى الغرب حقيقة هذا التطرف من شباب فقد القدرة على التمييز، واستسلم لانفعالاته تجاه الظلم الواقع على الإسلام وما يعانى منه المسلمون فى فلسطين، وكيف نشرح للشعوب الغربية أن حل المشكلة الفلسطينية وتحرير العراق من الاحتلال وإعادة الاستقلال والكرامة إلى شعبه وفقا لمبادىء العدل والشرعية هو الحل الأمثل لهذه النزعة الجامحة المتطرفة، وكيف نوضح أن هذا التطرف له أسباب اجتماعية وسياسية وليس نابعا من عقيدة الإسلام ذاته؟
أليست هذه هى المهمة الأولى للأزهر؟
***
وفى الدول الأوروبية الآن محاولة لفهم الإسلام، ومواجهة موجة الكراهية والعداء للإسلام والمسلمين، وهناك جهود للحوار بين الأديان بهدف إيجاد مساحة للفهم والتفاهم بين أهل الأديان السماوية، وهذه المحاولة لابد أن تجد التجاوب من الأزهر، ولا يكون ذلك بعقد لقاء أو أكثر للحوار، ولا بتعيين شخص أو اثنين للاشتراك فى الحوار، ولكن يجب أن تكون فى الأزهر إدارة للحوار، فيها مجموعة كبار رجال الفكر الدينى والاجتماعى والسياسى، على غرار الإدارات المماثلة سواء فى الفاتيكان أو فى الكنيسة البريطانية وغيرها. وأرجو ألا يقال إن هذه الإدارة موجودة لأن ذلك ليس المقصود وليس المناسب لمكانة الأزهر ومكانة مصر فى العالم.
***
ولا يكفى أن نكرر الحديث عن سوء نوايا الذين يهاجمون الإسلام فى الغرب، أو الكشف عن العلاقة التى كانت بين أكثر المستشرقين الذين قدموا الإسلام للغرب وبين إدارة المستعمرات وأجهزة المخابرات والجماعات السرية المعادية للإسلام فى أوروبا وأمريكا، فالدور الذى قام به البحث العلمى غير المحايد وغير النزيه تمهيدا لغزو العالم الإسلامى واحتلاله عسكريا واقتصاديا وثقافيا.. هذا الدور ليس خافيا، ولكن يجب ألا نكتفى بترديد ذلك وألا نستسلم له.. ولابد أن نتصدى له ونكشفه ونوضح الحقائق فى مواجهة الافتراءات والأكاذيب.
كذلك لا يكفى أن نجتر المرارة كل يوم ونحن نقرأ ونسمع ما فى الصحف وشبكات التليفزيون فى الغرب وما يصل إلينا عن التفرقة والتمييز ضد المسلمين.
لابد من البدء، الآن وفورا فى إعادة بناء الأزهر على أسس جديدة.. ليقوم بدوره كاملا.. وهو دور كبير لا يمكن أن تقوم به مؤسسة أخرى فى العالم الإسلامى. غير الأزهر فالأزهر هو القلعة الحصينة للإسلام، وفيه أكبر العقول من أصحاب الفضيلة والعلم، وله مكانة لا تدانيها مكانة فى العالم الإسلامى وخارجه، وقد لمست بنفسى فى بلاد عديدة كيف يُنظر إلى الأزهر على أنه أكبر مؤسسة تعبر عن مبادىء وقيم وروح الإسلام تعبيرا صحيحا وعقلانيا.
كل ذلك صحيح، لكنه لا ينفى أن الأزهر ينقصه الكثير، ويحتاج إلى تجديد، لأن العالم اختلف عما كان عليه، ولابد أن تكون مؤسساتنا الدينية على مستوى متطلبات هذا العالم الجديد.
***
وهناك حقائق من صالح الإسلام وصالح الوطن يجب ألا نخفيها:
أولا: لقد مضى على تطبيق قانون إعادة تنظيم الأزهر أربعون عاما تقريبا، وهناك شبه إجماع على أن مستوى خريجى الكليات أصبح أقل مما كان مقصودا ومأمولا، ومن علماء الأزهر من يطالبون بإعادة النظر فى هذا القانون ولائحته التنفيذية، وبالنسبة للكليات التى أنشئت بعد هذا القانون فقد عجزت حتى الآن عن تحقيق النموذج الذى وضعه قانون التطوير، فلم تخرج هذه الكليات أطباء ومهندسين ومحاسبين وأخصائيين فى مهن أخرى يجمعون بين استيعاب الدراسات الدينية والدراسات العلمية التخصصية فى توازن وتكامل، يجعل تعمق الخريج فى العلوم الدينية يتساوى أو يقترب من تعمقه فى دراسة علوم الطب والهندسة والصيدلة وغيرها، تحقيقا للفكرة التى قيلت عام 1961 حين صدور قانون تطوير الأزهر بأن الدعوة للإسلام يجب ألا تكون مقصورة على علماء الدين وعلى المنابر وحدها، ولكنها عمل يومى بالسلوك والحوار والتعامل من كل مسلم، ولذلك فإن الطبيب أو المهندس أو الصيدلى أو المحاسب خريج الأزهر سيكون نموذجا وداعية ورسولا للأزهر حيث يذهب.
هل تحقق ذلك؟
. . . . . !
***
لاشك أن الخلل أصاب النظام التعليمى بالأزهر، وكان المفروض أن تحتفظ كليات الأزهر - بعد قانون التطوير- بمقوماتها التى تتميز بها عالميا وبمستواها الرفيع فى دراسة علوم الدين واللغة وفقا للتقاليد العريقة للأزهر التى استمرت أكثر من عشرة قرون، ولكن حدثت تنازلات كبيرة فى مواصفات طالب الأزهر، فقبل التطوير كان حفظ القرآن الكريم كاملا شرطا لا تسامح فيه لقبول الطالب فى المعاهد الأزهرية، وقد تم التحلل من هذا الشرط بالتدريج على مدى السنوات الأربعين الماضية، وأصبحت المعاهد الأزهرية تقبل تلاميذ لا يحفظون إلا القليل من كتاب الله، وبدأ التراجع باعتماد الامتحانات الشكلية فى حفظ القرآن بعد أن كانت امتحانات مشهودا لها بالدقة والشدة وعدم التهاون، والقرآن هو محور الدراسة فى الأزهر، وهو المصدر الأول لكل ما يتصل بالإسلام عقيدة وشريعة. وقد أثبتت تجربة السنوات الأربعين الماضية أنه من المستحيل أن يتساوى من حفظ القرآن كاملا حفظا حقيقيا ومن حُرِم من حفظ معظمه، من المستحيل أن يتساوى الاثنان فى دراسة وفهم العلوم الدينية واللغوية.
وقد حدث تنازل آخر، وأصبحت معاهد الأزهر تقبل الطلبة أصحاب المجاميع التى تقل عما تقبله مدارس وزارة التعليم فيها، وهؤلاء يتوجهون إلى المعاهد الأزهرية لا رغبة فى هذه الدراسة، ولكن لأنهم لا يجدون فرصة فى غيرها، فهم فيها بلا رغبة وبلا استعداد. وقد انتشرت المعاهد والكليات الأزهرية بحيث يصبح ضمان جودة التعليم فيها، وهكذا انتقلت مشكلة تغليب الكم على الكيف من التعليم العام إلى التعليم الأزهرى، مع أن التعليم الأزهرى لا يدخل ضمن التعليم الإلزامى مثل التعليم العام، والأزهر ليس مضطرا لقبول كل من يبلغ سنا معينا كالتعليم العام، ومهمة التعليم الدينى بالأزهر غير مهمة التعليم العام، والتعليم الدينى يجب أن يراعى الكيف وليس الكم، ولا يكون التوسع فيه إلا بعد أن تتكامل مقوماته واحتياجاته من المعلمين المتخصصين على أعلى مستويات التخصص والكفاءة. ونحن قد نقبل على مضض أن يكون خريج كليات الزراعة أو التجارة أو غيرها بنصف كفاءة، ولكن لا يمكن أن نقبل أن يكون من يعمل فى مجال التوجيه الدينى ويتولى أمور الدعوة، والافتاء، والوعظ، والتعليم، لا تتوافر فيه شروط الكفاءة كاملة دون تهاون فى شرط منها. فإذا كان مقبولا أن يكون الموظف بنصف كفاءة، فلا يمكن قبول فقيه أو داعية أو معلم دين بنصف كفاءة، لأن من يتولى شئون الإفتاء وتعليم الناس العقائد وتعاليم الدين فى العبادات والمعاملات لابد أن يكون مؤهلا لذلك تأهيلا كاملا، وإن لم يكن كذلك فإن العواقب خطيرة على الدين والدنيا. وهذا القصور فى الإعداد هو السبب فى الفوضى التى نشكو منها فى مجالات التوجيه الدينى، بحيث يفتى البعض ويعتلى المنبر بغير علم كاف، ولو كانت سياسات القبول، ومناهج التدريس فى الأزهر قائمة على أساس رؤية واضحة للهدف من التعليم الدينى ورسالته لَمَا حدث ما نشكو منه.
ولكى نعيد للأزهر ولخريجيه المكانة التى تليق به وبهم فإن إعادة تخطيط سياسات القبول ومناهج الدراسة فى جميع المراحل من المعاهد الابتدائية إلى الكليات الكثيرة التى انتشرت لابد من وقفة جادة لإعادة بناء هذه المعاهد والكليات على أسس سليمة وبإمكانات كاملة وقواعد تتفق مع مكانة الأزهر.
***
ونحن نتحدث عن الحوار بين الحضارات فى مواجهة نظرية صراع الحضارات، وهذا يعنى أن تكون لدينا مجموعات من رجال الدين المؤهلين للاشتراك فى هذا الحوار، لديهم فهم لما يجرى فى العالم، ودرسوا النظريات والأفكار والأبحاث التى نشرت ضد الإسلام، ولديهم المقدرة العلمية، وتم تدريبهم على الأسلوب العلمى للحوار وأسس التفاوض..
وهذا يستلزم أن يكون لدينا جيل من علماء الأزهر يجيدون الحوار باللغات الأجنبية، وأرجو ألا يقال إن تدريس اللغة الإنجليزية موجود فى الأزهر لأن العبرة بالنتائج، وخريجو الأزهر لا يجيدون أية لغة أجنبية إجادة تجعلهم قادرين على أداء هذه المهمة. وأرجو ألا يقال إن فى الأزهر كلية اللغات والترجمة لأن الحقيقة هى أن خريجيها لا يختلفون عن خريجى كلية الألسن فى المستوى والتعمق فى الدراسة الدينية.
ولابد من الاعتراف بالقصور الشديد فى تدريس اللغات، والاعتراف بالحق فضيلة.
***
وهناك مسألة شديدة الحساسية ولا أعرف كيف تمكن معالجتها. لكن الأمانة تقتضى الإشارة إليها. وهى أن شيخ الأزهر له مكانة كبرى فى العالم الإسلامى وهو أهل لهذه المكانة بعلمه وعقليته المتفتحة وسماحته، وفى الغرب ينظرون إليه على أنه يوازى بابا روما، وهذا طبيعى لأن بابا روما هو رأس الكنيسة الكاثوليكية وتأثيره الكبير فى العالم معروف، وفى ذهن كثيرين فى الغرب أن شيخ الأزهر له مكانة مماثلة، فهو رأس المؤسسة الإسلامية السٌنية، وهو صاحب الكلمة ذات التأثير والاحترام لدى المسلمين جميعا.
ومن الطبيعى أن يذهب إلى شيخ الأزهر كل الشخصيات الدينية فى العالم، وأن يلتقى به كل مسئول فى دول العالم شرقه وغربه لكى يستمع منه إلى رأيه فى كثير من القضايا المطروحة الآن فى الساحة الدولية. ومن كانت له مكانة مثل مكانة شيخ الأزهر لا يمكن أن يكون وحده، ولابد أن يكون له مجموعة مستشارين خبراء فى تخصصات متعددة، وعلى الأقل لابد أن يكون له مستشار سياسى على مستوى عال ومتحدث رسمى، ولابد من إعادة تنظيم مكتب شيخ الأزهر على أساس علمى وإدارى سليم، بحيث تكون إلى جانبه مجموعات عمل لدراسة الموضوعات قبل عرضها عليه، وإعداد البحوث التى يحتاج إليها، ومتابعة ما ينشر وما يقال فى مختلف وسائل الإعلام العالمية ليكون على إلمام بكل ما يجرى.
لا أريد أن أطيل فى هذه النقطة، ويكفى أن أقول باختصار: إن الأزهر يحتاج إلى إصلاح شامل..
وليس فى هذه الدعوة جديد فهى نداء المسلمين فى كل العصور من الشيخ محمد عبده إلى الشيخ الشعراوى، إلى الشيخ عبد الحليم محمود إلى الدكتور محمد سيد طنطـاوى.. ولا خلاف عليها من محبى الأزهر والحريصين على حمايته من أعدائه وأعداء الإسلام، والمدافعين عن مكانته العالية، ليظل الحصن الحصين للإسلام والمسلمين.
فهل يمكن أن نبدأ؟