من قتـل الحريرى.. ولمـاذا ؟
قبل أن نتسرع فى إصدار الأحكام وندعى المعرفة لكل خلفيات جريمة قتل رفيق الحريرى من المفيد أن نراجع الموقف قبل وبعد الجريمة، وسوف تسهل علينا بعد ذلك الإجابة عن السؤال الذى يبدو أقرب إلى اللغز: من قتله، ولماذا؟
أولا: إن مخطط الجريمة اختار هدفه بمنتهى الدقة، فالحريرى ليس فقط زعيما سياسيا كبيرا فى لبنان، ورئيس وزراء سابقا كان من المرجح أن تعيده نتائج الانتخابات التى كانت ستجرى بعد شهور رئيسا للوزراء من جديد. وليس فقط واحدا من أكبر أغنياء العالم، أو أنه يتحرك فى موكب بسيارة مصفحة ضد المتفجرات، وفى موكبه أجهزة كشف الألغام والمتفجرات، وحوله حراسة مسلحـة، حتى قيـل إن إجراءات التأمين والحراسة الخاصة به لا يفوقهــا إلا الإجراءات والتجهيزات الخاصة بحراسة وتأمين رئيس الولايات المتحدة.
ولكنه بالإضافة إلى كل ذلك- شخصية دولية مشهورة على مستوى العالم، ومقتله لابد أن يحدث دويا هائلا فى لبنان يؤدى إما إلى زيادة الانقسام القائم الآن قد يتطور إلى حرب أهلية وفوضى وانفلات أمنى أشبه بحالة العراق، وتكون هذه خطوة فى مخطط تفكيك المنطقة، وإما أن يؤدى مقتله إلى توحيد أحزاب المعارضة المختلفة فى جبهة واحدة فى مواجهة الرئيس إميل لحود والحكومة الحالية وهما من المؤيدين للوجود السورى فى لبنان، والمعارضين لغزو أمريكا للعراق ولاحتلال إسرائيل لمزارع شبعا، والرافضين لمحاربة حزب الله وتفكيك هياكله العسكرية.
ثانيا: إن الرئيس بوش سبق أن أعلن عقب 11 سبتمبر أنه اتخذ قرارا استراتيجيا بتغيير خريطة الشرق الأوسط، وبعد غزو العراق أعلن أن إسرائيل أصبحت أكثر أمنا. وهذان الهدفان الأمريكيان مازالا قائمين: تغيير خريطة الشرق الأوسط، وتحقيق الأمن لإسرائيل بالقضاء على كل من يهدد هذا الأمن حاليا أو مستقبلا. ولذلك تشدد السياسة الأمريكية الضغوط على سوريا وتلجأ إلى مجلس الأمن، وتهدد بتوجيه ضربة لها إذا لم تنسحب من لبنان وتتخلى عن حزب الله، وبالتالى تتقوقع داخل حدودها وتتوقف عن المطالبة باستعادة أرضها فى الجولان وإنهاء الاحتلال الإسرائيلى لها الذى استمر 32 عاما حتى الآن دون أن تنطق الولايات المتحدة بكلمة واحدة عن حق سوريا فى استعادة الجزء المحتل من وطنها.
ثالثا : إن الولايات المتحدة سبق ان أعلنت تهديداتها لسوريا أكثر من مرة، وكذلك تكررت تهديدات إسرائيل لسوريا، ووضعت الولايات المتحدة سوريا على قائمة الدول الراعية للإرهاب، وأصدرت قانون محاسبة سوريا الذى يعطيها الحق فى فرض عقوبات عليها، ووجهت إليها اتهامات متكررة بأنها تساعد (الإرهابيين) فى العراق، وأنها تساعد حزب الله الذى يهدد شمال إسرائيل.
وإذن.. فإن سوريا مستهدفة من الولايات المتحدة ومن إسرائيل، وهدفهما واحد وإسرائيل هى الوكيل عن أمريكا فى المنطقة والتعاون الاستراتيجى بينهما لا مثيل له بين أى دولتين فى العالم.
رابعا: إن وزير الدفاع العراقى سبق أن صرح بأن الدول التى تساعد الإرهابيين فى العراق (يقصد سوريا وإيران) سوف تنتقل إليها هذه التفجيرات.
خامسا: معروف أن رفيق الحريرى كان له موقف من الوجود السورى فى لبنان، ولكنه فى نفس الوقت كان متمسكا باتفاق الطائف الذى يتضمن وجود سوريا فى لبنان للمحافظة على الاستقرار والأمن، وعدم تكرار الحرب الأهلية التى دمرت كل شىء فى لبنان. ومعنى ذلك أنه كان يطالب بإعادة النظر ولم يكن معارضا رافضا للعلاقة الخاصة بين سوريا ولبنان، واختياره هدفا للجريمة يجعل جبهة الرفض للوجود السورى تشتعل، ويثير الشارع اللبنانى، ويؤدى إلى زيادة الضغوط على سوريا من الداخل بالإضافة إلى الضغوط من الخارج.
سادسا: أن لبنان تحتشد فيها أجهزة المخابرات من مختلف أنحاء العالم، وخصوصا من الولايات المتحدة وإسرائيل، وهناك قائمة طويلة من العمليات قامت بها المخابرات الأمريكية والإسرائيلية فى لبنان، فهل كانت هذه المخابرات فى غفلة مما يدبر للحريرى، مع ملاحظة أن هذه العملية تحتاج إلى إعداد ومراقبة وكوادر، وإذا تم كل ذلك دون أن تعلم المخابرات الأمريكية فإن هذه نكسة أخرى لها، وإذا كانت تعلم ولم تبلغ الحكومة اللبنانية أو تبلغ الحريرى نفسه فإن هذه تكون مشاركة بالصمت!
سابعا: إن عملية الاغتيال لا يمكن أن يقوم بها فرد واحد أو تنظيم إرهابى، لأن كمية ونوعية المتفجرات، والتوقيت، والمعلومات الدقيقة عن خط سير الموكب، واتساع دائرة التدمير والقتل لضمان نجاح العملية، ثم اختفاء الجناة بسهولة مذهلة وكأن قوى خفية هى التى قامت بالجريمة، كل ذلك يشير إلى أن هذه عملية لا يمكن أن يقوم بها إلا خبراء محترفون أو أجهزة متخصصة على أعلى مستوى.
ثامنا: إن الولايات المتحدة أعلنت منذ أسابيع عن تشكيل (فرق اغتيالات) وأعلن قادتها أن المخابرات الأمريكية لن تكتفى بعد الآن بجمع المعلومات الاستخباراتية، ولكنها سوف تقوم بعمليات لخدمة السياسة الأمريكية. كذلك أعلنوا أنهم سوف يستعينون برجال مخابرات يجيدون اللغة العربية ويعلمون الكثير عن الإسلام لاختراق التنظيمات والجماعات الإسلامية وقيادتها كما سبق أن فعلت المخابرات الأمريكية فى إعداد وقيادة جماعات المجاهدين ضد الاحتلال السوفيتى فى أفغانستان.
تاسعا: إن الولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر أعلنت الحرب العالمية على الإرهاب ووجهت جيوشها إلى أفغانستان ثم إلى العراق. وبعد الهجوم على رفيق الحريرى أعلنت- بعد دقيقة واحدة- توجيه الاتهام إلى سوريا، واستغلت الغليان الشعبى اللبنانى لتوجهه ضد سوريا.
عاشرا: إن الولايات المتحدة أصبحت فى ورطة فيما يسميه المحللون الأمريكيون (المستنقع العراقى) وقد ازداد الشعور بالعداء والكراهية لأمريكا بسبب ما يعانيه الشعب العراقى من التدمير وحمامات الدم وإهدار الكرامة فى السجون، وتحتاج الولايات المتحدة إلى تخفيف حدة هذا الشعور بالعداء والكراهية وتوجيه أنظار الشعوب والحكومات العربية إلى مواقع أخرى غير العراق إلى أن تتمكن من تهدئة الأحوال وإعداد البلاد لتقبل استمرار الاحتلال الأمريكى فى العراق، واستمرار التواجد العسكرى فى القواعد الأمريكية فى أنحاء العالم العربى. ويخدمها فى تحقيق ذلك التهدئة فى الأراضى الفلسطينية وإعادة الأمل فى تحقيق السلام للفلسطينيين لتخفيف حدة الغضب العربى، وفتح جبهة جديدة للفوضى فى لبنان، بالإضافة إلى زيادة التوتر الذى سيحققه ذلك لسوريا، والأزمات التى يتم افتعالها للسودان.
ومنذ أيام كان وزير الدفاع الأمريكى فى العراق، وكانت وزيرة الخارجية فى إسرائيل.
هذا مجرد تفكير بصوت عال، أو هو مجرد استعادة للأحداث المتناثرة وتجميعها فى إطار واحد كما يحدث فى لعبة (البازل) التى يتعب الأطفال فى ترتيب أجزائها وأخيرا تظهر أمامهم الصورة كاملة.
وإذا سألتنى: من قتل الحريرى، ولماذا، سأجيبك: فكر أنت ، وقل لى من الفاعل الأصلى؟ ماذا جنى وماذا سيجنى على المدى الطويل؟