هل الإسلام يتعارض مع الديمقراطيـة وحقوق الإنسان ؟
يناقش المستشرق البريطـانى فريد هاليداى الاتهام الموجه إلى الإسلام فى الغرب بأنه دين يتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان بمفهومها الحديث، فيقول إننا يجب أن نفهم حقيقة الإسلام، فهو ليس مجموعة طقوس وشعائر فقط، أى أنه لا يقتصر على أمور العبادات، ولكنه- بالإضافة إلى ذلك- يتناول شئون الحياة ومشكلاتها، فهو قانون للحياة.. وفوق ذلك فإن الإسلام لا يؤيد الإصلاحات الجزئية أو الحلول الوسط، ونقطـة البداية فى الإسلام أن يكون الإنسان على وعى كامل بمكانته الفريدة فى هذا الكون، وليس مجرد مخلوق من مخلوقات الله، ولكنه أهم مخلوقات الله، فهو- بنص القرآن- خليفة الله على الأرض، فهل بعد هذه المنزلة منزلة؟. ومن خلال الوعى بعلاقة الإنسان بالكون، وعلاقة الإنسان والكون بالله يستطيع الإنسان- ذكرا أو أنثى- القيام بوظيفته فى هذا العالم.
وبالنسبة لأية دولة مسلمة، فإن القضية الأكثر أهمية لحقوق الإنسان ليست فقط تحريم التمييز بين البشر على أساس اختلاف اللون، أو الجنس، أو الثقافة، ولكن الأهم من ذلك أن الإسلام يقضى بحماية الأفراد من انتهاك الدولة لحقوق الإنسان الذى يعيش على أرضها. وهذا ما جعل الدول الإسلامية توجه النقد إلى سياسات الدول الغربية، وإلى الأمم المتحدة لازدواجية المعايير فى مواقفها، كما وجهت النقد أيضا إلى دول الغرب عموما فى أمرين: أولهما- إهمال الدول الغربية للحقوق الاقتصادية للإنسان الفرد وللدول الفقيرة التى استنزف الغرب ثرواتها، وثانيهما- ضغوط الدول الغربية على الشعوب والحكومات العربية والإسلامية لفرض القيم الغربية وطمس القيم الإسلامية. وفى مؤتمر حقوق الإنسان الذى نظمته الأمم المتحدة فى فيينا عام 1993 تقدمت الدول الإسلامية بوثيقة مهمة هى (إعلان القاهرة عن حقوق الإنسان فى الإسلام) الذى أقره فى المؤتمر الإسلامى فى عام 1990 وشاركت حكومات الدول الإسلامية. وفى هذا الإعلان تأكيد على أن حقوق الإنسان فى الإسلام نابعة من القانون الإلهى أكثر من القانون الذى يضعه البشر، وفى هذا الإعلان تأكيد على موقف الإسلام من أربع قضايا أساسية هى: حقوق المرأة، وموقف الإسلام من المخالفين له فى العقيدة، وموقفه من المرتدين، والشروط الواجبة لإقامة الحدود.
فالإسلام يفرض معاملة غير المسلمين بنفس معاملة المسلمين دون تفرقة أو تمييز، ولكن هناك مشكلة تجعل الغربيين يسيئون فهم الإسلام، وهى أن كثيرا منهم يبنى فهمه للإسلام فى إطار الصراع التاريخى بين الحضارة الغربية المسيحية والحضارة الإسلامية، ولذلك نجد الحديث عن الإسلام عند كثير من الغربيين هجوميا وعدوانيا، والذين يدّعون معاداة الإسلام لحقوق الإنسان مقارنة بالمفاهيم والمبادئ الحديثة لحقوق الإنسان فإنهم يظلمون الإسلام عن عمد، لأن المقارنة ليست عادلة، ففى القرون الماضية لم يكن فى حضارة الغرب المسيحى احترام لحقوق الإنسان، ومبادئ حقوق الإنسان- بمفهوم اليوم- ظاهرة حديثة لم تتبلور إلا بعد عام 1995. ولم يصدر الإعلان العالمى لحقوق الإنسان إلا فى عام 1948، كما لم تصدر القوانين التى تحمى حقوق الإنسان استجابة لهذا الإعلان إلا فى السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، ومع ذلك فإن الغرب ما زال يتجاهل حقوق الإنسان المسلم فى فلسطين، وكشمير، والبوسنة، وما زال المسلمون فى المجتمعات الأوروبية يجدون معاملة لا تتفق مع حقوق الإنسان، بينما الاعتداءات على حقوق الإنسان فى الدول الإسلامية توجه إليها انتقادات شديدة من منظمات حقوق الإنسان ومن الحكومات الغربية، وبخاصة من الولايات المتحدة منذ عهد الرئيس الأسبق جيمى كارتر والإدارات التالية بعده، بالتضامن مع لجنة حقوق الإنسان فى الأمم المتحدة.
***
ويرى هاليداى أن هناك أربعة محاور تميز الخطاب الإسلامى عن حقوق الإنسان يحددها كما يلى: الاستيعاب Assimilation والخصوصية Appropriation- والإقليمية Particularism- والمواجهة Confrantation ويمكن أن يضاف إليها محور خامس هو: التنافر أو عدم التوافق Incompatibilty- وهذه المحاور أو الاتجاهات الخمسة تحكم اتجاهات الذين يتحدثون عن حقوق الإنسان فى الإسلام.
فالاستيعاب ظاهرة فى العالم الإسلامى تجعلنا نستنكر وجود أى صراع حقيقى بين الإسلام والمفهوم العالمى الحديث لحقوق الإنسان، وذلك واضح فى التفسير المعاصر للنصوص الإسلامية الذى ينجح فى تقديم مفهوم إسلامى لحقوق الإنسان يتفق مع المفاهيم الحديثة. وهذا التفسير الحديث للنصوص آخذ فى الانتشار فى مواجهة التفسيرات المتعصبة القديمة.
والخصوصية يقصد بها هاليداى أن الخطاب الإسلامى يتضمن تأكيدات على أن الإسلام يحترم حقوق الإنسان بدرجة أكبر من الدول الأخرى، وهذا الاتجاه يتخذ أحياناً صورة هجومية تكشف الانتهاكات فى الغرب لحقوق المرأة، والأقليات، وكبار السن. والدول الإسلامية تتقدم فى مجال حقوق الإنسان كما تتقدم فى القضايا العالمية الأخرى مثل معاداة العنصرية، وحماية البيئة. ومن خلال المؤتمرات والتصريحات تسعى الدول الإسلامية لتوضيح رؤية إسلامية مميزة تدل على أن النظرية الإسلامية، والممارسة الإسلامية يمكن لهما إثراء مبادئ وقيم حقوق الإنسان المنصوص عليها فى المواثيق الدولية. وبعض الإسلاميين يرون أن الإسلام وحده هو الذى يمكن أن يقدم للبشرية الممارسة الكاملة لحقوق الإنسان. وفى هذا السياق صدر الإعلان الإسلامى لحقوق الإنسان فى عام 1981 الذى ينص على أن النظام العالمى يجب أن يقوم على مبادئ إنسانية عامة ترفض التفرقة بين البشر على أساس اللون، أو العنصر، أو الجنس، أو الثروة، وأن الأخوة الإنسانية فى صورتها المثالية تتحقق فى مبادئ الإسلام. وفى إعلان القاهرة أن البشر متساوون أمام الله ولا فرق بين إنسان وإنسان إلا بالتقوى، وإن كان هاليداى يلاحظ وجود اختلافات فى هذه الوثائق بين النسخة العربية والنسخة الإنجليزية.
وترد الدول الإسلامية على النقد الموجه إليها فى مجال حقوق الإنسان بأن المجتمعات الإسلامية لها خصوصية تاريخية وثقافية، وأن التقاليد والعقائد فى المجتمعات الإسلامية تجعل بينها وبين المجتمعات الغربية اختلافات لا بد من مراعاتها والاعتراف بها. وهذا ما تعلنه دولة مثل السعودية التى لا تسمح للمرأة بقيادة سيارة، أو بإعطاء صوتها فى الانتخابات المحلية، أو بالاشتراك فى عضوية مجلس الشورى المعين الذى أنشىء عام 1992. وفى لقاء أجرى مع الملك فهد قال: إن النظام الديمقراطى السائد فى العالم لا يناسبنا فى هذه المنطقة، فالإسلام هو قانوننا الاجتماعى والسياسى، وهو دستور كامل يشمل نظام الحكم والقضاء. كذلك تدافع إيران عن خصوصية مجتمعها واختلافه عن المجتمعات الغربية على أساس أن له خصوصيـــة مصدرهـــا خصوصية الإسلام. ويؤيــد هــذا الاتجـــاه انتشــــار (الأسلمة Islamization) وتشدد تيار الإسلام السياسى فى معاداة الامبريالية والهيمنة الغربية، وللثقافة الغربية. وللقوانين المدنية ويعتبرها قوانين استعمارية، ومعاداته لكل فكر وكل مفهوم غير إسلامى، وهذا التيار يرى أن كل تشريع يجب أن يكون مصدره الشريعة الإسلامية. وهذا الرفض لكل قانون أو نظام لم يرد به نص فى الشريعة الإسلامية يمثل تيارا من التيارات المؤثرة فى العالم الإسلامى.
كذلك فإن الاتجاه إلى عدم التوافق أو التنافر موجود لدى هذا التيار الإسلامى المتشدد وهو يعنى الإيمان بوجود صراع لا مفر منه بين الإسلام والقيم الغربية.
أما هاليداى فإنه يرفض نظرية وجود تنافر أو عدم توافق بين الإسلام وحقوق الإنسان بالمفهوم الحديث، ويبرر ظاهرة التنافر هذه بحالة الكراهية فى العالم الإسلامى للنزعة الامبرالية والهيمنة من العالم الغربى. ويرفض هاليداى الادعاءات التى يرددها أعداء الإسلام فى الغرب بأن فى القرآن آيات تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان، أو أن الإسلام دين التعصب والديكتاتورية، ويقول إن أصحاب هذه الادعاءات يتصيدون تفسيرا أو رأيا أو نصا مقتطعا من السياق لتبرير ادعاءاتهم، وهناك أيضا حكام يستخدمون النصوص وفق رؤيتهم لتقوية سيطرتهم على السلطة بادعاء أن هذا هو الإسلام وأنه مختلف عن غيره. لذلك ينبه هاليداى إلى ضرورة التفرقة بين المفاهيم الإسلامية الصحيحة والمفاهيم التى تروجها نظم الحكم الديكتاتورية الحديثة وتتستر بالإسلام.
***
ويتحدث هاليداى عما يسميه (النسبية الثقافية) ويرى أن الذين يوجهون النقد إلى النظم السياسية والاجتماعية فى العالم الإسلامى لا يضعون فى اعتبارهم هذه النسبية الثقافية، أى أن هناك اختلافات بين ثقافة المجتمعات نابعة من طبيعة كل مجتمع وظروف تطوره التاريخى، وكل محاولة لفرض ثقافة واحدة على جميع المجتمعات فى العالم ليست سوى (الحلم المستحيل) لأن المراحل التاريخية، والأحداث، ودرجة التطور العلمى والتكنولوجى والدينى، ليست واحدة فى كل دول العالم. ولذلك يرفض هاليداى فكرة وجود (قيم عالمية) ويقول: هناك قيم تنتجها عصور معينة فى كل مجتمع، وهى تخص هذا المجتمع والمجتمعات المماثلة له. والدليل على ذلك أن هناك من يتحدث عن (عالم إسلامى) واحد، كما أن هناك من يتحدث عن (مجتمع أفريقى) أو (مجتمع آسيوى)، فهذا التعميم مضلل، لأن الحقيقة هى أن هذا (العالم الإسلامى) يتكون من أكثر من خمسين دولة، وكل دولة منها فيها مجموعة من النظم الشرعية والسياسية تختلف عما فى بعضها الآخر، ولا يوجد هيكل واحد يجعل هذه الدول عالما واحدا بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح، كما أنه ليست هناك دولة منها يمكن أن تدعى أنها هى (النموذج) أو هى التجسيد للقيم الإسلامية، لأن كل دولة تقول ذلك، والدين الإسلامى ليست فيه سلطة دينية لاهوتية مركزية واحدة كما فى الكاثوليكية، فليس فى العالم الإسلامى (بابا) يخضع له الجميع ويأتمرون بأمره. والأزهر فى مصر هو المؤسسة الوحيدة التى تعبّر عن الإسلام، ولكن ليست له سلطة على جميع المسلمين فى العالم، وأوامره ليست ملزمة، وكثير من رجال الدين الإسلامى فى مصر ذاتها وفى خارج مصر يختلفون فى الفتاوى والأحكام التى يعلنها. وجامعة الأزهر هى جامعة أكاديمية مثل سائر الجامعات ذات الطابع الدينى..
ويعزز هاليداى رأيه فيقول: إن هناك كثيرين يريدون أو يدعون أنهم يتحدثون باسم الإسلام وهم ليسوا كذلك، فما يقال فى السعودية يختلف عما يقال فى تونس، والتفسير أو الفتوى من أحد علماء الدين فى بلد إسلامى لا يمثل تفسير وفتاوى سائر علماء المسلمين، فكل واحد من العلماء المسلمين يتحدث عن نفسه ويعبر عن فهمه الخاص، وهناك من يحاولون استنباط القوانين العلمية من القرآن فى الكيمياء والفيزياء والهيدروليكا والمغناطيسية وفى المحاسبة والإحصاء وغيرها، وغيرهم يحاولون استنباط مبادئ حقوق الإنسان من القرآن والفقه، بينما يرفض علماء مسلمون على ذات المستوى من العلم والكفاءة هذه المحاولات. ويرى هؤلاء أن الدين دين والعلم علم والسياسة سياسة ويجب عدم الخلط بينها وإعطاء كل شىء صبغة دينية لأن ذلك ليس فى صالح الدين.. وعلى مدى التاريخ الإسلامى هناك فقهاء متشددون وفقهاء متحررون، هناك فقهاء إصلاحيون ومجددون وفقهاء يرفضون الإصلاح والتجديد ويتمسكون بكل ما فى التراث القديم دون أن يتزحزحوا عنه قيد أنملة، وهناك من يقبل فكرة فصل الدين عن شئون السياسة وإدارة الدولة وهناك من يرفض ذلك، والخلاصة- فى رأيه- ليس هناك مجتمع إسلامى واحد ولكن هناك مجتمعات إسلامية متعددة، وليس هناك قيادة إسلامية واحدة ولكن هناك قيادات إسلامية محلية لكل بلد، وليس هناك فقه واحد ولكن هناك مدارس فقهية بينها اختلافات، وليس هناك تفسير واحد ولكن هناك أكثر من تفسير. وكل ذلك يحسب للإسلام ولا يحسب عليه، لأنه يسمح بتعدد الاجتهادات فى الأحكام والاختلاف فى الفهم والاستنباط، وإن كان هناك إطار واحد يجمع الكل هو القرآن.
***
يخلص من ذلك إلى أنه ليس من حق أية جماعة أن تدعى أنها هى التى تمثل الإسلام وأن غيرها لا يمثله، أو أنها هى التى تمتلك الحقيقة فى فهم وتفسير الإسلام دون غيرها. ويرى من ذلك أن محاولة (أسلمة) كل شىء ليس موقفا إسلاميا صحيحا لأن القاعدة التى وضعها نبى الإسلام (صلى الله عليه وسلم) للمسلمين هى: (أنتم أدرى بشئون دنياكم). وإن كانت بعض الدول تعلن الادعاء بتمثيل الإسلام فإنها تسعى إلى إحراز مكاسب خاصة ونفوذ سياسى من وراء ذلك.
وعلى ذلك فإن نظم الحكم التى تمارس القمع وانتهاك حقوق الإنسان لا يمكن قبول ادعائها بأنها تطبق بذلك الشريعة الإسلامية، والذين يطالبون بتفسير للإسلام أكثر اعتدالا وتحررية وتوافقا مع التطورات العالمية ليسوا زنادقة ولا هم خارجون على الإسلام كما يدعى المتشددون (المتأسلمون).
***
ويبدى هاليداى ملاحظته على معظم المعبرين عن التيار الإسلامى الذين يقولون إنهم يرفضون ثقافة وحضارة الغرب. حين يقول إنهم- مع ذلك يستخدمون المفاهيم والمصطلحات الغربية مما يدل على اتصالهم وقبولهم وتفاعلهم مع ثقافة الغرب. فهم مثلا يتحدثون عن (ازدواجية المعايير) عندما يشيرون إلى ادعاء الولايات المتحدة بأنها تدافع عن حق الشعوب فى تقرير مصيرها وبينما ترفض أن يكون للفلسطينيين هذا الحق، وادعائها بأنها تدين انتهاكات القانون الدولى ومبادئ حقوق الإنسان فى الدول الإسلامية وتسمح باستمرار انتهاكات الاحتلال الإسرائيلى فى الأراضى الفلسطينية والسورية منذ عام 1967، وادعائها بأن المقاومة الوطنية للاحتلال (إرهاب) بينما هى التى تشجع إرهابيين فى دول أخرى على أنهم (مقاتلون من أجل الحرية)، وادعائها الدفاع عن سيادة الدول وهى تنتهك سيادة الدول وتسمح لنفسها بغزو الدول.. وهذه الانتقادات للمواقف والسياسات الأمريكية صحيحة ولكن المهم أن المسلمين الذين يرفضون الثقافة الغربية يستخدمون لغة ومبادئ وقيم الثقافة الغربية فى نقدهم للولايات المتحدة وللغرب عموما. وهذا يؤكد أن (النسبية الثقافية) لا تمنع من (التواصل والتفاعل الثقافى). فالنسبية الثقافية عند المسلمين لا تعنى الانعزال، كما لا تعنى التفرد الثقافى.
ويرى هاليداى أن الدول الإسلامية تقابل النقد الموجه إليها من الغرب فى مسألة انتهاك حقوق الإنسان بردود أفعال سلبية، إما بالقول بأن دول الغرب لها سجل إمبريالى ملىء بالانتهاكات لحقوق الإنسان، وإما بالهجوم المضاد على الغرب وتكرار الحديث عن الانحدار الأخلاقى فى حضارة الغرب فيما يتعلق بالجريمة والعلاقات الجنسية ومعاملة العجزة وكبار السن إلى آخر القائمة الشائعة فى كتابات المسلمين. ومن أمثلة ذلك ما قاله وزير الخارجية الإيرانى (على أكبر ولاياتى) فى كلمته أمام الأمم المتحدة عام 1993، هجوما على الغرب لسعيه إلى فرض القيم غير الإسلامية على العالم الإسلامى، وبعد ذلك ربط ذلك بالأزمة الأخلاقية والحرية المنفلتة بغير حدود فى الغرب، وجاء فى كلمته: (إن بعض الدول الغربية أرادت أن تفرض انحدارها الأخلاقى والاجتماعى على الدول الأخرى، بينما تعترف هى نفسها بهذا الانحدار، ولكنها تغلفه بغلاف جذّاب هو حقوق الإنسان).
وحين أشار تقرير لجنة حقوق الإنسان فى الأمم المتحدة إلى انتهاكات حقوق الإنسان فى إيران وجّه المسئولون والصحافة فى إيران هجومهم إلى دول الغرب على أنها تتلاعب بشعار حقوق الإنسان لأهداف سياسية، بينما تسكت دول الغرب عن الاعتداءات على حقوق الإنسان فى فلسطين وفى البوسنة وفى غيرها، وقال وزير خارجية إيران أمام الأمم المتحدة: (إن الطريق الوحيد لتعزيز مبادئ حقوق الإنسان فى أنحاء العالم هو إنهاء المعايير المزدوجة التى يمارسها الغرب وعدم استغلال قضية حقوق الإنسان لأغراض سياسية، ووضع آلية دولية مستقلة غير متحيزة للتحقق من احترام حقوق الإنسان فى جميع دول العالم دون استثناء بما فى ذلك الدول الغربية نفسها).
ويعلق هاليداى على ذلك باتفاقه على أن دول الغرب تمارس ازدواجية المعايير وتسمح لنفسها بما تستنكره من غيرها، ويؤكد على أن انتهاكات حقوق الإنسان فى الدول الإسلامية مسألة تتعلق بالسياسة ونظم الحكم وليست لها علاقة بالدين الإسلامى أو بالخصوصية الثقافية. ويقول: إن الإسلام دين موجه إلى كل البشر وليس موجها إلى شعوب معينة دون غيرها، وبالتالى فليس فى العقيدة الإسلامية أية إشارة أو دعوة إلى انتهاك حقوق أية فئة أو أية شعوب، والذين يدرسون الإسلام بحياد ودون انحياز يدركون أنه- على عكس ما هو شائع فى الفكر الغربى- دين يحترم الإنسان لمجرد أنه إنسان بصرف النظر عن العقيدة أو اللون أو الجنس، وينظر إلى الناس جميعا على اختلاف لغاتهم ودياناتهم على أنهم متساوون، ولكن الصدام ينشأ بين الغرب والإسلام لسبب آخر- غير حقوق الإنسان- هو أن السلوك الغربى الآن هو السلوك المعترف به دوليا على أنه السلوك الحضارى الذى يجب أن ينتشر فى العالم، فى إطار (العالمية) أو (العولمة) الاقتصادية والثقافية، بينما الإسلام دين موجه إلى كل البشر، فهو أيضا يدعو إلى (عالمية) أو (عولمة) مختلفة. ومن هنا نشأ الصراع، فهو صراع بين مفهومين، أو شكلين، من مفاهيم وأشكال العالمية أو العولمة.
***
وينبه هاليداى إلى أن المسلمين أنفسهم يشاركون فى المسئولية عن الالتباس فى المفاهيم والقيم الإسلامية، وذلك بإضفاء الصفة الشرعية الإسلامية على عادات وتقاليد اجتماعية تعبر عن مجتمعات بعينها وليست من أصول عقيدة الإسلام، مثل (شرف القبيلة) ونظام القبيلة ذاته الذى يصل التمسك به إلى حد التعصب فى أفغانستان وباكستان، ومثل ممارسة ختان الإناث فى المجتمعات الإسلامية، فهى عادات وليست عبادات، ولكن المسلمين يصبغونها بالصبغة الإسلامية وكأن من يخرج عليها يكون خارجا على الدين الإسلامى، ومثل حرمان المرأة من تولى مناصب معينة وممارسة حقوقها السياسية.
ويبدى هاليداى ملاحظة يرى أنها تمثل عاملا من عوامل سوء الفهم على الجانبين الإسلامى والغربى، وهى وجود تيار إسلامى يريد أن يغير الثقافة الغربية، ويغير الفكر والسلوك والقيم ويجعل كل شىء ذا طبيعة إسلامية حتى الملابس والطعام، ويتجاهل أسلوب الحياة الغربى المتأصل والذى لا يمكن للغربيين التنازل عنه لأنهم يرون أنهم وصلوا إليه بعد مراحل عديدة من النضال والتطور، ولا يريد أنصار هذا التيار الاقتناع بأن القانون الإلهى يحدد للبشر الطريق إلى الإيمان بالله وما يترتب على ذلك من أوامر ومحظورات إلهية محددة على سبيل الحصر فى النصوص المقدسة، أما بقية شئون الحياة فهى متروكة لدرجة التطور التى يصل إليها كل مجتمع ما دامت لا تتعارض مع الأصول والمبادئ الأساسية فى العقيدة.
هاليداى إذن يطالب المسلمين بالتفرقة بين ما هو سياسى واجتماعى وثقافى وبين ما هو دينى، وعدم الخلط والتوسع مما يجعل عدم ارتداء ملابس معينة، أو عدم إطلاق اللحية، أو عدم ختان البنات، خروجا على الشريعة الإسلامية وكفرا يستوجب العقاب فى الدنيا والآخرة، مع أن المسلمين يسايرون الحضارة العالمية ويستخدمون الكمبيوتر والتليفون والكهرباء كما يستخدمون فى بيوتهم الأجهزة الكهربائية، ويركبون السيارة والقطار والطائرة، وكذلك فإنهم يستخدمون (الأسانسير) وغير ذلك كثير من منتجات وتجليات الحضارة الغربية ولا يرون أنها تخالف الشريعة، كما يأخذ الغرب بعض العادات والأفكار الإسلامية ويستوعبونها فى حضارته، مما يعنى أن التواصل قائم، والأخذ والعطاء، والتفاعل من الأمور الطبيعية فى العالم، بحيث لم يعد ممكنا أن يكتفى مجتمع بنفسه ويستغنى عن غيره، ولذلك فإن مقولة (إن الشرق شرق والغرب غرب ولن يجتمعا) التى كانت تتردد قديما لم تعد مُعبّرة عن الواقع، لأن الشرق والغرب يمكن أن يجتمعا، ومن مصلحة كل منهما أن يجتمعا.
***
ويتساءل هاليداى: هل صحيح ما يردده بعض مفكرى الغرب من أن الإسلام يرفض الديمقراطية، وأن نظامه السياسى الإسلامى قائم على القمع والديكتاتورية، وهؤلاء يستشهدون بعدد من الدول التى تقدم نفسها للعالم على أنها دول تطبق نظام الحكم الإسلامى بينما هى تطبق الديكتاتورية التى تخلو من أى مظهر من مظاهر الديمقراطية والحريات، ويجيب: إن هذه النظم تدعى أنها قائمة على الشرعية الإسلامية وأنها تحكم بسلطة إلهية وأن الخارج عليها خارج على حكم الله، ولكنها- عند التحليل- ليست سوى نظم سياسية متخلفة أشبه بما كانت عليه دول الغرب منذ قرون حين كانت نظم الحكم الديكتاتورية تمارس الاستبداد باسم الدين وتدعى أنها تستمد سلطتها من الكنيسة وباسم المسيح. وفى مثل هذه الحكومات تنتشر السجون وعمليات التعذيب والقمع والإعدام وإباحة قتل المعارضين وفرض الرأى الواحد واعتبار التعددية فى الرأى خروجا على الدين. هذه الحكومات تفرض على جميع مواطنيها أن يرددوا خطاب السلطة وأفكارها، وتحتكر هذه الحكومات سلطة تحديد ما هو حلال وما هو حرام. هذه الحكومات تفرض على الشعوب نوعا من الغيبوبة الفكرية بحيث يفقد الإنسان الفرد ملكة التفكير المستقل، ويرفض الأفكار المخالفة لأفكار السلطة كما يرفض الاستفادة من ثقافات ومجتمعات أخرى.
المجتمعات الإسلامية إذن- وفقا لتحليل هاليداى- ترفض الاندماج فى المجتمع العالمى بحجة الحفاظ على الخصوصية والهوية والشخصية الإسلامية المتميزة، ولكنها فى نفس الوقت لا تستطيع أن تمنع نفسها من التأثر بالحضارة العالمية، والأخذ منها والاعتماد عليها فى كثير من شئون حياتها. وهذا ما يجعل الأمر يبدو وكأنه صراع أو تناقض بين الغرب والإسلام، وتظهر على السطح حينا تيارات الرفض للغرب، وفى حين آخر تظهر تيارات القبول والتفاعل، والمفروض أن يتحرك المفكرون والقادة من الغرب والعالم الإسلامى معا لإزالة هذا التناقض والتوصل إلى صيغة للتعايش والتعاون وتبادل المنافع دون تبادل الاتهامات.
وهذه دعوة تستحق التفكير.
***
يعترف هاليداى بأن الشعوب الإسلامية لديها أسباب تدعوها لعدم الثقة فيما يردده الغرب عن الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان والعدالة، بينما تسعى دول الغرب هذه إلى الهيمنة على الشعوب الصغيرة واستغلال ثرواتها ولا تطبق المعايير الأخلاقية إلا على الشعوب الغربية وتطبق على شعوب العالم الثالث معايير وقيمًا أخرى على النقيض. وفى نفس الوقت يرى أن الخطاب الإسلامى الموجه للغرب يجب أن يخفف من اللهجة العدوانية ومن اتهام المجتمعات الغربية بأنها مجتمعات جاهلية فاسدة. فإن مثل هذه الأفكار تؤدى إلى سوء الفهم، وسوء التفاهم ثم إلى العداء. ولا بد أن يقوم التعاون الدولى سياسيا واقتصاديا وثقافيا على أساس التسامح الدينى وقبول الاختلاف.
***
ولأن البروفيسور فريد هاليداى أستاذ للعلاقات الدولية فإنه يستخدم فى تحليله لظاهرة العداء للإسلام المنهج التكاملى الذى ينظر إلى هذه الظاهرة من زاويتين هما: الدين، والسياسة، وفى رأيه أن هذا العداء مرتبط بمصالح الغرب الاقتصادية والسياسية أولا، وبالتاريخ القديم من الحروب والصراعات ثانيا، وبانحياز الغرب لإسرائيل وقبوله لسياستها فى اغتصاب أرض الفلسطينيين، وقتلهم، وإذلالهم.
ولا ننسى أن بات بوكانان Pat Buchanan أعلن فى حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 1992 فى مراحل سابقة من تاريخ البشرية كان الصراع بين المسيحية والإسلام، وفى القرن الحادى والعشرين سوف يتكرر هذا الصراع مرة أخرى. فالمجاهدون المسلمون الذين وصلوا بقواتهم إلى أبواب فيينا عاصمة النمسا فى القرن السابع عشر، هل سيكررون ذلك فى القرن الحادى والعشرين؟. بوكانان يرى أن الإرهاب يهدد الغرب تحت راية الإسلام وباسم الجهاد، أما هاليداى فإنه يرفض هذا التصور لخطورة الإسلام على الغرب، ويطالب المفكرين بالبحث عن الأسباب الحقيقية للتوتر فى العلاقات بين العالم الإسلامى والغرب عموما، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، والبداية الصحيحة لذلك تفهم أوضاع العالم الإسلامى، وسياسات الغرب تجاهه. بينما يتجاهل أصحاب نظرية التهديد الإسلامى للغرب دراسة طبيعة الدول الإسلامية، وانتشار نظرية المؤامرة فى الثقافة السياسية فى العالم الإسلامى، والصعوبات فى إقامة نظم ديمقراطية فى الدول الإسلامية، والفوضى التى تعم العالم الإسلامى نتيجة السياسات الامبريالية والسعى إلى الهيمنة وتأثير ذلك على العقل والثقافة والتوجهات والمشاعر فى العالم الإسلامى. كذلك فإن هاليداى حريص على إبراز حقيقة مهمة، هى أن الظواهر السياسية والاجتماعية التى تعتبر مرفوضة من الغرب، ليست مقصورة على العالم الإسلامى، ولكنها موجودة فى مجتمعات أخرى غير إسلامية، مثل أمريكا اللاتينية، والصين، واليونان، وحتى الولايات المتحدة نفسها.
ويرى هاليداى أن نظرية المؤامرة فى العالم الإسلامى لها مبرراتها التاريخية والثقافية ويجد القائلون بها أدلة كثيرة على صحتها من الحروب واستنزاف الثروات من جانب الغرب، ومن محاولات التأثير الثقافى لتغيير ثقافة العالم الإسلامى. وإذا نظرنا إلى تأثير النظم الديكتاتورية على النشاط الاقتصادى، وعلى علاقات الدول الإسلامية بالدول الديمقراطية فى الغرب، وعلى قمع الأفكار الإصلاحية ورفض التطور، فسوف نجد أن ذلك كله يصطبغ بصبغة إسلامية، وهذا ما تفرضه السلطة الحاكمة وليس ما يفرضه الدين الإسلامى مستندة إلى السلطة التى قررها لها القرآن بأمره للمسلمين بأن يطيعوا الله وأن يطيعوا أولى الأمر، وبناء على ذلك يسيئون استخدام السلطة ويعتبرون كل نقد أو معارضة أو مطالبة بالإصلاح خروجا على الطاعة الواجبة كما قررها الله، وهذا المفهوم للسلطة يروج له الحكام وليس معبرا بدقة عن القصد الإلهى من الطاعة. ومع ذلك فهناك دول إسلامية فيها قدر من الديمقراطية والليبرالية والانفتاح الاقتصادى والثقافى.
يقول هاليداى إن منطقة الشرق الأوسط ليست نشازا عن السياق العالمى، ولكن الذى يجعلها تبدو كذلك مجموعة الخرافات التى يروج لها كثيرون فى داخل المنطقة وخارجها. ولابد أن يدرك كل من يتحدث عن الشرق الأوسط أن فى هذه المنطقة شعوبًا لها تاريخ طويل، وثقافة عريقة، وتراث حضارى ممتد عبر العصور، وهى شعوب لها إرادتها ومصالحها وطموحاتها، وهى تعانى من الظلم المفروض عليها من الخارج والداخل، ولابد من إعادة دراسة العالم الإسلامى بروح جديدة، فيها الحياد والإنصاف والموضوعية.. ولا نظل أسرى للأفكار الجاهزة التى يتناقلها الباحثون دون فحص وتمحيص، لأن هذه الأفكار الجاهزة تعوق سير العلاقات بسلاسة بين دول الغرب والدول الإسلامية، مع أن الدول الإسلامية ذات أهمية كبيرة جدا للغرب ولمصالحه، ومن الضرورى عند دراسة العالم الإسلامى ألا يتم ذلك بالمعايير والمفاهيم الغربية وحدها، وأن نراعى ظروف هذا العالم ودرجة التطور التى وصل إليها كل مجتمع من المجتمعات الإسلامية، فليست كل الدول الإسلامية على درجة واحدة من التطور السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى.
ويتوقف هاليداى عند الآيتين الكريمتين (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). (وقالت اليهود ليست النصارى على شىء، وقالت النصارى ليست اليهود على شىء، وهم يتلون الكتاب، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم، فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) (البقرة 112- 113) وفيهما دعوة للتعايش بين الأديان وترك الحكم لله وحده على أيهما الأصلح، ولن يكون ذلك إلا يوم القيامة كما قال الله فى كتابه. كما يشير إلى الآية الكريمة (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم، وإسماعيل، وإسحق، ويعقوب، والأسباط، وما أوتى موسى، وعيسى، وما أوتى النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) وهى دليل على أن الإيمان بالإسلام يقتضى الإيمان بجميع الأنبياء والرسل والكتب والأديان السابقة عليه. والآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) (البقرة 208) وهى دعوة صريحة قاطعة للمسلمين لكى ينحازوا إلى السلام وليس إلى الحرب أو العدوان أو الإرهاب.
ويدعو هاليداى المفكرين إلى تأمل الآية الكريمة: (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا..) (الحجرات 13) ويقول إنها قمة التعبير عن المساواة بين الرجل والمرأة عند الله، وقمة الدعوة إلى الحوار والوفاق والتعاون بين الشعوب، فإذا كانت هذه هى دعوة الإسلام فلماذا لا يتفهمها الغرب ويتعامل مع المسلمين بما يتفق معها؟!.
عامل آخر تسبب فى الجفوة ثم العداء- بين الإسلام والغرب هو انحياز الغرب لإسرائيل وضد العرب والمسلمين، منذ هجرة اليهود الجماعية إلى فلسطين فى أواخر القرن التاسع عشر، وإقامة دولة إسرائيل عام 1948، والمذابح التى ارتكبها الإسرائيليون للمسلمين أثناء الصلاة، وأكبرها المذبحة التى قام بها الإرهابى الإسرائيلى باروخ جولدشتين فى المسجد الأقصى فى فبراير 1994 وقتل 29 مسلما أثناء صلاة الفجر، وكانت هذه المذبحة فى نظر المسلمين ذروة العداء للإسلام والمسلمين، واستدعت تحذير القرآن للمسلمين من اليهود وما يراه المسلمون من إقامة دولة على أرضهم واحتلال أراض أخرى والاعتداء على المساجد، وقد تسبب كل ذلك فى نشأة اعتقاد لدى المسلمين يترسخ منذ عقود- بأن إسرائيل أنشأها الغرب بدافع العداء للمسلمين، واعتبارها مؤامرة من الغرب لاغتصاب أوطان المسلمين، ويغذى هذا الشعور ما يعلنه القادة الإسرائيليون والحاخامات من أن العرب هم الأعداء القدماء لإسرائيل، ويستدعون قصة العماليق المذكورة فى القرآن، وما فى التوراة من دعوة إلى قتل كل (الأغيار) أى غير اليهود.
ويرى هاليداى أن العلاقة بين المسلمين واليهود علاقة معقدة لها جذور تاريخية قديمة، ولا يمنع ذلك وجود الأصوات المنادية بالتسامح ونسيان الماضى. وفى نفس الوقت، فلقد كانت المجتمعات الإسلامية بالفعل أكثر تسامحا وقبولا لليهود من المجتمعات الغربية، وقد عاش الكثير من اليهود فى المجتمعات الإسلامية على قدم المساواة، بل كانت لهم مكانة متميزة فى بعض العصور وبعض الدول الإسلامية، ولم تكن لهم مثل هذه المكانة أبدا فى المجتمعات المسيحية، حتى أن الأعداد الكبيرة من اليهود الذين طردتهم أسبانيا لم يجدوا أرضا تؤويهم إلا أراضى الدول الإسلامية. ولم يظهر العداء إلا متأخرا، أما فى عصور الدولة الإسلامية- الأموية والعباسية وما بعدهما- فقد كان لليهود إسهامات كبيرة فى الثقافة والأدب والفكر والسياسة. ولا ننسى أن الطبيب الخاص للقائد الإسلامى صلاح الدين الأيوبى الذى طرد الصليبيين من القدس كان يهوديا. وفى العصر الحديث لم تكن المحارق والمعتقلات والاضطهاد لليهود فى دول إسلامية ولكنها كانت فى دول غربية، ولكن مع ظهور الحركة الصهيونية بدأت المواجهة بين اليهود والعرب، وظهر عداء اليهود للعرب ليس لأنهم مسلمون ولكن لأنهم (أغيار) وتنافس الكتاب اليهود فى تشويه صورة العالم الإسلامى، وعلى سبيل المثال ما نشروه فى الغرب من مقارنة حكم عبد الناصر فى مصر بحكم هتلر فى ألمانيا، وبأن هذا النظام يريد إلقاء اليهود فى البحر. وليس ذلك جديداً فقد ظهرت لغة جديدة لليهود عند الحديث عن العرب منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر حتى أنهم كانوا يسمون العرب فى فلسطين (الحمير).
***
والمشروع الصهيونى- كما يقول هاليداى- قام على أساس طرد العرب المسلمين- والمسيحيين- من أرضهم فى فلسطين. وهكذا قام هذا المشروع على إنكار حقوق وإنسانية العرب فى فلسطين على أساس عرقى (عنصرى). وكان شعار: (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) يحمل الرفض والنفى والعداء للفلسطينيين، وعبّر عن ذلك الشاعر الصهيونى الأول (بن يهودا) بقوله: (كم هى جميلة إسرائيل بدون عرب). وكان شعور اليهود الأوروبيين المهاجرين إلى فلسطين فى البداية أنهم طليعة للحضارة الأوروبية فى مواجهة المتخلفين الهمج الذين وجدوهم فى فلسطين، ولم يكن ذلك التوجه مختلفا عن توجه المستوطنين الأوروبيين البيض فى جنوب أفريقيا وغيرها من دول العالم الثالث، وكان ذلك تعبيرًا عن (غرور الحضارة) ولم يكن التحامل على العرب وحدهم. بل كان أيضا على اليهود الشرقيين الذين اعتبروهم غير متحضرين مثل العرب وإن كانوا أفضل منهم بقليل لأنهم يهود. وهناك مفردات فى اللغة العبرية كان اليهود الغربيون يستخدمونها للإشارة إلى اليهود الشرقيين مثل: رعاع وسفاحون- وساكنو الكهوف- ووثنيون- ومتعصبون- ووصل الأمر إلى أن الجنرال مردخاى جور رئيس الأركان الإسرائيلى الأسبق حين كان مرشحا عن حزب العمل وجه تحذيرا إلى مجموعة من اليهود الشرقيين مؤيدى حزب الليكود الذى كان فى المعارضة قال لهم فيه: (سندمركم كما دمرنا العرب فى حرب الأيام الستة). وكانت أعمال العرب يشار إليها بمصطلح: (Avada Aravit) ومعناه (عمل عربى) أى عمل عشوائى وفاشل وغير متقن، كذلك أصبح مصطلح (Shluhim) ومعناه ساكنو الكهوف يطلق على اليهود العرب المهاجرين من المغرب إلى إسرائيل.
يستخلص هاليداى بعد استعراض لمظاهر عداء الإسرائيليين للعرب والمسلمين إلى أن أنهم يعبرون عنه بلغة عنصرية تجاه غير اليهود عامة ولأصحاب الأصول العربية على وجه الخصوص. ولكن بعد حرب 1967 نشأت درجة من العداء ذات طبيعة خاصة، وازدادت بعد الثورة الإيرانية الإسلامية. ففى أعقاب حرب 1967 واحتلال إسرائيل لأراضى الضفة الغربية وغزة بدأ الحاخامات المتشددون يقدمون التبرير الدينى ويستعيدون التراث اليهودى لتبرير الاحتلال وممارسة العنف ضد العرب، وعبّر عن ذلك الحاخام الأكبر للجيش الإسرائيلى صموئيل ديرليتش فى رسالة وجهها للجنود قال فيها إن حربهم ضد العرب هى مهمة دينية وردت فى التوراة وفرضت على اليهود (تدمير العماليق). وعندما اعترض على ذلك بعض القادة كتب أربعون من كبار الحاخامات رسائل دفاعا عن هذه العقيدة وأكدوا أنها مُعبّرة عن الشريعة اليهودية، ومنذ منتصف السبعينات من القرن العشرين لعبت أحزاب اليمين الدينى دورا كبيرا فى توجيه السياسات الإسرائيلية، ونشرت المشاعر العدائية تجاه غير اليهود، وجاءت الثورة الإيرانية لتزيد هذا العداء بعدائها الواضح لوجود إسرائيل، وتأييد الشيعة فى لبنان لهذا الاتجاه منذ عام 1982 (حزب الله) ونشأة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) حتى أن إسرائيل بدت فى أواخر الثمانينات على أنها فى معركة مع العالم الإسلامى. ومع ذلك فقد فاقت حركة (كاخ) الصهيونية كل ما عداها فى درجة العداء للعرب. وهى الحركة اليهودية المتطرفة التى أنشأها الحاخام (مائير كاهانا) التى كان لها تأثيرها على السياسة الإسرائيلية منذ أوائل التسعينات من القرن العشرين وحتى اغتيال كاهانا فى نيويورك عام 1990. لكن كاهانا أرسى مفهوما عدوانيا للتلمود يفرض قتال غير اليهود، وكانت دعوته الأساسية هى طرد العرب بالقوة من إسرائيل، وقدم كاهانا مشروع قانون يحرم إقامة علاقة جنسية بين اليهودى أو اليهودية وغير اليهودية أو غير اليهودى، ويرفض منح الجنسية أو صفة المواطن فى إسرائيل لغير اليهود، وكان أنصاره يرددون الهتاف: (الموت للعرب وأصدقائهم اليساريين اليهود).
***
كانت لغة كاهانا مليئة بالكراهية بدرجة تثير الاشمئزاز مثل قوله: (العرب سرطان.. سرطان.. سرطان.. موجود معنا، ولكن ليس فى إسرائيل رجل يريد الاعتراف بذلك.. إننى أخبركم بما يفكر فيه كل منكم ويشعر به فى أعماق قلبه ولا يوجد حل سواه: فليخرج العرب.. لا تسألونى كيف.. دعونى أكون وزيرا للدفاع لمدة شهرين فقط ولن تجدوا هنا أحدا من هذه الصراصير.. أعدكم بأن أجعل إسرائيل نظيفة) وفى هذا السياق أصبحت اللغة المعادية للعرب والمسلمين يتم تداولها علنا فى إسرائيل، وخاصة بين المستوطنين فى الضفة الغربية، وأحزاب اليمين الدينى والسياسى. وأصبح هؤلاء يستشهدون كثيرا بالآيات (5-9) من المزمور (149) الذى يتلى فى صلاة الصباح اليهودية ويقول: (دع تسبيحات المولى تكون فى أفواههم، وسيفا ذا حدين فى أيديهم للثأر من الذين يدينون بالوثنية، ولفرض العقوبات على دولهم وتقييد ملوكهم ونبلائهم بسلاسل من حديد) وكانت هذه الآيات تستخدم لإثارة المستوطنين للهجوم على الفلسطينيين، وانتشرت على الجدران عبارات عدائية مثل (الموت للعرب) و(اصنعوا اللحم المفروم من لحم العرب). وفى جنازة المتطرف اليهودى باروخ جولدشتين الذى ارتكب مذبحة المسجد الأقصى أعلن أحد الحاخامات: (إن مليون عربى لا يساوون ظفر يهودى واحد). ومثل هذه الروح منتشرة فى المؤسسات الدينية وحاخامات الجيش وزعماء الأحزاب اليمينية وقادة المستوطنين. وعبّر عن هذه الروح الحاخام موردخاى عيديا حين طالب الحكومة بالسماح باستخدام أعضاء العرب الذين يقتلهم الجيش الإسرائيلى فى زراعة أعضاء للمحتاجين إليها من اليهود، ذلك لأن استخدام الأعضاء البشرية من أجسام اليهود حرام بالنسبة للتفسير اليهودى القائم على قداسة اليهود. وكذلك أعلن الحاخام عوفاديا يوسف رئيس حزب شاس الدينى رأيه بوضوح فى خطبة قال فيها: (إن العرب أسوأ من الحيوانات المتوحشة). وإن كانت مثل هذه العبارات لا تظهر على ألسنة السياسيين الإسرائيليين إلا أنها- مع ذلك- عبارات منتشرة فى قطاع مؤثر يشعر بأنه يستطيع أن يصرح بهذه الآراء وينشرها دون خوف من الاعتراض القانونى أو السياسى عليها.
ويبدى هاليداى دهشته لأن الذين يعلنون العداء للمسلمين فى إسرائيل، هم أنفسهم الذين يكررون الشكوى من وجود عداء من المسلمين لليهود وينبشون فى التوراة عما يؤيد دعواهم. وينشرون فى العالم أن المسلمين جميعا يشعرون بالعداء لليهود، وفى المقابل فإن كثيرا من المسلمين يعتقدون أن اليهود أعداء الإسلام، وفى ذلك تشويه للتاريخ الحقيقى للعلاقة بين الإسلام واليهود، وهناك ادعاء قوى بأن العداء للسامية يتزايد فى العالم العربى والإسلامى، ويستخدم الإسرائيليون المتشددون هذا الادعاء بالقول بأن الفلسطينيين مثل النازيين، أو أنهم مثل الفلاحين فى أوكرانيا الذين قتلوا اليهودى فى مذابح رهيبة فى القرن السابع عشر. ولا يمكن إنكار وجود جذور للعنصرية المعادية للعرب لدى اليهود المتطرفين ومثالهم الحاخام مائير كاهانا، وتظهر كذلك فى نيويورك فى المشاعر المعادية للعرب مختلطة بالعداء للنازية وللسود، وكان شعار كاهانا (إن العرب هم آخر أعداء اليهود). والوقائع والنماذج كثيرة فى مذابح ارتكبها الإسرائيليون على مدى أكثر من نصف قرن، وشخصيات مثل حاييم وايزمان، وبن جوريون، وبلفور، وبيل، وعلى الجانب الآخر نجد ناصر والخمينى كما يقول هاليداى.
فالعداء للعرب- كما يقول- ظاهرة أيديولوجية فى إسرائيل.
***
ولا بد أن نذكر للبروفيسور فريد هاليداى شجاعته فى التحليل العلمى لظاهرة العداء للعرب والمسلمين فى الغرب والتحذير من انتشار هذه الأيديولوجية وما يترتب عليها من سياسات اقتصادية وعسكرية، وكذلك لا بد أن نشيد بوقفته للتصدى لما فى الصحافة والخطاب السياسى فى الغرب من تحامل على العرب والمسلمين، وإعلان شعوره بالخزى مما ينشر ويقال.
ولا بد أن نذكر له كتاباته المتميزة للتفرقة بين العداوة فى الماضى لأسباب مختلفة لم تعد قائمة الآن، وضرورة تجاوز هذا التاريخ القديم من الحروب والاستغلال والكراهية والنظر إلى الحاضر بعيون أخرى وبروح جديدة للتسامح والتعاون. وكذلك عدم التوقف عند ظواهر اجتماعية معينة ونسبتها إلى الإسلام دون النظر إليها فى سياقها الاجتماعى والسياسى، فليس من الموضوعية ربط الإسلام بالإرهاب، أو باضطهاد المرأة، أو بكراهية الآخر.
وفى نفس الوقت لا بد أن نحترم الآراء التى توصل إليها وألقى فيها اللوم على المسلمين فى بعض الأمور، واشتراكهم فى المسئولية عن ظهور ونمو هذا العداء، مثل قول بعض الفرق الإسلامية بأن الإسلام يجب أن يسود الغرب بالدعوة أو بالقوة، أو الإعلان عن عدائها للغرب وسعيهم إلى تدميره، لأن هذه الأقوال وأمثالها تعطى المبرر لتيار العداء للإسلام فى الغرب وتغذيه وتقنع الرأى العام فى الدول غير الإسلامية بأن الإسلام خطر عليها ويجب شن الحرب الدفاعية ضده، خاصة مع رواج نظرية أن الإسلام هو الأيديولوجية الباقية المعادية للغرب بعد انهيار الأيديولوجية الشيوعية.
وحين يتساءل هاليداى: من أين تأتى الأفكار الخاطئة على الجانبين يصل إلى أنها تأتى من مجموعة من الأحداث والمواقف والأزمات، ومن الخطـاب الدينى والسياسى هنا وهناك، والتى يعمد السياسيون وأصحاب المصالح إلى استغلالها والتهويل من خطورتها لكى يبرروا مشاعر العداء ونوايا العدوان.