أدب الخلاف .. الفضيلة الغائبة
صديق قديم قضى سنوات طويلة بعيدا عن الوطن، ودفعه الحنين إلى قضاء إجازة مع أسرته فى مصر لكى يربط أبناءه بالجذور على حد تعبيره. قال وهو يتحدث عن انطباعاته إنه أخطـأ لأنه كان يقرأ بعض الصحف ويصدق ما فيها، ونتيجة لذلك كان يتصور أن كل شىء فى مصر أصبح سيئا، وكل إنسان أصبح فاسدا، وكل شريف أصبح مضطـهدا، وأن جو التوتر الاجتماعى يسود علاقات الناس وأنه كان يشعر بالقلق لأن كلمة (الاحتقان) تتردد كثيرا فى صحف معينة وبأقلام معينة ثم اكتشف أن هذه الصحف ليست سوى منشورات للدعاية السياسية المضادة أو المعادية التى يسميها خبراء الإعلام (الدعاية السوداء).
قال صديقى: لكثرة ما قرأت فى هذه الصحف تصورت أن الناس فى مصر تضرب بعضها فى الشوارع، وإنهم يقفون طوابير للحصول على رغيف العيش أو علبة كبريت، وإنهم لا?يجدون الماء النظيف ليشربوه، ولا تصل إليهم الكهرباء ليعيشوا كسائر البشر، وكانت المفاجأة أن وجدت المحلات والسوبر ماركت مليئة بالبضائع، والناس تشترى، والمطاعم مزدحمة، والمصريون ينفقون أموالا كثيرة فى الأكل خارج بيوتهم، والشباب فى مصر أصبح مثل الشباب الأوروبى فى ملابسه وإقباله على الساندويتشات غالية الثمن.. وحين ذهبت إلى الريف لزيارة أقاربى وجدت القرية المصرية فيها الماء النظيف والكهرباء والطرق والمدارس والمستشفى والصيدلية وعيادات الأطباء ومكتبة عامة وأكثر من مقهى يسهر فيه أهل القرية ويشاهدون البرامج الغنائية الراقصة فى الفضائيات.. وباختصار اكتشفت أن هذه الصحف تكذب وتضلل، وأن الحياة فى مصر فى عمومها الآن أفضل مائة مرة عما كانت عليه.
وكانت ضمن ملاحظات صديقى أن معظم الأحزاب فى مصر ليست أحزابا بالمعنى العلمى. وهى مجرد تجمع من مجموعة ممن يجيدون الكلام والصراخ، ولديهم صحيفة يملأونها بالشتائم والاتهامات، ولا يقومون بالدور الحقيقى للأحزاب السياسية. قال صديقى خذ إيطاليا مثلا، فهى بلد تتعدد فيه الأحزاب، وبرامج الأحزاب بينها اختلافات كبيرة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ويشهد البرلمان فيها جولات من الصراع الملتهب بين الحكومة والمعارضة، ومع ذلك فإن الخلافات السياسية لا تتحول أبدا إلى عداء شخصى، ولا تدعو إلى اختراع اتهامات غير حقيقية لمجرد الإساءة إلى الخصوم السياسيين، والخلافات تدور فى إطار حوار سياسى رفيع المستوى، خصوصا إذا كان الحوار يمس الأمن القومى أو المصالح العليا للبلد.
وحكى لى صديقى عن واقعة حدثت منذ سنوات بعيدة ومازال الناس يذكرونها على أنها درس فى أصول العلاقات السوية بين المختلفين فى القضايا السياسية.
فقد حدث أن زعيم الحزب الشيوعى-وكان اسمه برلنجوير-أصيب بنزيف فى المخ وكان فى جولة بعيدا عن العاصمة روما، ونقلوه إلى المستشفى وتوفى بعد أيام، فاكتشفوا أن رئيس الجمهورية-وكان وقتها ساندرو برتينى-وهو أكبر خصم سياسى للزعيم الشيوعى كان قد حجز لنفسه غرفة فى المستشفى بجوار غرفته يشرف بنفسه على علاجه، وحين مات نقل جثمانه على طائرته الخاصة إلى روما، وقال: سأصحبه كابن وصديق ورفيق نضال لسنوات طويلة، وكان هذا أيضا هو موقف سكرتير عام الحزب المسيحى الديمقراطى أكبر خصم سياسى للزعيم الشيوعى، ووقف ينعى الزعيم المعارض فقال: إن خلافنا معه فى الرأى لا يمنعنا من الاعتراف بأنه كان مخلصا فى محاولاته الدائمة للارتفاع بمستوى المناقشات السياسية، وإنه كان يضع مصلحة البلد فوق كل اعتبار وقبل مصلحة حزبه.
قال صديقى: هل تعرف رد الفعل لدى المراقبين فى الخارج على ذلك؟. لقد كتبت يومها الصحف فى ألمانيا وفرنسا تقول كيف يلقى كل هذا التكريم زعيم لحزب معارض قوبل باستهجان منذ شهر واحد فى مؤتمر الحزب الاشتراكى، بحيث تقرر جميع الأحزاب وقف الحملة الانتخابية التى كانت محتدمة فترة حدادا على وفاته؟، وحتى زعيم الحزب الفاشى الجديد ذهب لإلقاء نظرة تكريم على من كان بالأمس هو (العدو السياسى) وحتى أعضاء حزبه الذين اختلفوا معه وطردهم من الحزب شاركوا فى تكريمه، وحتى الفاتيكان-العدو التقليدى للفكر الشيوعى-أصدر بيانا ينعى فيه الرجل وقال البيان إنه كان رجلا يحظى بالتقدير بسبب جدية التزامه وإخلاصه لبلده.
قال صديقى: هذا هو الدرس. أن يتعلم كل إنسان أن هناك فرقا بين أن أرفض فكرة من أفكارك، أو أرفض أفكارك كلها، وأرفض موقفا لك أو أرفض مواقفك كلها، وبين أن أرفضك أنت نفسك كشخص، وكإنسان، وأن يصل الخلاف أو الرفض إلى حد الكراهية أو العداء، هذا هو السلوك غير المتحضر. السلوك المتحضر هو أن تفرّق بين الفكرة وصاحبها، توجه النقد إلى الفكرة كما تريد وتصل فى نقدها إلى آخر المدى، ولكن لا يصل الأمر إلى تجريح الشخص صاحب الفكرة.. من الممكن أن يختلف الناس.. ومن الطبيعى أن يختلف الناس.. وفى شئون البلد والمصلحة العامة لابد أن يختلف الناس.. لأن الاختلاف فى وجهات النظر هو الذى يوصل إلى الصواب.. ولكن الخلاف الفكرى والسياسى يجب ألا يؤثر فى العلاقات الشخصية والإنسانية وتبادل الاحترام.. لأن المفروض أن الخلافات السياسية ليست خلافات شخصية.. ولكنها اختلافات فى الاجتهادات، وليس معنى اختلاف الواحد عن الآخر سببا لاتهامه فى إخلاصه ووطنيته أو توجيه الشتائم إليه وكأن الحوار السياسى حرب بأسلحة الدمار الشامل على شخصيته وكرامة الآخر.
قال صديقى: لا أخفى عليك، فأنا راجع من مصر وأنا أشعر بالقلق على الأجيال الجديدة مما قرأته وشاهدته، إنهم يزرعون فى الشباب الغضب.. والرفض.. والكراهية.. إنهم يزرعون فيهم التعصب واستباحة شخصية وكرامة كل من يختلف معهم.. إنهم يعلمون الشباب دروسا فى إهدار قيم وأخلاق لا تستقيم الحياة الاجتماعية أو الحياة السياسية بدونها.
قلت لصديقى: عندى أمل فى أن تنتهى هذه الهوجة، ويظهر العقلاء فى الساحة، وتعود قيم الاختلاف إلى مكانها، وأتذكر أن المفكرين المصريين فى الزمن الماضى كانوا يتفقون على أن يختلفوا لكى يكون الخلاف حوارا بين الأفكار هدفه توضيح الزوايا المتعددة للموضوع الواحد، وإعطاء المتابعين لهم فرصة للمشاركة بالتفكير وتكوين الرأى بعد التعرف على كل الآراء.. ومازلت أذكر أن طه حسين اتفق مع أحمد أمين على مناظرة بينهما حول موضوع هل الحرب مفيدة لتقدم البشرية؟. واختار طه حسين أن يكتب عن فوائد الحروب فى تقدم العلوم والصناعات والفكر الإنسانى، واختار أمين أن يكتب مقالات عن الخراب الذى سببته الحروب على امتداد التاريخ، وكان هدفهما إثارة عقول القراء، وتعليمهم أن كل فكرة لها نقيض، وليس هناك من يدعى احتكار الحكمة أو أنه يملك الحقيقة المطلقة، فالحقيقة دائما نسبية، وكان الإمام الأعظم أبو حنيفة يقول: رأيى صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب. وكان الإمام مالك يقول: إنما أقول الرأى وفق ما وصل إلىّ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كان لديه غيره فليدلنى عليه، وحتى عندما أراد الخليفة أن يجعل موطأ الإمام مالك هو الفقه الوحيد ويلغى كل ما عداه، رفض الإمام مالك، وقال إن من طبيعة البشر أن تختلف آراؤهم.. وكان القدماء يقولون: إن الخلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية.
قال صديقى: أنت تتحدث عن الماضى، وأنا أتحدث عن الحاضر. وسلام عليكم.
قلت: لا .. أنا أتحدث عن المستقبل.