المواطن الأمريكى ضحية التخبط فى السياسات والمعلومات
الأمريكيون يتساءلون: هل ستنتصر أمريكا فى النهاية فى هذه الحروب التى تكلفها الكثير؟.
رالف بيترز، الباحث السياسى الأمريكى له كتاب بعنوان (الحرب من أجل المستقبل) قال: إن أمريكا تواصل الحرب على الذين يهاجمون المصالح الأمريكية وتعتبرهم أهدافا عسكرية، وعلى أمريكا ألا تكتفى بالانتصارات التى تحققها مخابراتها وتظل فى استخدام قواتها المسلحة، وفى تشجيع الدول الغربية على المشاركة معها فى هذه الحرب الطويلة على (القاعدة) واعتبارها هى الخصم العسكرى، ويرى رالف بيترز أن جهاز العمليات السرية فى المخابرات الأمريكية كان يعمل بمفرده ضد (القاعدة) منذ عام 1995 ولم يكن فى استطـاعته القضاء على جميع عناصره وإن كان قد نجح فى كسب الوقت إلى أن تستكمل القوات الأمريكية استعداداتها، أما الآن فلم يعد لهذا الجهاز قدرة على إنجاز أكثر مما أنجزه بعد أن فقد فاعليته فى أفغانستان!
ويعلق رجل المخابرات الأمريكية مايكل شيوار فى كتابه (لماذا يخسر الغرب الحرب على الإرهاب؟) بأن تأثير جهاز المخابرات الأمريكية لم يعد له فاعلية كبيرة بالفعل لأن الإدارة الأمريكية تعتقد أن إدارة الحرب يمكن أن تتم وفقا لنموذج بطولات الغرب الأمريكى، حيث يتم إرسال ضباط الاستخبارات الأمريكية إلى الخارج، وينتظر منهم دائما أن يعودوا بالشخص المطلوب حيا أو ميتا، ولم ينجح هذا الأسلوب فى القضاء على أية جماعة إرهابية خلال الخمسة والعشرين عاما الماضية، ولن ينجح أبدا مع منظمة مسلحة وكبيرة ومدربة مثل تنظيم القاعدة، وكلما تم القبض على واحد أو عشرة أو قتلهم يظهر غيرهم. وقد أثبتت القاعدة قدرتها على تجنيد عناصر جديدة، وقد عبرت عن ذلك صحيفة (سبكتاتور) فى يونيو 2003 فقالت:إن المشكلة هى أنه كلما تم القبض على قائد مهم فى القاعدة يتم إحلال غيره مكانه دون أن تتأثر المنظمة على الإطلاق.
والمخابرات الأمريكية لم تنجح لأنها تعمل دون تحديد من السلطات العليا لعدد الأشخاص الذين يطلب منها مطاردتهم والقبض عليهم أو قتلهم حتى يمكن معرفة قيمة ما تنجزه.. وهل يمثل انتصارا حقيقيا؟.. وبالإضافة إلى ذلك فإن السلطات الأعلى تحدد مناطق معينة لعمل المخابرات، كما فعلت عندما حددت المنطقة الضيقة بين إسلام أباد فى باكستان وعمان فى الأردن، وتمت عمليات اعتقال وقتل وتفكيك للخلايا فى مناطق بعيدة مثل المغرب، وتايلاند، ونيويورك، فكان انتصـار المخابرات فى هـذه المنطقـة فقـط، ولكن القـادة أعلنوا أنه تمت هزيمة (القاعدة) وصدق ذلك بعض الباحثين. حتى أن الاستراتيجى المعروف (إدوارد لوتواك lutwack) قال فى سبتمبر 2003 إن (القاعدة) لم يعد لها وجود كجماعة نشطة، بينما كانت القاعدة موجودة فى تسعين دولة (!) وربما تكون أكثر عناصرها قد هربت فى المنطقة الجغرافية بين إسلام أباد وعمان، إلا أن أمريكا لم تستطع القضاء على عناصرها التى كانت منتشرة فى أماكن أخرى.
***
يلخص مايكل شيوار الموقف الأمريكى فى الحرب على (القاعدة) كما يلى:
هجمات فعالة وقوية وعنيفة ضد القاعدة فى جزء صغير من العالم، يقابلها نجاح محدود للقاعدة فى أماكن أخرى، وفشل أمريكا فى بعض المناطق فى القضاء على (القاعدة)، وعبر عن ذلك ستيفن سيمون ودانيال بنيامين فى مقال فى نيويورك تايمز بقولهما: إن أمريكا كانت محظوظة عندما أمسكت بعض القادة البارزين، ولكنها مازالت تفتقد وجود برنامج شامل للتعامل مع المقاومة المتزايدة فى أنحاء العالم، والتهديد طويل المدى من الجماعات الإسلامية الراديكالية، وهؤلاء لا يكفى القضاء عليهم بالمخابرات، وأن ما تفعله أمريكا لم يوقف نمو (القاعدة) فى المناطق التى كانت متواجدة فيها.. بل التواجد فى مناطق جديدة لم تكن موجودة فيها قبل الحرب الأمريكية، فقد كانت موجودة فى مناطق مثل الصومال، والشيشان، وكشمير، والدول الجديدة فى وسط آسيا ودول أوربا الغربية والولايات المتحدة، وكندا، واليمن، والسعودية، وبعد الحرب الأمريكية فى أفغانستان زاد تواجد ونشاط القاعدة فى دول أخرى مثل: الفلبين، وإندونيسيا، والمغرب، وهكذا فإن الانتصارات التى أحرزتها المخابرات الأمريكية فى المنطقة الواقعة بين إسلام أباد وعمان لم توقف نمو (القاعدة) فى أماكن أخرى.. بل إن الحرب الأمريكية فشلت فى القضاء على تواجد (القاعدة) من أية دولة من الدول التى كانت موجودة فيها قبل 11 سبتمبر 2001.
وينقل مايكل شيوار عن عبد البارى عطوان رئيس تحرير صحيفة (القدس) التى تصدر فى لندن فى أغسطس 2002 قوله: إن أغلبية الشعب السعودى يناصرون الشيخ أسامة بن لادن ويعتبرونه بطلا شعبيا نجح فى تسديد ضربة قوية للولايات المتحدة النصير الأول للعدوان الإسرائيلى ضد الشعب الفلسطينى. ويشير شيوار أيضا إلى استطلاع للرأى شاركت فيه الحكومة الأمريكية ونشرت نتائجه فى عدد ربيع 2002 من مجلة (ناشونال انترست National Interest) أظهر أن أكثر من 95% من السعوديين عمرهم بين 25 و41 عاما أعربوا عن تعاطفهم مع أسامة بن لادن.
ويقول مايكل شيوار: إنه تم العثور على جهاز كمبيوتر للقاعدة بعد سقوط كابول عام 2001، وكان يحتوى على مجموعة وثائق سعودية سرية، منها مذكرات مكتوبة بخط اليد لعميل سرى سعودى، وأذاعت قناة الجزيرة حديثا مع سعد الفقيه المنشق السعودى الذى يعيش فى لندن والذى أدرج اسمه منذ أيام على قائمة الإرهاب الأمريكية، وقال فى حديثه: إنه يوجد فى أجهزة الأمن السعودية من يساندون أسامة بن لادن (!) وادعى الخبير المتخصص فى شئون القاعدة (روهان جوناراتنا Roham Gunaratna) أن للقاعدة عملاء فى الدوائر السياسية والأمن والاستخبارات فى السعودية ودول عربية أخرى (!).. ويقول شيوار إن هناك احتمالا أن تكون بعض كوادر (القاعدة) قد عادت إلى السعودية فى منتصف عام 2003، ويستشهد بتصريح للأمير نايف وزير الداخلية السعودى قال فيه: إنه يعلم أن عددا محدودا من المقاتلين ربما تم تدريبهم فى المزارع ومناطق أخرى داخل المملكة، ويفسر مايكل شيوار بذلك الأحداث غير المسبوقة فى السعودية وهجمات قوات الأمن فيها على معاقل المتشددين فى الرياض ومكة وجدة ومدن أخرى، وقد قتلت بعضهم وألقت القبض على البعض الآخر وعثرت على كميات كبيرة من الأسلحة..
يخلص رجل المخابرات الأمريكية من ذلك إلى أن أمريكا تواجه الازعاج المتزايد فى الدول العربية التى تعتمد عليها فى البترول،ويشير إلى إن إعلان أحد قادة القاعدة واسمه (أبو محمد الأبلج) بعد تفجيرات الرياض فى مايو 2003، إن القاعدة تمتلك كميات كبيرة من الأسلحة والمتفجرات فى دول الخليج، ومستعدة لتنفيذ مثل هذه العمليات لكى نجعل أجهزة الأمن فى حالة تشوش وبعدها نضرب ضرباتنا الأقوى!
***
ثم ينتقل رجل المخابرات إلى توسع شبكة القاعدة فى استخدام الانترنت ويدعى وجود القاعدة فى شمال العراق قبل أحداث 11 سبتمبر، ويستشهد بما نشرته صحيفة نيويورك تايمز عن وثائق عثرت عليها القوات الأمريكية على جهاز كمبيوتر للقاعدة فى كابول عن زيارة قادة جماعات كردية إسلامية متشددة من شمال العراق إلى أفغانستان فى عامى 2000 و2001 واجتمعت مع ممثلين عن القاعدة وعن طالبان، كما يدعى رجل المخابرات الأمريكية وجود عناصر للقاعدة فى لبنان التى ظلت موطنا لحزب الله الشيعى، ويقطع بكذب ادعاءات بعض السياسيين والمحللين الأمريكيين عن وجود علاقة بين حزب الله وتنظيم القاعدة، ويزعم وجود القاعدة فى لبنان بهدف الاقتراب من مسرح الصراعات فى العراق والأراضى الفلسطينية، وذلك لتحقيق هدف القاعدة الذى أعلنه (أبو عبيد القرشى) فى صحيفة الأنصار التى تعبر عن القاعدة،وذلك فى أحد أعدادها فى أكتوبر 2002 بقوله: (إننا إذا كنا نريد مساعدة الانتفاضة فإن واجبنا ألا نساعدها بالكلام، ولكن بمحاولة اختراق الحدود وإدخال أسلحة وتنفيذ عمليات عسكرية ضد الصهاينة وأنصارهم)، ولكن رجل المخابرات الأمريكية يؤكد مع ذلك أن القاعدة لم تنفذ أية عملية ضد إسرائيل من لبنان، ولكن اغتيال عبد الستار المصرى أحد قادة تنظيم الجهاد على يد المخابرات الإسرائيلية (الموساد) أو أحد عملائها الفلسطينيين فى مارس 2003، بينما كان فى مخيم عين الحلوة، دليل على انتشار القاعدة وحلفائها.
***
ويركز الكتاب على عامل من أهم العوامل فى الحرب الأمريكية فى أفغانستان والعراق وغيرهما، وهو الاستنزاف المستمر للاقتصاد الأمريكى، وهذا العامل تتعمد الإدارة الأمريكية تجاهله رغم أنه يمثل الجهد الرئيسى فى حرب القاعدة على أمريكا، وقد كتب أبو عبيد القرشى فى صحيفة (الأنصار) تحت عنوان (درس فى الحرب) مقالا تحدث فيه عن اتباع القاعدة مبدأ مؤسس علم الاستراتيجية (كلاوزيفتسى) وهو (مهاجمة مركز الثقل أو نقطة القوة للخصم)، وقال: إن القاعدة درست حرب فيتنام ضد القوات الأمريكية، ووجدت أن قادة فيتنام أدركوا أن الشعب الأمريكى هو القوة التى يمكن الاعتماد عليها، وعندما تزداد أعداد القتلى من الشباب الأمريكى سوف تنتهى الحرب بانتصار فيتنام،وقال القرشى: إن القاعدة حفظت هذا الدرس عن ظهر قلب وإن كانت تعتقد أن (مركز الثقل أو نقطة القوة) لأمريكا فى الوقت الحالى هى:الاقتصاد، وقد دمرت هجمات 11 سبتمبر الاقتصاد الأمريكى ولم يسترد عافيته إلا بعد ثلاث سنوات، ولكن حجم الإنفاق الهائل على الحروب يستنزف الاقتصاد الأمريكى، وكذلك فإن تزايد تكلفة إجراءات الأمن وشراء المعدات والتدريب ورفع مستوى التأهب وتشديد الحراسات وإجراءات الأمن فى المطارات والطائرات والمبانى والمواقع المهمة.. وزيادة أعداد العاملين فى هذه المجالات.. وإنشاء وزارة جديدة للأمن الداخلى.. وإنشاء معتقلات وسجون.. كل ذلك يضيف أعباء مالية على أمريكا تؤثر حتما على اقتصادها، هذا بالإضافة إلى الإنفاق العسكرى الهائل خاصة بعدأن اكتشف القادة عدم كفاية المعدات والتدريب والقوات.
يخلص رجل المخابرات الأمريكية إلى أن أمريكا منذ أعلنت الحرب على الإرهاب عام 2001 لم تحقق النصر حتى الآن، وتزايدت خسائرها البشرية والمالية، ومازالت تتحدث عن تهديات بشن هجمات عليها فى الداخل.
كتب أبو عبيد القرشى فى (الأنصار) يقول: (إن إجهاض الاقتصاد الأمريكى حلم يمكن تحقيقه) ويعلق مايكل شيوار على ذلك بقوله: (ربما يكون محقا فى ذلك)!
***
يقول مايكل شيوار إن من يصدق الإعلام الأمريكى سوف يعتقد أن أمريكا انتصرت فى الحرب فى أفغانستان والعراق وفى غيرهما، وقد جمعت بعض العناوين عن تصريحات القادة الأمريكيين فكانت كما يلى: انتصار فى أفغانستان- تم تدمير القاعدة- أسامة بن لادن والزرقاوى يرتعدان الآن فى الكهوف الأفغانية- سوف يتم الإمساك بفلول القاعدة قريبا جدا- نظام الحكم فى كابول أصبح حكما ديمقراطيا منحازا للغرب، انخفاض التأييد للتشدد الإسلامى- رئيس الوزراء الإسرائيلى رجل سلام- الحرب على القاعدة ليست حربا على الإسلام- أسامة بن لادن يكره أمريكا بسبب الحرية والتقدم فيها ولا يكره سياساتها- المتشددون الإسلاميون يكرهون أمريكا بسبب هويتها وليس بسبب أعمالها- الولايات المتحدة جففت منابع التمويل لأسامة بن لادن- خارطة الطريق لتحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين تسير بنجاح- انتصرت أمريكا فى العراق- المهمة انتهت فى العراق- لم يعد للمقاومة وجود- العراق اقترب من أن يكون دولة علمانية ديمقراطية- انتقلت السيادة إلى الشعب العراقى.
ما رأيكم الآن فى هذه النماذج من تصريحات الرئيس بوش وكبار قادته ومساعديه؟
من يقرأ ويستمع بدقة يستطيع أن يجد أن الأخبار المعلنة عن الحرب، تخضع للرقابة، ولكنه يستطيع أن يدرك أنها مفككة، ويكتشف الكذب عندما يستمع مثلا إلى مدير المخابرات ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالى (إف. بى. آى) يحذران الشعب الأمريكى من أن القاعدة ما زالت خطيرة حتى الآن ولا تقل خطورتها عما كانت فى عام 2001، وفى بعض التقارير أن القاعدة الآن أشد خطورة عما كانت قبل 11 سبتمبر 2001، ويتكرر الإعلان عن أن وزارة الأمن الداخلى رفعت مستوى التحذير من الخطر إلى الدرجة القصوى، ويعيش المواطن الأمريكى بين قول الرئيس: لا تقلق، وقوله: استعد لمواجهة خطر الموت والأسلحة الكيماوية إلى حد توزيع كمامات فى بعض المناطق، وقوله إن الهجوم القادم للقاعدة يحتمل أن تستخدم فيه أسلحة الدمار الشامل (!)
***
المواطن الأمريكى يتلقى رسائل وإشارات متناقضة، تدل على أن القيادة تتخبط وأن أفكارها مشوشة. وموقف الإدارة الأمريكية ورؤيتها للأحداث والأشخاص فى العالم يغلب عليها الغرور والأنانية، وقد أشار مايكل شيوار إلى ذلك فى كتابه (فى أعين أعدائنا) وقال إن ذلك ليس خللا جينيا فى الأمريكيين ولكنه أسلوب التفكير الذى اكتسبته نخبة أمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إنها طريقة لتفسير العالم وفقا لما نفهمه. وقد عبّر ذلك المفكر السياسى (لى هاريس Lee Harris) فى عدد أغسطس- سبتمبر 2002 من مجلة (Policy Review) بقوله: (عندما نواجه عدوا ثقافته غريبة بالنسبة لنا، فإن رد فعلنا الأول هو فهم سلوكه وفقا لما هو مألوف لنا فى ثقافتنا وفى ضوء خبرتنا، ومثال ذلك فإننا نرى أن أسامة بن لادن مجرم وأن الدافع وراء نشاطه هو المال، وهذا التفسير يتفق مع العقلية الأمريكية التى تعرف عصابات تقتل من أجل المال، ولا تعرف مقاتلين بدافع العقيدة، وعلاوة على ذلك فإننا نعتقد أن المسلمين يكرهوننا بسبب تقدمنا، وثروتنا، وحريتنا، وديمقراطيتنا، وليس بسبب رؤيتهم للسياسة الأمريكية على أنها هجوم على الإسلام، أو بسبب أن العسكرية الأمريكية تطحن الناس وتدمر حياتهم منذ عشر سنوات فى العالم الإسلامى.
هكذا ترى الإدارة الأمريكية الأمور على غير حقيقتها فتدعى أن كراهية العالم العربى والإسلامى لأمريكا ليست بسبب الانحياز لإسرائيل وضد العرب، ولا بسبب مساندة أمريكا لأنظمة الحكم المستبدة والفاسدة التى تبدد موارد البلاد وتسجن وتعذب المعارضين لها، ولا بسبب موقف أمريكا من قبول وجود الأسلحة النووية لدى إسرائيل والهند بينما تحارب العراق لمجرد الشبهة أو الادعاء، وتضغط على باكستان وإيران (ربما لأنهم مسلمون (!)) وأكثر من ذلك فإننا بدلاً من إعادة النظر فى سياساتنا نكتفى بإرسال دبلوماسيين وسياسيين ووعاظ أمريكان لإقناع المسلمين بالإكراه على إضفاء الطابع الغربى على القرآن والسُنّة وخاصة مع طبيعة الإسلام فى التبرعات الخيرية، وعدم الفصل بين الدين والدولة، وفكرة الجهاد، ونتصور أننا إذا استطعنا توجيه الإصلاح الدينى نحو جعل المسلمين علمانيين مثلنا فسوف ينتهى كل هذا الحديث عن صراع الحضارات والحرب الدينية!
***
وبعد ذلك يقول مايكل شيوار: إن الغرور الإمبريالى الذى يسيطر على عقول النخبة السياسية فى الولايات المتحدة وعلى الأكاديميين والإعلاميين والعسكريين أدى بهم إلى تصور أن العالم الإسلامى هو المخطئ، لأنه لم يستطع فهم النوايا الحسنة للسياسة الأمريكية، وفضلاً عن ذلك فإن النخبة فى أمريكا تفكر وتعمل وكأن الدستور ينص على انتخاب أمريكى ليكون رئيسا للعالم وليس رئيسا للشعب الأمريكى، وعن هذين الخطين من التفكير (الغرور الإمبريالى وتصور أن العالم الإسلامى هو المخطئ، وأن رئيس أمريكا هو رئيس العالم) وصلت النخبة إلى عقيدة ملخصها أن أمريكا لا تحتاج إلى إعادة تفكير فى سياساتها، وأنها تحتاج فقط إلى إعادة تفسير سياساتها وأهدافها بشكل أفضل للعالم الإسلامى الذى لم يفهم ذلك.
ويقول مايكل شيوار: لا بد أن تفهم الإدارة الأمريكية والنخبة السياسية أن العالم خارج الولايات المتحدة ليس مثلنا، ولا يريد أن يكون مثلنا، ولن يكون مثلنا. وفى العالم من غير المسلمين من سيرفعون السلاح ضدنا إذا أجبرناهم على أن يصبحوا مثلنا. ويجب أن يكون واضحا أن العالم الإسلامى لا يكره القيم الأمريكية، أى لا يكره الحرية السياسية، أو الحرية الشخصية، أو احترام حقوق الإنسان، أو التعليم والعلم، ولكنه يكره ما تفعله أمريكا، يكره السياسة الأمريكية وليس القيم الأمريكية. ومشكلة النخبة الأمريكية أنها تفسر ما يجرى فى العالم فى ضوء المفاهيم الأمريكية، وبالتالى فإنهم يفشلون فى إدراك ما تنطوى عليه الظواهر والأحداث فى العالم الخارجى من مخاطر على أمريكا ذاتها.. ولكى يتمكن الأمريكيون من اتخاذ قرارات صحيحة وضمان الأمن القومى لأمريكا فإن عليهم فهم العالم كما هو وليس كما نريده، أو كما يجب أن يكون.
ويقول مايكل شيوار بعد هذا التحليل والنتيجة التى توصل إليها بعد سنوات طويلة قضاها فى تعقب المنظمات الإسلامية وتنظيم القاعدة وأسامة بن لادن بالذات: إن هؤلاء يمثلون تهديدا للولايات المتحدة، ولا يوجد تهديد أكبر منهم، ونحن ننهزم فى الحرب ضدهم، والسبب أننا نرفض فهم الحقائق كما هى، ودون (أمركة) المعلومات الوفيرة التى نحصل عليها بسهولة.
يقول مايكل شيوار: إن الإدارة الأمريكية لا تريد فهم شخصية أسامة بن لادن رغم أن أمامها تقارير كاملة نتيجة سبع سنوات من متابعته بدقة، وتردد الإدارة الأمريكية أن أتباع أسامة بن لادن يتبعونه من أجل المال الذى ينفقه عليهم بسخاء، وهذا ليس صحيحا، فهو وأتباعه يحاربون أمريكا بسبب غزوها أفغانستان والعراق، وتأييدها المطلق لإسرائيل، ويحاربون الدول التى تساعد أمريكا فى حربها على الدول الإسلامية، ولذلك هاجمت جماعته 18 دولة من 20 دولة تحارب مع أمريكا. ولا يمكن نسبة جميع الهجمات لتنظيم القاعدة، ولكن معظمها قامت بها مجموعات أو أفراد تأثروا بالقاعدة وبلغة أسامة بن لادن التحريضية. وقد فسّر أبو أيمن الهلالى هدف القاعدة من هذه الهجمات فى مقال فى صحيفة (الأنصار) فقال إن المقصود بها ضرب المصالح الأمريكية والصهيونية وكل الأعداء الذين يشنون الحروب فى العالم، وكتب سليم المكى فى صحيفة (النداء) يقول إن هذه الهجمات الهدف منها إرهاق أمريكا وقال: (إنهم يلهثون جريا وراءنا هنا وهناك، من اليمن إلى الكويت إلى إندونيسيا) ومن ذلك الهجوم على السياح اليهود الألمان فى تونس فى أبريل 2003، وضرب مصالح إسرائيل فى أكثر من مكان، وهدفهم التأثير على السياحة وعلى الاقتصاد الأمريكى واقتصاد الدول التى تساعد أمريكا فى حروبها، كما فعلوا فى هجماتهم فى تركيا، وكينيا، وغيرهما، وفى أواخر 2002 حددت القاعدة أهدافها فى بيان قالت فيه: (إن صناعة السياحة تمثل أهدافا سهلة ولكنها ذات أهمية اقتصادية وسياسية وأمنية كبيرة، وكل هجوم على منشأة سياحية له تأثير يتساوى مع الهجوم على سفينة حربية وقد يزيد عليه (!)).
ويقول مايكل شيوار: إن الإدارة الأمريكية تزهو بما فعلته فى أفغانستان، لكن الإنجازات الأمريكية لم تغير أفغانستان عما كانت عليه قبل غزوها، فما زال المجتمع الأفغانى كما هو: مجتمع قبلى، تمزقه الصراعات العرقية، ويرفض الوجود الأجنبى على أرضه، ومازال الأفغان فى حالة حرب. والواقع العسكرى والسياسى فى أرض الواقع ما زال مزعجا للمصالح الأمريكية، وبعض المحللين رأوا الكارثة القادمة على أمريكا، ومنهم على سبيل المثال (سكوت بالدوف) الذى كتب فى مجلة كريستيان ساينس مونيتور الأمريكية يقول: (إن أعدادا كبيرة من الأفغان وبخاصة أغلبية الباشتون المحافظة، يعتبرون أنفسهم أقرب إلى القاعدة وطالبان أكثر من أمريكا وقرضاى)، وكتب الصحفى الباكستانى -المشهور بعلاقاته الوثيقة بالنخبة السياسية والعسكرية فى باكستان وبالمتشددين الإسلاميين- كتب يقول فى أوائل 2003: (إن المزيد من العناصر يتطوعون للانضمام إلى طالبان فى المناطق التى يهيمن عليها الباشتون فى هذه البلاد التى خرّبتها الحرب).
هذا مـا يقوله رجل المخابرات الذى يعرف الحقائق والأسرار والخبايا.
وهذه هى خلاصة تجربة واحد من أهم قيادات المخابرات الأمريكية، ضاق صدره من تشدد أصحاب القرار السياسى والعسكرى فى بلاده، ووصل إلى نقطة اللاعودة، فقرر ترك منصبه الذى ظل يشغله سنوات طويلة، جمع فيها ثروة من المعلومات، وتوغل فى صفوف التنظيمات الإسلامية المتشددة وبالـذات تنظيـم القاعدة، وعايـش تفاصيل ما يجرى فى أفغانستان يومًا بيوم، ولكنه وجد فى النهاية أن جهده ذهب إدراج الرياح، لأن أحدا لم يستمع إليه، ولا إلى جهاز المخابرات بأكمله، لأن الأفكار والتصورات كانت جاهزة، ولم تكن الإدارة الأمريكية راغبة فى معرفة الحقائق كما هى، ولكنها كانت مصممة على أن تلوى الحقائق وفقا لإرادتها.
وهذا هو الغرور الإمبريالى كما يسميه مايكل شيوار فى كتابه الخطير.