الاقتصاد الإسلامى بين السُنّة والشيعة
برغم تعدد المحاولات والاجتهادات لوضع نظرية متكاملة للاقتصاد الإسلامى، فإن هذه النظرية ما زالت فى طور الاجتهادات والمحاولات ولم تتبلور بعد، والدليل على ذلك وجود اختلافات جوهرية بين هذه المحاولات تجعلنا نقول إن هذه نظريات تنسب لأصحابها وتعبّر عن فهمهم للاقتصاد الإسلامى، ولا تعبّر- حتى الآن على الأقل- عن الإسلام ذاته، وإن كان كل من يقدم رأيه أو اجتهاده يعلن أن هذا هو الإسلام والخارج عليه خارج عن الإسلام. والخلافات بين أهل السُنّة ليست أقل من الخلافات بينهم وبين الشيعة.
ففى المجتهدين من أهل السُنّة من وضعوا النظرية الاقتصادية الإسلامية فى إطار اشتراكى ينكر الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، ومنهم من أسس نظريته على أن الاقتصاد الإسلامى قائم على النظام الرأسمالى والملكية الفردية والحرية الاقتصادية.. ومنهم من رأى أن الإسلام وضع الإطار العام، أو الأساس الأخلاقى للسياسة الاقتصادية وترك للمسلمين فى كل زمان ومكان أن يضعوا لأنفسهم النظام الذى يناسبهم ويتفق مع ظروفهم بحيث لا يخرج عن هذه المبادئ الأساسية.
ولعلنا نذكر الكتب التى صدرت فى الستينات عن اشتراكية الإسلام حين بدأ التطبيق الاشتراكى فى مصر، وكانت اجتهادات الفقيه السورى الدكتور مصطفى السباعى من أشهر هذه الاجتهادات فى كتابه (اشتراكية الإسلام) الذى قامت وزارة الثقافة فى مصر بطبعه وتوزيعه على أوسع نطاق فى ذلك الوقت. ونذكر أيضا كتب الأستاذ محمود شلبى فى منتصف الستينات: اشتراكية أبى بكر- اشتراكية عمر (جزآن)- اشتراكية أبى ذر- اشتراكية عثمان- اشتراكية على. وفى كتاب اشتراكية عمر على سبيل المثال قال: إن عمر أسس اشتراكية قائمة على أن لكل بحسب حاجته ولكلٍ حسب جهده، وكل إنسان مكلف بـأن يعمل ما دام قادرا على العمل، فإن لم يكن قادرا يجب أن يصل إليه من الدولة ما يكفيه من المال، وليس لأحد مال والمال مال الله، ولكل إنسان حق فى مال الله، وللدولة تأميم مصادر الإنتاج، والله يحب القصد والتقدير فى الإنفاق ولا يحب المسرفين، ويحرّم البذخ فى الإنفاق والمعيشة. ولذلك قرر عمر مصادرة أموال حاكم مصر عمرو بن العاص، ومصادرة أموال ابنه. وفكر فى مصادرة جميع الأموال ليعيد توزيعها بالتساوى بين الناس، وفى نفس الوقت فقد أبقى رأس المال المعقول الذى يرعى مصالح المجتمع، ووضع قواعد العزل السياسى، ونظام المخابرات، والرقابة الإدارية، وقانون من أين لك هذا، وقانون منع الاحتكار، ونظام مجانية العلاج، وأشرف على التموين بنفسه، ووضع نظام التأمين الاجتماعى فكان يفرض للمولود مائة درهم، فإذا كبر بلغ به مائتى درهم، وإذا بلغ زاده، وكان يفرض للقيط مائة درهم ويجعل رضاعهم ونفقتهم من بيت المال، ونفذ مبدأ (ما أحد إلا وله فى هذا المال حق، ما أحد أحق به من أحد). وكان يوصى الحكام والخليفة من بعده: (لا تؤثر غنيهم على فقيرهم، اجعل الناس عندك سواء ولا تجعل المال دولة بين الأغنياء منهم، ولا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم)، ولما حضرته الوفاة قال لابنه: (اقصدوا فى كفنى، واقصدوا فى حفرتى) وكان يقول: (من استعمل رجلا لمودة أو قرابة لا يحمله على استعماله إلا ذلك فقد خان الله ورسوله) ويقول: (ليس خيركم من عمل للآخرة وترك الدنيا، أو عمل للدنيا وترك الآخرة، ولكن خيركم من أخذ من هذه ومن هذه). ووضع قاعدة: (لقد هممت ألا ادع فيها ذهباً ولا فضة إلا قسمته بين المسلمين).. وهكذا أجهد بعض الباحثين أنفسهم فى تأصيل النظرية الاشتراكية فى الإسلام.
***
على الجانب الآخر هناك عشرات من الباحثين أجهدوا أنفسهم لإثبات أن الاقتصاد الإسلامى اقتصاد رأسمالى مائة فى المائة. بينما اكتفى باحثون آخرون بالكشف عن القواعد أو المبادئ الاقتصادية فى القرآن والسُنّة، ومن هؤلاء الدكتور عبد الهادى النجار أستاذ الاقتصاد والمالية العامة السابق بجامعة الإسكندرية، وفى كتابه (الإسلام والاقتصاد) قال: إن استعارة المصطلحات الاقتصادية السائدة الآن وإقامة هيكل اقتصادى إسلامى عليها، يؤدى إلى تأويل متعسف أو إلى التغاضى عن أحكام الشريعة الإسلامية، ويصل الدكتور النجار إلى أن منهج البحث فى الإسلام أيا كانت مجالات البحث لابد أن تبدأ من الترابط العضوى بين الدين والدنيا، والحياة والآخرة، وأن الحياة وسيلة إلى غاية، وإذا صلحت الوسيلة صلحت الغاية وذلك تطبيقا لقول الله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا..) القصص- (77)، والمنهج الإسلامى لا يرفض الأخذ عن غير المسلمين، لأن الإسلام أطلق سلطان العقل من كل ما يقيده، ولذلك فلا يمكن اتهام حركات التجديد بتهمة استيراد الأفكار والنظريات، والقرآن ينهانا عن الالتزام بما توارثه الأبناء عن الآباء: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا.. أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون..) البقرة- (170). ومع تعدد الكتب والمذاهب الفقهية فإن المسلمين قد لا يجدون فى حياتهم المتطورة حكما فقهيا صريحا لبعض ما يطرأ من مشاكل.. وهذا ما يدعو إلى الاهتمام بقضية الاجتهاد.
وتتلخص مبادئ الاقتصاد الإسلامى فى نظر الدكتور عبد الهادى النجار فيما يلى:
أولاً: إن النشاط الاقتصادى وكل نشاط للمسلم يمكن أن يكون عبادة يثاب عليها إذا قصد بعمله وجه الله. وفى الحديث: (إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها..) والاقتصاد الإسلامى لا يهدف إلى النفع المادى وحده مثل النشاط الاقتصادى الوضعى، إنما يربط بين النفع المادى والإيمان بأن الله سيسأل الإنسان عن كل ما يعمله. فالهدف الاقتصادى فى الإسلام تعبدى ولذلك يتحقق الخير للمجتمع وليس للفرد وحده، بينما الهدف فى الاقتصاد الوضعى المصلحة الشخصية، وهذا ما فتح الطريق للسيطرة الاقتصادية وتغليب الطابع الاحتكارى على الأسواق وإشعال الحروب فى كل حين.
ولذلك فإن النشاط الاقتصادى الإسلامى تحكمه القوانين الشرعية ورقابة الضمير القائمة على الإيمان بالله وبالحساب فى الآخرة، بينما النشاط الاقتصادى الوضعى تحكمه قوانين من صنع البشر، لذلك يسهل التحايل عليها والإفلات من رقابتها.
وقيمة الإنسان- فى مفهوم الإسلام- تتحدد بمقدار ما يبذل من جهد: (فإذا فرغت فانصب..) الشرح (7) والإسلام يقرر أنه ليس للإنسان إلا ما سعى، بما يعنى أن ما يحصل عليه الإنسان- فى الدنيا والآخرة- إنما يكون على أساس عمله، ولذلك كان الأنبياء يعملون، وفى الحديث: (إن أشرف الكسب كسب الرجل من عمل يده) وأيضاً: (إن من الذنوب ما لا يغفره إلا السعى فى طلب الرزق).
وولى الأمر عليه مسئولية توفير مجالات العمل وتوفير الاحتياجات الأساسية لكل فرد، وللدولة أن تتدخل فى العقود والعلاقات الاقتصادية لمراقبة تطبيق أحكام الشرع ومصالح المسلمين. وهذه المراقبة العامة هىالتى تسمى (الحسبة). وللدولة حق الإشراف والرقابة المستمرة، ولها إجبار البعض على أعمال ضرورية لا تتم مصلحة المسلمين إلا بها، وللدولة أن تتدخل لتحديد الأجور تحديدا عادلا. والأصل فى علاقات العمل الحرية، وليس للمسلم أن يتهرب من العمل باسم التفرغ للعبادة أو التوكل على الله، فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، ولا يحق لمسلم أن يأخذ صدقة وهو قادر على العمل أو لديه ما يكفيه، وفى الحديث: (من سأل شيئا وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم، قالوا: وما يغنيه، قال: قدر ما يغديه ويعشيه) و: (لئن يأخذ أحدكم حبلاً فيحتطب فيبيع ويأكل ويتصدق خير من أن يسأل الناس). والأجر العادل للعامل واجب شرعى وكذلك الثمن العادل للسلعة وفقا للمبدأ: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) الشعراء (183) و: (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين) المطففين (1-6) وهذا يعنى تحريم إكراه الناس بإنقاص حقوقهم عامة سواء بسلطان المال أو احتكار التجارة.
ويشرح الدكتور النجار واجبات العامل كما جاءت فى الكتاب والسُنّة ويلخصها فى الأمانة (من غشنا فليس منا) والحرص على أدوات ومستلزمات العمل: (من استعملناه على عمل، فرزقناه رزقا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول أى اغتصاب وسرقة). والإتقان فى العمل واجب شرعى، وفى الحديث: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه). والوفاء بالعقود أيضا واجب شرعى كما فى الآية: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود..) المائدة (1).
***
ثانياً: إن الإسلام أقر الملكية الخاصة وبنى كثيرا من أحكامه على الاعتراف بها والتشجيع عليها، والملكية قسمان: ملكية الرقبة والمنفعة وهى ملكية تامة، وملكية منفعة فقط أو ملكية الرقبة فقط، وممنوع على الأفراد تملك المساجد والطرق والأنهار والقناطر والأسواق.. الخ فهذه ملكية اجتماعية مشتركة. والإسلام أقر الملكية الخاصة، ولكنها ملكية ظاهرية للإنسان أما المالك الأصلى فهو الله، وتخضع الملكية لشروط المالك الأصلى: (له ما فى السماوات، وما فى الأرض، وما بينهما، وما تحت الثرى) طه (5-6) و: (قل لمن ما فى السماوات والأرض قل لله..) الأنعام (12) و(.. وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه..) الحديد (7) و:(وآتوهم من مال الله الذى آتاكم..) النور (33). ويعترف الإسلام بالتفاوت فى الدخول: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات، ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، ورحمت ربك خير مما يجمعون) الزخرف (32). وفى نفس الوقت فإن الإسلام يمنع تركيز الثروة والمعاملات الربوية.
والملكية الفردية حق شخصى لا يجوز التعرض له ما دام المالك ملتزما باستعماله وفق ما أراد الله، فهى حق فردى مقيد بشروط حددتها الشريعة. والدولة تتدخل فى النشاط الاقتصادى الذى يباشره الأفراد، سواء لمراقبته، أو تنظيمه، أو لتباشر بنفسها بعض أوجه هذا النشاط إذا عجز عنه الأفراد، أو إذا أساءوا مباشرة ذلك النشاط.. وللدولة إلغاء الملكية الفردية إذا نتج عنها ضرر. وهناك حالات يمكن الاستناد إليها لإقرار مبدأ التأميم عند الحاجة بشروط وقيود معينة. مثل (أرض الحمى) وهى المرفق العام والأرض التى تخصص للمنفعة العامة، والدولة مقيدة بالنسبة للملكية العامة بأن تخصص المال العام للأغراض التى حددتها الشريعة، ولا تملك الحكومة إنفاق هذه الأموال فى غير ذلك من الوجوه.
ثالثاً: العملية الإنتاجية مقيدة بشرط أساسى هو أن تكون فى دائرة الحلال فى كل مراحلها، فيكون الشىء الذى يتم إنتاجه غير محرّم شرعا، وليس فى تنظيم عملية الإنتاج ما يدخل دائرة الحرام، ويكون التمويل وتحديد الأجور كذلك منسجما مع دائرة الحلال، وأن تتم مراعاة مبدأ الإيراد أو الربح الاجتماعى وليس الإيراد أو الربح الشخصى فقط، فقد يحقق إنتاج سلعة ما ربحا للمنتج ويلحق أضرارا بالمجتمع، وهذا ما تنبه إليه الاقتصاديون مؤخراً واشترطوا فى العملية الإنتاجية عدم الإضرار بالبيئة، أو بالإنسان، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية فرض على الدولة والمجتمع والفرد، وقد أمر الإمام علىّ إلى واليه على مصر بمراعاة اعتبارات التنمية للمجتمع كله بأكثر من مراعاة الجباية وزيادة إيرادات الخزانة العامة وذلك فى قوله: (وليكن نظرك فى عمارة الأرض أبلغ من نظرك فى استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج من غير عمارة أخرب البلاد). وإذا كانت التنمية الاقتصادية فى النظام الرأسمالى مسئولية الأفراد، وفى الاقتصاد الاشتراكى مسئولية الدولة، فإنها فى المجتمع الإسلامى مسئولية الفرد والدولة معا، وكل منهما يكمل الآخر.
رابعاً: توزيع الدخل ينقسم إلى:
* الريع (الإيجار) وقد أجاز فقهاء السُنّة المزارعة فى استغلال الأرض.
* الأجر- وهو ما يدفع مقابل العمل، ويخضع تحديد الأجر للعرض والطلب، ويجوز أن تتدخل الدولة لحماية العامل، وضمان الحد الأدنى الذى يكفل احتياجاته الأساسية.
* الربح- ويشترط فيه عدم الاستغلال أو الاحتكار.
* الحق الاجتماعى- وهو حق العاجز والفقير واليتيم فى رعاية الدولة. والزكاة هى صمام الأمان للمجتمع، وفى الحديث: (ما تلف مال فى بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة) وحبس الزكاة جانب من جوانب سوء توزيع الدخول.
***
وتحريم الربا من المبادئ الأساسية فى الاقتصاد الإسلامى عند السُنّة والشيعة معا، وليس فى مبدأ تحريم الربا اجتهاد لأنه قائم على النص القرآنى الصريح، ولكن الخلاف بين الفقهاء على الجانبين حول تحديد ما هو الربا، بعد أن أصبحت لدينا صور جديدة من المعاملات لم تكن معروفة فى العصور السابقة مثل فوائد البنوك وصندوق توفير البريد والتأمين على الحياة، وفى أهل السُنّة كثيرون أباحوا هذه المعاملات منهم الشيخ محمد الخفيف، والشيخ عبد الجليل عيسى، والشيخ محمود شلتوت، وأخيرا الدكتور محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر، وعشرات غيرهم، بينما يتشدد بعض الفقهاء فى تحريم هذه المعاملات الجديدة. وهذا هو الحال أيضاً عند الشيعة. وإن كان هذا الموضوع فيه تفصيلات وحجج وأسانيد لدى الجانبين لا يتسع لها المجال. (يمكن الرجوع إلى كتاب المعاملات الإسلامية لفضيلة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوى).
وعلماء السُنّة والشيعة متفقون أيضاً على أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وبالتالى فإن العلاقة فيها بين الله ودافع الزكاة، وليست بين من يعطى ومن يأخذ الزكاة، وفى هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الصدقة تقع فى يد الرحمن قبل أن تقع فى كف الفقير) ويقول: (إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الحلال- ولا يقبل الله إلا الطيب- فيتلقاها الرحمن تبارك وتعالى فيربيها). وبذلك يعتبر نظام الزكاة أول نظام للتكافل الاجتماعى فى التاريخ، ويتفق علماء السُنّة والشيعة على أن الزكاة التى توجه إلى مصارفها الشرعية غير الضرائب التى تحصّلها الدولة وتوجهها للإنفاق على المشروعات والخدمات العامة.
***
وللشيخ أسعد المدنى رئيس جمعية علماء الهند بحث يعبّر عن آراء بعض فقهاء السُنّة فى النظام الاقتصادى. ويتلخص رأيه فيما يلى:
* المساواة فى حق العيش: فإن الرزق ووسائل العيش لها علاقة بذات الله، وهو الضامن والكفيل لكل فرد: (وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها) هود- (وفى السماء رزقكم وما توعدون) الذاريات- و(إن الله هو الرزّاق ذو القوة المتين) الذاريات.
* التفاوت فى المعيشة: وإن كان الجميع سواء فى حق المعيشة إلا أنهم يختلفون فى درجاتها، وليس المطلوب أن يتساوى الناس جميعا فى درجة معيشتهم، ولكن يجب أن يبقى هذا التفاوت فى حدود الاعتدال، ولا يكون قائما على الظلم للآخرين: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) الزخرف- و(الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) الرعد- و(وهو الذى جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فى ما آتاكم) الأنعام. وليس هذا التفاوت مبررا للاستغلال الطبقى أو حرمان الآخرين من معيشتهم.
* الاكتناز والاحتكار حرام: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها فى نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) التوبة. (كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) الحشر.
* التوازن بين رأس المال والعمل: ولذلك حرّم الإسلام الربا والقمار والعقود الفاسدة وكل معاملة لا تكون على أساس التراضى أو تحقق منفعة لطرف على حساب طرف آخر.
* الأمر بالعمل وإتقان العمل: والآيات فى ذلك كثيرة وكذلك الأحاديث ومنها: (طلب الكسب الحلال فريضة بعد الفريضة). بشرط أن يكون العمل مشروعا والعائد منه حلالا.
* اجتناب الإسراف والتبذير والتقتير.
ومفتى باكستان الأكبر الشيخ محمد شفيع له أيضا دراسة عن مفهوم أهل السُنّة للاقتصاد الإسلامى يتلخص فى النقاط الآتية:
الثروة بكل أشكالها مملوكة لله، وما يملكه الإنسان منها منحة من الله: (وآتوهم من مال الله الذى آتاكم) وتجب مراعاة الله فى طريقة كسبها وإنفاقها.
وفى رأى الشيخ محمد شفيع أن الإسلام فى موقف الوسط بين الرأسمالية والاشتراكية، فإنه يعترف بالملكية الفردية ولكنه لا يطلق لها الحرية بدون قيود، ويضع القواعد لتوزيع الثروة بحيث لا تتركز فى أيد محدودة، والموارد الطبيعية ملك للمجتمع كله ولا يجوز احتكارها.
والاجتهادات كثيرة بين فقهاء السُنّة لتأصيل نظرية اقتصادية وبينهم اتفاق على كثير من عناصر هذه النظرية. وكذلك الحال عند الشيعة، وسوف نلاحظ أوجه اتفاق كثيرة بين السُنّة والشيعة فى المسائل الاقتصادية والمعاملات.
***
وللشيعة الإمامية نظرية اقتصادية شرحها أحد المفكرين الشيعة فى إيران هو الدكتور حبيب الله بايدار فى كتاب بالفارسية بعنوان: (تفسير للملكية والعمل ورأس المال من وجهة نظر الإسلام) وقد ترجم مبادئ هذه النظرية إلى العربية الدكتور إبراهيم الدسوقى شتا أستاذ اللغات الشرقية بكلية الآداب بجامعة القاهرة فى كتابه (الثورة الإيرانية- الجذور- الأيديولوجية) وأضاف إلى الترجمة هوامش وتعليقات مهمة.
يقول هذا الفقيه إن البنية الفكرية فى الأمور الاقتصادية فى الفكر الشيعى تتلخص فيما يلى:
أولاً: إن منابع الثروة الطبيعية التى تتدخل تدخلاً مباشراً فى ضمان حياة الناس لا تدخل فى الأملاك الشخصية لأحد، ومالكها المطلق هو الله، وللجميع حق الانتفاع بها، وهذا الحق عام لا يمكن المساس به بأى حال من الأحوال، وفقاً للمبدأ الذى أقره الإمام علىّ بأن الأموال والثروات العامة ملك لكل البشر، وهذه القاعدة تطبيق لقول الله تعالى: (لله ما فى السموات وما فى الأرض) وقوله تعالى فى شأن ناقة صالح (فذروها تأكل فى أرض الله) ولا تذكر الأرض فى أغلب مواضع ذكرها فى القرآن إلا بأنها (أرض الله). وحين يذكر الله سبحانه وتعالى استخلاف الإنسان فى الأرض يذكره بضمير الجمع بما يعنى حق البشر جميعا فى الاستخلاف وليس حق فئة أو عرق أو جنس أو فرد. وفى تفسيرهم لحق الإنسان فى خلافة الأرض يقولون إن الخلافة تعنى الانتفاع وليس الملكية، بشرط أن يكون الانتفاع للصالح العام، ويقولون أيضا إن الله حذّر صراحة من جعل المال دولة- أى متداولا- بين الأغنياء وحدهم، فالفساد إنما ينشأ فى المجتمع عندما تتركز الثروة فى أيدى فئة قليلة من الناس، والثروة هى عصب الحياة ووسيلة السلطة والسيطرة.
وتستند الشيعة الإمامية فى مسألة ملكية الأرض إلى هذه المسألة التى أثيرت فى عهد عمر بن الخطاب عندما طلب المسلمون توزيع الأراضى المفتوحة على الفاتحين، فاستشار الإمام علىّ فرفض مبدأ تقسيم الأراضى تماما، كما قال معاذ ابن جبل فإن ذلك يعنى أن يستحوذ جيل الفاتحين على الثروة ويورثونها لأبنائهم ويحرّم منها الجميع، كما يعنى أن تؤول الأرض بالإرث إلى أناس لم يتعبوا ولم يشاركوا فى الفتح، مما سيؤدى إلى تكوين طبقة تغرها الأموال والأملاك فتعمل على الفساد فى الأرض، وبناء على ذلك كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبى وقاص بما استقر عليه رأى كبار الصحابة، وهو أن تستغل الأرض لصالح جميع المسلمين، كما لا يحرم من خيرها الذين لم يدخلوا فى الإسلام ما داموا يعملون فى زراعتها، ومن يدخل الإسلام يكون مسئولا عن زراعة الأرض ويأخذ حاجته منها ثم يدفع الفائض مع الخراج (الضرائب) إلى بيت مال المسلمين.
وللإمام جعفر الصادق فتوى بعدم جواز تمليك الأرض وهى للانتفاع فقط، واستند فى ذلك على ما جاء فى سورة الأنفال. ويقول الشيعة إن على الحكومة أن تنتزع الأرض من المنتفع بها إذا أهمل فى زراعتها، كما أنهم يمنعون التملك بوضع اليد وهو ما كان يسمى قديما (الحمى)، ومعناه أن يبسط شخص سلطانه على قطعة أرض ويعلن أنها فى حماه، ويستندون فى ذلك إلى الحديث الشريف: (لا حمى إلا حمى الله ورسوله). ونظامهم فى استغلال الأرض أن يُعطى للمنتفع من الأرض بقدر ما يستطيع تعميره دون زيادة، مع التركيز على الأرض البور لتعميرها.
***
ويدلل الشيعة الإمامية على أن نظامهم هذا يعكس إرادة الشريعة الإسلامية فى تحريم الإقطاع بمعناه المعاصر، وأيضا تحريم ما ظهر بعد ذلك من نظم أخرى ليست من الإسلام فى شىء، مثل نظام الالتزام، ونظام الإقطاع للجند والبلاط والخاصة من أصحاب الحظوة، ويحرّم الشيعة بناء على ذلك ربط الزارع بالأرض، فهو حر، والاتجار فى الأرض باطل، واستخدام نظام السخرة فى الزراعة محرّم سواء كانت سخرة المسلمين أو غير المسلمين، ويدللون على صحة نظريتهم بأن معاوية كان يجذب الناس وكبار الصحابة بالعطايا والإقطاعيات بينما لم يفعل الإمام علىّ ذلك أبدا.
ويقول الشيعة الإمامية إن ما يجرى على الأرض يجرى على ما فيها من منابع طبيعية، ويستندون فى ذلك إلى الحديث الشريف: (الناس شركاء فى ثلاث: الماء، والنار، والكلأ). ويترجمون هذا المبدأ بأن الإسلام قائم على أن الناس شركاء فى مصادر الثروة، والنار هنا المقصود منها مصادر الطاقة كالبترول والكهرباء، والكلأ يعنى الإنتاج الزراعى والصناعى، والمرجع فى ذلك كتاب بالفارسية يشير إليه الدكتور إبراهيم الدسوقى شتا عنوانه (برداشتهانى در بارة مالكيت وكار وسرماية ازديدكاه إسلام ص 171- 206).
ويفسر الدكتور شتا نظرية الشيعة فى ملكية الأرض فيقول إنها ظلت تشغل فقهاءهم على مر العصور، وعلى اختلاف فرق الشيعة، لأن معظم الحركات الشيعية كانت تضم عدداً كبيراً من رقيق الأرض والموالى والفئات المطحونة، واتهمت معظم هذه الحركات بأن أصحابها من معتنقى الديانة المزدكية الفارسية كما يشير الباحث الشيعى الدكتور على شريعتى، وعندما انتصرت بعض الحركات الشيعية المتطرفة مثل حركة القرامطة أقامت نظاما اقتصاديا يتضح من وصف المعاصرين له أنه أشبه بنظام الكوميونات والتعاوينات فى العصر الحديث، وقد شرح هذا النظام الدكتور محمود إسماعيل فى كتابه (الحركات السرية فى الإسلام).
***
والأصل الأساسى الثانى من أصول الاقتصاد الإسلامى عند الشيعة هو (العمل)، ويفسر الدكتور شتا ذلك بأن الشيعة يقتربون من مبدأ (من لا يعمل لا يأكل إن كان قادرا على العمل) وعلى ذلك يقررون أن كل مال يكتسبه الإنسان دون عمل فهو مال حرام، والعمل هو الوسيلة الوحيدة للعيش ويقولون إن ذلك هو تفسير قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى). كما يقول الباحث الشيعى سيد محمود طالقانى فى كتابه بالفارسية عن الإسلام والملكية، ومن هنا يفسّرون الحكمة فى تحريم الربا، بأنه حصول على ربح بدون عمل أو جهد، وكل نوع من أنواع الاستغلال حرام، وإعطاء العامل أجرا أقل بكثير من قيمة العمل الذى يؤديه حرام، وأى نوع من التأجير من الباطن حرام، وأى نوع من بخس حق العامل حرام وهو سرقة، والتجارة على الورق مثل بيع أذون الاستيراد والتصدير أو حصة التموين أو حصة فى مواد البناء أو الاتجار فى العملة أو بيع إيصال حجز السيارات وأمثال تلك المعاملات التى لا تقوم على عنصر العمل والجهد حرام. ويدخل فيها خلو الرجل، وكذلك فإن استئجار عمال لزراعة أرض ولا يعمل فيها حائز الأرض حرام، إلا إذا كان الحائز قاصرا، أو عاجزا عن العمل، أو أرملة، والشيعة يحرّمون الاتجار فى المحصول قبل حصاده ويرون أنه نوع من الربا لأنه ربح بدون عمل.
والشيعة يحكمون على احتكار السلع، وإخفائها، والتلاعب فى أقوات المسلمين من أجل الحصول على مزيد من الربح بأنها كلها حرام، والمغالاة فى الربح حرام، ولا يكون الربح الحلال إلا فى حدود المشقة التى تكبدها التاجر فى النقل والاستيراد، ويدللون على ذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم منع التجار فى المدينة من ملاقاة تجار القوافل خارج المدينة للاستيلاء على كل البضائع الواردة معهم وبيعها بسعر أغلى، وتوعد المطففين فى الكيل والميزان كما توعد المتلاعبين بالأسعار، ومن ذلك فإنهم يحرّمون أيضا العمولة، والسمسرة، وكل دخل لا يبذل صاحبه عملاً وجهداً للحصول عليه، ويعتمد الشيعة فى نظريتهم هذه على أن الصحابة كانوا يعملون عملاً منتجاً ليتعيشوا من عائد العمل، وكانوا يعملون إما بالتجارة وإما بالعمل اليدوى، كما لم يعرف الإسلام مخصصات الحكام الضخمة كما يحدث فى العصر الحديث.
***
والأصل الثالث هو الاعتدال، بمعنى أن يأخذ كل إنسان بقدر حاجته وليس أكثر من ذلك، وهذا المبدأ يستندون فيه إلى قول الإمام علىّ بأن كل ما فى الأرض ملك الله، يستخلف الناس فيه على سبيل الوديعة، ويأمرهم بأن ينفقوا منها فى حدود الاعتدال، وأن يأكلوا ويشربوا بقدر حاجتهم، وأن يبذلوا ما زاد على حاجتهم للمؤمنين المحتاجين، وهذا البذل يمنع شرا كثيرا، فمن أطاع الله فيما أمر كان أكله حلالا وإنفاقه حلالا، ومن عصاه وتعدى حدوده، فإن ما ينفقه حرام تطبيقا لقول الله: (ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين) ويقول الإمام علىّ فى شرح هذا المبدأ: (هل تظنون أن الله خولهم ماله ومنحهم حرية إنفاقه حتى يشترى أحدهم مطية بعشرة آلاف درهم فى حين أن مطية بعشرين درهماً تسد حاجته، ويتزوج أحدهم بألف دينار فى حين أن عشرين دينارا تكفيه؟
ويحكم الشيعة على الذين يتذرعون بما جاء فى كتاب الله بأن ينفق كل ذى سعة من سعته، ويفسرون ذلك بأن معناه إباحة الإسراف ما دام الإنسان يملك من المال ما يعينه عليه، بأن هؤلاء يفسرون القول على غير ما أراد الله، فقد أراد ربنا أن ينفق كل إنسان بقدر ما تقتضى أموره وأحواله، والقصد والاعتدال واجب مهما كانت إمكانات الإنسان المادية. فإذا تجاوز هذه الحدود يكون إسرافه حراماً، ويستند مفسرو المذهب الشيعى إلى قول الإمام علىّ: (العاقل يأكل للقدرة ولا يأكل للشهوة). وهذا ما نسميه اليوم ترشيد الاستهلاك.
***
والأصل الرابع هو مسئولية المجتمع عن ضمان احتياجات أفراده، ووضع القواعد التى تكفل عدم تكدس الثروة عند أفراد معدودين تحركهم نوازع الجشع والاكتناز.
ويشرح الدكتور إبراهيم الدسوقى شتا هذا المبدأ فيقول: إن منع الاكتناز فى الإسلام يتفرع منه إلزام المجتمع والهيئة الحاكمة بضمان حاجات الأفراد فى حالات العجز، ومعروف أن عمر بن الخطاب أجرى راتباً من بيت المال لعجوز يهودى رآه يتكفف الناس فى الأسواق، وقال إن هذا الرجل فى شبابه كان يخدم اليهود والمسلمين، ونفس الواقعة تكررت مع الإمام علىّ فقد أجرى راتبا لعجوز قبطى، والمبدأ أن الرعايا فى المجتمع سواء فى الحقوق والواجبات بغض النظر عن دياناتهم، وقد أوصى الإمام علىّ مالك بن الأشتر حين ولاه مصر بأن يرعى الجميع دون تفرقة، وقال له: (الله الله فى الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين فاجعل لهم قسما من بيت المال، ولا يشغلنك عنهم بطر، ولا تصعر خدك لهم.. فإن هؤلاء من الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وعليك أن تتعهد أهل اليتم وذوى الرقة فى السن ممن لا حيلة له، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوى) وهذه الوصية جاءت بالتفصيل فى كتاب (نهج البلاغة) للإمام علىّ مؤداها أن لكل مواطن فى الدولة حقوقا، وواجب الحاكم أن يكفل هذه الحقوق لجميع الرعية من المسلمين وغير المسلمين على السواء دون تفرقة.
***
الأصل الخامس أن النظام الاقتصادى يجب ألا يقتصر على هدف واحد هو إقامة مجتمع الرخاء، لأن الرخاء وسيلة لتحقيق هدف أهم، فالعمل ليس وسيلة للكسب فقط بل هو عبادة، وكل إنسان فى المجتمع لابد أن يجد القوت وضرورات الحياة، وتحقيق الرخاء المادى إذا لم يرتبط بتوفير الاحتياجات الضرورية للفقراء فإنه يعنى تحول المجتمع إلى حالة من الجشع والطغيان والاستغلال مما يتعارض مع أهداف الإسلام. وأهداف الإسلام أن يكون النشاط الاقتصادى مرتبطاً بالجانب الروحى فى الفرد والمجتمع، والمجتمع الإسلامى قائم على الجانب الروحى والجانب المادى معا، ولذلك يحرّم الإسلام الاستغلال والاحتكار والربا والجشع فى تحقيق الربح. والرسول يعلّم المسلمين بأن الله سيحاسب كل إنسان على ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، كما يعلمهم أن الدنيا مزرعة الآخرة، وهذا ما تعنيه الآية الكريمة: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) الانشقاق (6). أى أن كل عمل للإنسان يخضع لرقابة الله وحسابه، وإذا لم تكن المادة هى الهدف الوحيد فى الاقتصاد، فإن البناء الاقتصادى يسلم من آفة فردية هى الجشع، ويسلم من آفة عامة هى اعتبار الرخاء هدفا فى ذاته، دون التفكير فيما يترتب على ذلك من تدهور. وفى القرآن: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس..) يونس (24).
***
ومن مبادئ الإسلام ما قرره الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من بات شبعان وجاره جائع) مما يعنى أن الأخوة فى الدين تعنى التكافل ومجتمع المسلمين أسرة واحدة لا يحق للغنى أن يترك الفقير دون أن يجد ما يكفيه، وهذا هو التعبير عن المسئولية الاجتماعية، ويقول أصحاب النظريات الشيعية إن الإسلام نهى عن حمية الجاهلية، وإن الاستقراطية العربية لم تظهر إلا بعد أن انحرف المسلمون عن المسار الحقيقى للإسلام فظهرت لفظة (الموالى) بعد أن سيطر بنو أمية على الحكم وشجعوا العصبيات العرقية والجنسية والقبلية لتبرير استحواذهم على الثروة والسلطة، وقدموا الوجه البشع الذى شوه الإسلام وهو الرق، والإسلام لم يعترف اعترافا كاملا بشرعية الرق ولم يضع له التشريعات التى تنظمه، وليس فى القرآن إشارة إلى الرق إلا فى آية واحدة تدعو إلى الفداء وتؤقته بالحرب، وآيات العتق تفتح الباب على مصراعيه لإنهاء هذا النظام الذى كان سائدا قبل الإسلام، والدليل على ذلك أن فقهاء المسلمين وكتب الفقه دون استثناء تتناول الحديث عن الرق تحت عنوان واحد هو (باب العتق)، وقد جعل الله العتق كفارة لمعظم الذنوب، وفى صدر الإسلام كان الرقيق الذين حررهم الإسلام مثل سلمان، وصهيب، وبلال، وعمّار، أعظم قيمة عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من بعض السادة، وقد أكد الصحابة جميعا- أكدوا على أن الناس جميعا ولدوا أحرارا ولا يجوز استعبادهم. وبذلك كان الإسلام أسبق من النظم الأوربية فى تحرير العبيد بمئات السنين.
***
يقول الباحث الشيعى الدكتور حبيب الله بايدار: إن الإسلام لم ينزل لدعوة الناس إلى الصلاة والصوم فقط، ولكنه حركة إصلاحية اجتماعية فى المقام الأول، وتوحيد الله دعوة لتحطيم أصنام الحجر وأصنام البشر أيضا، وهو دين له برنامج اقتصادى واجتماعى، أساسه أن الأموال العامة ملك لكل الناس لأن المال مال الله والخلق عيال الله. وأن ضمان احتياجات الفرد التزام على المجتمع، ويلزم بوضع القواعد لضمان عدم تكديس الثروة عند أفراد على حساب حرمان الأغلبية. والسعى إلى المال ليس هدفا فى ذاته، ولكن المال وسيلة والهدف هو مرضاة الله، والحياة وفقا لما أمر، والقاعدة التى قررها الرسول صلى الله عليه وسلم هى (الدنيا مزرعة الآخرة). وفى نفس الوقت فإن الإسلام يرفض الدعوة إلى نبذ الحياة والامتناع عن السعى للرزق والعمل فى الدنيا، بل يدعو إلى العمل والإبداع والاستثمار مع تكامل الجوانب المادية والروحية، وبحيث تكون الثروة للجميع مصداقا لقوله تعالى: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) الحشر (7). والزكاة والصدقات وسيلة لإعادة توزيع الثروة وضمان حياة كريمة للفقراء، والاستغلال حرام، وكسب المال دون عمل حرام، والاحتكار حرام.. الخ. ولا ينبغى أن يكون المال هو الدافع الوحيد للإنسان، ولكن هناك دوافع أخرى هى مرضاة الله، وخدمة الناس، وفقاً للمبدأ الذى عبّر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الله فى عون العبد ما دام العبد فى عون أخيه. والمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا، وما يعطيه الإنسان لأخيه الإنسان إنما هو (إقراض لله).. (فاتقوا الله ما استطعتم، واسمعوا، وأطيعوا، وأنفقوا خيرا لأنفسكم، ومن يوق شُح نفسه فأولئك هم المفلحون، إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم، والله شكور حليم) التغابن (16-17) و(.. وأقرضوا الله قرضا حسنا، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا..) المزمل (20). وهذا القرض إنفاق دون انتظار عائد مادى وفى هذه الحالة يتعهد الله تعالى بسداده أضعافا، وهذا يعنى أن الإسلام يرفض أن تكون الحوافز المادية هى وحدها التى تحكم حركة الفرد والمجتمع، كما يعنى أن النظرة الشاملة للإسلام تجمع بين مصلحة الفرد والمجتمع، وبين العمل للدنيا والآخرة، والربط بين الاعتبارات المادية والروحية، والارتباط بالله فى كل عمل للإنسان.
***
وفى عصر نزول الوحى كان هناك كثيرون يقولون ما يقوله البعض اليوم من أن ثراءهم دليل على إرادة الله بأن يمتعهم فى الدنيا، وأن فقر الفقراء هو غضب من الله عليهم، ولذلك نزلت الآية الكريمة: (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربى أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهانن، كلا بل لا تكرمون اليتيم، ولا تحاضون على طعام المسكين، وتأكلون التراث أكلا لمّا، وتحبون المال حبا جما) الفجر (15-20) ومن هنا قام رجال من أمثال أبى ذر الغفارى معارضين، وقد أحسوا بالقلق من ظهور الطبقات الاجتماعية ونموها وبدأوا فى التحريض على الثورة عليه.
ويذكر الدكتور إبراهيم الدسوقى شتا دليلا على رفض التمييز بين المسلمين فى عهد الخليفة عثمان بن عفان، فينقل ما رواه ابن قتيبة فى كتابه (الإمامة والسياسة) الجزء الأول ص 35-36 كما يلى:
(وذكروا أنه اجتمع أناس من أصحاب النبى عليه الصلاة والسلام، فكتبوا كتابا ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سُنّة رسول الله وسُنّة صاحبيه، وما كان من هبته خمس أفريقية لمروان، وفيه حق الله ورسوله، ومنهم ذوو القربى واليتامى والمساكين، وما كان من تطاوله فى البنيان، حتى عدوا سبع دور بناها فى المدينة، ودارا لنائلة، ودارا لعائشة، وغيرهما من أهله وبناته، وبنيان مروان للقصور بذى خشب (موضع فى المدينة) وعمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله ورسوله، وما كان من إفشائه العمل فى الولايات فى أهله وبنى عمه من بنى أمية، وهم أحداث وغلمة، لا صحبة لهم من الرسول، ولا تجربة لهم فى الأمور، وما كان من الوليد بن عقبة فى الكوفة إذ صلى بهم الصبح وهو أمير عليهم سكران أربع ركعات ثم قال: إن شئتم أزيدكم صلاة زدتكم، وتعطيله إقامة الحد عليه.. وما كان من الحمى الذى حمى حول المدينة، وما كان من إدراره القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة لا يغزون ولا يذبون ، وما كان من مجاوزته الخيزران إلى السوط، وأنه أول من ضرب بالسياط ظهور الناس..
ثم تعاهد القوم ليدفعن الكتاب فى يد عثمان، وكان ممن حضر الكتاب عمّار بن ياسر، والمقداد بن الأسود، فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان، جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقى وحده، فمضى حتى جاء إلى دار عثمان فاستأذن عليه فأذن له، فدخل عليه وعنده مروان بن الحكم وأهله من بنى أمية، فدفع إليه الكتاب فقرأه، فقال له: أنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: نعم. قال: ومن كان معك؟ قال: كان معى نفر تفرقوا فرقا (أى خوفا) منك. قال: من هم؟ قال: لا أخبرك بهم. قال: فلم اجترأت على من بينهم؟ فقال مروان: يا أمير المؤمنين، إن هذا العبد الأسود (يعنى عمّارا) قد جرأ عليك الناس، وإن أنت قتلته نكلت به مَن وراءه، فقال عثمان: اضربوه، فضربوه، وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه، فغشى عليه، فجروه حتى طرحوه على باب الدار، فأمرت به أم سلمة زوج النبى عليه الصلاة والسلام فأدخل منزلها، وغضبت فيه بنو المغيرة وكان حليفهم، فلما خرج عثمان لصلاة الظهر عرض له هشام بن الوليد بن المغيرة فقال : أما والله لئن مات عمّار من ضربه لأقتلن به رجلا عظيما من بنى أمية، فقال عثمان: لست هناك..).
هذه الرواية يستدل بها الدكتور شتا على ظهور الطبقات فى عهد عثمان ونمو (المحسوبية) كما يستدل بها على رفض هذه الطبقية من جانب المسلمين. والشيعة عموما يستندون على مثل هذه الروايات فى حربهم المستمرة حتى اليوم على بنى أمية لسيطرتهم على الحكم وعلى المجتمع الإسلامى، ويدلل الشيعة على صحة مذهبهم بذكر ما فعله الإمام علىّ من حرب الاستغلال واكتناز الثروات، وفى وصيته إلى ابنه الإمام الحسن يحرّم فيها ترك ميراث لأهله من بعده، ليس فقط لأن جمع الثروة مذموم، بل أيضا لأن الثروة حين تصل إلى أشخاص لم يتعبوا فى جمعها تعرضهم للفساد أو تدعوهم إلى حياة طفيلية ليس فيها السعى والعمل، وفى ذلك قال الإمام علىّ للإمام الحسن: يا بنى لا تخلفن وراءك شيئا من الدنيا، فإنك تخلفه لأحد رجلين: إما رجل عمل فيه بطاعة الله فسعد بما شقيت به، وإما رجل عمل فيه بمعصية الله فشقى بما جمعت له، فكنت عونا على معصيته، وليس لأحد الرجلين أن تؤثره على نفسك.
هذا ملخص نظرية الشيعة الاقتصادية كما عرضها الباحث الشيعى الإيرانى الدكتور حبيب الله بايدار فى كتابه بالفارسية (برد اشتهائى دربارة ما لكيت وكار وسرماية إزديد كاه إسلام) (تفسيرات عن الملكية والعمل ورأس المال من وجهة نظر الإسلام) كما عرضه الدكتور إبراهيم الدسوقى شتا فى كتابه (الثورة الإيرانية- الجذور- الأيديولوجية). وقد تناول الإمام الخمينى كثيراً موضوعات تحريم الربا وأهمية ركن الزكاة وخمس الربح، وتحريم الاستغلال والاحتكار.
***
ومن الواضح أنه ليست هناك نظرية اقتصادية كاملة متكاملة فى الإسلام، ولذلك فلا نجد عند الشيعة والسُنّة سوى استخلاص للمبادئ والقيم والأصول التى وردت فى الكتاب والسُنّة وتمثل الإطار العام للاقتصاد والمعاملات، والحكمة من ذلك واضحة أن الإسلام حدد المبادئ الجوهرية التى لا يجوز الخروج عليها وترك للناس أن يتخذوا فى شئون حياتهم ما يناسب كل مجتمع وكل عصر، وبذلك فلا تتعارض مبادئ الإسلام مع التطور الطبيعى والحتمى للمجتمعات، وهذا هو المعنى من القول بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان.
والدليل على ذلك أن مذاهب أهل السُنّة لم تكن أربعة فقط، بل كان مع الأئمة الأربعة أئمة آخرون من أمثالهم، وممن يفوقونهم- كما يقول الدكتور عبد المنعم النمر فى كتابه (الاجتهاد)- ويذكر منهم الليث بن سعد فى مصر الذى قال عنه الشافعى:(الليث أفقه من مالك، لولا أن قومه ضيعوه) يقصد لم يكن تلاميذه يرفعون ذكره كما كان للإمام مالك.
وفى (ضحى الإسلام) يقول أحمد أمين عن العصر العباسى: (لم يكن الأمر مقصوراً على المذاهب الأربعة، بل كان فى ذلك العصر مذاهب كثيرة غير هذه، لم يقل بعضها فى القيمة والقوة عنها، فكان مذهب الحسن البصرى (المتوفى سنة 110 هـ) ومذهب أبى حنيفة (150 هـ) ومذهب الأوزاعى (157 هـ) ومذهب سفيان الثورى (161 هـ) ومذهب الليث بن سعد (175 هـ) ومذهب مالك (179 هـ) ومذهب سفيان ابن عيينة (198 هـ) ومذهب الشافعى (204 هـ).
ثم من بعدهم فى القرن الذى يليه: مذهب إسحاق بن راهويه (283 هـ) ومذهب أبى ثور (240 هـ) ومذهب أحمد بن حنبل (241 هـ) ومذهب داود الظاهرى (270 هـ) ومذهب ابن جرير الطبرى (310 هـ) وغير ذلك.
ومعنى ذلك أن الأئمة الأربعة المشهورين لم يكونوا وحدهم أصحاب المذاهب، مما يدل على أن الاجتهاد فى أهل السُنّة كان مفتوحا ولم يقل أحد بإغلاق باب الاجتهاد إلا فى وقت متأخر ولدوافع سياسية. وإذا كانت معظم هذه المذاهب قد انقرضت ولم يحفظ الناس سوى المذاهب الأربعة المعروفة. حين اضطهدت السلطة الحاكمة حرية الرأى فى العصور المتأخرة وبالتالى توقف الاجتهاد، ويضاف إلى ذلك- كما يقول الدكتور النمر- تهافت العلماء على المناصب والتقرب للسلطة فأصبح العلماء طالبين بعد أن كانوا مطلوبين واهتزت الثقة فيهم، ولم يعد الناس يأخذون بأقوالهم. وفى عهد المتوكل أمر بالتقليد ومنع الاجتهاد، وكذلك فعل المستعصم سنة 645 هـ. وقد تحدث فى ذلك الإمام الغزالى فذكر أن طلب العلماء للدنيا حملهم على التعصب لمذهب من المذاهب، وذكر المقريزى أن كثرة الأوقاف للمذاهب الأربعة جعلت طلاب العلم ينصرفون عما سواهم.

والخلاصة أن باب الاجتهاد مفتوح دائما ودعوة الإسلام للتفكير وعدم تعطيل العقل دعوة دائمة إلى يوم الدين. وبالتالى فإن النظرية السياسية والاقتصادية الإسلامية قابلة للاجتهاد. بل إنها هى الساحة التى ما زالت بكرا أمام المجتهدين بعد أن ركز المجتهدون على أمور العبادات واكتفوا بالمبادئ العامة التى تحكم المعاملات الاقتصادية، وهذا ما عبّر عنه جمال الدين الأفغانى حين قال: إن الأئمة اجتهدوا وجزاهم الله خيرا، ولكن لا يصح أن نعتقد أنهم أحاطوا بكل أسرار القرآن والحديث الصحيح وعلمهم ليس إلا قطرة فى بحر.. وتابع محمد عبده الدعوة إلى الاجتهاد واجتهد هو فتصدى لموضوعات جديدة مثل فتواه بأن فوائد توفير البريد حلال، ومثل فتوى تلميذه رشيد رضا بأن من يعطـى مالا لشخص آخر مقابل نصيب من الربح مع تحديد هذا النصيب مقدما لا يدخل فى باب الربا، وعلل ذلك بأن هذه المعاملة نافعة للطرفين والربا المحرّم هو الذى يصيب بالضرر طرفا واحدا بلا ذنب سوى الاضطرار. فالتفرقة واجبة بين مال أخذ لاستغلاله فى مشروع ومال اقترضه الشخص للإنفاق على أهله أو لضرورات حياته. وليست كل زيادة ممنوعة، بل الحرام محصور فى الزيادة الضارة بالمدين القاضية على روح التعاون.
وهناك قضايا وتفاصيل كثيرة ومع ذلك لم تكتمل النظرية الاقتصادية الإسلامية مما يجعل الاجتهاد فى القضايا الاقتصادية التى لم يعرفها فقهاء العصور السابقة من ألزم الضرورات الآن للسُنّة والشيعة معا
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف