التقريب بين السنة والشيعة ممكن.. أو مستحيل؟
 هل من الممكن التقريب بين السُنّة والشيعة أو سيبقى التباعد بينهما إلى الأبد؟
أليس غريبا أن يكون الشيعة والسُنّة أصحاب دين واحد، يؤمنون بالله ربا، وبالإسلام دينا وبالقرآن كتابا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، ومع ذلك يبدو الأمر كما لو كان لكل منهما إسلام مختلف عن إسلام الآخر؟.
وهل من مصلحة الإسلام والمسلمين أن يستمر الانقسام بينهم ويصل إلى حد القطيعة، أو مصلحتهم فى أن يتوحدوا فى صف واحد، يلتقون على ما يتفقون عليه، ويتركون ما يختلفون عليه للزمن، وللحوار، فقد يأتى يوم وتختفى نقـط الخلاف، أو يمكن حصرها فى أضيق نطـاق ممكن فى مسائل الفروع التى يجوز فيها الخلاف؟.
هناك محاولات جادة على مدى أكثر من نصف قرن للتقريب بين المذاهب آخرها مؤتمر عقد فى البحرين فى سبتمبر 2003، كان هدفه السعى إلى رأب الصدع فى بنيان الأمة الواحدة، ونبذ أسباب الفرقة والخلاف وبدء العمل للوحدة الإسلامية. وكانت ضمن أبحاث المؤتمر: كيف يمكن معالجة الآثار السلبية للخلاف المذهبى بين المسلمين؟. وكيف نعمق ثقافة الحوار كبديل لثقافة التكفير؟ وما هو دور علماء ومفكرى المسلمين والمؤسسات العلمية والتربوية والإعلامية؟ وكيف نعيد للاجتهاد عصره الزاهر ليسهم فى خدمة قضايا المسلمين المعاصرة بضوابط الاجتهاد وشروط المجتهد المقررة؟.
قضايا مهمة استمرت مناقشتها ثلاثة أيام شارك فيها 107 من أكبر العلماء والشخصيات الدينية من 25 دولة شملت: مصر، والبحرين، والأردن، وألمانيا، والإمارات، والولايات المتحدة، وإيران، وباكستان، وبريطانيا، وتونس، والجزائر، والسعودية، والسودان، وسوريا، وسويسرا، والعراق، وعمان، وفلسطين، وقطر، وكندا، والكويت، وكينيا، ولبنان، والمغرب، واليمن.
وممن شاركوا فى هذا المؤتمر الكبير من مصر: فضيلة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر، والدكتور محمود زقزوق وزير الأوقاف، والدكتور أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر السابق، والدكتور أحمد كمال أبو المجد وزير الإعلام الأسبق، والأستاذ فهمى هويدى، والدكتور محمد زكى بدوى مدير الكلية الإسلامية فى لندن، والدكتورة عبلة الكحلاوى الأستاذ بكلية الدراسات الإسلامية للبنات بالأزهر، والدكتورة سعاد صالح رئيس قسم الفقه بكلية الدراسات الإسلامية للبنات. ومن الأردن: الدكتور عبدالسلام العبادى وزير الأوقاف الأسبق، ومن ألمانيا: الدكتور مراد هوفمان أمين جمعية الدعوة الإسلامية العالمية. ومن الإمارات: فضيلة السيد على آل هاشم مستشار الشئون الدينية بديوان رئيس الدولة، والشيخ الدكتور أحمد الكبيسى الأستاذ الجامعى. ومن الولايات المتحدة سماحة الشيخ فاضل السهلانى عن مؤسسة الإمام الخوئى الخيرية. ومن إيران: آية الله محمد على التسخيرى الأمين العام للمجمع العالمى للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وسماحة السيد عبد الصاحب الخوئى الأمين العام لمؤسسة الإمام الخوئى الخيرية، وسماحة السيد محمد على الشيرازى، وسماحة السيد محمد جواد الطباطبائى أستاذ الجامعة بالحوزة العلمية فى قم، وآية الله محمد الخاقانى، والمستشار عبد الله بن محمد تقى القمى من إيران. ومن باكستان: الشيخ محمد تقى العثمانى، وسماحة الشيخ محسن على النجفى.
***
أسماء وشخصيات كبيرة أخرى من السُنّة والشيعة تجمعت لتبحث كيف يلتقى الفريقان على ما يتفقان عليه للبناء على نقاط الاتفاق.
ولم يكن هذا المؤتمر هو الأول فى موضوعه، فقد سبقته محاولات كثيرة فى ذات الاتجاه، منها مثلا ندوتان للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) فى الرباط الأولى فى سبتمبر 1991 والثانية فى أغسطس 1996 وصفهما الدكتور عبد العزيز التويجرى المدير العام للمنظمة بأنهما محاولة لتحقيق التضامن الإسلامى، وخطوة على طريق من تقدمها من علماء الإسلام الذين حاولوا ألا يجعلوا من الاختلاف خلافا، ولا من تنوع الاجتهادات تفرقا، إنما رأوا فى المذاهب منهلا لإثراء الفقه الإسلامى، واستجابة لمستجدات العصور.
وقال الدكتور محمد المختار ولد باه من موريتانيا: إن واجب المسلمين تقريب وجهات النظر فى مناهج الأدلة، وفى وضع القواعد الفقهية المؤدية إلى هذا التقريب، وأن هذا يتوقف على حصر الخلاف الداخلى بين المذاهب الإسلامية، والارتكاز على أوجه الوفاق وتعزيزها.
وشارك علماء يمثلون المذهب الجعفرى، والحنفى، والمالكى، والشافعى، والحنبلى، والظاهرى، والزيدى، والأباضى. وكانت من محاور الندوة مناقشة موضوعات منها: أولا- آداب التعامل مع الخلاف، وتصحيح المواقف فى مسائل الخلاف، ونبذ التعصب واحترام اجتهاد الأئمة- وثانيا -تحديد أنواع الخلاف والفرق بين الاختلاف والشقاق، مع أمثلة من الخلاف المؤدى إلى الشقاق، والاجتهاد على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، والخلاف المذهبى. وثالثا-تفهم أسباب الخلاف المذهبى. الاختلاف فى فهم النصوص، والاختلاف فى ثبوت نص الحكم عند المجتهد، والاختلاف فى منهج الترجيح عند تعارض الأدلة، والاختلاف فى الاجتهاد عند عدم وجود النص. ورابعا-بحث وسائل التقريب وتوحيد العمل الإسلامى.. الاتفاق على عقيدة موحدة، والبحث فى الاجتهاد الجماعى، وقضايا الفروع وحصر مسائل الخلاف.
***
تبدأ الخطوة الأولى للتقريب باحترام اجتهاد أئمة المذاهب والتعريف بهم، ومن اجتهد منهم وأصاب فله أجران، ومن لم يصب فله أجر الاجتهاد، ومن كبار الأئمة المجتهدين:
* الإمام زيد بن على زين العابدين:
تكررت معه مأساة شهادة جده الإمام الحسين بن على، فقد كان أول من خرج على الأمويين، وكاد ينتصر عليهم فى القتال لولا أن سهما قاتلا أصابه فى رأسه، ونجا ابنه يحيى، وتمكن من الوصول إلى خراسان، وبعد ذلك أسس أنصار الزيدية مذهبهم فى اليمن، وهو المذهب الغالب فى اليمن اليوم. وهذا المذهب يميل إلى آراء المعتزلة، ويتسم بالاعتدال، وهو قريب من مذهب الشافعى، ومن آرائهم جواز إمامة الأقل فضلا، ولذلك فلم ينكروا خلافة أبى بكر وعمر ولم يسمحوا بالتعريض لهما بالشتائم كما فعل غيرهم من الشيعة-وهم يختلفون مع الشيعة الجعفرية الإمامية فى أنهم يحرّمون زواج المتعة، ويختلفون مع بعض مذاهب السُنّة فيما يتعلق بالجبر والاختيار، وفى تخليد أهل الكبائر فى النار، ومن أشهر فقهاء هذا المذهب الإمام محمد بن على الشوكانى الذى كان زيديا، ثم انتقل إلى موقف مستقل فى الاجتهاد، واختيار ما رآه راجحا من كل مذهب من مذاهب السُنّة والشيعة دون تعصب.
* الإمام جعفر الصادق:
هو ابن الإمام محمد الباقر، ابن الإمام علىّ زين العابدين، ابن الإمام الحسين، وأمه هى فروة بنت القاسم بن محمد بن ابى بكر الصديق. كان غزير العلم، معتدلا فى أحكامه، لم يحاول الخروج على العباسيين، ومذهب الشيعة الإمامية ينتسب إليه، ونسبوا إليه مسائل اختلف معهم فيها أهل السُنّة، مثل القول بأن النبى صلى الله عليه وسلم أوصى وصية صريحة بالإمامة لعلى بن أبى طالب، ووجوب التقية، وزواج المتعة.
*الإمام أبو حنيفة :
أخذ الفقه عن أصحاب الإمام علىّ وأصحاب ابن مسعود، واشتهر بالذكاء والمقدرة فى استنباط الأحكام، كما اشتهر بالورع، وهذا ما جعله يرفض قرار الخليفة بتوليته القضاء وبيت المال، وتعرض للضرب مرتين بسبب هذا الرفض، وقال إنه اختار عذاب الدنيا على عذاب الآخرة. قال عنه الشافعى: (من أراد الفقه فهو عيّال على أبى حنيفة).. خالفه بعض معاصريه، وطعن فيه أهل الحديث، لكن ذلك لم يمنع من الاتفاق فى النهاية على استقامة مذهبه، وقد لخص أصول هذا المذهب فى أنه يأخذ بكتاب الله، فإن لم يجد فإنه يأخذ بالسُنّة، فإذا لم يجد فيهما يأخذ بأقوال الصحابة يختار منهم من يشاء، ولا يخرج عنهم إلى قول غيرهم، أما أقوال تابعى التابعين فإنه يجتهد كما اجتهدوا ولا يلتزم بكل ما قالوه.
ومن أشهر مسائل الخلاف فى مذهبه ما نسب إليه من أن الإيمان يثبت بالقول، فمن يعلن إيمانه يؤخذ على الإيمان وإن خالف ذلك عمله.. ومنهجه بعدم الالتزام بالأحاديث الواردة عن الآحاد وتفضيل الرأى عليها، واعتبار الاستحسان من أصوله، واستعمال النبيذ، والإفتاء بجواز الصلاة بلغة غير اللغة العربية، وبمعانى القرآن، وعدم القصاص من القاتل إذا لم يتم تحديد أداة القتل.
* الإمام مالك بن أنس :
هو عالم المدينة، وإمام دار الهجرة، اتسعت شهرته فى حياته، وكان طلاب العلم يرحلون إليه. أخذ العلم من نحو مائة من شيوخ المدينة، وجمع علم الحديث والفقــه، وكـان الشافعى يقـول: (إذا ذكر الحديث فمالك النجم) واشتهر القول: (لا يُفتى ومالك فى المدينة). كان جريئا فى آرائه. تعرض للمحنة والسجن والضرب بسبب بعض فتاواه، وكان أول من دوّن الأحاديث فى كتابه المشهور (موطأ الإمام مالك)، وقرر الخليفة المنصور العباسى إلزام الناس بهذا الكتاب، واعتباره المرجع الوحيد فى الفقه، فرفض الإمام مالك تقديرا منه لاجتهاد الآخرين.
أسس الإمام مالك مذهبه على أساس الأخذ بحكم الكتاب وظاهره، ثم على السُنّة الصحيحة، ومنها إجماع أهل المدينة فى المسائل التوقيفية، ثم خبر الآحاد إذا أيده عمل أهل العلم، وأخذ بالمصالح المرسلة وهى ما يناسب العصر ولا يتعارض مع نص صريح، مثل الأخذ بشهادة الصبيان، وجواز القصاص من أكثر من واحد اشتركوا فى قتل شخص واحد، ويقال إن مسائل الخلاف بينه وبين أبى حنيفة لا تتجاوز ستا وثلاثين مسألة.
* الإمام الشافعى :
هو محمد بن إدريس بن العباس. بعد حفظه القرآن حفظ الشعر والأدب، وأقام بمكة مع عالمها مسلم بن خالد الزنجى، ثم انتقل إلى المدينة، ولازم الإمام (مالك)، ودرس موطأ مالك، وذهب إلى اليمن للقاء علمائها، كما ذهب إلى العراق، وكانت له مناظرات مع أصحاب أبى حنيفة، وأخيرا استقر به المقام فى مصر ودفن فيها.
وكان الشافعى أول من كتب فى أصول مذهبه فى رسالته المشهورة (الأم) ومذهبه قائم على الأخذ بالقرآن وبظاهره، ثم بالسُنّة، ويأخذ بخبر الواحد مادام ثقة والسند متصلا، وهو ينظر إلى السُنّة الصحيحة على أن لها حجية مثل حجية القرآن، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وإنما ينطق عن الوحى، وهو يأخذ أيضا بالإجماع، وبالقياس والاجتهاد، وهما عنده بمعنى واحد، ولا يجوز عنده القياس إلا على علم، أى بنص من النصوص المعتمدة، وأنكر الاستحسان وهو الرأى الذى ليس له أساس من نصوص الشريعة. وأخذ عنه جماعة من الأئمة المشهورين، وأكثر مسائل الخلاف بينه وبين مالك وأبى حنيفة خلافات منهجية حول ترتيب الأدلة أو الأحكام الفرعية القائمة على هذا الترتيب.
* الإمام أحمد بن حنبل :
قيل إنه يحفظ ألف ألف حديث، وقد ضرب أروع مثال فى الدفاع عن السُنّة، تعرض للسجن والتعذيب فيما عرف باسم (محنة خلق القرآن) وكان الخليفة يعذب من يقول بأن القرآن قديم، وكان هو يقول بذلك وتحمل التعذيب ولم يغير رأيه، سمى مذهبه مذهب أهل الحديث، لأنه يعتمد على خبر الآحاد والآثار أكثر من اعتماده على آراء العلماء واجتهاداتهم، ولذلك اعتبره المؤرخون من الحفّاظ أكثر مما اعتبروه من الفقهاء أصحاب الرأى. وهو مع ذلك حجة فى الفقه. قال عنه الشافعى: (خرجت من بغداد فما خلفت فيها رجلا أفضل ولا أعلم ولا أفقه من أحمد بن حنبل). وقد تفرع عن مذهبه ما يعرف اليوم باسم (المذهب السلفى) ومن أئمته تقى الدين بن تيمية الدمشقى، ومحمد بن عبد الوهاب فى السعودية.
وأكثر قضايا الخلاف بين المذهب الحنبلى والمذاهب الأخرى قضايا تتعلق بالعقيدة، والإفتاء بأن التوسل بالصالحين وبالأموات نوع من العبادة لغير الله وأنه شرك فى العبادة، والتبرك بالصالحين بدعة وضلالة، بينما يرى غيره أن الصحابة كانوا يتبركون بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم، وفى وضوئه وشعره والأقداح التى شرب فيها.
* عبد الله بن أباض:
كان ظهور مذهبه تطورا فى نحلة الخوارج وميلا نحو الاعتدال. والقضية الأولى عند الخوارج كانت الحكم بالكفر على كل من قعد عن القتال مع علىّ بن أبى طالب، لكن عبد الله بن أباض كان معتدلا، حتى أن الخوارج رموه بالكفر لأنه كان يقول إن من خالفوا الخوارج ليسوا مشركين، اشتهر بجرأته وموقفه من معارضة يزيد بن معاوية فى حماية مكة، وله رسالة مشهورة إلى عبد الملك بن مروان يرفض فيها الغلو فى الدين ويعتبره نوعا من التقول على الله بغير الحق، وكان زعيما سياسيا، لكن المؤسس الحقيقى للمذهب الأباضى هو جابر بن زيد البصرى وهو من علماء التابعين، ومن أهم الخلافات بينهم وبين غيرهم هو موقف الأباضية من الخليفة عثمان، ويرون أنه قتل مظلوما، وله موقف من اِلإمام علىّ ويرون أنه كان مع الحق فى جميع مواقفه، ولم يقل أهل المذهب الأباضى بتكفير مخالفيهم، وآراؤهم الفقهية لا تبتعد كثيرا عن أهل المذاهب الأخرى.
***
هكذا نرى أن هناك اختلافات بين أئمة مذاهب السنُة وأن هناك خلافات بين مذاهب الشيعة، كما أن هناك اختلافات بين الفريقين، مما يعنى أن اختلاف الرأى والاجتهاد سمة من سمات الفكر وطبيعة البشر، وليس مطلوبا أو معقولا أن نطلب من جميع المسلمين الاتفاق على جميع المسائل الشرعية والفقهية مع اختلاف مجتمعاتهم وظروفهم وثقافاتهم.
فالاختلاف كان وسيبقى ملازما لفكر البشر، ودعوة التقريب ليست دعوة لإلغاء الفروق والاختلافات، ولكنها دعوة إلى التفرقة بين ما هو شقاق وما هو اختلاف فى الفكر والاجتهاد، وكذلك التفرقة بين الخلاف فى أصول العقيدة والمسائل المنصوص عليها فى الكتاب والسنُة، والاختلاف فى فهم أو تفسير أو استنباط الأحكام فى قضايا فرعية، وفى ذلك يقول الإمام الشافعى: إنما الاختلاف على وجهين فما كان منصوصا لا يحل الاختلاف فيه، وما كان يحتمل التأويل أو يدرك قياسا مذاهب المتأول أو القائس إلى معنى يحتمل وخالفه غيره لم أقل إنه يضيق عليه ضيق المخالف للنص.
لكن أهم أسباب الجفوة بين السنُة والشيعة أن هناك كتبا قديمة تحدثت عن الشيعة بكراهية وعداء، وشرحت أفكار جماعات منها من الغلاة المتطرفين، وقد انتهت هذه الجماعات ولم يعد لها وجود، ومازال كثيرون من أهل السنُة يرجعون إلى كتاب (الملل والنِحَل) للشهرستانى وما يذكره من أفكار غريبة تصل إلى حد الكفر رددتها جماعات ادعت أنها من الشيعة، ويحسبون أن هذه أفكار مذاهب الشيعة جميعا وأنها مازالت أفكارا حية إلى اليوم، وهذا غير صحيح.. فإن آراء الروافض وغلاة الخوارج والخطابية وغيرهم- وإذا كانت هناك بقايا من هذه الطوائف الغريبة- فلا داعى لإشراكها فى عملية التقريب، لأن التقريب مقصور على المذاهب المقيدة بالكتاب والسنُة، وليس مقصودا التقرب إلى الحركات الخارجة عن الإسلام. حتى إن كانت تدعى الانتساب إليه.
ومع ذلك فإن مساحة الخلاف بين المسلمين: ليست مقصورة على المذاهب المعروفة، فهناك على سبيل المثال خلاف حول هل يجوز إثبات وجود الله بالبراهين المنطقية؟، وهذا ما قام به الأشاعرة والماتريدية، فى حين أن مخالفيهم رأوا أن إثبات وجود الله بأدلة عقلية ضلال وكفر.
وفريق من المسلمين يقول بأن الشريعة لها ظاهر وباطن، وفرق التصوف تتحدث عن الباطن والحقيقة ولهم طقوس ولهم سلوك خاص بهم فى العبادة، ويخالفهم فريق آخر يرى أن التصوف قد يكون مدعاة للبدع، ويكفّرون غلاة الصوفية بسبب أقوال يعتبرونها شطحات وتهورا وخروجا عن حدود الإيمان، مثل قول الحلاج: أنا الله، أنا أحيى وأميت، ويقول أنصاره: إنه وصل إلى درجة التوحد أو الحلول، وإن هذه هى أحوال الصوفية.
وفريق آخر من المسلمين يرفض فكرة المذاهب، ويرى أن كل مسلم له أن يأخذ الأحكام من مصادرها، ويخالف هذا الرأى فريق يقول:إن كل مسلم ليست لديه أدوات العلم بالأحكام فى كتاب الله وبالناسخ والمنسوخ من الآيات، وبما اجتمع عليه الرأى وما اختلفت فيه الآراء، حتى أن الإمام أحمد بن حنبل كان يقول: من لم يحفظ أربعمائة ألف حديث فلا يمكن أن يعتبر فقيها.. فليس من السهل إذن أن يصل المسلم العادى إلى أحكام الشريعة وحده.
وبعض المسلمين يعتقدون أن المذاهب أربعة فقط. بينما مذاهب السنة كثيرة، وكذلك مذاهب الشيعة فهى متعددة وأهمها: الشيعة الجعفرية، والشيعة الزيدية.
***
حقيقة أن الخلافات بين المذاهب حول الفروع. وليست أصول الدين. إلا أن هذه الخلافات تمثل خطورة لأنها مرتبطة عند بعض أصحابها بالتعصب والتشنج ورفض كل ما يخالفهم.
وفى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان المسلمون يختلفون ولم يكن الرسول يضيق بهذا الاختلاف، كانوا يقرأون القرآن بأحرف مختلفة وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهم: نزل القرآن على سبعة أحرف.. وعندما جهّز لغزو بنى قريظة وقال لأصحابه: (لنصلين العصر فى بنى قريظة) وكان منهم من صلى العصر فى وقته قبل أن يصل إلى بنى قريظة، ومنهم من أخر صلاة العصر، والتزم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم حرفيا، ولم يعترض الرسول صلى الله عليه وسلم على هؤلاء.. أو هؤلاء، وفى الحج كان منهم من يلبّى ومنهم من يكبّر ولا يعيب الرسول صلى الله عليه وسلم على أحد منهم.. وبعد الرسول صلى الله عليه وسلم اختلف الصحابة وتعارض فهمهم لظاهر الأدلة فى الكتاب والسنُة، وعندما جاء زمن الأئمة ودونوا الأحكام كان من الطبيعى أن يتأثروا بالوسط العلمى الذى تعلموا الفقه فيه، وكان طبيعيا أن يبدأ التفكير واستعمال العقل، ومن الطبيعى أن تختلف العقول والأفهام، ويختلف التفسير والاستنباط والاختلاف بين الأئمة إما بسبب اختلافهم فى دلالة النص فى القرآن والسنُة، وإما اختلافهم فى صحة النص المتعلق بالأحكام فى السنُة، أو اختلافهم فى ترجيح دليل على دليل آخر يعارضه أو اختلافهم فى الاجتهاد فيما لم يرد فيه نص صريح فى الكتاب والسنُة.
***
اختلف أهل السنُة فيما يجوز فيه الخلاف، مثل فهم النص فى القرآن الذى يبيح التيمم إذا لم يوجد الماء، قال البعض يجوز التيمم بأى شىء من الأرض، وقال آخرون لا بد أن يكون التيمم بالتراب، واختلفوا فى جواز صلاة الجنازة فى المسجد، ففى حديث عن أبى هريرة: (من صلى على جنازة فى المسجد فلا شىء عليه)، ولكن فى رواية أخرى للحديث: (فلا شىء له) وقد أخذ أبو حنيفة بالثانية وأفتى بأن صلاة الجنازة فى المسجد باطلة، بينما أخذ الشافعى بالأولى واعتبرها صحيحة.. واختلفوا فى الزكاة عن الجنين وفى الحديث (زكاة الجنين زكاة أمه) فمنهم من رواه بالرفع (زكاةُ أمه) مما يعنى أن زكاة الأم تكفى فى زكاة الجنين، ومنهم من رواه بالنصب (زكاةَ أمه) واشترط أن تزكى الأم عن الجنين بخلاف زكاتها عن نفسها وهذا ما رجحه أبو حنيفة.
***
ولقد اختلفت مذاهب السنُة فى الأخذ بالحديث المرسل، وهو الحديث غير المتصل، أى أن سلسلة الرواة ليست متصلة من أول الرواة الذين سمعوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأهل الحديث لهم شروط فى صحة الحديث، أولها اتصال السند، والتأكد من عدالة الراوى، وألا يتعارض مضمون الحديث مع القرآن، وعند تطبيق هذه الشروط اختلفوا فى الحديث المرسل، هل هو غير صحيح ولا يؤخذ به؟.. فبعض الأئمة قالوا بالأخذ به بشروط وحدود معينة، بينما كان الشافعى يرى أنه ليس حجة، وبالتالى فهو لا يلزم الفقيه.. ويشترط اتصال السند والسلامة من العلل، وكان أبو حنيفة يتشدد فى فحص الرواة واحدا واحدا منذ البداية، وكان مالك يأخذ عن الفقهاء، ويفضل الحديث الذى عمل به أهل المدينة، وكان أحمد بن حنبل يقدم الحديث الضعيف على الاجتهاد فى الرأى، وهكذا اختلفت الأحكام والمذاهب، كذلك فإن الحديث قد يصل إلى بعض الفقهاء ولا يصل إلى غيرهم، وقد يحكمون عليه بأنه صحيح ويراه غيرهم غير صحيح، وكذلك اختلفوا حول أحاديث الآحاد، مثل الحديث المنسوب إلى السيدة عائشة فى إبطال الزواج بدون ولى، لأنه روى عن واحد هو الزهرى، وجمهور الفقهاء يرون أنه لا يمكن لشخص واحد أن يطلع على السنُة كلها وتغيب عن الأمة كلها، والمعروف أن الصحابة كانوا يسألون بعضهم بعضا عن الحكم فى كل مسألة، ومن المشهور أن مالك سئل عن تخليل أصابع الرجلين فى الوضوء فقال: ليس ذلك على الناس، وكان ابن وهب حاضرا، فتركه حتى انصرف الناس، وقال له: عندنا فى ذلك سنُة، فقال مالك: ما هى؟.. قال ابن وهب: حدثنا الليث بن سعد، وابن لهيعة، وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن عمر المعافرى، عن أبى عبد الرحمن الحبلى، عن المستورد بن شداد القرشى قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه)، فقال مالك: حديث حسن، وما سمعت به إلا ساعة، وكان حين يسأل بعد ذلك يأمر بتخليل الأصابع.
ومن المشهور قول الشافعى لابن حنبل: أنتم أعلم بالحديث والرجال منى.. فإذا كان الحديث فأعلمونى حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا.
والمشهور أيضا عن أحمد بن حنبل أنه سار فى جنازة، فلما دفن الميت جلس رجل يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: إن القراءة عند القبر بدعة، فلما خرجوا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد: ما تقول فى مبشر الحلبى، قال: ثقة. قال: أخبرنى مبشر عن أبيه أنه أوصى إذا دفن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وسمعت ابن عمر يوصى بذلك، فقال له أحمد: فارجع فقل للرجل يقرأ.
هكذا نرى من الطبيعى أن يختلف الفقهاء وأصحاب المذاهب دون أن يتمسكوا برأيهم إذا رأوا دليلا على صحة رأى آخر، ويضاف إلى أسباب الاختلاف فى الأدلة التى يستند إليها الفقهاء.. ومن أمثلة ذلك أن عبد الوارث التنورى ذهب إلى مكة فوجد بها أبا حنيفة فسأله: ماذا تقول فى رجل باع بيعا وشرط شرطا؟.. فقال: البيع باطل والشرط باطل، فذهب إلى ابن أبى ليلى وسأله فقال: البيع جائز والشرط باطل، ثم ذهب إلى ابن شبرمة وسأله، فقال: البيع جائز والشرط جائز، فقال: يا سبحان الله، ثلاثة من فقهاء العراق اختلفتم فى مسألة واحدة، فذهب إلى أبى حنيفة فسأله، فقال: حدثنى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، البيع باطل والشرط باطل، ثم ذهب إلى ابن أبى ليلى فسأله فقال: حدثنى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اشترى بريرة فأعتقها، البيع جائز والشرط باطل، وبعد كل ذلك ذهب السائل إلى ابن شبرمة فسأله فقال: حدثنى مسعر بن كدام، عن محارب بن وثار، عن جابر قال: بعت النبى صلى الله عليه وسلم ناقة، وشرط لى أن أحملها إلى المدينة، البيع جائز والشرط جائز.
***
لماذا اختلاف الآراء فى ترجيح دليل على دليل عند تعارض الأدلة إذا كانت على مستوى واحد من الثبوت والدلالة؟.
لأن أصحاب المذاهب لهم مواقف مختلفة فى ترجيح دليل على آخر، وعلى سبيل المثال فقد يتعارض دليلان أحدهما فيه الأمر، والثانى فيه النهى، مثل تحية المسجد أثناء خطبة الجمعة، وقد يتعارض النفى والإثبات مثل الصلاة فى داخل الكعبة، وأكثر الفقهاء يقدم الإِثبات، ومنهم من يجعل العمل أساسا فى الترجيح مثل ما روى عن الإمام مالك حيث قال: رأيت محمداً بن أبى بكر بن عمرو بن حزم وكان قاضيا، وكان أخوه عبد الله كثير الحديث، رجل صدق، وسمعت عبد الله يقول: إذا قضى محمد بالقضية جاء فيها الحديث مخالفا لقضائه يعاتبه ويقول له: ألم يأت فى هذا حديث كذا، فيقول بلى، فيقول فلماذا لا تقضى به؟ فيقول: أين الناس عنه؟. يعنى أن إجماع علماء المدينة على العمل بقاعدة ما أقوى من الحديث، ومن الأئمة من يتحرى الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تعارض حديثان، ويعتبرون الحديث الأخير ناسخا للأول، وهكذا..
***
أما المسائل التى لم يرد فيها نص فى الكتاب والسنُة فمن الطبيعى أن تختلف فيها مناهج الأئمة والمذاهب فمنهم؛ من يلجأ إلى القياس والاجتهاد، ومنهم من يمنع الأخذ بالقياس مثل الشيعة، وكذلك يمتنع عن القياس بعض فقهاء السنُة أيضا لكنهم يستندون إلى سبب مختلف عن أسباب الشيعة وهو قول عمر بن الخطاب: (اتهموا الرأى فى الدين)، ولو كان الدين بالرأى لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، وابن حزم أطال البحث فى إبطال القياس والأخذ بالرأى وطعن فى صحة حديث معاذ بن جبل حينما قال للرسول صلى الله عليه وسلم إنه إن لم يجد الحكم فى الكتاب أو السنُة أخذ برأيه ولا يألو، كما أنكر ابن حزم رسالة عمر بن الخطاب لأبى موسى الأشعرى، وقال: إن جميع الأحكام توجد فى النصوص منطوقة أو مفهومة.
على الجانب الآخر فإن جمهور الفقهاء اتفقوا على حجية القياس، وقدموا لذلك أمثلة ضربها الرسول صلى الله عليه وسلم للناس فى قضاء الصيام عن الميت. وإن كان الأئمة قد استعملوا القياس إلا أنهم اختلفوا فى مكانته بين الأدلة الأخرى، واختلفوا أيضا فى طريقة تطبيقه، فاشتهر أبو حنيفة بالتوسع فى القياس حتى صار مضرب المثل عند الناس.
الاختلاف إذن قائم بين أهل السُنّة أنفسهم كما هو قائم بينهم وبين الشيعة. فهل يكون هذا الاختلاف فى الفقه سببا للقطيعة والجفوة بين المسلمين؟.
***
ولشيخنا الشيخ عبد الجليل عيسى كتاب مهم عنوانه (ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين) أشار فيه إلى أن الاختلاف من طبيعة البشر، ولذلك جعل الله أصول الدين والمبادئ الأساسية والأمر والنهى واردة فى القرآن فى عبارات صريحة واضحة لا تحتمل التأويل أو الاختلاف، ولم يعذر أحدا فى الخروج عليها، وحذّر من تأويلها أو تطويعها للأهواء، وعذر الخلق إذا اختلفوا فى غيرها، بل منح المخطئ فى اجتهاده أجرا، والمصيب أجرين، للبحث عن المصلحة الراجحة للجميع، وتشجيعا على البحث والتأمل. ولهذا كان السلف الصالح من العلماء يعذر بعضهم بعضا إذا اختلفوا فى الفروع، ولا يعيب أحد منهم رأيا رآه غيره، فكانوا بهذا أقرب إلى الوصول إلى الصواب، وكان شعارهم جميعا: أن الرجوع إلى الحق من أمهات الفضائل. وكان من أثر ذلك نمو فى علاقة بعضهم ببعض نمو روح التسامح فيما بينهم، والمحبة والإخوة فى الله وفى سبيل الحق، وبارك الله لهم فى أعمارهم وأعمالهم وحفظها من أن تضيع فى جدل عقيم ليس له من باعث سوى العناد للرأى، والانتصار للمذهب مهما ابتعد عن الحق. وحفظهم الله من التخاصم والتحاسد وكل ما يفسد القلوب ويحبط الأعمال، فنفعهم بأعمالهم، ونفع بها الأمة. ولكن جاء من بعدهم قوم قدسوا هذه الآراء، وبالغوا فى التعصب لها والطعن فيما سواها، فتشعبت بهم الطرق وأبعدتهم عن الأصل الأول: الكتاب والسُنّة. وتفرق المسلمون إلى ثلاثة: رجل انساق وراء التأويل إلى حد أنه إذا وقف فى طريقه نص صريح ينسفه من طريقه!، ورجل تجمد مع ظاهر النص، وألغى عقله، ورفض التأويل جملة، وجهل نص الخطاب وفحواه، ورجل مقتصد، فهم النص، وفقه روح التشريع، فكان وسطا، وهدى إلى الصراط المستقيم.
ومثال عن النوع الأول الذى يسرف فى التأويل يفسّر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالغسل يوم الجمعة بأن المقصود النظافة والبعد عما ينفر الناس عند اجتماعهم، فقال: يكفى أن ينظف الإنسان جسمه بأية مادة تزيل ما ينفر ولو كانت الكحول أو الكولونيا، ومعنى ذلك ليس من اللازم الغسل بالماء الطهور الذى جاء الأمر به فى القرآن. ومثال النوع الثانى- الذى جمد فى فهم النص- من سمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا يبولن أحدكم فى الماء الراكد) فقال: لا حرج إذن فى أن يبول الشخص فى إناء ثم يفرغ ما فيه فى الماء الراكد، لأن النهى فى نظره أن يكون البول فى الماء مباشرة، وغفل عن أن لهذا التشريع حكمة ظاهرة، هى عدم تلوث الماء بما يضر الغير. وكذلك إذا فسّر رجل غسل يوم الجمعة بأنه جائز فى أية لحظة من يوم الجمعة ولو بعد العصر. مثل رجل فسّر الحديث: (البكر تستأذن فى الزواج وإذنها صمتها) فقال: لو قالت البكر: رضيت فلانا زوجا فلا يصح العقد، لأن قولها ليس الصمت المنصوص عليه، وقد أشار إلى ذلك الحافظ بن حجر فى شرحه على البخارى فقال: قال بعض أهل الظاهر: إذا أعلنت البكر إذنها فى الزواج بالقول لم يجز العقد، لأن الحديث قال: إذنها سكوتها.
أما النوع الثالث- المعتدل الذى يفهم النص ويفقه روح التشريع- ومن أمثلة أحكامهم عن الحديث: (من أكل الثوم أو البصل فلا يحضر صلاة الجمعة) أنهم قالوا إن المراد هو المنع من كل منفر، والقياس على ذلك يشمل الجزار الملوث الثياب، والدبّاغ الذى يحضر الصلاة بثياب المدبغة، فلا يصح لهؤلاء وأمثالهم حضور الجمعة. وبالغ بعضهم فى القياس. كما قال القرطبى فإن بعضهم قرر أن السفيه الذى لا يستطيع كبح جماح سفهه لا يصح حضوره الجمعة قياسا على ذى الرائحة الكريهة.
ويحذّر الشيخ عبد الجليل عيسى من السير وراء المتأخرين والجمود على آراء الغير واعتبارها كأنها تنزيل من حكيم عليم، وقد قرع الأسماع ناقوس خطر الجمود والتعصب لرأى الغير بدون البحث والتحرى عن دليل صحته حتى استغل ذلك بعض ذوى النوايا السيئة فى الطعن واللمز فى أصل الشريعة نفسها.
***
وإذا كان الخلاف من طبيعة البشر فإن الشيخ عبد الجليل عيسى ينبه إلى أن الخلاف بين علماء المسلمين منه ما هو معقول مقبول، ومنه ما هو غير معقول ولا مقبول. يصح أن يختلف اثنان فى شىء واحد، أحدهما يقول: هو فرض أو واجب، والآخر يقول: بل إنه سُنّة فقط وليس فرضا. أو يقول أحدهما فى أمر واحد: هو حرام، ويقول الآخر: بل هو مكروه فقط. أو يقول أحدهما فى أمر: هو سُنّة واجبة، ويقول الآخر: بل هو مستحب فقط. كذلك يجوز أن يختلف عالمان فى فعل حصل من النبى صلى الله عليه وسلم ولم يشهده إلا عدد قليل، أو حديث صدر عن النبى صلى الله عليه وسلم مرة واحدة وحضره عدد كبير، منهم من هو قوى السمع والحفظ، ومنهم ضعيف السمع والحفظ، أو ضعيف أحدهما، أو يختلفان حول عمل فعله النبى صلى الله عليه وسلم فى الليل والناس نيام ولم ينتبه له إلا قليل، أو فى عمل من خواصه شأنه ألا يطلع عليه كثير كقيام الليل الذى كان فرضا عليه صلى الله عليه وسلم دون أمته، ومثال ذلك كثير مما يجوز فيه اختلاف العلماء. ولكن الخلاف غير المقبول إذا قال عالم عن عمل إنه سُنّة يثاب الإنسان عليها، ويقول الآخر: هو مكروه يلام فاعله! والأشد من ذلك أن يختلف عالمان فى عمل واحد فيقول أحدهما: هو واجب يعاقب المسلم على تركه، ويقول الآخر: هو حرام يعاقب على فعله! وكذلك أن يختلف اثنان فى عمل فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مرارا وتكرارا ثم يقول أحدهما: إن الرسول عمله على كيفية كذا، ويقول الآخر، بل على كيفية أخرى. ومن ذلك أن يختلف اثنان فى قوله صلى الله عليه وسلم فى جمع كبير من أصحابه مرارا، ثم يختلف عالمان فيقول أحدهما إنه كان سرا، ويقول الآخر: بل كان جهرا.
والأكثر من ذلك اختلاف علماء المسلمين فى فعل حدث جهرا ليلاً ونهاراً وأمام الرسول صلى الله عليه وسلم وفى غيبته، وبحضور جمع كبير من أصحابه، وتكرر، ثم بعد ذلك يختلف فيه المسلمون، هل كان بصفة كذا أو بصفة كذا؟ والأدهى من ذلك أن يتمسك كل طرف برأيه، ومن ذلك ما ذكره الصنعانى فى كتابه (سبل السلام) عن بعض العلماء، بعد أن ذكر الخلاف فى ألفاظ التكبير فى الآذان هل هى مثنى مثنى، أو أربع أربع، وهل فيه ترجيح الشهادتين أولا؟ وكذلك الخلاف فى ألفاظ الإقامة، ثم علّق الصنعانى على ذلك بقوله: هذه المسألة من أغرب الواقعات، ذلك أن هذه الألفاظ فى الأذان قليلة، محصورة، معينة، يصاح بها كل يوم وليلة خمس مرات، وفى أعلى مكان، ومع ذلك لم ينقل عن السلف الصالح أنهم خاضوا فى الخلاف فيها، ولكن جاء الخلاف الشديد بين المتأخرين.
ويحذّر الشيخ عبد الجليل عيسى من أن الخلاف فيما لا يجوز فيه الخلاف أمر خطير جدا، بل فى منتهى الخطورة على سلامة نقل الشريعة عن صاحبها صلى الله عليه وسلم إلى من يأتى بعده من أمته. ويتساءل: أليس فى ذلك منفذ لزنديق، أو لخصم من خصوم الإسلام، يدس منه سمومه على البسطاء هامسا فى آذانهم: إذا كان العمل العلنى الواضح بهذه الحال قد اختلف فيه المسلمون ولم يتفقوا على ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، أو حدث فى حضرته، فكيف تثق بصحته ما نقل من أعمال لم تكن بمثل هذا الوضوح؟
***
نصل من ذلك إلى أن الخلاف من طبيعة البشر لاختلاف عقولهم وأفهامهم أو لاختلاف مناهج البحث، أو لاختلاف الأحاديث التى يستندون إليها، ولذلك لا نستنكر الاختلاف فى الرأى والاجتهاد، ما دام فى الفروع، ونستنكر فقط الخلاف على الأصول.. أصول العقيدة. ونستنكر أن يلجأ المختلفون إلى التعصب واتهام المخالفين لهم، ويتعاملون معهم بأساليب لا تتفق مع أدب الاختلاف فى الإسلام.
***
أما الخلاف فى أصول الدين فإنه يؤدى إلى تكفير كل فريق للآخر، وليس هناك خلاف بين المسلمين على أن الأصل الأول للشريعة هو كتاب الله (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) فصّلت (42) وفيه أصول التشريع بعضها جاء مفصّلا، وبعضها مجملا، ثم جاءت السُنّة لبيان محكم الآيات وتفصيل المجمل، وقد تخصص علماء وقفوا حياتهم على فحص الصحيح والضعيف من الأحاديث، فعرفوا الرواة، ورتبوا السند، وجاء علماء الفقه فبذلوا جهدا لا مثيل له فى استخراج الأحكام من النصوص، ووضع الضوابط لمعرفة الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، واستخدموا القياس فى الحالات التى لا ينطبق عليها النص فى الكتاب والسُنّة، وأخذ الأئمة بعضهم من بعض وهذا ما سموه (التقليد)، وأباحوا للمسلم أن يأخذ من كل مذهب ومن كل إمام دون التزام كل ما فى مذهب معين.
***
والاختلاف ليس مقصورا على علماء ومذاهب السُنّة، بل إن الفقيه الشيعى محمد باقر الصدر يذكر فى كتابه (دروس فى علم الأصول) النزاع الممتد بين علماء الشيعة الإمامية أنفسهم حول جواز الاجتهاد، وعدمه، وكل طرف يستند إلى أدلة تؤيد رأيه. إلى أن استقر الرأى على أن الاجتهاد مرادف لاستنباط الأحكام من مصادرها، كما أنهم اختلفوا حول القياس، ولا يزال فقهاء الشيعة يعتقدون أن هناك خلطا بين تعريف القياس وتعريف العلة مما أدى إلى كثير من النزاع الذى لا مبرر له أحيانا، واختلفوا على الاستحسان ومنهم من قال إنه (ذوق فقهى لا تدرك أبعاده) ومنهم من قال إنه الأخذ بما هو أوفق للناس، ويقول علماء الشيعة إنهم يرفضون الاستحسان حتى لا يكون الدين تابعا للأذواق التى لا يُعلم مصدرها، وأن هذا ما يجب أن يتنزه عنه الفقهاء، أما إذا أخذوا بمفهوم الاستحسان على أنه (العمل بأقوى الدليلين) كما قال الشاطبى وهو من علماء المالكية، أو (العدول عن الحكم فى مسألة عن نظائرها لدليل شرعى خاص) كما ذكر الطوفى من الحنابلة، أو العدول عن قياس إلى قياس أقوى منه كما ذكر البزودى من الحنفية، ففى هذه الحالات لا يعارض الإمامية الاستحسان، ما دام بمعنى تفضيل الدليل الأقوى، ويقول العلامة محمد على التسخيرى من فقهاء إيران: إن الاستحسان بهذا المعنى لا يستغنى عنه فقيه، ويكرر قول الإمام مالك بأن الاستحسان بهذا المعنى تسعة أعشار العلم.
وليس هناك خلاف بين فقهاء السُنّة والشيعة حول المصالح المرسلة، وهى الحكم بالرأى المبنى على المصلحة فى كل مسألة لم يرد فيها نص وليس لها أمثال يقاس عليها، إنما يكون الحكم فيها على ما فى الشريعة من أحكام عامة، مثل القاعدة التى جاءت فى الآية: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) النحل (90) ومثل القاعدة فى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)، وجعلوا من شروط الفتوى ألا تتعارض مع العدل والإحسان، ولا تؤدى إلى ضرر.
***
ومن الفقهاء من يرى أن المذاهب الفقهية هى التى أدت إلى حماية الوحدة الإسلامية، ومن هؤلاء الدكتور محمد سعيد رمضان البوطى من سوريا، وهو يرى أن المشكلة ليست فى اختلاف المذاهب، ولكنها فى الآفات الخطيرة التى لحقت بالمذاهب فى أزمنة لاحقة. فكانت عوائق منعتها من مواصلة دورها الإيجابى فى رعاية هذه الوحدة. وكان من أهم عوامل ظهور المذاهب الفقهية تفرق الصحابة فى البلاد فى خلافة عثمان وما بعدها، وهذا طبع تلامذتهم من التابعين بطابع البلد الذى استوطنوا فيه، فكانت مدرسة الرأى فى العراق، ومدرسة الحديث فى الحجاز، وكان أهم ثمار التعدد والاختلاف ظهور منهج يلتقى عليه المختلفون لضبط عملية الاجتهاد، وهذا هو علم أصول الفقه، ثم ظهور علم مصطلح الحديث، وعلم الجرح والتعديل لضبط الرواية وحماية أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من الزيف والدس.
والظاهرة الإيجابية فى اختلاف المذاهب أنها لم تكن خصومات ولم يحدث أبدا أن وجه أصحاب مذهب إلى غيرهم تهمة الكفر أو الخروج على الإسلام، ونتيجة لذلك أصبحت لدى المسلمين ثروة فقهية كبيرة ومتعددة، وكانت صلة الود والتقدير بين الإمام الشافعى والإمام أحمد بن حنبل معروفة، وكذلك كان ثناء الإمام الشافعى على أبى حنيفة وتلميذيه محمد وأبى يوسف يتكرر كثيرا، وقول الشافعى عن الإمام مالك: (إذا جاءك الأثر عن مالك فشد به، وإذا ذُكر العلماء فمالك النجم) وقوله: (مالك معلمى وعنه أخذنا العلم).
***
لكن المذاهب تحولت إلى جبهات عندما تسلطت عليها الفرق الاعتقادية والسياسية، وعندما تعصب أتباع المذاهب لمذهبهم، وفى رأى الباحث السورى الدكتور محمد سعيد رمضان البوطى أننا عندما نعود إلى أصول الاجتهاد الفقهى عند أئمة الفقه الشيعى الأوائل: الإمام محمد الباقر، وابنه جعفر الصادق، وزيد بن على، لا نجد أى فرق بينها وبين الأصول المتبعة عند سائر الفقهاء، ولا سيما المذاهب الأربعة. وسنجد أن التعاون بينهم دليل على أنهم كانوا ينهلون من مصادر فقهية واحدة، وقد التقى أبو حنيفة مع زيد بن على ومحمد الباقر وجعفر الصادق وتدارس معهم وأخذ منهم، ووافقهم على حب آل البيت والتعلق بهم، ووافقوه فى تقدير الخلفاء الثلاثة واحترامهم وعدم ذكرهم بأى سوء، كما ذكر أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة فى كتابه (أبو حنيفة). كذلك لقى الإمام مالك الإمام جعفر الصادق وأخذ عنه وظل يذكره بأحسن ما يذكر تلميذ شيخه.. كما ذكر الشيخ أبو زهرة فى كتابه (مالك).
***
والباحث السورى الدكتور محمد سعيد البوطى يناقش أسباب ظهور الفقه الشيعى مستقلا عن المذاهب الأربعة، مع أن الأئمة الثلاثة الذين يعتبرون مؤسسى الفقه الشيعى كانوا أساتذة لأئمة المذاهب الأربعة، ولم يكن بينهم جميعا تحفظ فكرى أو مذهبى من أى الطرفين للآخر، فما الذى حال دون استمرار هذه الوحدة المذهبية إلى اليوم؟. ويجيب: إن الشخصية الفقهية للشيعة نشأت فيما بعد ظلا لشخصية التشيع نتيجة الغلو فى الانتصار لآل البيت، مع أن هذا الغلو ذاته لم يكن يستدعى استقلال الشيعة عن جمهرة المسلمين فى الأحكام الفقهية العملية، فقد اشترط الشيعة لقبول الحديث أن يكون الرواة من آل البيت، لقولهم بالعصمة فى أئمتهم، وأدى ذلك إلى انفراد الشيعة بمنهج مستقل فى فهم الحديث والحكم بصحته. فقام فقه خاص على أحاديث خاصة بهم، مع أن أئمة الشيعة الثلاثة الكبار كانوا يأخذون بالحديث من آل البيت ومن غيرهم، كما أن آل البيت لم يتفردوا وحدهم دون سواهم برواية الحديث، وهناك رواة كثيرون من الصحابة غيرهم، وحتى اليوم لم يجب الشيعة عن سؤال: من أين استمدوا الحكم بعدم أخذ الحديث إلا من آل البيت وحصر الرواية فيهم؟
وظهر التعصب للمذاهب فى القرون المتأخرة، وزاد فى عهد الدولة العثمانية، فقد جعلت المذهب الحنفى هو المذهب المعتمد، فازداد تعصب أتباع المذهب الحنفى لمذهبهم، حتى أنهم حرموا الانتقال من المذهب الحنفى إلى غيره، وإخضاع من يفعل ذلك لعقوبة التعزير، وظهر فى بلاد الشام اتجاه إلى تحريم اقتداء الشافعى بالإمام الحنفى، وفى المسجد الأموى فى دمشق لا نجد محرابا واحدا، بل نجد أربعة محاريب لأربعة مذاهب لكل منها إمام يصلى وراءه أتباع مذهبه ولا يصلون وراء إمام من مذهب آخر، ثم وصل التعصب إلى درجة الاستهانة بالمذاهب الأخرى، وبعد أن كان الاختلاف بين المذاهب تعاونا، أصبح خصاما واتهاما.
وكفَّر الناس بعضهم بعضا فى مسائل جزئية مثل وضع اليدين على الصدر فى الصلاة أو تركها على الجانبين، ومثل القنوت فى صلاة الفجر، ومثل قضاء الصلاة الفائتة أو عدم قضائها، ومثل مشروعية أو عدم مشروعية جلسة الاستراحة فى الصلاة.. مع أن الأئمة أصحاب المذاهب كانوا يبدون الاحترام لآراء غيرهم، فقد خالف الشافعى مذهبه وامتنع عن القنوت فى صلاة الصبح وهو يصلى فى مسجد أبى حنيفة ببغداد، ولما سئل عن ذلك قال: أدبا مع صاحب هذا القبر.
وبعد أن كان الاختلاف مصدر ثراء وتيسير أصبح سببا يؤدى إلى تمزيق وحدة المسلمين. وتلك فرصة لأعداء الإسلام والمسلمين لإشعال نار الفتنة.
فهل يمكن القفز فوق هذه الاختلافات والعودة إلى ما كان عليه السلف الصالح من اعتبار الإخوة فى الإسلام مثل قرابة الدم؟
هل يمكن أن يكون المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا بدلاً من أن يحاربه ويتهمه بالكفر؟
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف