رسالة إلى أمريكا : مصـر ليسـت للبيع
هل وصل هدير الأصوات فى مجلس الشعب المصرى إلى أسماع واشنطن؟
هل وصلت الرسالة إلى صقور الإدارة الأمريكية، وإلى المخابرات الأمريكية، وإلى وزيرة الخارجية الأمريكية؟
كل الأصوات- فى المعارضة كما فى الحزب الحاكم- عبرت عن رفضها للتدخل الأمريكى فى شئوننا الداخلية. وكانت حالة الغضب فى السلطـة التشريعية الشعبية تعبيرا عن غضب الرأى العام لقيام السفير الأمريكى بتوزيع مليون دولار على 6 جمعيات فى مصر تحت شعار (دعم الديمقراطية). وقبل ذلك تدفقت ملايين الدولارات علنا وسرا إلى جهات وأشخاص ظـهرت عليهم أعراض الثراء الفاحش، وهذا ما جعل أعضاء مجلس الشعب يطـالبون باتخاذ الإجراءات القانونية للتحقق من مصادر هذه الثروات.
وليس خافيا ما أعلنه الرئيس بوش مرارا عن استراتيجيته لتغيير الشرق الأوسط، وفرض (الديمقراطية) وفق المواصفات الأمريكية على دول وشعوب هذه المنطقة، وبأنه فخور بالديمقراطية التى حققها فى العراق وأفغانستان بالغزو العسكرى، واحتلال البلدين. فتحت العلم الأمريكى يعيش الشعبان فى أحسن حال (!)
وليس خافيا أن فى الإدارة الأمريكية الحالية من يرى بإصرار أن الفرصة سانحة الآن لهزيمة الدول العربية بدون حرب. بالضغوط السياسية والاقتصادية من ناحية، وبعمليات المخابرات الأمريكية المعهودة التى عرفناها منذ عشرات السنين منذ صدر كتاب (الأمريكى القبيح) فى القرن الماضى. وبشراء أعداد من العملاء والمغامرين والباحثين عن دور فى بلادهم، والباحثين عن الثروة، ومستعدون لبيع كل شىء فى المقابل، حتى بيع أنفسهم وضمائرهم وبلادهم. وهؤلاء موجودون فى كل بلد. وقد جندت أمريكا عددا منهم فى العراق وأفغانستان، كما جندت أعدادا أخرى فى بقية الدول العربية، وليس فى العالم العربى والإسلامى بلد ليس فيه (رجال أمريكا)!
ولذلك عيّن الرئيس الأمريكى مديرا جديدا للمخابرات وطلب منه فى مؤتمر صحفى أن تعمل المخابرات الأمريكية على إعادة استراتيجية عملها فى الخارج بما يحقق السياسة الأمريكية، وبعدها أعلن مدير المخابرات الأمريكية الجديد عن خطته لتشكيل ميليشيات للقيام بعمليات تصفية جسدية للعناصر المعادية لأمريكا (كما يفعل شارون). وتشكيل مجموعات عمل لوضع الخطط لتغيير الرأى العام فى المنطقة وتحويل الكراهية السائدة تجاه أمريكا إلى ترحيب بها.
وكان ضمن أسباب اختيار كوندوليزا رايس وزيرة للخارجية دورها السابق فى عمليات التخطيط الاستراتيجى لتفكيك الاتحاد السوفيتى، وإثارة الهياج فى الشوارع ودورها الآن هو تكرار ما فعلته فى الاتحاد السوفيتى ومعها مجموعة من كبار السياسيين منهم مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية السابقة، ومجموعات من المخابرات تعمل من خلال جمعيات ومنظمات أهلية لنشر الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، وجمعيات أخرى هى فى حقيقتها فروع للمنظمات الصهيونية. ومن السهل شراء بعض من يعرضون أنفسهم للبيع، ويقدمون أنفسهم لأمريكا على أنهم خير من ينفذ سياساتها ويحقق أهدافها. وقد نجحت هذه الاستراتيجية فى أوكرانيا.
بعد أوكرانيا أعلن الرئيس بوش أن (الثورة البرتقالية) سوف تنتشر فى أنحاء كثيرة من العالم، ويقصد بذلك أن (رجال أمريكا) فى أوكرانيا كانوا يلبسون اللون البرتقالى ووزعوا على الناس ملابس بنفس اللون، من الملايين الأمريكية المخصصة لتفكيك الدول. وكان الرئيس بوش يعنى أن نموذج أوكرانيا سوف يتكرر فى تنفيذ استراتيجيته لتغيير الشرق الأوسط.
قبل ذلك رصد الكونجرس عشرات الملايين من الدولارات لتنفيذ هذا المخطط تحت مسمى (تحسين صورة أمريكا فى العالم)، وتنفق هذه الملايين لإنشاء قنوات تليفزيونية وصحف جديدة تروج للسياسة الأمريكية وأفكار المحافظين الجدد فى الدول المقصودة ، ويتم الإنفاق من هذه الملايين فى عملية اللعب فى عقول (قادة الرأى العام)، وبخاصة الشبان من الصحفيين، والأكاديميين والباحثين فى مراكز البحوث، والقيادات المحلية، وأحزاب المعارضة، وهناك ملايين مخصصة للدعوات والزيارات إلى أمريكا يتولى فيها رجال ونساء المخابرات الأمريكية مهمة (التلقين) والإقناع بالفكر الأمريكى بالأساليب اللطيفة المعروفة. ومن ناحية أخرى يتم إنفاق ملايين الدولارات من أجل إثارة المشاكل فى البلاد المقصودة لتكون كل مشكلة فرصة أمام (رجال أمريكا) للاندساس وسط الجماهير وإثارة حماسهم وقيادتهم بعد ذلك.
هذا السيناريو يجرى الآن فى لبنان، وسرعان ما وصل بيروت مساعد نائب وزير الخارجية الأمريكية دون تنسيق مع السلطات اللبنانية، وبدأ فى إجراء اتصالات للتمهيد لإجراء الانتخابات التشريعية القادمة على هوى أمريكا، حتى أن أحد كبار الساسة اللبنانيين أعلن فى مقابلة تليفزيونية دهشته مما يفعله هذا الرجل، وقال إنه يقوم بدور المندوب السامى، ويتجاهل السلطة الشرعية فى البلاد، ويحول مركز الثقل السياسى فى لبنان إلى السفارة الأمريكية، ولم يبق إلا أن يقدم المرشحون أوراقهم إلى السفارة الأمريكية (!) ويوما بعد يوم تتضح الصورة ويبدو أن الخيوط فى لبنان تنتقل إلى يد أمريكا وكأنها هى التى ستتولى الإدارة السياسية فى لبنان.
هذا السيناريو من الممكن أن ينفذ فى بقية الدول العربية.
أمريكا لها أهداف فى المنطقة، ولا يمكن أن يصدق مخلوق أنها قامت بغزو العراق حبا فى سواد عيون الشعب العراقى لتحريره من استبداد الحكم، أو أنها قامت بغزو أفغانستان من أجل تحسين أحوال المعيشة للشعب الأفغانى وتحريره من التخلف والجمود، فالواقع يشهد أن الحياة أصبحت أسوأ فى أفغانستان والعراق. لكن أمريكا تريد كل الحكام فى (الدول الخاضعة) على نموذج (قرضاى)، وتبحث فى كل بلد عن (قرضاى) يناسبها، بدليل أنها رفضت تعيين وزراء فى الحكومة العراقية لأنهم ليسوا بهذه المواصفات، وتتدخل فى عملية توزيع السلطات فى العراق. وتحرص على تعميق الانقسام الطائفى تمهيدا ليوم يتم فيه تقسيم العراق. والمستفيد هى إسرائيل.
الإدارة الأمريكية محتاجة إلى رسائل تعيد إليها الصواب. رسالة تفهمها أن الديمقراطية ليست (وجبة جاهزة). ولكن الديمقراطية عملية تفاعل سياسية واجتماعية لابد أن تتم داخل المجتمع نفسه، وهذا ما قاله عالم الاجتماع الأمريكى آميتاى ايتزيونى بأنه لا يوجد نقص وراثى فى جينات أى شعب يجعله غير مؤهل للديمقراطية، ولكن الديمقراطية ليست شيئا يمكن تحقيقه فى يوم وليلة، ولكنها نظام يتطور على مدى زمن طويل. ولا ننسى أن الديمقراطية فى أوروبا لم تنضج إلا بعد قرون، ولم تنضج فى أمريكا ربما حتى الآن، بدليل ما كتبه روبرت كوتنر الكاتب المعروف فى صحيفة بوسطن جلوب وقال: إن الرئيس بوش يعطى صورة للأمريكيين بأنه بغزو العراق نجح فى تغيير موازين القوة فى الشرق الأوسط وجاء بالديمقراطية إليها، ولو كان ذلك صحيحا لاستحق الرئيس بوش جائزة نوبل، ولكن هذه صورة غير صحيحة، وما دام الرئيس بوش يرى أن الديمقراطية شىء حسن فلماذا لا?يعمل على الإبقاء على ما لم يدمره من الديمقراطية داخل أمريكا! وكاتب أمريكى آخر كتب يذكر الرئيس بوش بأن انتخابات ديمقراطية تحت رقابة دولية وصل بها هتلر إلى السلطة فى ألمانيا منذ 73 عاما.
والرسالة المهمة للإدارة الأمريكية أنها ربما تجد حفنة من الرجال مستعدين لبيع ضمائرهم وبلادهم مقابل الملايين من الدولارات والوعود بالحماية الأمريكية، وفى كل بلد هناك دائما هذا النوع الرخيص من الناس، يوظفون مواهبهم وفقا لمبدأ (أنت تدفع ونحن نعمل لك ما تريد) ولكن أمريكا رغم كل التقدم العلمى ومراكز البحوث والمخابرات لا تعرف الشعب المصرى،ولم تدرس تاريخه جيدا، ولا تقدر مدى حساسية المصريين تجاه التدخل الأجنبى، والضغوط الأجنبية، والأموال الأجنبية. وأنصحها بأن تراجع مقاومة المصريين لمشروع أيزنهاور عام 1957حين أعلن نظريته عن وجود فراغ استراتيجى فى الشرق الأوسط وأن أمريكا يجب أن تملأ هذا الفراغ، وقاوم المصريون.. وفشل المشروع.
رسالة: قد تجدون فى مصر حفنة من الرجال للبيع. ولكن مصر ليست للبيع.