المسلمون مقصّرون أيضا فى حق أنفسهم !
يجب أن يعترف المسلمون بأنهم مقصّرون أيضا فى حق الإسلام قبل أن يتهموا الغربيين بالتقصير والإساءة إلى الإسلام. لأن المسلمين لم يوصلوا أصواتهم ولم يقوموا بواجبهم لتوضيح حقيقة الإسلام والدفاع عنه.
وأعتقد أن البروفيسور فريد هاليــداى- الأسـتاذ بجامعة لندن- من أهم الباحثين الأكاديميين الذين درسوا الإسلام بمنهج علمى، وبدافع البحث والرغبة فى المعرفة، دون تحيز أو آراء مسبقة، ولذلك فإنه يدافع عن الإسلام والمسلمين ويوجه إليهم النقد أيضا حرصا منه على تنبيه المؤسسات والمفكرين فى العالم الإسلامى، ليعملوا من جانبهم على تقديم الإسلام للغرب بما يتفق مع العقلية الغربية وباللغة التى يفهمها الغرب، ولكى يوجهوا جهودهم أيضا إلى الجبهة الداخلية بتصحيح المفاهيم المنحرفة فى داخل المجتمعات الإسلامية التى يرددها المتشددون والغلاة وقادة المنظمات الإرهابية التى تدعى أنها الممثلة الحقيقية للإسلام.
وهاليداى يكرر دائما أن المسئولية عن سوء الفهم للإسلام فى الغرب هى مسئولية مشتركة من الغربيين، ومن المسلمين أيضا، ولا يكفى أن نطالب الغرب بتصحيح الصورة إذا لم يعمل المسلمون على تصحيح الأصل. وهو أيضا ينبه إلى فكرة مهمة هى أن مفاهيم الإسلام، وأفكار المسلمين عنه ونظرياتهم وفهمهم للنصوص كل ذلك يتغير من عصر إلى عصر وفقا لتقدم العلوم والمجتمعات، ولذلك فإنه يوجه النقد إلى المستشرقين الذين يعتمدون على الكتب القديمة وحدها ويصدرون أحكامهم على الإسلام بناء عليها، متجاهلين ما حدث فى مناهج وأفكار المسلمين من تطور، وما طرأ على علوم الفقه والتفسير من تجديد.
ويستشهد هاليداى بكتاب بارينجتون مور (الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية) الذى قال فيه: إن الثقافة أو التقاليد فى مجتمع ما لا تسقط من السماء، وليست منفصلة عن الناس الذين يعيشون معا فى مجتمع ما، وافتراض الجمود والاستمرارية للثقافة والتقاليد والقيم الاجتماعية هو افتراض غير منطقى وغير واقعى، لأن هذه المكونات للمجتمع تتجدد مع كل جيل جديد، وإن كان التغيير فى المجتمع يحدث غالبا بعد معاناة وصراع وآلام شديدة ويتعرض المطالبون بالتغيير للسجن والتعذيب والتشويه أو يتعرضون للرشوة والإغراء أو يتعرضون للقتل وإطلاق النار عليهم، وكل ذلك لأن الدعوة إلى التغيير يقابلها دائما إصرار على الجمود الاجتماعى والثقافى.
ويقول هاليداى: إن دراسة المجتمعات الإسلامية ستظل ناقصة إذا لم تدرس الاختلافات فى المعتقدات الإسلامية، والشخصية الوطنية لكل شعب، والطبقات الحاكمة المسيطرة، والمجموعات العرقية فى كل مجتمع، لأن هذه عوامل تؤثر فى تفسير العقيدة الإسلامية، ولكل جماعة أو فئة مصالح تسعى إلى تأكيدها واستمرارها باللجوء إلى تفسير للإسلام يتفق مع مصالحها.. وكذلك ينبه هاليداى إلى أخطاء المستشرقين الذين يتحدثون عن (الشخصية الإسلامية) وكأن المسلمين جميعا لهم سمات شخصية واحدة، ويقولون هذه الشخصية الإسلامية تتميز بأنها عدوانية، ولا تعرف التسامح مع المنشقين، ولا تؤمن بالتعددية فى السياسة والثقافة، وقد أضيف مؤخرا التعصب الإسلامى كموضوع مفضل للمستشرقين.. كذلك فإن المستشرقين يرون أن النظم الدكتاتورية والنظم القبلية، واضطهاد الأقليات، والتعصب الدينى هى من خصائص الإسلام والمسلمين، ويتجاهلون أن هذه الخصائص ذاتها موجودة فى أوساط المسيحيين، واليهود، والهندوس، وعلى ذلك فإن تفسير كل ما فى المجتمعات الإسلامية من ظواهر سياسية واجتماعية على أنها تطبيقات للإسلام، هو تفسير خاطئ وظالم، وإن كان الحكام يستخدمون الإسلام غطاء لتجاوزاتهم فإن ذلك محسوب على الحكام وليس على الإسلام.
وينبه هاليداى أيضا إلى أن الكتابات المنحازة والظالمة لشعوب معينة غير مقصورة فقط على كتابات المستشرقين عن الإسلام، لأن أخطاء الباحثين الأوروبيين كثيرة فى أحكامهم ودراساتهم عن الشعوب غير الإسلامية أيضا. فاضطهاد الأمريكيين المهاجرين للهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا مثال جيد على ذلك، وكذلك ما تكرر حدوثه فى أمريكا الجنوبية، بل إن انحياز بعض الباحثين الغربيين ضد اليابان هو مثال آخر، ومن أمثلة ذلك كتاب (الأقحوان والسيف) تأليف روث بيندكيت الذى تحدث عن خصائص العقل اليابانى ومكانة المرأة المتدنية، والامبراطور المقدس.. وكان متحيزا فى شرحه وتحليله.. كذلك كان لروسيا والصين نصيبهما من الانحياز.. وينتهى هاليداى من استعراض الكتابات المتحيزة فى الغرب ضد شعوب وعقائد أخرى غير الإسلام والمسلمين إلى أن العرب والمسلمين أيضا لديهم هذا الانحياز والتعميم عندما يتحدثون عن (الغرب) وكأنه كيان واحد، أو عندما يتحدثون عن (مؤامرة) الغرب ضد الإسلام والمسلمين على أنها شىء عام فى الغرب كله، وفى الكتابات العربية والإسلامية من يقول: إن كل أفكار وكل نظم تأتى من الغرب هى أفكار ونظم فاسدة.
***
والحقيقة التى يريد هاليداى من المسلمين أن يعترفوا بها هى أن معظم أفكار العلوم الاجتماعية، والتكنولوجيا، والتقدم العلمى، تأتى من أوروبا وأمريكا، أى من مجتمعات الإمبريالية والرأسمالية، والنظام الرأسمالى هو الذى يسود العالم بعد انهيار الشيوعية، ومع المد الذى يجعل (العولمة) تستوعب الدول واحدة بعد الأخرى سواء عن رضا وقبول أو بالإكراه. وصدور أفكار من ذوى النوايا الاستغلالية لا يعنى أنها كلها غير صحيحة ولا أساس لها من الواقع، كذلك فإن سياسات (الهيمنة) الغربية تدفع الغرب إلى دراسة المجتمعات التى يريد السيطرة عليها لكى يحدد مواطن القوة والضعف، وأماكن الثروة، أى أن الغرب محتاج إلى أن تكون لديه (خريطة) كاملة ودقيقة وتفصيلية للمجتمعات التى يسعى إلى الهيمنة عليها، بما فى ذلك تكوينها اللغوى والثقافى والدينى. وهذا ما فعله العلماء الذين جاءوا إلى مصر مع الحملة الفرنسية عام 1798 فقد كانوا جزءا من مشروع إمبريالى، ولكن المعلومات التى جمعوها كانت لها قيمة موضوعية مهما كانت دوافعها وأهدافها، ولتقريب الفكرة يقول هاليداى إنك إذا أردت أن تسرق أحد البنوك فلابد أن يكون لديك خريطة دقيقة له من الخارج والداخل وللأعمال الروتينية وللموظفين ومواعيدهم وعاداتهم. ومن المفيد طبعا أن تبحث عن شخص أو أشخاص من داخل البنك يمكنك تجنيدهم للتعاون معك فى السرقة.
وهذا ما تفعله دول الغرب!
***
يقول هاليداى إنه لا يمكن إنكار أن العالم العربى والإسلامى كانت تنتشر فيه الأفكار والقصص الخرافية، ومر بمرحلة عانى فيها من فقر الحياة الفكرية، وقد أشار ادوارد سعيد نفسه إلى ذلك وانتقد الحكام فى العالم الإسلامى الذين اهتموا بإنشاء أحدث المطارات على مستوى عالمى، لكنهم لم يهتموا بإنشاء مكتبة جيدة، كما انتقد كثير من المفكرين الإسلاميين حالة الركود فى العالم الإسلامى، واجترار الأفكار القديمة، وتكرار الخرافات التى تمتلئ بها كتب التراث. وما فى بعض الكتابات الإسلامية الحديثة من أفكار خرافية عن الغرب بدافع معاداة الإمبريالية، وهكذا فإن الخرافات والأفكار غير الدقيقة موجودة على الجانبين ولها دور لا يستهان به فى إساءة العلاقة بين الغرب والمسلمين.
وينتقد هاليداى أيضا بعض الكتاب المسلمين لأنهم يتحدثون عن الغرب بلغة عدائية فيها تعميم وليس فيها تحليل وموضوعية لمجرد تغذية الاتجاهات المعادية للسياسات الغربية، دون تفرقة بين ما هو سياسى وما هو ثقافى، وهذا ما يجعل بعض الإسلاميين يرفضون ثقافة الغرب جملة، ويحكمون على الغرب فى عمومه بالانحراف عن الدين والانحلال الأخلاقى، وكأن جميع الغربيين ابتعدوا عن الإيمان والتدين، وأنهم جميعا لا يلتزمون بالمبادئ والقيم الأخلاقية، وهذا التعميم خطأ يتسبب فى إساءة العلاقات بين المسلمين والغربيين على المستوى السياسى وأيضا على مستوى العلاقات الفردية. وبعض الحكام يرددون فى خطاباتهم عبارات عدائية تجاه الغرب، ويقابل هؤلاء مجموعات فى الغرب يتعاملون مع المسلمين على أنهم مجموعة واحدة ثقافية واجتماعية بل وعرقية. وإذن فإن الأخطاء وسوء الفهم والتفاهم من الجانبين وليس من جانب واحد.
***
ويناقش هاليداى النظريات الحديثة الرائجة عن الإسلام فى الغرب الآن، ويقول إن أبرز سمات مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة ظهور أفكار جديدة عن حتمية الصدام بين ما يسمى الغرب، من جهة، و(الإسلام) من جهة أخرى، على أنهما كتلتان بينهما مواجهة وصراع أساسى. وتروج هذه الفكرة فى العالم الإسلامى كما تروج فى الغرب، وتتردد أصداؤها فى أندونيسيا، ونيجيريا، وبنجلاديش. كما تتردد فى أفغانستان وباكستان والمنطقة العربية، وتغذى هذه الفكرة مشاعر العداء للاستعمار والامبريالية والعولمة، كما تغذيها الأحداث فى فلسطين، وكشمير، وغيرها من البلدان الإسلامية، ومن تجليات هذه الفكرة انتشار الإحساس بالتهديد والخطر لدى كل جانب من الآخر، وشعور فى الغرب بصعوبة التعامل مع (الإسلام). ومع أن هذه المشاعر فيها الكثير من المبالغة وعدم الفهم. إلا أنها تؤثر فى السياسة، وتغذى هذه الاتجاهات أيضا النظرية التى راجت مؤخرا عن التحول فى طبيعة الصراعات الدولية، وبعد أن كانت العلاقات الدولية فى الماضى تتحدد على أساس القوة والمصالح الاقتصادية والأطماع فى الأرض والثروات الطبيعية، أصبحت هذه العلاقات تتحدد على أساس الثقافة والأفكار والإعلام والنظم السياسية والاختلافات الحضارية، أى أن الثقافة والحضارة أصبحت لهما قوة. والصراع الدولى- بعد انهيار الاتحاد السوفيتى والأيديولوجية الشيوعية- سيكون صراعا بين أيديولوجية وثقافة الغرب من ناحية، وأيديولوجية وثقافة الإسلام من ناحية أخرى، وهذه هى النظرية التى عبّر عنها البروفيسور صمويل هنتنجتون أستاذ العلوم السياسية الأمريكى فى كتاباته وخاصة كتابه الشهير (صدام الحضارات). وهو يرى أن الثقافة هى ما تبقى من أسباب الصراع الدولى، والصدام حتمى بين الدول ذات الثقافات المتناقضة، ونقطة البدء فى نظرية هنتنجتون أن الشرق والغرب منفصلان، والخلافات بينهما تصل إلى درجة التناقض.
ويعلق هاليداى على هنتنجتون وفوكوياما الذى وضع نظرية (نهاية التاريخ) وقال فيها: إن الصراع القادم بين الغرب والإسلام، وعندما ينتصر الغرب تكون هذه هى المرحلة الأخيرة من الصراعات التى شكلت تاريخ البشرية، يعلق هاليداى قائلا: إن الخطأ فى مثل هذه النظريات هو وضع العالم الإسلامى كله فى خانة واحدة، ووضع العالم الغربى كله فى خانة واحدة، وهذا التعميم يتعارض مع مناهج علم الاجتماع وعلم الأديان وعلم السياسة. كذلك فإن المنهج العلمى قائم على عدم الاعتماد على ما يقوله الناس عن أنفسهم وعن ديانتهم وثقافتهم، ودون الاعتماد أيضا على ملاحظة ودراسة ما يفعله هؤلاء الناس فى الواقع.
ويضرب هاليداى مثلا بالثورة الإيرانية التى قامت عام 1978 باسم الإسلام، وماذا فعلت بالنقابات، وبالمرأة، وبالأقليات العرقية، ولا يكفى الاعتماد على ما يقال، ولكن يجب رؤية ما حدث فى الواقع، ويضرب مثلا آخر عن غزو صدام حسين للكويت عام 1990، وكان صدام وهو يغزو بلدا إسلاميا يردد القول بأنه يغزو الامبريالية باسم الإسلام، ويصف هذا الغزو بأنه (جهاد). والسبب الحقيقى ليس دينيا ولا سياسيا ولكنه الطمع فى نهب ثروة البترول فى الكويت بعد استنزاف موارد العراق فى حربها مع إيران. وهذا ما فعله البريطانيون عندما قاموا باحتلال مصر عام 1882، وعندما قاموا بضرب فنزويلا عام 1902، وفى كل الغزوات والصراعات كان السبب الحقيقى لها الاستيلاء على ثروات الآخرين، أو السيطرة على مناطق لها أهمية استراتيجية، وإن تم تغليفها بغطاء دينى أو أخلاقى.
وكمثال للدراسات التى اعتمدت على تفسير ما يحدث فى العالم الإسلامى بدوافع غير دينية، يشير هاليداى إلى كتاب (فهم الإسلام) لعالم الأنثروبولوجيا (مايكل جيلسان) الذى كتب عما يفعله المسلمون فى بلادهم دون أن يعتمد على النصوص الإسلامية، لأن هذه النصوص لا تفسر أبدا ما يفعله الحكام، والقادة السياسيون، وعلماء الدين، وأمراء الحرب فى الدول الإسلامية. وبهذا المنهج تمكن دراسة الاقتصاد فى الدول الإسلامية التى تقول إنها تطبق (الاقتصاد الإسلامى) وعند ملاحظة السلوك والسياسات الاقتصادية والأسواق نجد أن ما يطبق ليس قائمًا على النصوص المقدسة ولكن على مبادئ وأسس الاقتصاد، ولذلك يصح القول الذى أطلق فى القرن التاسع عشر: (إن الإسلام بحر تستطيع أن تصطاد فيه أية سمكة تريد).
***
وفى كتابه (ساعتان هزتا العالم) عن هجوم 11 سبتمبر على مركز التجارة العالمى فى نيويورك ووزارة الدفاع الأمريكية فى واشنطن، يكرر فكرته عن عدم وجود كيان واحد اسمه (العالم الإسلامى) وكيان آخر اسمه (الغرب). فيقول إن العالم فيه نحو 195 دولة لكل منها تاريخ وقيم، منها (55) بلدا مسلما، أعضاء فى منظمة المؤتمر الإسلامى، وهناك بلاد أخرى يشكل المسلمون جزءا كبيرا من سكانها مثل أثيوبيا، والهند، نحو 16 مليون مسلم فى روسيا، وفى 60 دولة أخرى يمثل المسلمون أقلية كبيرة، ولهذه الدول ثقافتها وتقاليدها المنفصلة عن التقاليد والثقافة الإسلامية، ولها أيضا سياسات منفصلة عن السياسات المطبقة فى الدول الإسلامية سواء فى الهياكل السياسية والنظم الاقتصادية أو فى القيم والعادات ووضع المرأة والأقليات. ولكل دولة- إسلامية أو غير إسلامية- مصالح خاصة بها، وقد تجمعها مع غيرها عقيدة واحدة، ولكن ذلك لا يمنع من قيام الحروب بينها والخلافات على الحدود، وهناك دول إسلامية لا تفعل الكثير للفلسطينيين. وقد كانت أشد الحروب دموية فى القرن العشرين هى الحرب اليابانية الصينية من 1937 إلى 1945. ثم الحرب بين إيران والعراق من 1980 إلى 1988، وشهد هذا القرن النزاع بين المغرب والجزائر، فى الوقت الذى يتحدث فيه الجميع عن (أمة إسلامية واحدة).
وهذا ما ينطبق على (الغرب) أيضا. فليس هناك (غرب) واحد، وكثيرا ما يقال إن حقوق الإنسان، أو السيادة، من المفاهيم الغربية، بينما هى مفاهيم ظهرت نتيجة نزاعات بين دول وحركات فى الغرب من أجل حقوق المواطنين فى اختيار حكامهم بالانتخاب، ومن أجل حقوق المرأة، وحقوق النقابات، والمنظمات الأهلية غير الحكومية، فكيف يمكن قبول نظرية تدّعى أن الصراع حتمى بين هذا الغرب وهذا العالم الإسلامى رغم أن كلا منهما ليس عالما واحدا ولكنه مجموعة دول وكيانات سياسية متعددة.
***
يخلص هاليداى من ذلك إلى ضرورة إعادة النظر فى الاتهامات التى يوجهها الغربيون إلى الإسلام والمسلمين، ويقول إن فى كل الأديان حركات تحاول تفسيره لأغراض سياسية واجتماعية، ولو نظرنا إلى الشكل السياسى فى العالم العربى فسنجد عدة دول تقول إنها إسلامية، بينها اختلافات واسعة فى النظم السياسية، بين دكتاتورية، وملكية، وحكم قبلى، وبعض النظم تدّعى أنها تعتمد على مرجعية دينية كما فى إيران وغيرها، ونظم أخرى فيها قدر من الديمقراطية، وكل من هذه الأنظمة يعلن أنه المعبّر الحقيقى عن نظام الحكم الإسلامى، ولا تعدم العثور على ما تريد الاستشهاد به من النصوص المقدسة ومن المراجع الفقهية.
ومن ناحية أخرى يشير هاليداى إلى الخطاب السائد فى أوروبا الغربية والولايات المتحدة عن (تهديد) الإسلام لهذه الدول وضرورة مواجهته، ويتردد هذا فى إسرائيل بصورة أكبر. وفى الهند أيضا. وحزب جاناتا فى الهند هو حزب أصولى هندوسى، والأصوليون الهندوس معادون للعلمانية وللإسلام، وقد ساعدت وسائل الاتصال الحديثة على نشر الأفكار المفيدة والضارة، وقد روجت بعض وسائل الإعلام للصورة السلبية عن المسلمين مثل الادعاء بأنهم جميعا تجار مخدرات، وأنهم جميعا إرهابيون، أو الادعاء بأن المهاجرين المسلمين فى الدول الغربية يحاولون تغيير المجتمعات الغربية وثقافتها، وثمة تشابه غريب فى اللغة التى تجدها فى الهند وفى سان فرانسيسكو أو أوكلاهوما فى الولايات المتحدة أو روسيا، أو فى أى مكان هنا وهناك، الادعاء بأن التهديد الذى يمثله المسلمون موجه إلى هذه الدول أصبح شائعا فى السنوات العشر الأخيرة بين كتاب الأعمدة فى الصحافة، وبين السياسيين، وحتى بين بعض وزراء الاتحاد الأوروبى وحلف شمال الأطلنطى (الناتو). وأصبح التحامل على المسلمين والقول بوجود صراع تاريخى عابر للقارات من القضايا الشائعة.
ويتساءل هاليداى: هل هذا التهديد الإسلامى صحيح؟.
ويجيب: إن الأمر ليس بمثل هذه البساطة التى يتناول بها البعض هذا الموضوع المهم، فالصراعات بين الدولة العثمانية الإسلامية ودول أوروبا الغربية لم يكن دائما، ولكن كانت بينها فترات صدام وفترات تحالف وتعاون، وكان الصراع تعبيرا عن موازين القوى حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عندما تحالفت تركيا مع ألمانيا والنمسا ضد الدول الأوروبية الأخرى، ولم يكن هناك صراع أزلى بين الإسلام والغرب من منظور امبراطور ألمانيا الامبراطور فيلهلم حتى أنه قدم نفسه فى عام 1914 على أنه قيصر المسلمين كافة، وفى السنوات الأخيرة كان الصراع بين البلاد الإسلامية أكثر من صراعها مع دول غربية. وكانت أول حرب خاضها حلف شمال الأطلنطى فى تاريخه للدفاع عن بلد مسلم هو الكويت من اعتداء بلد مسلم هو العراق، وكانت الحرب الثانية للحلف للدفاع عن البوسنة وهى أيضا بلد مسلم، وهكذا فإن نظرية الصراع الحتمى بين العالم الغربى والعالم الإسلامى تجد ما يناقضها. وسنجد انه بينما نشبت الحرب بين إيران والعراق وكلتاهما دولة مسلمة. فإن إيران لا تدعم أذربيجان وهى مسلمة شيعية فى صراعها مع أرمينيا المسيحية الأرثوذكسية، ولم تقل إيران شيئا عن الشيشان، وإيران لا تدعم مطالب باكستان و(المجاهدين) فى كشمير بسبب علاقاتها الطيبة مع الهند، ولأن باكستان لديها قنبلة ذرية. ربما تمثل تهديدا لإيران. وبنظرة على ما يسمى (العالم الإسلامى) نجد أن (التضامن الإسلامى) غائب فى حالات عديدة، ومنها حالة تركيا وخلافها مع الدول الإسلامية حول قبرص، والدول الإسلامية تؤيد حق اليونان فى السيادة على جزيرة قبرص ولا تؤيد انفصال (الجزء الإسلامى منها الذى يسمى «قبرص التركية» ) .
***
من هذا يتبين- وفقا لتحليل هاليداى- أن صمويل هنتنجتون لم يكن مصيبا عندما ردد ما وجده فى الكتب القديمة عن (دار الإسلام) و(دار الحرب) على أن دار الإسلام هى الدول الإسلامية، ودار الحرب هى الدول غير الإسلامية، فإن العلاقات قائمة على اعتبارات أخرى غير الدين. وإذا كان البعض يستشهد باعتداءات من المسلمين على غير المسلمين فى بعض البلاد. فإنهم يغفلون أن المسئولين عن المذابح فى البوسنة لم يكونوا مسلمين، والذين ماتوا بقصف سراييفو طيلة 690 يوما وقتل عدد يتراوح بين 20 ألفا و30 ألفا لم يكونوا مسلمين، والمسئول عن سد الطريق أمام الفلسطينيين ليسوا مسلمين، والمذابح التى ترتكب فى حق المسلمين المسئول عنها الأصوليون الهندوس الذين يريدون إلغاء باكستان الإسلامية من الخريطة.
وبناء على ذلك يصل إلى أن تعميم فكرة وجود تهديد إسلامى فكرة غير صائبة، والتهديد الحقيقى لدول الغرب من اقتصادات شرق آسيا القادرة على إنتاج بضائع حديثة بأسعار تنافسية أشد خطرا من الخطر الإسلامى المزعوم. فإن سنغافورة وسكانها لا يزيدون على أربعة ملايين تنتج نصف إنتاج العالم من الأقراص الصلبة للكمبيوتر (الهارد ديسك)، بينما الأداء الاقتصادى فى الدول الإسلامية ضعيف ولا يمثل تهديدا لاقتصاد أمريكا ودول أوروبا، وكل ذلك لا يمت بصلة للدين، إنما يرجع إلى القيادات فى هذه الدول، وإلى أن الدول الإسلامية تتلقى استثمارات قليلة، والخلاصة ليس هناك تهديد اقتصادى من الدول المسلمة، والعكس هو الصحيح فإن أموال البترول فى الدول العربية والإسلامية تستثمر فى أمريكا وأوروبا.
وما دام الادعاء بوجود تهديد إسلامى موجه إلى دول الغرب ادعاء باطلا فلماذا يتكرر وينتشر؟.
يجيب هاليداى بأن بعض النظريات تقول: إن هناك تاريخا فى الغرب من الاعتداء على المسلمين فى الأدب والثقافة والأمثلة كثيرة منها دانتى فى تصويره للتركى الرهيب، وصحيح أن الثقافة فى الغرب مليئة بالكراهية للمسلمين، ولكن ذلك ليس تفسيرا كافيا، لأن ما حدث فى الماضى ليس من المحتم أن يظل موجودا إلى اليوم، وإذا وجد فلا بد أن تكون هذه الثقافة العدائية قد أعيد إنتاجها، فالبشر فى دول الغرب لا يولدون كارهين للإسلام وللمسلمين، ولكن يتم تلقينهم وإقناعهم بذلك، فالماضى لا يفسر الحاضر بصورة مطلقة، إلا إذا أمكن تفسير استمراره، ولذلك فالسؤال هو: لماذا أعيد إنتاج التحامل والعداء الموجه للمسلمين؟. لماذا يوصف المسلمون بأنهم سلبيون مستسلمون ضعفاء تخلوا عن الحق فى النضال والحياة؟. ولماذا تشيع فى الغرب هذه الصورة النمطية السلبية عن الإسلام والمسلمين؟.
البعض يرى أن السبب هو انتهاء الحرب الباردة وانهيار الأيديولوجية الشيوعية والعدو السوفيتى، وأن الغرب يبحث عن عدو جديد وقد وقع الاختيار على الإسلام ليكون هو العدو الجديد الذى تحشد دول الغرب قواها للتغلب عليها وحماية نفسها من خطره، لأن الحياة بدون وجود خطر ما وعدو ما تؤدى إلى الاسترخاء والتفكك، ووجود العدو والخطر يدعوان إلى اليقظة والاستنفار وهما أساس التقدم.
لكن هاليداى يرى أن هذه النظرية من أكثر النظريات تضليلا فى العلاقات الدولية اليوم، ويصفها بأنها (هراء) مطلق. ولا بد للباحثين فى الدول الإسلامية ودول الغرب من البحث عن تفسير صحيح لهذه الحالة. وإيجاد صيغة للحوار والتعاون بدلا من الترويج لنظرية حتمية الصراع.
***
وفى هذا السياق كانت أحاديث الدكتورة سوزانا هانية الأستاذة بكلية الدراسات البروتستانتينية بجامعة فيينا بالنمسا أثناء زيارتها للقاهرة فى نوفمبر 2003، وهى متخصصة فى مجال الحوار بين الإسلام والمسيحية. وقد حرصت على التفرقة بين ما يقال عن الإسلام فى دول أوروبا وما يقال عنه فى الولايات المتحدة، ففى دول أوروبا نجد تفهما للإسلام وتقبلاً له على نحو ما، وفى النمسا بالذات- كما قالت- لم يلصق النمساويون بالإسلام اتهامات مهينة كما حدث ويحدث فى كثير من المجتمعات الغربية. والثقافة الغربية ترفض إكراه إنسان على اعتناق فكرة معينة أو دين معين، والإنسان الغربى- غير المتعصب- لديه استعداد طبيعى للحوار والاستماع إلى الآراء المختلفة، وفى رأيها أن الصهيونية قد تكون عاملا من عوامل تشويه الإسلام، كما ساهمت فى حملة التشويه كثرة الحروب بين المسلمين والغربيين. فالعداء للإسلام فى الغرب له جذور وعوامل متعددة يجب التعامل معها والبدء من جديد فى عالم مستعد لنسيان العداوات، ولديه استعداد لا بأس به لتصحيح الأخطاء التى تنسب إلى الأديان، وهذه مهمة المسلمين. فعليهم أن يقدموا بالأدلة والمنطق ما يبرئ الإسلام مما يلصق به من اتهامات. وعليهم بدعوة أهل الفكر والعقيدة للحوار ولمعرفة الحقائق وتصحيح الأخطاء الشائعة فى الغرب عن الإسلام. وهذه اللقاءات كلما تكررت فإنها تساعد على (إخراج البخار المتراكم فى النفوس) والتوصل إلى نقاط التقاء موجودة بالفعل بين الإسلام والأديان الأخرى.
لكن الدكتورة سوزانا هانية لم تنكر أن العداء للإسلام فى أمريكا وصل فى الوقت الحاضر إلى درجة غير مسبوقة، وبررت ذلك برواج الأفكار الأصولية فى أمريكا، وانتشار موجة من التعصب الدينى هى رد فعل لحالة التخلى عن الدين بدعوى التحرر التى سادت فى أمريكا لفترة طويلة. ومن الأفكار الرائجة فى أمريكا فكرة عودة المسيح مرة أخرى فى القدس بعد قيام دولة إسرائيل وهيكل سليمان، ليحكم العالم بالعدل وينشر السلام، وتكون هذه الفترة التى تمتد إلى ألف عام، هى نهاية التاريخ، والذين يؤمنون بهذه العقيدة يواجهون بالعداء كل من يعارضهم أو يختلف معهم. وبعد هجمات 11 سبتمبر فى أمريكا على مركز التجارة العالمى ومبنى وزارة الدفاع بدأ كثيرون فى البحث من جديد عن الدين الصحيح، وهذه فرصة لأصحاب الدين الصحيح لكى يبحثوا عن هؤلاء الذين يشعرون بالحيرة والقلق ويستمعوا إليهم، ويشرحوا لهم ما لديهم، ويأخذوا بأيديهم إلى طريق الهداية.
وعبّرت الدكتورة سوزانا هانية أكثر من مرة عما لاحظته فى أمريكا فى زياراتها الأخيرة للمشاركة فى عدة مؤتمرات عقدت فيها، وكان معظم الحاضرين من السياسيين ورجال الدين الأمريكيين يتساءلون: لماذا يكرهنا العالم؟ وكيف نستطيع تحسين صورة أمريكا فى العالم؟ ومثل هذه الأسئلة تعنى أَنَّ الأمريكيين يمرون بمرحلة نقد الذات، والرغبة فى تصحيح مواقفهم من الآخرين وبخاصة من الإسلام والمسلمين، ولا بد أن يعمل المسلمون- مع المفكرين الأمريكيين المعتدلين- على تقوية هذا التيار لتحقيق التفاهم والمصالحة بين الأمريكيين والإسلام.
***
وهناك نماذج كثيرة لشخصيات فى الغرب اعتنقت الإسلام بعد دراسة تبين لهم منها ما فى هذا الدين من سماحة وقيم إنسانية عالية وتوازن فى علاقة الإنسان بالمسائل المادية والروحية. ومن أمثلة هؤلاء جوليا كريفيلارو الإيطالية التى جاءت إلى القاهرة فى نوفمبر 2003 لإشهار إسلامها، وعرضت تجربتها فى لقاءات صحفية قالت فيها إن رحلتها إلى الإيمان استغرقت أربع سنوات ظلت خلالها تبحث عن الدين الذى يحترم عقل الإنسان ويحترم المرأة، ولا يميز بين إنسان وآخر. وأنها فى النهاية وجدت روحها بعد أن كانت قد هجرت التعاليم الدينية وعاشت كفتاة أوروبية متحررة من كل قيد، إلى أن أنهت العام الأول من دراستها الجامعية عام 1999 وقررت كليتها أن تتلقى التدريب العملى على أعمال الفنادق فى مصر، وفى يوم سمعت تلاوة القرآن أثناء سيرها فى أحد شوارع مدينة الغردقة، فتوقفت تنصت إلى القارئ ووجدت نفسها تبكى فى الطريق.. وبعدها قررت أن تبقى فى مصر لدراسة الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام فى هذا الدين، وبعد ثلاث سنوات من الحوار والقراءة ولقاء المتخصصين، وانشغال بأمور الفقه وتفسير القرآن، وصلت إلى مرحلة انتهى فيها الصراع فى داخلها وشعرت بأنها وصلت إلى بر الأمان- كما قالت- وما زالت تشعر بالدهشة كيف يخطئ الناس فى الغرب فهم الإسلام ويصفونه دون علم بأنه دين تعصب وإرهاب؟ رغم أن الثقافة الغربية قائمة على العلم والتحليل والمنطق والاعتماد على الدليل فى كل حكم. والمشكلة فى رأيها أن هناك خلطاً فى العقل الغربى بين الإسلام وجماعات الإرهاب التى تقوم بعمليات التدمير والقتل وإثارة الفزع وتدعى أن ذلك هو الإسلام.
***
وهذا الخلط بين الإسلام والإرهاب وراءه نوايا ودوافع غير دينية، منها سياسات الهيمنة على العالم الإسلامى، والأطماع المتزايدة فى البترول والثروات الطبيعية، والرغبة فى السيطرة على أسواق الدول الإسلامية.. وهكذا.
والباحثون الذين انشغلوا فى الغرب بظاهرة كراهية الإسلام فى أوروبا وضعوا أيديهم على بعض الأسباب التى أدت إلى انتشار هذه الظاهرة.
ومن هؤلاء (فانسان جايسر) الباحث الفرنسى فى معهد دراسات العالم العربى والإسلامى وأستاذ الدراسات السياسية، ومؤلف عدد من الكتب فى السياسة والاجتماع، وهو فى كتاباته يكرر إدانته لموجة العداء للإسلام فى الغرب عامة وفى فرنسا خاصة، والتى ظهرت فى برامج أحزاب اليمين المتطرف، وفى الهجوم الشديد على الإسلام الذى يقوم به المتشددون من دعاة العلمانية، وأيضاً فى مشاعر الكراهية للعرب والمسلمين التى تغذيها الأوساط اليهودية المتطرفة التى تروج المخاوف من المسلمين المهاجرين فى فرنسا الذين يعيشون فى الأحياء الفقيرة فى ظروف قاسية.
ويرى (فانسان جايسر) أن موجة الكراهية للإسلام سادت دول الاتحاد الأوروبى بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. ويشير إلى تقرير صادر عن (اللجنة القومية الاستشارية لحقوق الإنسان) القريبة الصلة برئاسة الحكومة الفرنسية، يعترف بأن المهاجرين من أصول عربية إسلامية مستهدفون ويعانون من العنف ضدهم. كما أكد تقرير من جهاز الرقابة الأوروبى للأعمال العنصرية أن دول الاتحاد الأوروبى جميعها تتزايد فيها مشاعر الكراهية ضد الإسلام وأن هذه الكراهية تظهر فى أعمال العنف الجسدى والإهانات اللفظية، وينبه التقرير إلى خطورة هذه الظاهرة لأنها تؤدى إلى إيجاد فجوة بين الأقلية المسلمة والشعوب الأوروبية. وقد قررت هذه اللجنة الأوروبية تنظيم حوار لمناقشة ظاهرة (كراهية الإسلام) بصفة خاصة.
ويشير (فانسان جايسر) أيضا إلى أن الجدل فى فرنسا حول مكانة الإسلام فى المجتمع، ووجود المسلمين فى الحياة العامة، يعود إلى مخاوف كامنة فى العقل الباطن من ميراث تاريخى بأن الإسلام سوف يغزو فرنسا خصوصا بعد أن أصبح الإسلام بالفعل ثانى أكبر دين بعد الكاثوليكية، ولذلك تجاوزت العنصرية فى فرنسا كراهية العرب وسكان الأحياء الفقيرة لتصبح كراهية للدين الذى يتغلغل داخل المجتمع الفرنسى. وتغذى هذه الكراهية مظاهر تأكيد الحضور الإسلامى فى وجود أكبر للمساجد والمطاعم المخصصة للطعام الحلال، وتختلط الأمور فى أذهان الفرنسيين إلى حد أنهم يعتبرون أبناء الجيل الثانى من المهاجرين المسلمين الذين ولدوا وعاشوا فى فرنسا ولا يعرفون لهم وطنا غيرها، يعتبرونهم (جماعة أخرى) ومواطنين من أصول عربية إسلامية وينظرون إليهم على أنهم عناصر لديها استعداد للجريمة والعنف. وبناء على ذلك يشعر الفرنسيون بالتوجس منهم، ويرون أن على المجتمع الفرنسى الدفاع عن سلامته وعن هويته، وهذا ما يفسر لماذا يريد الفرنسيون من المسلمين ألا يشيروا علنا إلى هويتهم الإسلامية، فيمنعون تلميذات المدارس الحكومية من ارتداء الحجاب، ويتعرض المسلمون لاعتداءات، حتى أن أعمال العنف فى المساجد من يناير 2001 حتى نهاية عام 2003 تزيد على 15 حادثة اعتداء مثل إشعال الحرائق، وإرسال طرود مفخخة إلى المسئولين فى الجمعيات والاتحادات الإسلامية، وتلطيخ واجهات المساجد.. كما يشير (فانسان جايسر) إلى ما قام به عمدة مدينة (أو مون) فى شمال فرنسا، حين قرر منع المسلمين من إقامة احتفالات الزواج فى أيام السبت على أساس أن هذا اليوم (يوم كريم) مخصص للفرنسيين الكاثوليك المؤمنين، وتواكب مع ذلك قيام عمدة مدينة (إيفرى) بانذار محل يرفض صاحبه المسلم بيع الكحوليات ولحم الخنزير، وكان العمدة مخالفا بذلك القانون، لأن القانون الفرنسى لا يلزم صاحب متجر ببيع الكحوليات ولحم الخنزير، ومع ذلك فقد هدد العمدة بإغلاق المتجر بقوة البوليس.
يفسر (فانسان جايسر) هذه المشاعر العدائية بأنها نابعة من مشكلة تاريخية، حيث تحمل الذاكرة القومية مشاعر الكراهية نحو الدين منذ الثورة الفرنسية، والثورة الصناعية فى أوروبا، وهى مشاعر عبّر عنها المستشرق الفرنسى المشهور (رينان) فى عام 1883 فى محاضرة له ألقاها فى السوربون وأعيد نشرها عام 2003 وتحدث فيها عن تخلف المسلمين فى العلوم، كما كان الاستعمار الفرنسى للجزائر عاملا لتثبيت فكرة استعمار فرنسا المتقدمة لدولة متخلفة لأنها مسلمة! وهكذا فإن الموجة الجديدة لكراهية الإسلام مرتبطة بالفترة الاستعمارية، مع فارق واحد هو أن كراهية الإسلام الحالية تنبع من المفكرين والمثقفين والصحافة رغم أنهم من معارضى الاستعمار والامبريالية والعولمة بصفة عامة، وبعضهم يهاجم الإسلام فى معرض دفاعه عن العلمانية والديمقراطية، وفى دفاعه عن الأمن القومى للبلاد بعد الهجمات الإرهابية على أمريكا وبعض دول أوروبا.
ويصل (فانسان جايسر) فى تحليله لظاهرة العداء للإٍسلام إلى سبب قد لا يتنبه إليه كثيرون، فهو يرى أن اليهود اكتسبوا وضعا خاصا متميزا فى المجتمع الفرنسى على أنهم المضطهدون وأنهم (الضحية)، ويحرص اليهود على أن يحتكروا وضع (الضحية) بحيث لا يشاركهم فيه غيرهم، ويرون أن تزايد المؤسسات الإسلامية يهدد قضيتهم وهى أنهم الضحية الوحيدة للعنصرية، وقد بدأ المسلمون يأخذون أيضا وضع (الضحية) ويهددون بذلك الحجة التى تعطى لليهود قوة وتجعلهم يحصلون على امتيازات بحجة أن من يعارضهم إنما يمارس عليهم الاضطهاد والعنصرية. هذا فضلاً عن انتشار المواقع المعادية للإسلام على شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) التى قامت بإنشائها المنظمات اليمينية المتطرفة، والمنظمات الصهيونية المتشددة، والتى تدعو فيما تنشره إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد المهاجرين وخاصة المسلمين. وينبه (فانسان جايسر) إلى خطورة انعكاسات هذه الحملات على المسلمين فى مجالات العمل، حيث يرفض أصحاب الأعمال توظيف المسلمين، وقد أعلن نائب السكرتير العام للاتحاد الوطنى للنقابات المستقلة أن العديد من جهات الترشيح للوظائف تلقت بعد 11 سبتمبر 2001 طلبات من الشركات بعدم ترشيح العرب والمسلمين. كما ينبه الباحث الفرنسى إلى أن العمليات الأمنية أصبحت أكثر تشددا على المسلمين الذين يؤدون شعائرهم، وعلى المنظمات والجمعيات الإسلامية، كما تتكرر عمليات استدعاء الأئمة وقيادات الجمعيات الإسلامية للمثول أمام جهات الأمن والاستخبارات. ويروج المتعصبون لفكرة أن الإسلام هو العدو الأول الذى يهدد قيم الجمهورية التى حارب الفرنسيون من أجلها أكثر من قرنين من الزمان. وانتقل هذا الشعور إلى جانب من السلطات المحلية. ومن أمثلة ذلك قيام عمدة مدينة (شارفيو- شافانيو) عام 1989 بهدم صالة يستخدمها المسلمون للصلاة، وادعى أن الهدم تم بطريق الخطأ، ومثل وصف عمدة (مونبلييه) أئمة المسلمين فى فرنسا بأنهم جهلة، ووصف الفتيات المحجبات بأنهن مصابات بمرض نفسى، وهكذا.
ويلخص الأستاذ (فانسان جايسر) إلى أن هذا العداء للإسلام يدور فى دائرة مفرغة، ويمنع الفرنسيين من التوصل إلى فهم حقيقى لظاهرة الإرهاب وشبكاته، وهذا دليل على أن جانبا من الفرنسيين- وحتى المثقفين- أصبحوا لا يؤمنون بالبحث عن الحقيقة بموضوعية، ويستسلمون للأفكار السهلة الجاهزة التى قد نغفرها للجهلاء وعامة الناس، لكنها لا تغتفر حين تأتى من المثقفين.
***
أين المسلمون من كل ذلك، ماذا فعلوا للرد على الهجمات الموجهة إليهم باللغة التى يفهمها الغرب وبوسائل لها الاستمرار وليست مجرد لقاءات عابرة أو ندوات ومؤتمرات لا يحضرها إلا عدد محدود ولا تعقد إلا فى فترات متباعدة؟