دروس من لندن
كنت فى لندن أثناء الدورة الأوليمبية والباراليمبية، فكانت أياما أقرب إلى الحلم، ورأيت كيف تستعد الدول، استعدادها يستغرق سنوات، تستكمل فيها كل صغيرة وكبيرة، وتجرى أكثر من تجربة حتى يؤدى جميع المشاركين أدوارهم بثقة وكمال.. وأرجو ألا تتذكر الخيبة القوية التى سببها لنا «المسئولون» عن صفر المونديال الذى سيبقى وصمة فى جبينهم.. ومنهم لله بعد أن أفلتوا من الحساب!
الاستعداد لهذه الدورة بدأ باختيار شخصية على درجة عالية من الكفاءة والخبرة فى تنظيم الدورات الأوليمبية هو كريس هوى Sir Chris Hoy الحاصل على لقب «سير» والذى يحمل ست ميداليات ذهبية فى دورات أوليمبية سابقة.. الدرس الأول: أهل الخبرة وليس أهل الثقة! وبدأ الاستعداد بمنتهى الجدية منذ أربع سنوات، وكأن الدورة ستقام غدا، استعدادا للفرق بإنشاء قرية أوليمبية مدهشة، فيها مساكن مريحة وكافية، ومطاعم، تقدم الطعام من كل أنحاء العالم تقريبا ابتداء من الفول والطعمية إلى السوشى والطعام المكسيكى والصينى.. و.. و.. ومحلات ملابس وحلاقة ومول هو أكبر مول فى أوروبا.. والنتيجة أن آلاف من الفرق المشتركة والمشرفين والإداريين وجدوا كل شىء جاهزاً فلم تصدر شكوى من أحد (!)
هذا هو الدرس الثانى- الاستعداد المبكر والتخطيط الشامل والتنفيذ الدقيق وعدم السماح بالإهمال أو بالسهو والنســـيان (!) وكــان عدد الزوار فى لندن وحدها أكثر من مليون زائر من أنحاء العالم وجدوا كل شىء جاهـزاً لإقامتهم وتنقلاتهــم ورحلاتهــم ومشــترياتهم ووســائل الترفيه.. مساكن.. فنادق.. مواصــلات.. متنزهات.. برامج رحلات.. السماح بفتح المحلات والمراكز التجارية واستمرار المترو والأتوبيسات إلى ساعة متأخرة ليلا..
وتم تخصيص مساحات من الطرق لسيارات وأتوبيسات الفرق المشاركة، وكل سيارة أخرى تسير عليها تدفع مخالفة باهظة.. والأمن كما هو فى بريطانيا.. موجود بقوة فى كل مكان دون أن تشعر به.
وإذا نظرت إلى رجل أو سيدة البوليس سوف يبتسم لك، وإذا سألته عن شىء سيقف ويشرح لك بهدوء وصبر أيوب.. وحين يقرر البوليس منع المرور فى منطقة لا يضع حواجز أسمنتية أو حديدية، ولكن يمُد شريط وتكفى الإشارة ليفهم الناس ويتجهوا إلى طريق آخر.
لندن كانت تعيش أيام أعياد.. أعلام الدول فى كل مكان.. الأنوار تزين المبانى.. شاشات عرض عملاقة فى الحدائق والميادين وبعض المراكز التجارية الكبيرة تعرض على الهواء مباشرة جميع المباريات، وقنوات التليفزيون تعرض المباريات، وكل المحلات فيها ملابس وتحف وهدايا وتذكارات وأعلام مصممة بذوق رفيع وعليها شعار الأوليمبياد، والدخول فى الملاعب فى طابور، والتذكرة عليها رقم المقعد، وفى الداخل تجد شبابا يدلك على مقعدك، وفى كل ملعب مطاعم ودورات مياه كثيرة ونظيفة جدا.. وكل شىء بالطابور.. الدخول والخروج.. ركوب الأتوبيس أو المترو.. شراء قهوة أو سندوتش أو دخول مطعم.. الطابور و بالدور.. والجميع فى منتهى الهدوء.. حين تطبق قاعدة عامة على الجميع دون أى استثناءات يتحقق الهدوء والأمن والاستقرار وتختفى الفوضى، وهذا هو الدرس الثالث، ولذلك لم تحدث حادثة اعتداء أو تحرش جنسى إلا من أحد أفراد البعثة المصرية (وهذه فضيحة كانت على كل لسان).
كيف استطاعوا حشد الشعور العام للاحتفال بهذه المناسبة.. بحيث لم تكن مناسبة رياضية فقط، ولكنها كانت مناسبة وطنية يحمل فيها الجميع العلم البريطانى. ويلبسون ملابس عليها العلم.. وحتى الأحذية مرسوم عليها العلم.. وهذا درس رابع.. لابد من مناسبات تتجمع فيها الشعوب وتنمى روح الانتماء وتشعر بالاعتزاز والثقة.
***
عندما سارت الشعلة الأوليمبية فى أنحاء بريطانيا كان الآلاف يقفون على طول الطريق بالأعلام والصياح والتصفيق.. وكذلك فى المسيرة الختامية.. أكثر من مليون رجل وسيدة وطفل وطفلة وقفوا فى الطريق لمسافة أربعة كيلو مترات تقريبا، وأكثر من مائة ألف تكدسوا فى ميدان ترافلجار سكوير الشهير البريطانية لتحية الفرق التى شاركت فى المباريات، وهم على سيارات كبيرة مكشوفة يزينون صدورهم بالميداليات الذهبية والفضية والبرونزية، وقد حققت بريطانيا فى هذه الدورة ما لم تحققه من قبل.
أظن أنه لم يتخلف أحد من الشعب البريطانى عن المشاركة فى هذه المناسبة التى تحولت إلى مناسبة قومية.. هذا شعب يحب الحياة ويشارك فى كل المناسبات والبرامج.. شعب يتعامل مع الزحام بمنتهى الأدب والانضباط وهذا هو الدرس الأكبر.. السلوك الحضارى الذى يتعلمونه فى البيت وفى المدرسة ومن التليفزيون.. وربما أستكمل الحديث عن لندن فيما بعد..


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف