هـل نتفـاءل..؟
الأجواء المحيطـة بقمة شرم الشيخ كانت تدعونا للتفاؤل. قيل إن إسرائيل تكبدت خسائر كبيرة خلال أربع سنوات من التعبئة العسكرية وفقدت الكثير من الأرواح وعاش شعبها فى جو من الرعب أفقدهم الشعور بالأمان، وبلغت خسائر الاقتصاد الإسرائيلى الحد الذى لم يعد يحتمل معه المزيد رغم المعونات والمساعدات والتبرعات التى تتدفق من أمريكا دون انقطـاع.
وقيل أيضاً إن الشعب الفلسطينى تحمل الكثير مما لم يسبق أن تحمله شعب تحت الاحتلال.. خسائر فى الأرواح.. وفى الاقتصاد.. وتدمير البيوت.. وتشريد العائلات فى العراء.. والحياة وسط نيران القوات الإسرائيلية وتحت رحمة الدبابات.. والولايات المتحدة ترى وتسمع ولا تتحرك.
من هنا كان لا بد من لحظة يواجه فيها الجميع الحقيقة.. لم يعد ممكنا أن يستمر القتل والتدمير والاغتصاب إلى ما لا نهاية.. فماذا حدث؟ لا شىء!
وفى مارس 2000 تفاءلنا بقمة شرم الشيخ التى حضرها الرئيس عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلى.. وأعلن رئيس الوزراء أن مرحلة العداء انتهت وجاءت مرحلة العلاقات الطبيعية بين الشعبين الفلسطينى والإسرائيلى للتعايش جنبا إلى جنب.. فماذا حدث..؟ لا شىء!
وفى أكتوبر 2000 عقدت قمة حضرها الرئيس الأمريكى كلينتون ورئيس الوزراء باراك والرئيس عرفات.. وقيل إن السلام هذه المرة سوف يتحقق وإن الوعود سوف تنفذ.. فماذا حدث؟ لا شىء!
وأخيرا..
لا بد من وقفة لالتقاط الأنفاس واستعادة القدرة على التفكير والعمل بهدوء.. أعطوا العمل السياسى فرصته بعد أن استنفد العمل العسكرى كل الفرص ولم يحقق شيئا.
من ناحية أخرى كانت الإدارة الأمريكية محتاجة إلى عمل لتخفيف مشاعر العداء التى تعمقت تجاهها لدى الشعوب العربية مما تفعله فى العراق، وتريد أن تشغل المنطقة بقضية جديدة تبعد التركيز عما يحدث فى العراق، خاصة أن الاحتلال الأمريكى بدأ فى اتخاذ الترتيبات للبقاء فى العراق سنوات سوف تطول.. وفى أحسن الأحوال لن تقل عن خمس سنوات كما أعلنوا.
والشعوب العربية تسودها حالة من التوتر والفوران بسبب ما تشاهده كل يوم من فظائع الاحتلال فى العراق والأراضى الفلسطينية وليس من مصلحة أحد أن يستمر هذا الشعور بالغضب الذى يتزايد يوما بعد يوم.
ومصر تتحرك دون توقف، وتجرى اتصالات ومباحثات من أجل وقف العنف والعودة إلى مفاوضات لإنهاء هذه الأزمة التى تشتد وتحولت إلى (التهاب حاد مزمن) حسب تعبير الأطباء، وتحتاج إلى جراحة ولم تعد المسكنات تصلح معها.
من هنا جاءت المبادرة المصرية لعقد هذه القمة فى شرم الشيخ، وليست هذه هى القمة الأولى، بل إن شرم الشيخ شهدت خمس قمم قبلها عقدت فى جو من التفاؤل وانتهت بوعود عن السلام العادل الذى أصبح قريبا، وعن الدولة الفلسطينية التى ستعيش جنبا إلى جنب مع الدولة الإسرائيلية. وقد حضر الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون قمتين، وألقى بيانات أشاعت جو الأمل فى أنحاء العالم كله وليس فى العالم العربى فقط، وأخيرا شهدت القمة التى حضرها الرئيس جورج دبليو بوش فى عام 2003 وانتهت بالمصافحة والوعد بتنفيذ خريطة الطريق.. وقال الرئيس بوش فى ختامها بصوت عال وبكل ثقة: أنا جورج دبليو بوش، أتعهد بالعمل على إقامة الدولة الفلسطينية قبل نهاية عام 2005، وقال وزير الخارجية الأمريكى بعدها: ثقوا فى هذا الرجل.. إنه لا يخلف وعدا..!
رغم كل ذلك ليس أمامنا إلا أن نرحب بهذه الخطوة لأن البديل هو استمرار التدمير والقتل والتشريد.
لقد انتهت القمة باتفاق على وقف العنف بين الطرفين الإسرائيلى والفلسطينى، وانسحاب الجيش الإسرائيلى من بعض المدن الفلسطينية التى احتلها بعد الانتفاضة، وبإطلاق سراح 500 من المعتقلين الفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية ووعد بإطلاق سراح 400 آخرين فى الدفعة الثانية دون تحديد موعدها.
لم تتطرق القمة إلى الموضوعات الرئيسية التى تمثل أسس إقامة السلام مثل قضايا: الحواجز العسكرية، والحدود، واللاجئين، والمبعدين، والأسرى، والجدار الفاصل، والمستوطنات التى ملأت الضفة الغربية من أولها إلى آخرها، على أن تكون هذه القضايا موضع بحث فى مفاوضات مقبلة.
هذه المرحلة إذن- كما حددتها أمريكا وإسرائيل- هى مرحلة تهدئة ووقف إطلاق النار، هى إذن مرحلة هدنة، ولذلك ركزت أمريكا على موضوع الأمن، وتركت الملف لجنرال أمريكى للإشراف على إعداد قوات الأمن الفلسطينية، ووعدت بمساعدة مالية عاجلة من أجل إعداد قوات الأمن الفلسطينية. ولم تحدد الإدارة الأمريكية مسئولا يمثلها لتحريك المسار السياسى والاشتراك فى المباحثات لبدء تنفيذ خريطة الطريق. وربما تفعل ذلك فيما بعد. ولكن الدور الأمريكى حتى الآن لا يعكس اهتماما جادا بالتوصل إلى مفاوضات وإجراءات فعلية على الأرض لتنفيذ خريطة الطريق وهى فى الأصل مشروع أمريكى.
قال شارون إن هذه القمة بداية لعهد جديد لكنه حدد هدفا وحيدا هو: تفكيك البنية الأساسية لمنظمات المقاومة الفلسطينية التى يسميها منظمات الإرهاب. وقال شارون إن عهدا جديدا من السلام والأمل قد بدأ. وفى الحقيقة لقد سمعنا هذه العبارة بالذات على ألسنة رؤساء وزارات إسرائيل منذ بيجن وشامير وبيريز ونيتانياهو وباراك.
وموقف مصر ثابت لا يتغير، أعلنه الرئيس مبارك فى مواجهة الجميع، كما فعل فى كل قمة وكل مناسبة، فإن رؤية مصر تتلخص فى ضرورة إقامة سلام دائم وعادل وشامل فى المنطقة كلها بما فى ذلك سوريا ولبنان.. هكذا كان موقف مبارك بكل صراحة ووضوح.
وكان قرار إعادة السفيرين المصرى والأردنى إلى إسرائيل رغبة فى فتح قنوات دبلوماسية على مستوى يسمح بمداومة الاتصال لمتابعة التقدم لتنفيذ خريطة الطريق.
بعد أربع سنوات من إراقة الدماء والمعاناة جاءت هذه القمة لتقول لنا: دعونا نأمل فى أن تكون هذه خطوة جديدة لبناء الثقة وإحياء مسيرة السلام.. وقيل لنا: أعطوا السلام فرصة جديدة.
فلماذا لا نعطـى السلام فرصة جديدة.. ونراقب.. وننتظر ما??سيحدث؟ فالعبرة بالأعمال وليست بالتصريحات.
دعونا نتفاءل.. ولكنه التفاؤل الحذر.
فلا يلدغ المؤمن من جحر ست مرات!! *