الوجه الآخر للإسلام فى الغـرب:لماذا يحترمون البوذية ولا يحترمون الإسلام ؟
الفكرة الشائعة عن المستشرقين أنهم كانوا باحثين فى علوم السياسة والاقتصاد والدراسات الاجتماعية والدينية، يدرسون (الشرق) من جميع النواحى بقصد التعرف على خصائص الشعوب التى تعيش فيه، وكان الهدف هو التعرف على الأساليب المناسبة للتأثير فى هذه الشعوب والسيطرة عليها، وكان معلوما أن هؤلاء المستشرقين يعملون لحساب وزارات الخارجية أو وزارات المستعمرات التى تستفيد بهذه الدراسات فى السيطرة على شعوب الشرق واستعمار بلادها.
وهذه الفكرة فى عمومها تمثل الحقيقة، لكن ذلك لم يمنع من وجود مستشرقين محايدين درسوا مجتمعات وشعوب وديانات وثقافات الشرق بهدف البحث العلمى المجرد، وهؤلاء أنصفوا الإسلام. كما أنصفوا شعوب الشرق مما لصق بها من أكاذيب ومفتريات نشرها غيرهم من المستشرقين ذوى الميول الاستعلائية الاستعمارية.
والدراسات عن نشاط المستشرقين-المنصفين والمغرضين-كثيرة لكن أهم دراسة عنهم هى التى أعدها الدكتور إدوارد سعيد فى كتابه الشهير (الاستشراق). والدكتور إدوارد سعيد فلسطينى الأصل أمريكى الجنسية، ولد فى القدس وأتم تعليمه الابتدائى والثانوى فيها وفى مصر، ثم سافر إلى الولايات المتحدة حيث حصل على البكالوريوس من جامعة برنستون، وحصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة هارفارد وعمل أستاذاً فيها عام 1974، ثم أستاذا فى جامعة ستانفورد، ثم محاضرا فى جامعة برنستون، وعمل أيضا أستاذا زائرا فى جامعة جونز هوبكنز، وأخيرا عمل أستاذا للأدب الإنجليزى والأدب المقارن فى جامعة كولومبيا فى نيويورك إلى أن مات عام 2003 بعد صراع مع السرطان. وله مؤلفات فى الأدب والسياسة أشهرها كتاب (الاستشراق) وكتاب (تغطية الإسلام ) وكتاب (المسألة الفلسطينية).
ينبهنا إدوارد سعيد إلى أن (الشرق) فى ذهن الأوربيين مرتبط بالكائنات الغريبة المدهشة، وأن الشرق كان حيا فى فترة وانقضى أجله، ويحركهم شعور بأن الأوروبيين فى درجة أعلى من الشرقيين، ولذلك ينظرون إلى شعوب الشرق، ويتحدثون عنهم باستعلاء لا يخفى فى كتاباتهم، أما الأمريكيون فإنهم حديثو عهد بهذا الشرق الذى يقصده الأوروبيون، أى العالم العربى والإسلامى، والشرق فى الذهن الأمريكى يرتبط أكثر بالصين واليابان وجنوب آسيا. بينما الأوروبيون لهم تجربة أقدم وأعمق بالشرق العربى والإسلامى، ومعظم مستعمرات أوروبا كانت فى هذه المنطقة، وأوروبا ترى أن العالم العربى والإسلامى قريب منها جغرافيا كما أنه كان فى الماضى مصدر حضارتها، ومنافسها الثقافى.
***
من هنا كانت دراسة المستشرقين للإسلام مدخلا لفهم مفاتيح ومداخل التعامل مع شعوب الشرق فى ظل احتلالها. يظهر ذلك فى خطاب بلفور الوزير البريطانى صاحب وعد بلفور الشهير الذى أعطى وعدا للمنظمة الصهيونية العالمية بإقامة دولة لليهود فى أرض فلسطين، الذى قال فيه أمام مجلس العموم إنه تجب معرفة أحوال مصر لكى تحتفظ بريطانيا بموقع السيادة على شعبها صاحب الحضارة والتاريخ، وفى هذا الخطاب كان بلفور يبرر ضرورة الاحتلال البريطانى لمصر بالتفوق البريطانى عليها، والتفوق الذى يقصده- كما قال- ليس التفوق العسكرى أو الاقتصادى بالدرجة الأولى، ولكن التفوق عنده هو بالمعرفة، والمعرفة عنده هى القوة. فالمعرفة بهذا البلد- كما قال: (تعنى أن نسيطر عليه، وأن نمتلك سلطة عليه. والشعوب الغربية- كما قال بلفور- تمتلك مزايا خاصة بها، وقال أيضا: (ويمكنك أن تنظر إلى تاريخ الشرقيين بأكمله فلن تجد أثرا لحكم الذات على الإطلاق، فكل القرون التى مرت على الشرقيين انقضت فى ظل الطغيان والحكم المطلق، وكل إسهاماتهم العظيمة فى الحضارة الإنسانية أنجزت فى ظل هذا النمط من الحكم، فقد جاء فاتح بعد فاتح وجاءت سيطرة بعد سيطرة)، بعد ذلك يقول بلفور: (أليس من الخير لهذه الأمم العظيمة أن نقوم نحن بممارسة هذا الحكم المطلق عليها، فهذا سيكون مصدر نفع لهم وللغرب المتحضر أيضا). وملخص خطاب بلفور أن مصر لا يمكن أن تحكم نفسها بنفسها، والاحتلال هو الأساس للحضارة المصرية المعاصرة، وسوف تكتشف مصر أنها لابد أن تتمسك بالاحتلال البريطانى.
وتتجلى هذه النظرة الاستعلائية الاستعمارية فيما قاله ممثل الاحتلال البريطانى فى مصر اللورد كرومر الذى حكم مصر حكما فعليا منذ بدء الاحتلال عام 1882 حتى انتهت خدمته فيها عام 1907، وقد سجل تجربته فى حكم مصر فى كتاب من جزءين بعنوان (مصر الحديثة) أكد فيه أن العقل الشرقى لا يعرف الدقة، وبالتالى لا يعرف الحقيقة، بينما الإنسان الأوروبى ذو عقلية دقيقة، تدرك الحقائق دون التباس، والأوروبى منطقى بطبعه رغم أنه قد يكون ممن لم يدرسوا المنطق، والأوروبى يبدأ بالشك ويطلب الدليل والبرهان قبل أن يقبل حقيقة ما، وذكاؤه المدرب يعمل تلقائيا مثل آلة ميكانيكية. أما عقل الشرقى فهو على النقيض، يفتقر إلى النظام. ويقبل الأمور غير المنطقية على أنها حقائق، ويعجز العقل الشرقى عن استنتاج أبسط النتائج وأكثرها وضوحا من أبسط المقدمات. وإذا استمعت إلى تقرير من مواطن مصرى عادى عن الحقائق فسيكون إيضاحه مسهبا، ومفتقرا للسلاسة، ومن المحتمل أن يناقض نفسه عدة مرات قبل أن ينهى حديثه، وهو غالبا ما ينهار أمام أبسط عملية للتحقيق.
***
هكذا تبدو صورة العرب والمسلمين- وليست صورة المصريين فقط- عند معظم المستشرقين.. تبدو صورتهم مقرونة بالسذاجة، والغفلة، وعدم القدرة على المبادرة، وحب (الإطراء الشديد) والنفاق، والدسيسة، والدهاء، والقسوة على الحيوانات، وأنهم يسيرون فى عرض الطريق لأنهم ليسوا مثل الأوروبيين، وعقولهم الفوضوية تعجز عن فهم ما يدركه الأوروبى تلقائيا من أن الأرصفة أنشئت ليسير عليها المشاة والشوارع أنشئت لتسير فيها السيارات والدواب.
وكرومر وهو يذكر ذلك يستشهد بما كتبه مستشرقون تخصصوا فى دراسة الإسلام والمسلمين من أمثال أرنست رينان، وكونستانتان دوفولنى، وعلى نفس المنوال سار هنرى كيسنجر مستشار الأمن القومى للرئيس الأمريكى ووزير الخارجية الأسبق فقد أعلن رأيه فى مقال عنوانه (البنية الداخلية والسياسة الخارجية) حدد فيه رؤيته لما يجب أن تسير عليه السياسة الأمريكية تجاه دول العالم، وقال فيه إن أمريكا تستطيع أن تتعامل مع الدول الصناعية المتقدمة فى الغرب لكنها تجد المشاكل مع الدول النامية وبخاصة فى العالم العربى والإسلامى، لأن الغرب يعيش فى مرحلة زمنية وهذا العالم العربى والإسلامى يعيش فى مرحلة زمنية أخرى، فالغربيون يرون العالم على حقيقته كما هو فى الواقع، وتقوم المعرفة عندهم على المعلومات وتصنيفها وتحليلها بدقة، والدليل على أن هذه هى عقلية الغرب أن ثورة نيوتن العلمية ظهرت فى الغرب ولم تظهر فى العالم العربى والإسلامى، وهذا ما جعل ثقافة العرب والمسلمين- التى لم تتعرض لصدمة التفكير التى أحدثها نيوتن- ترى أن العالم الحقيقى هو ما يشعر به أو ما يريده هؤلاء العرب والمسلمون، وهذا ما يفسر- عند كيسنجر-لماذا يرى العرب والمسلمون أن الواقع التجريبى له دلالة مختلفة جدا عن دلالته عند الغربيين؟ لأن هذه الشعوب لم تمر بعملية اكتشاف هذا العالم.
وبناء على هذا التفسير يصل كيسنجر إلى أن الإنسان الشرقى (العربى والمسلم) يعجز عن أن يكون موضوعيا أو أن يكون دقيقا، ويعلق على ذلك إدوارد سعيد بأن هذه النظرة هى التى يتم رسم السياسات بناء عليها كما فعل بلفور حين أعطى وعدا بمنح أرض فلسطين لليهود، وحين فعل كرومر فى حكم المصريين بالكرباج، وهذا أيضا ما فعله كيسنجر وفعلته الإدارة الأمريكية فى تعاملها مع العالم العربى والإسلامى. وسار على هذا النهج المستشرقون، فقد تحدثوا عن العرب والمسلمين على أنهم عالم مختلف عن عالم الغربيين، فهم يرون أن هناك اختلافا جوهريا بين ثقافة الغرب وثقافة العرب والمسلمين مما يخلق ساحة للصراع بينهما، ويصلون من ذلك إلى دعوة الغرب المتفوق إلى السيطرة على (الآخر) واحتوائه وقيادته. ولعلنا نجد فى هذا الفكر وهذه الروح الجذور الحقيقية لنظرية صراع الثقافات والحضارات التى تقول بحتمية الصراع بين الغرب والإسلام.
ويشير إدوارد سعيد إلى مثال آخر يتطابق مع رؤية كيسنجر والمستشرقين، فى مقال بمجلة التحليل النفسى الأمريكية فى عدد فبراير 1972 كتبه البروفيسور هارلد جيلدن بعنوان (العالم العربى) يقول فيه إنه سيكشف (الآلية الداخلية للسلوك العربى) لتفسير ما يبدو للغربيين سلوكا شاذا، لكنه يبدو للعرب (عاديا)، ثم يقول إن العرب والمسلمين يؤكدون على طاعة (الجماعة) وهم يعيشون فى ثقافة العطايا والولاء بين التابع والحاكم. وأن العرب (والمسلمين) لا يستطيعون التحرك إلا فى الأزمات والنزاعات، والتفوق عندهم هو المقدرة على السيطرة على الآخرين، وأن الإسلام يجعل من (الانتقام والثأر) فضيلة. ويقتبس (جيلدن) من صحيفة الأهرام عدد 29 يونيو 1970 إحصائية عن حوادث القتل فى مصر عام 1969 تتضمن أن عدد جرائم القتل كانت 1070 جريمة منها 20% قتل لمحو العار، و30% منها لرغبة فى شفاء الغليل نتيجة الشعور بالظلم، و31% للأخذ بالثأر، ويصل من ذلك إلى أن (الموضوعية) ليست ضمن نظام القيم عند العرب والمسلمين. وهم يتحدثون عن التكافل والوحدة بينما الحقيقة أن التنافس بينهم مدمر لذلك التكافل وتلك الوحدة، فالإنسان العربى والمسلم لا يهمه إلا أن يحقق لنفسه النجاح وحده والغاية عنده تبرر الوسيلة، ويعيش فى قلق يظهر فى الشعور بالشك وانعدام الثقة، وهذا الشعور يؤدى إلى نزعة عدوانية لا يحدها قيد، كما يؤدى إلى اللجوء إلى (التحايل) الذى يبرره الإسلام، وإذا كان الغربيون يضعون السلام فى مرتبة عالية فى ترتيب القيم، ولديهم الوعى الشديد بقيمة الوقت، فإن العرب والمسلمين ليس لديهم شىء من ذلك، فالمجتمع العربى والإسلامى مجتمع قبلى، والقتال- وليس السلام- هو الوضع الطبيعى للتعامل مع (الآخر)، وتاريخيا كان (الغزو) و(الفتوحات) أساسا للحياة الاقتصادية عند العرب والمسلمين. أما الإحساس بقيمة الوقت فليس من طبيعة الإنسان العربى والمسلم
***
ولقد بدأ الاستشراق الرسمى بقرار من مجمع فيينا الكنسى عام 1312 بتأسيس عدد من كراسى الأستاذية فى جامعات باريس، وأكسفورد، وبولونيا، وغيرها لدراسة اللغات غير الأوروبية ومنها اللغة العربية لدراسة اللغة والثقافة والجغرافيا والديانات فى العالم العربى- وغيره- على أساس أن تعلم العربية أفضل الوسائل لارتداد العرب إلى المسيحية. ويعلق إدوارد سعيد على ذلك بأن الهدف الدينى لم يتحقق ولكن الاستشراق ذاته ازداد وتوسع، ومازال مستمرا على هذا النحو إلى اليوم وإن كان المستشرق فى هذه الأيام لا يسمى نفسه مستشرقا فى أغلب الأحوال. ففى جامعة أكسفورد معهد للدراسات الشرقية، وفى جامعة برنستون قسم للدراسات الشرقية، وفى معظم جامعات الدول الغربية أقسام وأساتذة ودارسون يتخصصون فى دراسة العالم العربى والإسلامى واللغة العربية. وإن كان الشرق (ومنه العرب والمسلمون) قد أصبح معروفا فى الغرب على أنه نقيض الغرب، كما أصبح مقرونا بالقصص والروايات الخرافية خاصة منذ غزوات الصليبيين.
وتاريخ الإسلام كما يقدمه المستشرقون يركز على الشعور بالخوف الذى اجتاح أوروبا بسبب تنامى سيطرة الإسلام العسكرية فى البداية، ثم سيطرة الإسلام الثقافية والدينية، وسقوط دولة الفرس، وسوريا، ومصر، ثم تركيا، ثم شمال أفريقيا فى أيدى الجيوش الإسلامية. وفى القرنين الثامن والتاسع فتح المسلمون أسبانيا، وصقلية، وأجزاء من فرنسا، وفى القرنين الثالث عشر والرابع عشر توغل حكم الإسلام شرقا حتى الهند، وإندونيسيا، والصين.
وفى مواجهة هذا الاجتياح لم يكن بوسع أوروبا سوى الخوف والشعور بالرهبة. ولم يكن لدى الباحثين المسيحيين فى زمن الفتوحات الإسلامية اهتمام كبير بعلوم المسلمين وثقافتهم المتفوقة، وكانت أوروبا تعيش فى عصر الظلام والخمول، وكان شعور الغربيين أن هؤلاء المسلمين يأتون مثل أسراب النحل وأيديهم ثقيلة وقد خرّبوا كل شىء. وبذلك أصبح الإسلام لدى الأوروبيين رمزا للرعب والدمار، وأصبح المسلمون فى نظرهم شياطين، وبرابرة، وحتى القرن السابع عشر كان الخطر العثمانى- كما يراه الأوروبيون- يتهددهم، ومع مرور الزمن استوعبت الحضارة الأوروبية هذا الخطر، وشخصياته، وفصائله، وحولته إلى جزء من الحياة الأوروبية.
ويذكر إدوارد سعيد مثالا على ذلك أن مسارح لندن كانت تعرض فى عصر النهضة الكثير من الأحداث المفصلة فى تاريخ الإسلام العثمانى وتجاوزاته فى أوروبا المسيحية.. فلقد كان المتداول فى أوروبا أن الإسلام (قوة وخطر) وهذا ما يفسر الإساءات التى ألصقت بالإسلام ونبى الإسلام (صلى الله عليه وسلم).
***
ففى كتابات المستشرقين نجد ثلاث طوائف:- الأولى: مستشرقون يتناولون الإسلام بعداء ظاهر ويوجهون الاتهامات إليه صراحة، والثانية: مستشرقون يكتبون بحياد وموضوعية فى الظاهر لكنهم يدسون الشكوك والاتهامات بذكاء وبطريقة غير مباشرة قد تنطلى على القارئ غير المدقق أو غير الدارس للإسلام، أما الطائفة الثالثة: فهم المنصفون الذين يدرسون الإسلام بموضوعية وبدافع الرغبة فى المعرفة وبالالتزام بالمنهج العلمى.
الطائفة الأولى نرى فيها من قال إن تعاليم الإسلام أخذها الرسول صلى الله عليه وسلم من (بحيرى) الراهب، ونجد مستشرقا مثل (مرجليوث 1858- 1940) الذى كان أستاذا بجامعة أكسفورد وعضوا بالمجمع العربى بدمشق فى كتابه (أصول الشعر العربى الجاهلى) يقول إن الشعر الجاهلى لا ينتمى إلى العصر الجاهلى ولكنه موضوع بعد ظهور الإسلام، وقد أخذ عنه طه حسين هذه النظرية، ويقول (مرجليوث) أيضا أن النبى إبراهيم وابنه النبى إسماعيل لم ينتقلا إلى مكة، وإن النبى صلى الله عليه وسلم سافر إلى مصر لأن كلامه عنها يدل على معرفة تامة بها، وقال أيضا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم عاش بعد هجرته إلى المدينة على السلب والنهب، وكان اعتداؤه على مكة مبررا لأن أهلها طردوه منها، وكذلك كان نهب القبائل اليهودية فى المدينة مبررا لأنه كان هناك سبب ما يدعوه إلى الانتقام منهم، ولكن غزو خيبر التى تبعد عن المدينة لم يكن له مبرر سوى أنهم قتلوا مبعوثه إليهم وهى ذريعة غير كافية، وهذا يدل على أن نزعة التوسع والسيطرة لديه كانت مثل نزعة الإسكندر الأكبر ونابليون (!).
وفى دراسة للدكتور محمد عبد الفتاح عليان أستاذ التاريخ بكلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر بعنوان (دراسات استشراقية فى السيرة النبوية) نجد أمثلة كثيرة لمثل هذه الأكاذيب يناقشها ويحلل دوافعها، كما نجد أمثلة من المستشرقين الذين يسميهم (المجحفين) الذين يسيئون إلى الإسلام من وراء ستار من أمثال (وات مونتجمرى) المستشرق الإنجليزى وله ثلاثة مؤلفات عن الرسول صلى الله عليه وسلم هى: محمد فى مكة، ومحمد فى المدينة، ومحمد رجل الدولة، ومن أمثلة السموم التى يدسها فى ثنايا الحديث الموضوعى قوله فى كتابه (محمد فى المدينة) إن محمدا صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى زوجاته الشرعيات واتصالاته بالجوارى، كانت له اتصالات مع بعض النساء الأخريات وفقا للنظام القديم، الذى كانت المرأة فيه تبقى فى بيت أسرتها ويعاشرها عدد من الرجال، وينسب الولد لأمه لاستحالة معرفة أبيه، وهكذا يرمى الرسول صلى الله عليه وسلم بتهمة حرمها الله فى كتابه ويوهم القارئ بأنه يستند فى ذلك إلى بعض الوثائق مع أنه لم يشر إلى أية وثيقة يمكن أن تؤكد هذا الافتراء.
وفى كتابه (محمد فى مكة) يدعى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين بالهجرة إلى الحبشة لأنه كان يخشى أن يرتدوا عن الإسلام، وأنه طلب منهم إغراء النجاشى (ملك الحبشة) بالعودة لاستعمار مكة وبخاصة أن الحبشة لها أطماع فى هذه المنطقة، ورجح فى النهاية أن السبب الحقيقى لهذه الهجرة أن الخلاف اشتد حول من يخلف النبى صلى الله عليه وسلم فانشقت جماعة قالت: أبو بكر هو الذى يخلفه، وانشقت جماعة أخرى بزعامة عثمان بن مظعون وقالت لا بد أن يكون الخليفة من بنى هاشم، وخشية استفحال الخلاف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون بالهجرة إلى الحبشة. ويقول الدكتور محمد عبد الفتاح عليان إن هذه الرواية لم يذكرها أحد، لا تلميحا ولا تصريحا، كما أن الهجرة إلى الحبشة حدثت فى السنة الخامسة للبعثة، ولم يدر فى خلد أحد وقتها التفكير فى أمر خلافة النبى صلى الله عليه وسلم لأن الدعوة الإسلامية فى هذا الوقت المبكر لم تكن قد ثبتت أقدامها بعد، وكان تفكير المسلمين كله فى كيفية الخلاص من أذى قريش، ولو كانت الجماعة المهاجرة هى جماعة عثمان بن مظعون فلماذا لم يتحدث هو باسمها أمام النجاشى وتحدث عنهم جعفر بن أبى طالب؟ ومن الثابت أن عثمان بن مظعون عاد إلى مكة بعد ثلاثة أشهر فقط وبقى بمكة وهاجر إلى المدينة وشهد غزوة بدر.
وفى الكتاب الثالث (محمد النبى ورجل الدولة) يقول (وات مونتجمرى) إن الوحى لم يكن من الله، ولكنه كان من الخيال المبدع وكانت الأفكار مختزنة فى اللاوعى عند محمد صلى الله عليه وسلم، وهى أفكار حصلها من المحيط الاجتماعى الذى عاش فيه قبل البعثة، ولم يكن جبريل إلا خيالا وظيفته نقل الأفكار من اللاوعى إلى الوعى وكان محمدا صلى الله عليه وسلم يسمى ذلك وحيا (!). ونلاحظ أن هذه الأفكار هى التى أخذها سلمان رشدى وأضاف إليها من أقوال المستشرقين الآخرين فى روايته (آيات شيطانية) التى سب فيها الرسول والقرآن والمسلمين.
***
ومن الطبيعى ألا ينتظر المسلمون من المستشرقين أن يرددوا وجهات النظر الإسلامية، أو أن يغيروا معتقداتهم ويعتنقوا عقائد المسلمين عندما يكتبون عن الإسلام، ولكنْ هناك أمور يتطلبها المنهج العلمى- كما يقول الدكتور محمود حمدى زقزوق فى كتابه (الإسلام فى تصورات الغرب)- وأبسط هذه الأمور أن يعرض المستشرق وجهة النظر الإسلامية بموضوعية قبل أن يسوق أدلته على رفضها أو قبولها، ولكن ذلك المنهج العلمى لا يلتزم به إلا قليل من المستشرقين فى عرضهم للإسلام لكى يؤثروا فى عقول القارئ، وسرعان ما ترتفع أحكامهم المغرضة إلى مرتبة الحقائق بالتداول والشهرة.
ويلاحظ الدكتور زقزوق من دراسته لأعمال المستشرقين أن الدراسات الغربية عن الديانات الوضعية مثل البوذية والهندوسية غالبا ما تكون دراسات موضوعية ليس فيها هجوم أو تجريح، ولكن الإسلام وحده من بين كل الديانات هو الذى يتعرض فى الغرب للنقد والتجريح على الرغم من أنه دين يؤمن بالله، ويحترم اليهودية والمسيحية، ويؤمن بموسى وعيسى ويرفعهما فوق النقد.
***
ولا يمكن أن نغفل ذكر المنصفين للإسلام من المستشرقين، وهم الذين درسوا الإسلام بروح البحث العلمى، وقد ذكر شيخنا الدكتور عبد الحليم محمود فى كتابه (الإسلام وأوروبا) بعض من أنصفوا الإسلام فى مؤلفاتهم من المستشرقين، ومن أشهروا إسلامهم من أمثال ليوبولد فايس الذى أصبح اسمه محمد أسد وروبرت ولزلى الذى أصبح عبد الرشيد الأنصارى، وإسحق دينيه الذى أصبح ناصر الدين، وعبد الكريم جرمانوس، والدكتورة ستان راتينى الهولندية، ومارشيلا مايكل أنجلو الإيطالية، وهؤلاء أسلموا بعد دراسة واقتناع، ولعل أشهرهم الفيلسوف الفرنسى روجيه جارودى الذى أصبح رجاء جارودى، وهؤلاء يقابلهم المستشرقون الآخرون بالعداء، ويتهمونهم بالانحراف والرغبة فى مجاملة المسلمين، وهذا ما فعلوه مع جارودى إلى حد تلفيق الاتهامات له ومحاكمته فى فرنسا بتحريض الجماعات اليهودية، وكذلك المستشرق البريطانى توماس أرنولد الذى برهن على تسامح المسلمين فى جميع العصور مع مخالفيهم فى الدين على عكس ما فعله مخالفوهم معهم، فقد اتهموه بالنفاق والسطحية وعدم التعمق فى فهم الإسلام والمسلمين..
ويذكر الدكتور محمد عبد الفتاح عليان فى دراسته بعض المستشرقين المنصفين للإسلام ممن اعتنقوا الإسلام مثل إسحق دينيه الفرنسى، الذى تنقل فى بلاد المغرب العربى وخالط المسلمين، وأعد بحثا بعنوان (نور الإسلام) قال فيه: إن العقيدة الإسلامية لا تقف عقبة فى سبيل التفكير الحر، كما تصدى للرد على الذين يقولون إن المسلمين لم يضيفوا جديدا إلى العلوم والتراث الإنسانى فقال: (إن العالم الفرنسى باستير يعتبر درة فى تاج الحضارة الحديثة ولكن جابر بن حيان وأبا بكر الرازى لا يقلان عنه فى المرتبة العلمية والفكرية وهما المؤسسان الحقيقيان لعلم الكيمياء باكتشافهما تقطير الكحول واكتشافهما حامض النتريك وحامض الكبريتيك وغيرهما من المواد. وفى كتاب له بعنوان (الشرق كما يراه الغرب) قال: إن الغرب يخطئ فى نظرته إلى الشرق مع أن للشرق على الغرب أفضالا أثرت فى مدنيته وحضارته وفى علم الفلك، وعلم الكيمياء وعلم البحار التى أسسها علماء المسلمين، وله كتاب بعنوان (محمد رسول الله) ترجمة شيخنا الدكتور عبد الحليم محمود وفى هذا الكتاب قدم أمثلة على تناقض كتابات المستشرقين عن السيرة النبوية، ومن هذه الأمثلة ما قاله المستشرق (نولدكه) من أن الوحى لم يكن سوى نوبات صرع كانت تنتاب النبى صلى الله عليه وسلم عارضه المستشرق (دى جويه) بأن هذا الافتراض ليس صحيحا لأن الذاكرة عند المصابين بالصرع تكون ضعيفة جدا على حين أن ذاكرة (محمد) صلى الله عليه وسلم كانت قوية كلما هبط عليه الوحى. والمستشرق (شبرنجر) الذى قال: إن هذه لم تكن نوبات الصرع ولكن كانت نوبات هستيرية وعارضه المستشرق (سنوك هرجرنجه) بأنه يجب أن نقر بأن شخصية محمد صلى الله عليه وسلم كانت متميزة وهى ما يميزه. ونسب المستشرق (لامانس) إلى النبى صلى الله عليه وسلم الشره والإكثار من الطعام واللذات البدنية ولكن المستشرق (بينيه سنجله) قال إن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقلل من الطعام وهو القائل (حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه) وكان متقشفا، وقال المستشرق (هوارث) إنه توفى على أثر إصابته بالتهاب رئوى، بينما ذكر القس (باردو) إنه مات مسموما على يد امرأة يهودية.
والأمثلة على هذه التناقضات والافتراءات كثيرة وقد علق عليها إسحق دينيه متسائلا: هل يمكن الاعتماد على آراء المستشرقين مع ما بينهم من اختلاف وتناقض ويهدم بعضهم آراء بعض؟ وانتهى بعد مناقشة هذه التناقضات وأمثالها إلى أن المستشرقين لم يتبعوا المنهج العلمى السليم.
ويشير الدكتور عليان أيضا إلى المستشرق توماس أرنولد البريطانى وهو لم يعتنق الإسلام، وقد شغل كرسى أستاذ الدراسات العربية فى كلية اللغات الشرقية بلندن وأصبح عميدا لها، وقد زار مصر سنة 1930 وألقى محاضرات فيها، وله مؤلفات كثيرة عن الإسلام وتاريخه، ومن مؤلفاته المهمة كتابه (الدعوة إلى الإسلام) وناقش فيه نظرية بعض المستشرقين من أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بدين جديد لأهل الجزيرة العربية وحدهم وليس دينا عالميا، فقال إن الإسلام منذ البداية وبنصوص القرآن جاء للناس كافة وليس للعرب وحدهم، وأشار إلى آيات كثيرة تؤكد ذلك. وتؤكد عالمية الإسلام، منها آيات مكية وآيات مدنية، كما أشار إلى الأحاديث التى تؤكد أن الإسلام ليس مقصورا على العرب وحدهم.
***
ومن أهم المستشرقين الذين أنصفوا الدين الإسلامى والحضارة الإسلامية المستشرق الألمانى (جوستاف بفانموللر) وقد ترجم الدكتور محمود حمدى زقزوق بعض النصوص من كتاباته، وأهمها كتاب (موجز فى تاريخ أدب وعلوم الإسلام) الذى صدرت طبعته الأولى عام 1923 وأعيد نشره عام 1974. وقد تناول فيه المؤلفات الخاصة بالإسلام وحياة محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، والحديث، والفقه، والعقائد، والتصوف، والطرق الصوفية، وتقديس الأولياء، والفرق الإسلامية، والإسلام والتبشير، وقد خصص فصلا للفلسفة الإسلامية وذكر أن لها تأثيرا حاسما على فلسفة العصور الوسطى فى أوروبا، وخصص فصلا آخر للفن الإسلامى وقال عنه إن له قيمة جمالية رفيعة، وله أهمية عظيمة فى تطور الفن فى العالم.
وفى هذا الكتاب يتحدث (جوستاف بفانموللر) عن (هادريان ريلاند) على أنه أول من قام بعرض علمى لدين الإسلام، وهو أستاذ اللغات الشرقية بجامعة (أوترشت) بهولندا (1676- 1718) وهو يصحح الآراء الغريبة التى كانت منتشرة عن الإسلام فى كتابه عن الإسلام الذى صدر فى جزءين، وقد أدى إنصافه للإسلام إلى اتهامه بأنه يريد أن يقوم بعمل دعائى للإسلام، ولذلك أدرجت الكنيسة الرومانية هذا الكتاب فى قائمة الكتب الممنوعة لكنه مع ذلك ترجم إلى الألمانية، والإنجليزية، والفرنسية، والهولندية، والأسبانية. وفى هذا الكتاب يقول (ريلاند): إن الأديان تتعرض دائما للإساءة من خصومها، إما لعدم فهمهم لها، أو لقصد خبيث، وهكذا افترى الوثنيون على اليهودية والمسيحية ونظر الرومان الكاثوليك إلى أتباع مارتن لوثر ودعاة الإصلاح، وبنفس النظرة تحدثوا عن المسلمين. ويقول: (إذا كان هناك دين لقى الاحتقار من خصومه ورمى بكل سوء فإنه هو هذا الدين المحمدى، حتى أن كل من يريد أن يضيف نظرية من النظريات بوصف مشين فإنه يصفها بأنها (نظرية محمدية) كما لو أن تعاليم محمد ليس فيها شىء صحيح وكل ما فيها فاسد! وإذا كان لدى أحد رغبة حميدة فى التعرف على هذا الدين ينبغى عليه أن يتعلم اللغة العربية وأن يقتنى الكتب العربية، وان يسمع محمدا نفسه وهو يتحدث بلغته، وأن يرى هذا الدين بعينيه هو وليس بعيون الآخرين. وسيرى حينئذ أن المسلمين ليسوا مجانين كما نظن، وأن هذا الدين الذى انتشر فى آسيا، وأفريقيا، وفى أوروبا أيضا، ليس دينا سخيفا كما يتخيل كثير من المسيحيين).
مستشرق آخر- هو (جورج سيل) البريطانى الذى ترجم معانى القرآن إلى اللغة الإنجليزية فى عام 1734 مع شروح ومقدمة طويلة عن الدين الإسلامى، ويقول الدكتور زقزوق: إن جورج سيل وصف بأنه نصف مسلم لشدة اهتمامه بالإسلام، وإن كانت المقدمة التى كتبها عن الدين الإسلامى والمحرمات فى القرآن وتنظيم الإسلام للأمور الاجتماعية، قد أصبحت مصدرا علميا موثوقا به إلا أنها تضمنت الكثير من التجريح.
***
ونعود إلى فريد هاليداى، فهو أيضا يناقش تصورات المستشرقين للعالم العربى والإسلامى، ولكنه يرفض المنهج الذى يقوم على دراسة منطقة جغرافية أو دولة وحدها والاقتصار على تفهم تاريخها وخصائصها بمعزل عن المجتمعات الأخرى. كما أنه يرفض دراسة منطقة على أساس الدين وحده، وفى نظره أنه لا توجد أمة لها خصوصية وحدها، إلا بمقارنتها بالأمم الأخرى.
ومنطقة الشرق الأوسط-كما يقول- تشكلت من الصراع بين الإمبريالية والهيمنة الخارجية، والمقاومة التى قامت ضد الهيمنة والإمبريالية، كما تأثرت هذه المجتمعات بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية وكانت جزءا من حركة أوسع تمثل ثورات العالم الثالث التى قامت فى الجزائر عام 1954، والعراق عام 1958، واليمن عام 1962، وفلسطين بعد 1967. ولم تكن هذه المنطقة وحدها التى شهدت ثورات ولكن كانت معها كوبا، وجنوب أفريقيا. وفيتنام. وكانت الماركسية ذات تأثير كبير فى هذه المجتمعات. وفى هذا السياق شهدت المنطقة أربعة أحداث تاريخية مهمة: نشأة نظام حكم الشاه فى إيران ثم الإطاحة به وانطلاق الثورة الإيرانية- وثورة مصر عام 1952 ونتائجها- وظهور منظمات المقاومة الوطنية الفلسطينية- ثم التوصل بعد ذلك إلى معاهدة سلام بين إسرائيل ودولتين من الدول العربية. وكذلك كانت ثورة اليمن وتوحيد اليمن الشمالى واليمن الجنوبى من الأحداث المهمة. كما كانت قضايا مثل الهيمنة والاستيطان من المؤثرات التى ساهمت فى صياغة الشرق الأوسط.
ويشير هاليداى إلى كتابات المستشرق الفرنسى ماكسيم رودونسون. والنقد الذى كان يوجهه لما كان يكتبه المستشرقون عن الشرق الأوسط، كما يشير إلى إدوارد سعيد الذى سبق غيره فى نقد الاستشراق بكتابه المشهور الذى صدر عام 1978، وكان من تأثير النقد الذى وجهه إدوارد سعيد إلى المستشرقين من القرن الثامن عشر حتى اليوم سواء كانت هذه الكتابات فى التاريخ، أو العلوم السياسية، أو غيرها، وتحت تأثير هذا النقد ظهرت أعمال جديدة فيها إعادة نظر فى الكتابات السابقة. فقد نبه إدوارد سعيد إلى أن أعمال المستشرقين تمثل خطاب الهيمنة، واستعباد الأوروبيين للعالم العربى والإسلامى، وأن هذا الخطاب تجاهل ثقافة وتاريخ الشعوب الخاضعة والمقاومة التى قامت بها هذه الشعوب على الهيمنة.
ويرى فريد هاليداى أن التصور المعادى للإسلام والمسلمين ظل موضع جدل وخلاف بين الغرب والمسلمين إلى أن وجد الغرب فى تنامى التعصب والعنف من الحركات الإسلامية والراديكالية ما يؤيد ادعاءات المستشرقين، كما وجدت ادعاءات المستشرقين ما يدعمها فى أعمال الثورة الإيرانية الإسلامية ضد الغرب. وبعد أن كان إدوارد سعيد قد اكتسب التأييد لوجهة نظره فى نقد المستشرقين، وبعد أن كان له مؤيدون بين الأكاديميين والدارسين، جاءت هذه الحركات الراديكالية الإسلامية المعادية للغرب لتفقد نظرياته مصداقيتها فى نظر كثير من السياسيين والأكاديميين ويمثل هؤلاء برنارد لويس.
أما هاليداى فإنه يحدد موقفه من المعسكرين فيقول إنه ليس واحدا من معسكر إدوارد سعيد ولا برنارد لويس، ويسجل رأيه فى إدوارد سعيد فيقول: (إنه صديق، ومفكر يتميز بشجاعة فكرية وسياسية نموذجية، وكذلك كان برنارد لويس أستاذا فى كلية الدراسات الشرقية بلندن عندما كنت تلميذا فيها وتعلمت منه الكثير واستفدت كثيرا من كتاباته، ولكن ذلك لا يمنعنى من رفض الانحياز لهذا أو ذاك، لأنهما معا لم يقوما بما كنت أتوقعه منهما وهو تحليل المجتمعات الإسلامية قبل الدفاع عنها أو الهجوم عليها، فقد تجنب برنارد لويس الكتابة عن المجتمعات الإسلامية وخاصة بعد ظهور (تركيا الفتاة) ولم يحلل الأوضاع الاقتصادية لهذه المجتمعات. أما إدوارد سعيد فقد ركز على المقولات المنطقية وليس على المجتمعات أو الأوضاع السياسية. كما أنهما معا كانا يتجهان فى كتابتهما إلى النقد وكل منهما متأثر بالأيديولوجية، أو بالثقافة السياسية، ويركز بحثه على الخطاب الدينى فى المجتمعات الإسلامية وعلى ذلك فإننى أرى أن لكل منهما مدرسة فكرية ومنهجية متميزة، ولكن لم يقم الاثنان بتحليل ما يحدث بالفعل فى المجتمعات الإسلامية من ظواهر وأحداث ومواقف، وموقفى- (فريد هاليداى)- هو الحرص على ألا أكون مشاركا فى نظريات ليست نابعة من الواقع فعلا، أو متأثرا بنظريات تعبر عن مشاعر المرارة الشخصية التى يشعر بها البعض تجاه الإسلام والمسلمين كما هو شائع فى الكتابات المعاصرة.
***
ويقول هاليداى: (لابد أن تكون البداية لمن يريد أن يتفهم حقيقة الإسلام والمسلمين أن يعيد تقييم الكتابات عنهما، وتحديد المنهج الصحيح للكتابة عن المجتمعات موضوع الدراسة، ودراسة الدين فى إطار التحليل الاجتماعى، وليس فى إطار تحليل اللغة والثقافة فقط، وفى دراسة المجتمعات الإسلامية عموما، والشرق الأوسط خصوصا، ويجب أن يوضع فى اعتبار الباحث تأثير القضية العربية الإسرائيلية بما تنطوى عليه من اتهامات بسبب الجنس (مثل معاداة السامية ومعاداة الإسلام والعرب) والتحيز السياسى لطرف دون الآخر، والمخاوف التى يشعر بها المسلمون من مؤامرة صهيونية، والغضب القومى العربى، وكل هذه العوامل يجب أن تؤخذ فى الاعتبار عند دراسة المجتمعات الإسلامية، فضلا عما يشعر به الإسرائيليون من تميز على الفلسطينيين، وكذلك يجب أن يراعى الباحث الخلافات الأكاديمية وحالة الغضب تجاه الولايات المتحدة، وذلك الشعور له آثار على البحث العلمى، كما أن هناك قضايا سياسية تؤثر على الباحث مثل الحرب الباردة، تأثير جنس أو عنصر معين فى العلوم الاجتماعية. ويصل هاليداى من ذلك إلى أن معظم الكتابات فى الغرب عن الإسلام من الأكاديميين والمستشرقين تفتقد إلى الموضوعية العلمية.
ويرى هاليداى أن الباحث الغربى الذى يحاول أن يفهم ما يسمى بالعقل العربى والإسلامى فإن عليه أولا ان يكون متمكنا من معرفة المعانى الأصلية للكلمات التى يستخدمها العرب والمسلمون ودلالاتها عندهم- وليس عند المستشرقين- وأن يتفهموا الإسلام كما يفهمه المسلمون، وكما يطبقه المسلمون فى كل مجتمع من المجتمعات، إذ هناك فوارق فى تفسير وفهم النصوص القرآنية كما أن هناك اختلافا بين المذاهب الفقهية على اعتماد الأحاديث أو رفض بعضها أو التشكيك فى صحة بعضها الآخر، ولذلك يجب فهم الإسلام الاجتماعى، أو الإسلام فى مجتمع معين أو ما يسميه هاليداى (سيسيولوجيا الإسلام) ويقصد بها دراسة الثقافة والعادات الإسلامية، والمدن الإسلامية، والمفاهيم المختلفة للإسلام عند المرأة والرجل والجنس وعن الديمقراطية والرأسمالية، والكحوليات.. وهكذا.
وهذا المنهج فى الدراسة لن يكرر ما فى دراسات الغرب عن رفض الإسلام للحداثة، والعقلانية، وارتباطه بالعنف والإرهاب.
ويعيب هاليداى على المستشرقين أنهم يتحدثون عن الجوانب السلبية ومظاهر التخلف فى المجتمعات الإسلامية ويرون أنها موجودة بسبب الإسلام، ويتوصلون من ذلك إلى القول باستحالة التغيير أو التطور فى المجتمعات الإسلامية، وعدم إمكانية وجود الديمقراطية فى هذه المجتمعات، ويستشهدون ببعض حالات تم فيها اضطهاد دعاة التحرر والتقدم فى مجتمعات إسلامية. الخطأ الأكبر الذى ارتكبه المستشرقون- فى نظر هاليداى- هو أنهم نظروا إلى المجتمعات الإسلامية على أنها جامدة لا تتحرك ولا تتطور ولا تتغير، ونظروا إلى هذه المجتمعات الإسلامية على أنها مجتمع واحد بينما هى عدة مجتمعات بينها اختلافات فى الثقافة واللغة والعادات واختلافات فى فهم وتفسير النصوص الإسلامية. وهذا الخطأ يتسبب فيه المسلمون أنفسهم، لأنهم يتحدثون عن (العالم الإسلامى) وكأنه عالم واحد بينما هو عدة مجتمعات يجمع بينها الإيمان بدين واحد هو الإسلام وفى غير ذلك فإن الخلافات بينها ليست قليلة. وحتى عندما يجتمعون فى إطار المؤتمر الإسلامى مثلا فإنهم يستخدمون الترجمة الفورية لأنهم لا يتحدثون لغة واحدة، وإذا تحدثوا فى الفقه الإسلامى فسوف تنشب بينهم خلافات ليست هينة، ثم إن المصطلحات السياسية فى الدول الإسلامية مختلفة عن المصطلحات الدينية، والمصطلح الدينى الواحد له مفهوم مختلف من بلد إسلامى إلى بلد آخر، حتى المصطلحات البسيطة مثل: سياسة، أو دولة، أو ظلم، أو عدل، أو حرية، فضلا عن المصطلحات الحديثة مثل: حزب، وجبهة، وطبقة، وعمال، وتعذيب، ومخابرات.. الخ.. التى سنجد مفهوما لها فى بلد إسلامى يتناقض مع مفهومها فى بلد إسلامى آخر، وفى بعض البلاد الإسلامية لن نجد هذه المصطلحات على الإطلاق فى لغة السياسة الخاصة بها.
***
يناقش هاليداى ما كتبه برنارد لويس- المستشرق البريطانى- فى مقال تعليقا على كتاب (التاريخ الإسلامى) الذى ألفه ستيفن هامفرى، وأشار لويس إلى الطرق التى عالج بها بعض الكتاب الإسلاميين التاريخ، على أنهم ينظرون إلى العالم فى الحاضر فى ضوء الماضى والتاريخ، كما أن برنارد لويس يرى أن المسلمين يعيشون حتى اليوم على مجموعة من الأساطير التاريخية القديمة ولا يهتمون بإعادة دراسة تاريخهم بمنهج نقدى وموضوعى، ويعلق هاليداى على ذلك بأن المسلمين ليسوا وحدهم الذين تحكمهم فى الحاضر أساطير من الماضى، فإن ذلك موجود لدى الايرلنديين، والصرب، والهندوس، والأمريكيين واليابانيين.. ومعظم الشعوب، فما يراه برنارد لويس خاصا بالمسلمين وحدهم هو حقيقة شائعة فى الشعوب، والعالم الإسلامى، والشرق الأوسط خاصة- ليس استثناء وحده.
***
وينتقد فريد هاليداى المستشرقين لأنهم يفسرون الأوضاع السياسية فى المجتمعات الإسلامية من حيث معنى الكلمات التى يستخدمها السياسيون فى هذه المجتمعات، وبعض المستشرقين يفسر الكلمات السياسية بالرجوع إلى المعاجم والقواميس ويأخذون المعانى القديمة لهذه الكلمات دون أن يضعوا فى اعتبارهم أن اللغة كائن حى وأن الكلمات تكتسب معانى ودلالات جديدة مع الزمن مختلفة عما كانت عليه فى الماضى. ويقول إن اللغة الإنجليزية على سبيل المثال فيها كثير من الكلمات السياسية لها اصل مسيحى، ولكن ذلك لم يعد له إيحاءات دينية لدى المواطن أو الباحث البريطانى، وعلى سبيل المثال فإن كلمة (اقتصاد) وكلمة (قصيدة) لهما (جذر لغوى) واحد (قصد) ومنها (مقتصد) و(قصيدة) و(اقتصاد) فهل يراعى المستشرقون ذلك عند دراستهم للغة التى يستخدمها المسلمون والعرب؛ ومثال آخر: الجذر (شرك) منها (شركة) و(شراكة) و(اشتراكية) و(مشرك)، وكذلك عندما يقرأ مستشرق أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) استقبل وفد نجران، فهل يقفز إلى ذهنه أن الرسول استقبل وفدا من حزب الوفد المعروف فى مصر!
وبعد مناقشة طويلة حول استخدامات اللغة وأخطاء المستشرقين فى فهمها فى كل مجتمع إسلامى يصل هاليداى إلى أن هذه الأخطاء هى أحد أسباب الأخطاء السياسية التى يرتكبها الغرب فى تعامله مع المجتمعات الإسلامية. ومن المفاهيم الخاطئة للكلمات أصبح كثيرا من الغربيين يعتبر أن كلمة (تركى) تعنى (مسلم)، وبالتالى فإن كلمة (مستشرق) لا تعنى أن صاحبها درس كل شىء عن الشرق، وكلمة (مستعرب) لا تعنى أن هذا الباحث يعرف كل شىء عن المجتمعات العربية، ولكنهم يعرفون اللغة العربية، ويتصورون ان معرفة اللغة العربية وقراءتهم للنصوص الإسلامية فى لغتها الأصلية تجعلهم عالمين بالإسلام، لكن ذلك خطأ منهجى يتفق مع التحليل الاجتماعى التكاملى للإسلام والمسلمين فى إطار اجتماعى وتاريخى. ويقول فريد هاليداى إن بعض المستشرقين الدارسين للأدب العربى والأدب فى بعض الدول الإسلامية يتحدثون عن الإسلام والمسلمين من خلال هذه الدراسة للأدب، والأدب عنصر من عناصر فهم المجتمع ولكنه ليس العنصر الوحيد، وبالتالى فإن الحديث عن الإسلام والمسلمين من خلال الأدب وحده لا يوصل إلى نتائج دقيقة.
لكن الأخطاء ليست من المستشرقين وحدهم بل ومن المسلمين أنفسهم، فعندما يتحدث زعيم دولة مسلمة ويقول إن الشعوب المسلمة لا تريد ولا تحتاج إلى الديمقراطية، وأن المسلمين يصلون فى القضايا إلى (الإجماع) وأن القضاء لا يحتاج إلى قوانين ويكفيه الرجوع إلى القرآن والسنة، عندما يقول ذلك فإنه يبدو فى وضع يتصادم مع الاتجاهات الحضارية الحديثة، ويجعل المجتمعات الإسلامية كيانات منفصلة عن التيار العالمى. وبعض رجال الدين المسلمين يتحدثون عن الإسلام على أنه عقيدة جامدة ترفض التطور الاجتماعى والعلمى، وكذلك فإن نظم الحكم فى بعض الدول الإسلامية تتدخل لفرض تفسير معين للإسلام يدعم موقفها ويحول دون ظهور معارضة لها، مع أن الفقه الإسلامى هو تفسير للنصوص، واختلاف المذاهب الفقهية دليل على قبول المسلمين لمبدأ التعددية والاختلافات فى فهم وتفسير النصوص.
إن النصوص الإسلامية تمكن إعادة فهمها وتفسيرها بما يتفق مع التطور الذى لا يتعارض مع النظم السياسية والاقتصادية المختلفة (إقطـاعية-اشتراكية- رأسمالية) ولا يرفض الإسلام الأشكال الحديثة للمؤسسات الاقتصادية (الشركات المساهمة- البورصة- الأوراق المالية- المصارف.. إلخ).
وهذا دليل على أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان.