قيمة الحرية
لا نحتاج إلى شهادة أحد على وجود مساحة واسعة من الحرية، ويكفى أن نلقى نظرة على ما فى الصحف القومية من نقد وتعود فى الآراء حول كل القضايا تقريبا، كذلك يكفى أن نتابع ما يجرى فى ساحة الجدل والحوار فى الأحزاب، والتجمعات الشبابية، والجامعات والأندية الثقافية والسياسية لنرى أن الحرية الفكرية والثقافية والسياسية لم تعد تحدها قيود من أى نوع.
ولكن بعض الممارسات الجامحة والشاذة والمتجاوزة تفرض علينا أن نعيد طرح السؤال القديم: لماذا الحرية؟ وما قيمة الحرية؟.
والفكرة الأساسية أن الحرية ليست مطلقة بحيث يقول الموتور والمأجور ما يخدم مصالحه دون أن يخضع لحساب، لأن أول شروط ممارسة الحرية تقبُّل المسئولية، ولا يتحقق التوازن فى المجتمع إلا بالتوازن بين الحرية والمسئولية، فإذا تصور البعض أن لهم الحق فى ممارسة الحرية دون أن يخضعها ذلك للمسئولية القانونية أو الأخلاقية، أو الدينية، أو الاجتماعية، فإنهم بذلك يسعون إلى الانحراف بمفهوم الحرية إلى مفهوم آخر هو الفوضى والانحلال والتخريب.
وليس هناك خطر من أى نوع على حرية الرأى، بل إن هذه الحرية تلقى الاحترام، وإتاحة الفرصة للتعبير عن كل المواقف بصرف النظر على انتمائها الحزبى أو الفكرى، ولكن البعض يباهى بقدرته على الاعتداء على حقوق وحريات وكرامة الآخرين باسم الحرية، والبعض يتخذ الحرية ستارا يخفى وراءه مساعيه لتمزيق الوطن وإهدار قواه، والبعض باسم الحرية يعمل على التشكيك فى الأهداف القومية العليا، وهدم المبادئ الأساسية التى يقوم عليها المجتمع، والمفروض، أن تكون هذه الأهداف والمبادئ بعيدة عن الخلافات والمنازعات والتلاعب والمناورة، المفروض أن تكون محل اتفاق عام كما هو الحال فى كل المجتمعات المتحضرة.
والمفروض أيضا أن تحمى الحرية توازن المصالح بين فئات المجتمع، وتحمى أيضا توازن الحقوق والواجبات، وتعمق قيمة العمل والإخلاص، وتؤكد أهمية العدالة الاجتماعية، واستقرار المجتمع.
ولقد تأكد بما لا يدع مجالا للشك أن القيادة السياسية فى مصر تستمع إلى كل الآراء الموضوعية وترحب بكل الاجتهادات النزيهة المعبرة عن الولاء للوطن وحده بصرف النظر عن لونها الحزبى أو الفكرى مادام هدفها الصالح العام، ولم يحدث أن أبدت القيادة السياسية ضيقا بالنقد، أو ادعى أحد فى موقع المسئولية أنه فوق النقد.
أما حرية الصحافة فإن الحرص على ممارستها من جانب أصحاب الرأى، وتأكيد الحرص عليها من جانب القيادة السياسية.. لا يعنى السماح بالاعتداء على أخلاقيات العمل الصحفى وما يجب أن يلتزم به صاحب الرأى من الأمانة والتدقيق قبل إطلاق الأحكام والجرى وراء معلومات غير صحيحة، والحرية لا تعنى الحق فى اختلاق الوقائع ونشر الشائعات، وكذلك فإن الحرية لا تعنى العمل لخدمة أهداف ومصالح مشبوهة فى الخارج أو الداخل.
وفى الصحافة المحترمة نجد الالتزام بالقيم وتقاليد المهنة، وقد أشارت تقارير المجلس الأعلى للصحافة منذ سنوات إلى بعض الصحف التى تعمل على استخدام وسائل غير أخلاقية لزيادة التوزيع بنشر الشائعات، وتشويه الإنجازات التى يقتضى الإنصاف إبداء التقدير لما بذل فيها من جهد، وبالإساءة إلى الشخصيات العامة بغير دليل، وبالتركيز على موضوعات الجريمة والجنس بصورة منافية للذوق العام، وبالعناوين المثيرة والمضللة فى نفس الوقت، وإن كانت بعض هذه الصحف تلقى الرواج من فئة من القراء محدودى الثقافة والراغبين فى البحث عن الإثارة والتسلية، فإن هذا الرواج مؤقت، وسرعان ما يشعر قراؤها بالملل وعدم الفائدة، وفى تقارير المجلس الأعلى للصحافة أمثلة لما وصلت إليه بعض الصحف من الابتذال والترخص وما وصفته هذه التقارير بالانحدار الذى يمكن أن يؤدى إلى أزمة، كما تشير التقارير إلى أن السلبية فى مواجهة هذه الممارسات الهدامة لها نتائج تتعارض مع الصالح العام، ولا جدوى من السكوت عليها على أمل أن تغير أسلوبها، أو بسبب الخوف من الاتهام بالاعتداء على حرية الصحافة.
نحن إذن فى حاجة إلى إصلاح فى مجال الصحافة وحرية الرأى يعيد الأمور إلى نصابها، ولا يمكن أن يتم الإصلاح عن طريق السلطة أو القوانين، ولكن يتم الإصلاح من داخل المجتمع الصحفى ذاته، وبأداء نقابة الصحفيين لدورها فى حماية المهنة، وحماية المجتمع، ويكون الإصلاح بإعادة الضمير الوطنى والأخلاقى، وبذلك تتأكد قيمة الحرية وتكون سلاحا للتقدم والإصلاح، ودرعا يحمى الوطن من السهام الموجهة إليه.