أبو مازن بين المطرقة والسندان !
يتوقع معظم المراقبين أن تشهد القضية الفلسطينية تحركا يعطـى للفلسطينيين- وللعرب- الأمل فى كسر الجمود وتخفيف الضغوط الحالية، ويجعلهم يستعيدون الأمل فى إمكان قيام الدولة الفلسطينية، وذلك بعد انتخاب محمود عباس (أبو مازن) رئيسا جديدا للسلطـة الفلسطينية خلفا للزعيم التاريخى الراحل ياسر عرفات، فقد سارع الرئيس بوش بتهنئة محمود عباس وأكد له- ربما للمرة المائة- أنه جاد فى تحريك عملية السلام لتنتهى بإقامة الدولة الفلسطينية، ووعده بتقديم مساعدات لإعادة بناء ما دمرته إسرائيل، وبعده مباشرة اتصل به شارون أيضا لتهنئته ولدعوته للقاء لم يحدد موعده، وذهب إليه خافير سولانا، وتلقى عشرات الاتصالات الهاتفية للتهنئة، وعاش محمود عباس فى جو من التهانى والورود والأفراح، وبعد انتهاء هذه الأفراح سوف يكون عليه أن يواجه الحقيقة المؤلمة وسوف يجد نفسه أمام معادلات صعبة عجز عرفات عن حلها، وظلت معلقة لأكثر من نصف قرن، لاحت خلالها بارقة الأمل أكثر من مرة، وكان دائما أملا كاذبا، وظل الحال على ما هو عليه.. بل صار إلى الأسوأ، وفى كل مرة تلقى مسئولية الفشل على الفلسطينيين ويقال إنهم شعب الفرص الضائعة، مع أنهم لم يضيعوا أية فرصة حقيقية أبدا..
أمام أبو مازن- أولا- الضغوط الأمريكية التى تفرض عليه تفكيك منظمتى حماس والجهاد وجمع أسلحتهما ووقف نشاطهما وتحويلهما إلى منابر أو أحزاب سياسية.. فهل يستطيع تنفيذ ما تطلبه منه أمريكا، بينما هى لا تطلب من إسرائيل أن تفعل المثل.. بل لا تطلب منها أن تفعل شيئا؟..
وأمامه- ثانيا- الضغوط العسكرية والمناورات السياسية والمراوغات المعهودة من شارون الذى يحاول إلقاء الطعم لاستدراج محمود عباس وتقديم حلول مستحيلة سبق أن طرح على عرفات فى كامب ديفيد ما هو أفضل منها ولم يستطع قبولها، وقال للرئيس السابق كلينتون: إذا قبلتها فسوف أدفع حياتى ثمنا لها، وفعلا رفضها ودفع حياته ثمنا للرفض ولو كان قبلها لكان قد دفع حياته ثمنا للقبول (!).
هل يستطيع أبو مازن أن يقبل خطة شارون بانسحابه من غزة يستغرق سنوات، ويكون هو (الحل المؤقت الدائم الذى سبق أن أعلنه، بمعنى أن يتوقف الأمر عند الانسحاب بشروط من غزة وأجزاء من الضفة ويقال إن الملفات الأخرى مثل بقية الضفة، والقدس، واللاجئين، والحدود، والسيادة، سوف تتم مناقشتها فى مرحلة قادمة ولا تأتى هذه المرحلة أبدا.. وينتهى الأمر وينفض الجميع أيديهم من القضية؟!).
وأمامه- ثالثا- ضغوط الداخل، ومن الفصائل المسلحة التى لا تثق فى وعود سبق أن حصلوا على الكثير منها ولم تنفذ، ويعلمون أن القرار الإسرائيلى الأمريكى يقضى بالاستمرار فى قتل كل العناصر التى رفعت السلاح أو فكرت فى ذلك، ومن حقهم أن يشعروا بعدم المصداقية فى الوعود التى تقدم إليهم اليوم، لأنهم سبق أن صدقوا الوعود من جميع الرؤساء الأمريكيين والإسرائيليين، ولم تنفذ، وآخرها الوعد القاطع من الرئيس بوش بإقامة الدولة الفلسطينية فى آخر عام 2005، وكان ذلك فى مشهد تليفزيونى تم إخراجه بإتقان، وعندما أعيد انتخابه للمرة الثانية كان أول تصريح له أن الدولة (قد) تقام فى آخر 2009 أى بعد أن يترك بوش البيت الأبيض ويعود إلى تربية الخيول فى مزرعته فى تكساس!
وأمامه- رابعا- شعب يعانى من الفقر، والبطالة، وعشرات الآلاف يعيشون فى الخيام بعد أن هدمت إسرائيل بيوتهم وقتلت شبابهم.. فهل يستطيع أن يجد لهذا الشعب لقمة العيش ومصدر الرزق؟.
وأمامه- خامسا- امتحان أصعب، فالجميع ينتظرون منه أن ينفذ مشروعه الذى استقال من رئاسة الوزراء بسببه، لأن ياسر عرفات لم يمكنه من تنفيذه، وكان مشروعه إقامة حكومة لها سلطة تنفيذية كاملة، ولا تكون السلطة مركزة فى يد الرئيس الفلسطينى وحده وإعطاء الوزراء اختصاصات كاملة وتعطى سلطات واختصاصات للمستويات التالية للوزراء، ويتم إعداد ميزانية معلنة بإيراداتها ومصروفاتها، وتخضع الشئون المالية للرقابة والمحاسبة، ويعطى للمجلس التشريعى سلطاته كاملة فى التشريع والتوجيه والرقابة على الحكومة والأجهزة التنفيذية، ويتم تكوين قوات أمن كافية ومدربة تدريبا جيدا لحفظ الأمن وفرض النظام، وإعادة الهيبة للقانون.. وهذه كلها مهام فى منتهى الصعوبة.. فهل يستطيع أن يفعل كل ذلك؟.. وكم من الزمن يحتاج لبناء مؤسسات الدولة وإعداد قواعد ونظم العمل فيها على أسس واضحة وعصرية؟.. بينما تطالبه أمريكا وإسرائيل بأن يفعل كل ذلك قبل أن تبدأ الخطوات الجادة نحو الحل؟
أمام محمود عباس مهام صعبة، وطريق طويل مليء بالعقبات،وإذا وجد مساعدة من طرف فسوف يجد عقبة من طرف آخر، ولا يستطيع وحده القيام بكل ما هو مطلوب، لا هو ولا حكومته ولا شعبه ولن يتمكن من تحقيق حلمه وحلم الشعب الفلسطينى والشعوب العربية إلا إذا وجد مساعدة حقيقية بالعمل وليس بالتصريحات من كل الأطراف. من الولايات المتحدة، ومن إسرائيل، ومن الحكومات العربية، ومن الشعوب والمنظمات العربية، ومن دول أوروبا ودول العالم، ومن الأمم المتحدة.
وطبعا لن يستطيع أن يحقق شيئا إلا إذا توصلت الفصائل الفلسطينية إلى اتفاق ينهى الصراعات والخلافات الجوهرية فيما بينها ويجعلها تقف صفا واحدا، وكلمة واحدة، أمام إسرائيل والعالم ليدرك الجميع أن شعب فلسطين الذى قدم نموذجا متحضرا وراقيا للتعامل مع المواقف الحاسمة عقب رحيل عرفات، وانتقال السلطة بسلاسة لم يكن يتوقعها أحد، وبالانتخابات التى اعترف الجميع بأنها تضاهى الانتخابات فى الدول العريقة فى الديمقراطية بشهادة الشخصيات الدولية الكبيرة التى شاركت فى المراقبة، هذا الشعب أمامه الآن فرصة ربما تكون فرصة حقيقية، فأمريكا تقول إنها ستساعد وإسرائيل تقول إنها مستعدة للتعاون، وأوروبا تؤيد وقف عسكرة الانتفاضة وإعطاء المفاوضات فرصة جديدة، والدول العربية تطالب بذلك أيضا، وليس أمام محمود عباس إلا أن يقبل ذلك، لأن الرفض يجعله يخسر كل الأطراف التى يحتاج إلى مساعداتها ، ولكنه لا يستطيع أن ينفرد بموقف وتخرج جماعات وفصائل من شعبه بعمل منفرد فتهز مصداقيته..
الحل الأمثل الآن أن يتفق الفلسطينيون جميعا على أن يؤجلوا خلافاتهم، لا أن يتنازلوا عنها، ويقفوا وراء الرجل دون أن تظـهر على الساحة خلافات تعطـى للآخرين الفرصة للتملص من وعودهم، ولماذا لا يعطونه فرصة ليجرب مدى الصدق لما هو معروض عليه، فإن نجح فهذا ما يتمناه الجميع، وإن فشل يكون حينئذ لكل حدث حديث..
ومن يدرى، فقد تصدق أمريكا وإسرائيل هذه المرة؟..
فليكن التفاؤل حذرا، ولا نستبق الأحداث، ولا نحكم على الأقوال والنوايا.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف