خواطر فى رحلة العمر
مضت سنوات على آخر مرة أكرمنى فيها الله بأداء فريضة الحج، ومازالت أذكر الرجفة التى كنت أشعر بها تهز كيانى وتكاد تخلع قلبى كلما دخلت البيت الحرام ووقع نظرى على الكعبة.
ومازلت مأخوذا بهذا الشعور الذى كان يشدنى إلى الكعبة، بحيث لا أستطيع أن أحول نظرى عنها، وكنت أجلس أمامها -ونظرى وقلبى مشدودان إليها بالساعات- غائبا عن كل ما حولى، لا أسمع ولا أرى شيئا إلا هذا البناء الصغير الذى تغمرنى السعادة بالفناء فيه.
ومازلت مشغولا بأسئلة لم ترد إلى ذهنى إلا بعد أن عدت من هذه الرحلة المفعمة بالسعادة الروحية.. مثل لماذا اختار الله هذا المكان بالذات دون سائر الأمكنة ليكون فيه بيته الحرام؟ ولماذا جعل الله الحج إلى هذا البيت فريضة واجبة لا يكتمل بدونها إسلام المسلم القادر على أدائها؟ ولماذا جعل الله الحج فى موعد محدد لا يخلفه، ولا يجوز فى أى وقت سواه، وإلى أماكن محددة، وبملابس محددة، وبطواف وسعى ووقوف بعرفة وجمع حصوات من مكان محدد، لإلقائها على إبليس فى يوم محدد؟ فهى إذن ليست مجرد زيارة إلى أماكن مقدسة، ولكنها بكل تفاصيلها رحلة مقدسة، كل شىء فيها محدد ومقرر، والملايين يتوافدون من أنحاء العالم ليقوموا بنفس الأعمال، ويلتزموا بنفس الأماكن والمواقيت.
كنت مذهولا عندما التقيت بأحد العلماء المصريين هو الدكتور كمال الدين حسين، وقدم فى دراسة بالكمبيوتر تثبت أن الكعبة هى نقطة المركز للأرض.
وكنت مذهولا عندما أتعلق بباب الملتزم فأجد نفسى أبكى كطفل وجد نفسه فى أحضان أمه بعد أن كان تائها وحده..وكنت مذهولا عندما أجد نفسى أناجى ربى باللغة العربية وإلى جانبى من يناجى ربه بالإنجليزية والإيطالية والأوردية والصينية والفارسية وبكل لغات العالم.. وأقول: سبحانك يارب، هؤلاء يتوجهون إليك بالمناجاة بلغات مختلفة، وجاءوا من كل فج عميق تلبية لندائك، وأنت سبحانك تسمع وتجيب دعوة كل داع منهم.
قلت لنفسى: هى رحلة الروح إلى خالقها. هى لحظات من خارج الزمان. يتخلص فيها الإنسان من قيود الحياة وأطماعها التى تكبل أقدامنا وتطمس عقولنا وتطلق الشر فى نفوسنا وتثقل خطواتنا.. لحظات ننسى فيها الدنيا وما فيها من صراعات وأطماع.. هى لحظات نرتفع فيها عن الصغائر ونحلق فيها فى السماء بعد أن التصقنا بالأرض طويلا وغطانا ترابها.. شغلتنا الدنيا بأكثر مما يجب.. تصورنا أن النعيم فى الدنيا.. وأن غاية الإنسان أن يمتلك من المال والأشياء دون أن تقف أطماعه عند حد.. وأطماع الإنسان بلا نهاية.. ولذلك أراد الله أن يكتب علينا رحلة هى أشبه برحلة الموت.. نغادر فيها دنيانا إلى عالم آخر.. على أمل أن نعود من هذه الرحلة بروح جديدة بعد أن غفرت ذنوبنا وكأننا ولدنا من جديد.
ارتاحت نفسى إلى هذه الفكرة: رحلة الحج أشبه برحلة الموت. رحلة الموت نغادر فيها الدنيا ولا نعود إليها. قد يتذكرنا أحبابنا بعدها لفترة ثم ينتهى ذكرنا وكأننا لم نكن ولم نمر بالدنيا.. تختفى مع الزمن آثار أقدامنا ولا يبقى منا إلا ما فعلناه من خير أو شر لنأخذ جزاءنا عليه من الحاكم العادل الذى لا ينحاز، ولا يظلم أحدا. فى رحلة الموت ينقطع عملنا.. لا نستطيع تدارك أخطائنا.. ولا ينفع أن نقول لأنفسنا: لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير.. فقد انتهى كل شىء.. وقضى الأمر.. وأسدل الستار على الغرور والجشع وأوهام القوة التى كانت تملؤنا.. وانتهت قدرتنا على الخداع والانتقام والتهرب من لقاء الله.. جاء وقت الحساب خرجنا من الدنيا وتركنا كل ما جمعناه.. وكل من أحببناه.. وكل من كرهناه.. تركنا أولادنا وكنا نظن أنهم لن يستطيعوا الوقوف فى الحياة بدون الاستناد إلينا، ولكنهم عاشوا بعدنا وواجهوا الحياة بغيرنا.. وهذا هو الغرور الذى يجعلنا نتصور أننا الضمان لأبنائنا وننسى أن الضمان أكبر منا.. الله وحده.. هو الذى يرزقهم وإيانا وبموتنا لن تقف عجلة الحياة عن الدوران.. تركنا كل ما نملك لأننا فى الحقيقة لا نملك شيئا.. المال الذى جمعناه ليس ملكا لنا ولكننا مستخلفون فيه.. نحن وكلاء.. وحراس.. وسوف يسألنا الله من أين اكتسبنا هذا المال وفيما أنفقناه.. المالك الأصلى سوف يسألنا عما فعلناه بما يملكه.
وهكذا ننتقل بالموت من حال إلى حال. قبل الموت كانت وجهتنا الأرض وما عليها، وبعد الموت تصبح وجهتنا الله. ولا نحصد إلا ما زرعناه.. ولقد نبهنا رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى أن الدنيا مزرعة الآخرة.. ولكننا لم نفهم؟!
وهكذا تبدو لى رحلة الحج. تترك أهلك وأحبابك وأولادك. وتترك أموالك وأعمالك. تترك منصبك. وتترك غرورك وزهوك بنفسك وبما تملك، وتذهب إلى الله لتقف بين يديه عاريا.. أين الحرير؟ وأين الذهب؟ وأين الخدم..؟ وأين الأملاك والسيارات والسلطة؟ كل ذلك أصبح وراءك.. وأنت تقف أمام الله فى لباس أشبه بأكفان الموتى.. وترفع يديك مع الملايين من أمثالك تشعر بالذل.. تشعر أنك صغير.. لا تساوى شيئا.. تطوف حول مركز الأرض وكأنك جزء من ذرة تدور حول محورها.. أنت لا تساوى ذرة.. أنت جزء من ذرة.. أنت واحد من آلاف الملايين الذين يعيشون اليوم ويموتون غدا ويولد غيرهم.. وهكذا تدور دورة الحياة منذ ملايين الملايين من السنين.. فكم تساوى أنت وأنا وسط كل هؤلاء البشر.. بل كم تساوى وسط مخلوقات الله فى الأرض والسماء؟ فى هذه الرحلة تعرف حجمك.. تعرف قدرك.. تعرف حقيقتك.. ومع ذلك أكرمك ربك وجعلك خليفة له فى الأرض، فهل أدركت قيمة هذا التكريم؟ وهل تستحقه؟
ولأن الله كريم لا يرد ضيفه خائبا حتى ولو كان ظالما.. حتى ولو كان عاصيا.. حتى ولو كان مجرما.. من يتوب توبة مخلصة يتوب الله عليه فيعود نقيا من الذنوب كما ولدته أمه.. وهذه هى رحمة ربنا.. الحج فرصة لإغلاق ملف الذنوب بشرط ألا تفتحه مرة أخرى‍!
تعود من الحج كما ولدتك أمك. نقيا. طاهرا. ولكن كيف ستكون بعدها؟ هل ستعود بلقب تزهو به على الناس ليقولوا لك يا حاج فلان؟ هل ستعود وقد تصورت أنك أديت الفريضة وانتهى الأمر وتواصل حياتك كما كنت تعيشها قبل رحلة التطهر فتلوث نفسك بالذنوب مرة أخرى؟ هل تنكص على عقبيك وتخلف ما عاهدت الله عليه ألا تعود إلى المعاصى أبدا؟ أو هل ستعود إنسانا جديدا.. خاض تجربة الموت وكتب له الله بعدها حياة يكتب فيها صفحات تنفعه فى آخرته ويرضى بها ربه الذى وقف بين يديه فى رحلة الحج عاريا يبتهل إليه ويتذلل نادما على ما فعل وسيقف مرة أخرى بين يديه عاريا حيث لا ينفع الندم، فى يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت؟!
مضت سنوات على رحلتى للحج ومازالت أعيش كل مشاعرها وخواطرها.
لا زلت أذكر رحلتى إلى المدينة المنورة، والشوق يملأ قلبى للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومشاهد البطولة والنبل والرجولة تتراءى أمامى على رمال الصحراء وقمم الجبال.. هنا.. فى هذه المدينة الصغيرة، أسس الرسول عليه الصلاة والسلام دولة استمرت قرونا ولم تندثر كما اندثرت الإمبراطوريات.. لأنها تأسست على العدل والإيمان.. وشارك فى تأسيسها رجال عاشوا وماتوا من أجل المبادئ وليس من أجل المغانم.. رجال فيهم قوة بغير عنف، ولين بغير ضعف، فيهم الرحمة والإخلاص.. يا ليتنا نعود إلى عصر العدل والإخلاص! ويا ليتنا نعود إلى دروس محمد عليه الصلاة والسلام الذى بعثه الله ليكون قدوة ونموذجا، يجسد حقيقة الإسلام، والمفروض أن نفعل ما كان يفعله.. ونعيش كما كان يعيش.. بالخلق والمبادئ والإخلاص لله فى كل قول وكل عمل حتى نكون مسلمين حقا.
هى رحلة مذهلة.. ملايين جاءوا من كل أنحاء الدنيا.. لغاتهم و ألوانهم وعاداتهم ومذاهبهم مختلفة.. وكلهم مسلمون.. رب واحد.. قبلة واحدة.. وكتاب واحد.. ورسول واحد.. ومبادئ واحدة.. وكلهم يطوفون حول بيت واحد.. ويسعون بين الصفا والمروة.. ويقفون على عرفات.. ويلقون الجمرات.. ويرددون نفس الأدعية.. والكتف فى الكتف فى صفوف متراصة أثناء الصلاة.
وهذا هو المعنى الكبير لرحلة التوبة.. إن أمتنا أمة واحدة، فهل نفهم الدرس؟ وهل ندرك هذه المعانى؟ وهل نغير أنفسنا لكى يغير الله ما حل بنا؟!
هل نفهم لماذا جعل الله رحلة الحج فريضة مفروضة علينا مرة واحدة فى العمر؟ ولماذا حج الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واحدة؟! ليس واجبا على المسلم أن يكرر الحج. ولكن مطلوب منه أن يحج مرة ويعيش بقية عمره ملتزما بما عاهد الله عليه فيها.
هل نفهم؟!
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف