طه حسين وسعد زغلول
كانت عودة طه حسين من بعثته فى باريس فى عام 1919 فى الوقت الذى كان فيه سعد زغلول هو زعيم الأمة، وكانت الجماهير تتسابق لتوكيله للتفاوض مع الإنجليز بالنيابة عنها لتحقيق الاستقلال للبلاد.
ولم يكن طه حسين بعيدا عن سعد زغلول ولا بعيدا عن أحداث الثورة وما بعدها، وإن كانت علاقته بسعد قد شهدت فترات قرب وفترات بعد وفترات خصومة بسبب الخلاف السياسى الذى أدى إلى انقسام البلاد فى أعقاب الثورة بين سعد زغلول وعدلى يكن. كان طه حسين فى سنواته الأولى منتميا بفكره إلى الحزب الوطنى الذى أسسه الزعيم الوطنى مصطفى كامل وكان فى ذلك متأثرًا بأستاذه الشيخ عبد العزيز جاويش وكان يكتب مقالات وقصائد فى الهجوم على سعد زغلول بتأثير عبد العزيز جاويش. وأثناء دراسة طه حسين فى باريس وصل سعد ورفاقه فاستقبله الطلبة المصريون فى فرنسا واعتذر طه حسين عن مشاركتهم فى استقبال سعد مبررًا ذلك بأنه لا شأن له بالسياسة والسياسيين، ولكنه بعد أن استقر سعد فى باريس ذهب هو وزوجته إلى مكان إقامة سعد ورفاقه وكان منهم أحمد لطفى السيد وعبد العزيز فهمى وهما من أقرب الناس إلى طه حسين. وفى هذا اللقاء سأله سعد: ماذا تدرس فى باريس؟
فأجابه طه حسين: أدرس التاريخ. فقال سعد: وهل تؤمن بصدق التاريخ؟ فأجابه طه حسين: نعم إذا احسن البحث عنه وتخليصه من الشائبات. فقال له سعد: أما أنا فيكفى أن أرى هذا التضليل وهذه الأكاذيب التى تنشرها الصحف فى أقطار الأرض ويستقبلها الناس من غير تثبت ولا تمحيص لأقطع بأنه لا سبيل إلى تنقية التاريخ من الشائبات، ولأقطع بألا سبيل إلى استخلاص التاريخ الصحيح، وانظر إلى ما ينشر عنا فى مصر وفى باريس وحدثنى كيف تستطيع أن تستخلص منه التاريخ الصحيح، وبعد ذلك قال له سعد: لقد أقبلنا إلى باريس والأمل يملأ نفوسنا فلم نقم فيها أياما حتى استأثر بنا اليأس.. قال له طه حسين: كيف تيأس وقد أيقظتم الشعب فاستيقظ ودعوتموه فاستجاب؟ قال له سعد: ماذا يستطيع الشعب أن يصنع وهو أعزل لا يستطيع الدفاع عن نفسه فضلًا عن أن يثور على أصحاب القوة.. واستمر الحوار.. قال طه حسين: الشعب الآن أعزل ولكنه سيجد السلاح غدًا. فقال سعد: وأين يجده. فأجابه طه حسين: إن الذين يهربون لنا الحشيش يستطيعون أن يهربوا لنا الأسلحة.. فأغرق فى الضحك وقال وهو ينهض: ألا تعلم أن الذين يهربون الحشيش هم الذين سيراقبون تهريب الأسلحة؟
ولم تترك هذه المقابلة الحوار أثرا طيبا فى نفس طه حسين بعد أن لمس فى زعيم الثورة نغمة اليأس ودوره أن يبعث الأمل والتفاؤل.
***
قبل ذلك بسنوات تعرض طه حسين لأزمة عندما قدم رسالته عن أبى العلاء المعرى إلى الجامعة فى مصر وحصل بها على الدكتوراة فتقدم عضو وفدى من أعضاء الجمعية التشريعية باقتراح بأن تقطع الحكومة المعونة المالية عن الجامعة لأنها خرجت ملحدا هو صاحب رسالة أبى العلاء، وكان سعد زغلول رئيسا للجنة الاقتراحات بالمجلس فدعا صاحب الاقتراح وطلب إليه أن يسحب اقتراحه فلما رفض قال له سعد: إذا بقيت على موقفك فسوف يتم تقديم اقتراح بقطع المعونة الحكومية عن الأزهر، وكان صاحب الاقتراح أزهريًا فاضطر إلى سحب اقتراحه، ويذكر طه حسين هذا الموقف لسعد زغلول المناصر لحرية الفكر وحرية البحث العلمى ويقول إن عليه دين لسعد لكنه لم يذهب إليه ليشكره كما اقترح عليه أحمد لطفى السيد وقال: سعد قام بواجبه.
وبعد سنوات ثارت أزمة كتاب الشعر الجاهلى وكان سعد زغلول رئيسًا لمجلس النواب وعدلى يكن رئيسًا للحكومة، وكان الرأى الغالب فى المجلس أن يفصل طه حسين من الجامعة ويحال إلى النيابة العامة، بينما وقف عدلى يكن معارضًا لهذا الاتجاه مع الاكتفاء بمصادرة نسخ الكتاب، وكان لموقف سعد الذى كان مؤيدًا للفصل والمحاكمة أثرا فى نفس طه حسين خاصة وأنه كان ينتمى إلى حزب الأحرار الدستوريين الذى يقف دائما فى معارضة حزب الوفد وزعيمه سعد زغلول.
***
وعندما كان سعد زغلول رئيسا للحكومة زادت القضايا والتحقيقات مع صحف المعارضة بتهمة القذف فى حق سعد والحض على كراهية النظام وصادرت الحكومة أعدادًا من جريد السياسة التى تنطق بلسان حزب الأحرار الدستوريين، وتم تقديم طه حسين للمحاكمة كما تم تقديم عدد من كبار الكتاب منهم حافظ عفيفى، وتوفيق دياب، والدكتور هيكل ولم يتوقف طه حسين عن الهجوم على سعد فى عدة صحف منها، الأهرام، والاتحاد، والاستقلال. ومن هذه المقالات مقال بعنوان «الديمقراطية أم الطغيان»، قارن فيه بين بين سعد زغلول وعدلى يكن قال فيه إن عدلى يمثل العقل والاتزان وسعد يمثل الاستبداد والإسراف، وإن عدلى يمثل مبدأ قيادة الجمهور بطريق القانون والديمقراطية وسعد يمثل الاستئثار بالقوة والاستبداد باسم الجمهور وسلوك الطرق المعقولة وغير المعقولة لإكراه الخصوم على الإذعان له أو تكميم الأفواه وعقد الألسنة. وفى مقالين بعنوان «ويل للحرية من سعد» قال فيها إن سعد رجل حر يعشق الحرية لكن ذلك لا يمنعه من أن يكون عدوا للحرية.. وسعد يعتبر نفسه وكيلًا عن الأمة فى كل شىء حتى فى قراءة الصحف.. ومع اشتداد الهجوم طلب سعد من النائب العام التحقيق مع صاحب هذه المقالات ولم يتوقف طه حسين عن الهجوم على سعد حتى بعد استقالة حكومته فى نوفمبر 1924 بعد حادث مقتل السردار البريطانى وكان يسخر فى مقالاته من «غرور» سعد ويسخر من أنصار سعد ويسميهم «الأذناب».
***
ومن المعروف أن سعد زغلول لم يكن على علاقة وثيقة بأحد من الأدباء والشعراء البارزين فى هذه الفترة ومنهم على سبيل المثال: حافظ إبراهيم الذى كتب قصيدة عبر فيها عن أمانى المصريين بتعيين سعد ناظرًا فى الحكومة، وبعد ذلك تغيرت وجهة نظر حافظ إبراهيم فكان يهاجم سعد زغلول فى مجالسه. وكذلك كان سعد زغلول مع أمير الشعراء أحمد شوقى، ولم يلتق مع مصطفى لطفى المنفلوطى مع أنه كتب فى مذكراته أنه تعجبه كتاباته التى ينشرها فى «المؤديد» وأنه يفكر فى تعيينه كاتبا للقسم العربى فى نظارة المعارف حين كان سعد ناظرا لها. لذلك لم يكن غريبا أنه لم يكن على علاقة مع طه حسين، كما كان طه حسين بحكم انتمائه السياسى يتخذ موقف المعارضة والهجوم على سعد.
وحدث أن التقى طه حسين بسعد فكان لقاء قصيرا ليس فيه ألا يضعه كلمات للمجاملة، وكان سبب هذا الفتور أن جماعة من تلاميذ الإمام محمد عبده نظموا احتفالا فى الجامعة لإحياء ذكراه وألقى طه حسين كلمة قال فيها إن مصر مدينة لثلاثة رجال أيقظوا الوعى فيها، ولا ينبغى أن ننساهم: أولهم الأستاذ الإمام الذى أحيا الحرية العقلية، والثانى مصطفى كامل الذى أحيا الحرية السياسية، والثالث قاسم أمين الذى أحيا الحرية الاجتماعية. وقرأ سعد ما نشرته الصحف من هذا الحديث فوجد أن طه حسين لم يذكره بين العظماء الذين ايقظوا الأمة فكان هذا سبب الفتور.
ويذكر طه حسين لقاء مع سعد فى بيت شوقى الذى دعا إلى حفل لاستقبال شاعر الهند العظيم «تانمور» وحضر الحفل كبار الشخصيات السياسية والثقافية والجامعية، فكان لقاء سعد مع طه حسين لقاء وديا هذه المرة، وبعد ذلك أراد بعض النواب الوفديين أن يعيد إثارة أزمة كتاب الشعر الجاهلى فرده سعد قائلا: لقد انتهى هذا الموضوع فلا معنى للعودة إليه.
هكذا كانت العلاقة بين الرجلين العظيمين فى مد وجزر، قرب وبعد، ودّ وجفاء، وطه حسين نفسه يصنف هذه العلاقة بأنها «كانت يسيرة فى ظاهرها عسيرة فى دخائلها وأنها جرّت عليه شرا كثيرا وأتاحت له - مع ذلك - خيرا كثيرًا!