هل يستطيع الرئيس الأمريكى الاعتراف بالحقيقة
نتمنى أن تجرى فى العراق انتخابات نزيهة، ويختار الشعب من يمثله بحرية ودون ضغوط أو تزوير أو تدخل من الداخل أو الخارج.. نتمنى أن يستعيد شعب العراق حريته واستقلاله وكرامته الوطنية.. نتمنى أن يحمل الاحتلال عصاه ويرحل. ولكن هل كل ما يتمناه المرء يدركه؟.. وهل يمكن إجراء انتخابات فى ظل الظروف التى يعيش فيها الشعب العراقى الآن؟
إذا أجريت الانتخابات فى موعدها المقرر آخر يناير الحالى فسوف تكون هذه أغرب انتخابات.. بل ستكون أكبر خدعة فى التاريخ باسم الديمقراطية!.
العراق الآن بلد ممزق، نجحت الجيوش الأمريكية فى تدمير مقومات الحياة والمرافق الأساسية فيه، ونجحت فى دق إسفين بين الشيعة والسُّنّة والأكراد تمهيدا لتقسيم العراق بعد ذلك، ونجحت فى إشعال نار السخط والكراهية فى الصدور ضد الاحتلال والمحتلين، ونجحت فى فرض حكومة لا علاقة لها بالشعب، وولاؤها لمن نصّبوها ويوفرون لها الحماية، وهذه الحكومة بلا سلطات تقريبا، ووزراؤها لا يستطيعون التحرك إلا تحت حراسة مشددة من القوات الأمريكية.
وفى كل لحظة يحدث انفجار ويسقط عشرات المدنيين الأبرياء، ودبابات الاحتلال فى كل مكان تمثل إرهابا لا شك فيه، والأوامر لدى هذه القوات أن تقتل من العراقيين دون حساب، وتلقى المواطنين فى السجون عشوائيا، وتمارس التعذيب فى أبشع صوره، بشرط ألا يصل شىء إلى الإعلام!
الشيعة منقسمون، ومعظم الأحزاب الشيعية ترحب بالانتخابات وهم يعلمون أنهم أغلبية ولديهم أمل فى أن يصلوا إلى الحكم، وبعض أحزاب الشيعة ترفض المشاركة فى هذه الانتخابات، وترى فيها خدعة لتكريس الاحتلال وإعطاءه غطاء شرعيا، لأن السيناريو المعد بعد الانتخابات أن تأتى حكومة تطلب من الولايات المتحدة استمرار احتلالها للبلاد إلى حين إقرار الأمن وإعادة بناء الدولة، وتبقى قوات الاحتلال، ويتكرر سيناريو فلسطين عندما تولى الاحتلال البريطانى سلطة الانتداب، وسلمها إلى المنظمات الصهيونية.
وأحزاب وجماعات السُّنّة قاطعوا الانتخابات ورأوا استحالة إجراء انتخابات حرة فى وجود قوات احتلال تسيطر على كل مكان، كما تسيطر على الحكومة وموظفيها، كما رأوا أنهم لا يطمئنون إلى نزاهة هذه الحكومة وإمكان إجراء الانتخابات بحياد، ورئيس الوزراء والوزراء يعلنون عداءهم لبعض الأحزاب، وإن كانوا يحاولون تجميل الموقف بإظهار تقبل الشعب العراقى لهذه الانتخابات، ويعدون العدة لحشد بعض الجماعات أمام لجان الانتخابات لتصويرها وعرضها على شاشات التليفزيون الأمريكى لإقناع الشعب الأمريكى بأن الإدارة الأمريكية حققت لأمريكا الانتصار كاملا باحتلال العراق، والاستيلاء على بتروله، وإذلال قياداته ومحاكمة رئيسه وإرهاب سائر دول المنطقة، وكل ذلك يلقى القبول والرضا من الشعب العراقى، وها هو ذا يقبل على الانتخابات ويتنفس هواء الحرية لأول مرة بفضل الاحتلال الأمريكى. ولا يزال حاضرا فى الأذهان مشهد رئيس الوزراء العراقى وهو فى الكونجرس الأمريكى ليقول: شكرا أمريكا لأنكم حررتم شعبنا.. ونال التصفيق من دولة الاحتلال!
الرفض الشعبى العراقى لهذه الانتخابات هو الشىء الطبيعى والمعقول، وغير ذلك غير منطقى، لأنه ليس هناك شعب يمكن أن يقبل انتخابات يعلم مقدما أنها لن تسفر إلا عن إرادة القوة القاهرة التى تسيطر على مقادير البلاد، وتمارس بالعنف والقتل والسجن إرهاب المواطنين.
واحد من أبواق الدعاية الأمريكية قال فى صحيفة نيويورك تايمز: إن هذه الانتخابات ستكون الخطوة الأولى للعراقيين لنقل بلدهم إلى منتصف المسافة فى الطريق إلى إقامة وطن طبيعى ولائق بحياة البشر، وقال أيضا: إن العراقيين يتشوقون إلى الإدلاء بأصواتهم لاختيار مستقبلهم، ولو مرة واحدة فى حياتهم.. وقال:إن الرافضين للانتخابات ليسوا سوى أقلية خبيثة تريد حرمان العراقيين من هذه الفرصة الغالية..
ومع هذه المغالطات لم يستطع توماس فريدمان- كاتب هذا المقال- أن ينكر الحقيقة التى يشهدها العالم، فقال بعد ذلك: إن الولايات المتحدة غير قادرة على حفظ النظام وإعادة الأمن. وهذا يجعل صورة الحكم والعدالة تبدو زائفة.. إذا كان توماس فريدمان يقول ذلك، وهو الذى اكتسب شهرته بسبب قدرته على المغالطة والوصول إلى نتائج غير منطقية، فماذا يقول العراقيون؟.
توماس فريدمان- بوق الدعاية السياسية الأمريكية- يردد ما يقوله الرئيس بوش من أن كل من يقاوم الاحتلال وأعوانه إرهابى، ومن يستسلم للاحتلال وأعوانه وطنى مخلص، وهذه هى القيم الأمريكية التى يريدون فرضها على شعوب العالم العربى، ورسالة أمريكا إلى الشعوب العربية تقول: يا عرب.. افتحوا بلادكم وصدوركم للاحتلال، ورحبوا به واحمدوا ربكم أن بعث إليكم بالدبابات والطائرات والقوات الأمريكية.. ورددوا كل يوم لأنفسكم وللعالم أن الاحتلال الأمريكى هو الحرية والديمقراطية والمستقبل للعراق وشعبه!
انتخابات فى بلد قتلوا فيه 100 ألف قتيل، وشعبه مشغول بالجنازات والبكاء.
انتخابات فى بلد قال الرئيس بوش عنه: إن قوات الأمن العراقية التى تم تدريبها على أيدى القوات الأمريكية ليست مستعدة على الإِطلاق لتولى مسئولية الدفاع عن أمن العراق، ومع ذلك فإن بوش هو بوش.. ولذلك أضاف: إن الحياة فى العراق تظل أفضل مما كانت عليه، ولم يشر إلى أن جميع منظمات الإغاثة الدولية انسحبت من العراق لعدم توافر الأمن.
هل يستطيع الرئيس الأمريكى الاعتراف بالحقيقة، ويترك العراق للأمم المتحدة لتتولى قواتها حفظ الأمن وإعادة بناء الدولة المدمرة، ثم إجراء انتخابات حرة ونزيهة بحق؟.