امتحان فى الوطنيـة
ليست هذه أول مرة فى التاريخ تواجه مصر فيها مرحلة صعبة.. ليست أول مرة تفرض عليها ضغوط خارجية للنيل من استقلالها، والمساس بكرامتها.. وليست أول مرة تمر فيها بأزمة اقتصادية ويعانى شعبها من الأسعار والبطـالة.. ليست أول مرة.. ولن تكون آخر مرة.. لأن الحرية والكرامة والوطنية لهما ثمن لا بد أن ندفعه أو نقبل البديل الذى لا يمكن أن نقبله.
وفى كل مرة واجهت مصر هذه الظروف كان الشعب يقف صفا واحدًا، صلبا، ويلتف حول العلم، وحول الوطن، وحول قيادته، ويتحدى كل من يسعى إلى تفتيت جبهته الداخلية، ويقاتل حتى الموت كل من يحاول النيل من أمنه القومى..
وكم من الرجال خلّدهم التاريخ بمواقفهم الوطنية العظيمة، وبتضحياتهم بالمال والجاه وبالروح الغالية لكى تظل رؤوس المصريين مرتفعة، وعلمها يرفرف على أرضه الحرة.. ولن يأتى يوم تنتهى فيه معارك الاستقلال، أو تنتهى فيه دواعى التضحية..
وفى المواقف الدقيقة يظهر معدن الرجال، وينكشف ما يكون خافيا من النوايا، فيظهر من هو الوطنى المستعد للتضحية لكى يشترى الحرية والوطن، ومن الانتهازى المستعد لبيع وطنه وشعبه.. وفى التاريخ المصرى أيضا صفحات لرجال سطروا أسماءهم فى سجل الانتهازية وإن كانوا قلة إذا ما قورنوا بالحشود الذين سجلوا أسماءهم فى صفحات الكرامة الوطنية.
وليست مصر وحدها هى التى اجتازت وتجتاز هذا الامتحان، فالمفكر الأمريكى صمويل هنتنجتون يتحدث فى كتابه الأخير (من نحن؟) عن الامتحان الذى دخله الشعب الأمريكى يوم 11 سبتمبر 2001 حين تعرض الوطن الأمريكى للخطر، فيقول إن الأمريكيين فى هذا الموقف التفوا حول العلم وحول وطنهم ورئيسهم، وتناسى الجميع خلافاتهم، وذابت الثقافات المتعددة التى يتكون منها المجتمع الأمريكى، وشعروا أنهم شعب واحد.. كتلة واحدة.. صوت واحد.. وأنهم أمريكيون قبل أن يكونوا أى شىء آخر. ويقول إن الأمريكيين ليسوا شعبا من أصل واحد، ولكنهم شعب من المهاجرين من أعراق وألوان ولغات وديانات مختلفة، ومعظمهم يدين بالولاء لبلاده الأصلية ربما أكثر مما يدين بالولاء لأمريكا، وظلوا أكثر من قرنين يتعايشون معا فى صيغة فريدة تجمعهم المصلحة، ولكنهم فى هذا الموقف ظهرت مشاعر وطنية، وولدت روح جديدة، وأصبح العلم الأمريكى فى يد كل رجل وامرأة وطفل، وشارة على صدور الجميع، ولم يفكروا فى الأزمة الاقتصادية التى يعيشون فيها، ولا فى الغلاء وتزايد البطالة، ولا فى أزمة الدولار، ولا فى خفض الدعم المخصص للفقراء وللرعاية الطبية والضمان الاجتماعى، ولا فى زيادة أسعار البنزين وزيادة الضرائب.. ولا فى المشاكل الكثيرة التى كانت تدفعهم للشكوى.. ولم يعد لهم شاغل إلا حماية الوطن..
وما حدث فى الولايات المتحدة ليس شيئا نادرا أو غريبا، ولكنه هو الأمر الطبيعى، وهو ما عشناه نحن أيضا وقبل الأمريكيين، وشاركنا فيه جميعا فى سنوات كثيرة. والآن: ألا تعيش مصر فى ظروف – داخلية وخارجية – هى فى حقيقتها امتحان فى الوطنية لكل واحد منا سواء كان كبيرا أو صغيرا، مثقفا أو أميا، مسئولا أو غير مسئول؟ وهل يغيب عن فطنة أى إنسان إدراك طبيعة وحجم المخاطر والصعوبات التى تحيط بالوطن، وأسبابها، وما يمكن أن تصل إليه الأمور إذا تغافلنا، أو قللنا من شأن هذه المخاطر أو إذا استمعنا إلى الانهزاميين والانتهازيين والحالمين بالمناصب على أنقاض البلد ومستقبله؟.
ولا يحتاج الأمر إلى شرح أو دليل للتذكير بمن عرفناهم بالأمس وبمن نراهم اليوم من ضعاف النفوس، وأصحاب الأطماع، وبهؤلاء الذين أسميهم (أحفاد خنفس باشا).. وخنفس باشا هو الخائن الذى يجب ألا ننساه أبدا، لأنه النموذج الذى تكرر وسوف يتكرر.. فهو الذى كان إلى جانب عرابى فى مواجهته للاحتلال البريطانى، وهو الذى باع عرابى، وخان جيشه ووطنه، وفتح ثغرة بالتواطؤ مع الإنجليز نفذت منها قواتهم وهزمت المصريين، وأسقطت العلم المصرى ورفعت العلم البريطانى على رؤوسنا، واستمر احتلالهم يدنس أرضنا ويجثم على صدورنا سبعين عاما، وكانت النتيجة حصل خنفس باشا على الجزاء الذى يستحقه كل خائن، وتعطل تقدم بلدنا واستنزفت ثرواتنا سبعين عاما.
خنفس باشا لم يكن سوى نموذج قابل للتكرار، وهو موجود فى كل مجتمع وفى كل عصر، ولعل أحفاده هم الذين فتحوا أبواب بغداد أمام قوات الاحتلال الأمريكى، وحصلوا على ثمن تدمير بلدهم، وتشريد شعبهم، وضياع أرضهم، ولعل أحفاد خنفس باشا الصغار هم الذين يحاولون إثارة الشغب ويتطاولون فى التعبير، لكى يكسروا حاجز الأمان للوطن، ويفتحوا ثغرة لمن ينتظرون اللحظة الممكنة للنفاذ والسيطرة على مقدراتنا. قد يكون عددهم محدودا، وقد يكون تأثيرهم ضعيفا، ولكن معظم النار من مستصغر الشرر كما قال حكماء العرب.
اليوم امتحان فى الوطنية.
هذا هو علم مصر.. من الذى سيقف تحته ولا يكون ولاؤه لسواه، ومن الذى يقف تحت علم آخر، ويستقوى بدعم آخر، ويتحدث بلسان آخر، ويخاطب سادة آخرين؟ من الذى لا يعرف أرضا غير هذه الأرض، ومن الذى يضع قدما هنا وقدما هناك؟ من على استعداد لتقديم التضحية ومن الذى لا يسعى إلا إلى المغانم من أى مصدر وبأية وسيلة؟ باختصار: من المخلص ومن الانتهازى؟. من من أحفاد عرابى ومن من أحفاد خنفس باشا؟.
أما بعض العابثين السذج ذوى النوايا الطيبة، المتحمسين للإصلاح ولا يرون سوى ما يظهر على السطح دون بصر أو بصيرة بما تحت السطح من عوامل وخفايا، فينساقون وراء المهرجين الذين يقومون بأدوار بطولة لا تليق عليهم، ولا تتناسب مع تاريخهم، فلن يطول الزمن حتى ينكشف المستور، وحينئذ يفرح المؤمنون بنصر الله لهم ولوطنهم، وينال الانتهازيون الخزى ويدخلون فى التاريخ مع أمثالهم وينالون من الناس ما يستحقونه..
وباختصار: نحن فى امتحان.
لا نحتاج إلى دموع التماسيح من المتباكين على حال البلد، لأن حال البلد لا يدعو لهذا النواح، والبلد يسير إلى الأمام ويحرز تقدما يوما بعد يوم.
وإن كانت هناك أزمة فنحن قادرون على التغلب عليها.
وإن كانت علينا ضغوط فنحن قادرون على التصدى لها.
وإن كان هناك فساد فنحن قادرون على تعقبه والقضاء عليه وعلى أنصاره وأسبابه.
وإن كانت لدى بعض الناس مشاكل فنحن قادرون على حلها اليوم أو غدا.
نحن أصحاب البلد، ونحن المنتفعون بخيراتها، ونحن الذين سوف نكتوى بالنار وندفع الثمن إذا تغلبت علينا القوى التى تتربص بنا اعتمادا على ذيولها.. ونحن الذين سنقف تحت العلم، وخلف الوطن والقيادة الوطنية، ونتصدى للضغوط الخارجية وعملائها فى الداخل، وفى قلوبنا وعقولنا أجهزة استشعار تكونت من خلال الزمن والتجارب، نفرق بها بين المخلص لوطننا، والمخلص لوطن آخر.*