أوهام النصر الأمريكى فى أفغانستان
فى كتاب (غرور الامبراطورية- لماذا يخسر الغرب الحرب على الإرهاب) الذى نشره مايكل شيوار- رجل المخابرات الأمريكية السابـق- وهز الإدارة الأمريكية تحليل سياسى واستراتيجى للوضع فى أفغانستان حدد فيه الأسباب التى جعلت المخابرات الأمريكية فى تقديرها للموقف تؤكد للإدارة الأمريكية أن الاحتلال الأجنبى لن يستقر طويلا كما هو مخطط له، وأن حكومة الأقليات التى نصّبتها الولايات المتحدة لن تستمر هى الأخرى .
وهذه الأسباب هى :
أولا : أن الأقليات تستطيع السيطرة والحكم فى العاصمة كابول، ولكنها لن تستطيع السيطرة على البلاد كلها وحكمها، وتاريخ أفغانستان يشير إلى أن قبائل الباشتون ظلت مسيطرة على البلاد لأكثر من ثلاثة قرون، وفرضت قوانينها وتقاليدها القبلية على الجميع، وهى قبائل إسلامية محافظة، وكانت لهذه القبائل فى كل العصور قوة ونفوذ مع وجود النظام الملكى، وكان الملك الأفغانى دائما من الباشتون، ولم يحكم أفغانستان من غير الباشتون سوى ثلاثة رجال استثناء من هذه القاعدة. أولهم كان اسمه حبيب الله غازى، من قبائل الطاجيك، وكان مواليا للغرب، قاد ثورة على الملك وأطاح به وتولى هو الحكم، إلا أن حكمه لم يستمر طويلا رغم أنه كان مسلما محافظا، إلا أنه لم يكن من الباشتون. والرجل الثانى هو نجيب الله الذى كان على رأس الحكومة الشيوعية التى فرضها الاحتلال السوفيتى على البلاد، ونجيب الله كان من الباشتون ولكنه لم يكن إسلاميا، وكان حكمه مرفوضا من الشعب الأفغانى الذى يعادى نظم الحكم غير الإسلامية. أما الرجل الثالث فى تاريخ أفغانستان فهو حامد قرضاى الذى نصّبه الاحتلال الأمريكى، وحكومته تسيطر عليها عناصر من قبائل الطاجيك، فهى ليست من الباشتون، وتعلن أنها إسلامية ولكنها تعبر عن إسلام أمريكى مختلف عن الإسلام الأفغانى، أقصد المفاهيم السائدة فى أفغانستان عن الإسلام. وقد انتهت التجربتان الأولى والثانية لحكم الأقلية عندما أطاحت بهما قوات من قبائل الباشتون. سقط حبيب الله (الطاجيك) بعد تسعة أشهر فقط (من ديسمبر 1928 إلى سبتمبر 1929) وسقط حكم نجيب الله والشيوعيين بعد 15 عاما (1978-1992) بعد رحيل الاحتلال السوفيتى، ويقول مايكل شيوار فى تقدير موقف حكومة قرضاى الحالية التى تسيطر عليها الأقلية بأنها سوف تلقى نفس المصير على الأرجح، ما لم يستمر وجود الاحتلال الأمريكى ويستمر دعم النظام الحالى بقوة الاحتلال.
ثانيا : أن الأفغان الذين يمثلون القوة الحقيقية هم مسلمون ومتمسكون بالقيم والتقاليد المحافظة، ومشاعرهم القبلية قوية وهى التى تحكم مواقفهم، ولديهم شعور عميق بالرهبة من الأجانب ولا يتحملون وجودهم على أرضهم. ويقول مايكل شيوار: فى عام 1989 تم اختيارى لمصاحبة مسئول بارز فى مجتمع الاستخبارات الأمريكية لإعداد تقرير عن الحالة فى أفغانستان يقدم إلى مجلس الشيوخ، وكان دورى أن أقدم صورة عن الوضع السياسى والعسكرى هناك، وعندما انتهيت من ذلك سألنى أحد أعضاء مجلس الشيوخ: هل تعنى أن الولايات المتحدة بعد أن ضيعت عشر سنوات وأنفقت مليارات الدولارات لمساندة المقاومة الأفغانية سوف تجد فى كابول قريبا حكومة يسيطر عليها إسلاميون معادون لأمريكا؟. هل ساعدنا على نشأة حكم إسلامى فى أفغانستان؟.
يقول مايكل شيوار: إن هناك مسئولين فى الإدارة الأمريكية حاليا مثل هذا السناتور يشعرون بالدهشة من أن الأفغان مسلمون، وأن العصبية القبلية هى التى تحكمهم، وأنهم يكرهون الأجانب، وأن الإسلام فى أفغانستان بالذات - رغم الحروب والقتل- هو الأكثر قوة والأكثر تحفظا حتى اليوم، والذين يلتفون حول قرضاى هم أقلية، ومعهم المغتربون الذين عادوا بعد الغزو الأمريكى، وتحت حماية القوات الأمريكية، وهؤلاء أفغان بالاسم، لكن الشعب الأفغانى لا يعتبرهم ممثلين له، وهم غربيون أكثر من كونهم أفغانا، وأفكارهم عن الآراء الدينية والعلمانية ومواقفهم السياسية وحديثهم عن النمو السريع للديمقراطية، كل ذلك يجعلهم غرباء عن الشعب الأفغانى. وقد كتب قلب الدين حكمتيار زعيم إحدى الفصائل العسكرية الأفغانية خطابا إلى الحزب الديمقراطى الأمريكى يفسر فيه كراهية الأفغان لقرضاى وحكومته قال فيها: (لا نعرف نوع البشر الذين يسمح لهم ضميرهم بأن يعتبروا أنفسهم حكاما لشعب وهم لا يطمئنون على أمنهم الشخصى إلا فى حماية الأجانب، ولا يمكنهم أن يثقوا حتى فى زملائهم فى الحكم وفى مساعديهم فى أنحاء البلاد، ولا يجدون أية قوة داخل البلاد تساعدهم على البقاء والشعور بالأمان داخل قصورهم، وهم يذهبون إلى مقاطعاتهم وأبناء بلدتهم تحت حماية قوات الكومندوز الأمريكية، ومع ذلك فإنهم يتعرضون للهجمات هم والقوات الأمريكية!)
وقال حكمتيار أيضا فى رسالته: (بعد وقت قصير سوف يؤدى اشمئزاز الأفغان من تنصيب ((الكفرة)) لإدارة شئون الحكم واحتلالهم للأرض، ورفضهم للاعتداءات على الكبرياء القبلية الراسخة فى النفوس، وكراهيتهم للأجانب، سوف يؤدى ذلك إلى توجه شعب قوى معاد لأمريكا سوف يمتد من قبائل الباشتون الممثلة لأغلبية الشعب الأفغانى إلى بعض الأقليات التى تساند حكم قرضاى، والقوات الأمريكية تواجه الآن شعورا بالرفض سوف ينمو حتى ينتهى بتجمع كل الفصائل والقوات العرقية والقبلية معا من أجل طرد هذه القوات الأجنبية، ومع اقتراب هذا الاحتمال، سوف تزداد شكوى الأفغان من أن الولايات المتحدة ودول الغرب واليابان فشلت كلها فى توفير ما يكفى من الغذاء، ولم تحقق شيئا من وعودها عن المساعدات المالية والتكنولوجية والخبرة والكمبيوتر وإعادة بناء أفغانستان بعد ما أحدثه الغزو من تدمير، وهذا يعنى أن الشعب الأفغانى يدرك الآن أن أمريكا جاءت لاحتلال أفغانستان والسيطرة عليها وقدمت للشعب وعودا لم تحققها وهى الآن تتخلى عن أفغانستان، وكل ما قدمته من مساعدات يمثل الحد الأدنى اللازم للإبقاء على قرضاى وحكومته).
يقول مايكل شيوار: إن على الأمريكيين أن يدركوا أن أفغانستان بالذات، أكثر من أى مكان آخر فى العالم لا يمكن أن تشعر بالألفة مع الأجانب، وهم لا يكتفون بمشاعر الازدراء للأجانب، ولكنهم يقاتلون الأجانب حتى الموت.
***
ثالثا : الأفغان لا يمكن شراؤهم، ولكن دعاة الغزو فى الإدارة الأمريكية كانوا يؤكدون عكس ذلك، ويقولون: إن كل إنسان يمكن شراؤه وكل إنسان وكل شىء له ثمن! وترددت هذه النظرية قبل وبعد الغزو فى أكتوبر 2001 ، ونشرت قصص كثيرة على لسان بعض المسئولين الذين لم يذكروا أسماءهم عن ضباط أمريكيين ذهبوا سرا إلى قادة الفصائل الأفغانية ومعهم صناديق مليئة بالدولارات ودخلوا بمهارة فى مساومات انتهت بشراء ولاء هؤلاء الأفغان، وكان ذلك هو السبب فى سقوط طالبان وتقليل خسائر القوات الأمريكية، والحقيقة أن هذه القصة كلها مزيفة، بل هى أكبر أكاذيب الحرب فى أفغانستان، ولكن تكرار الحديث عنها وعلى ألسنة مسئولين جعل الناس تصدقها حتى عندما ظهرت الأدلة التى أثبتت عكس ذلك. وفى كتاب وود وارد (بوش فى حرب) رواية عن عدد من المسئولين الحكوميين البارزين فى أمريكا يفسرون كيفية نجاحهم فى شراء الحلف الشمالى والسيطرة عليه، وبعد ذلك يذكر وود وارد قول وزير الخارجية الأمريكى: (إن أحدا لا يريد الحلف الشمالى.. لا أحد يريدهم فى كابول ولا حتى فى الشمال!)، ويفسر وود وارد ذلك بقوله: (إن القبائل الجنوبية سوف تصاب بالجنون إذا رأت الحلف الشمالى فى العاصمة وهم أشد أعدائها)، ومعنى ذلك أن أى عاقل كان يمكن أن ينفق الدولارات لإبعاد الحلف الشمالى عن كابول.
والأمريكيون لا يعرفون الأفغان، من الممكن أن يأخذوا الأموال ممن يعرضها عليهم، ولكنهم بعد ذلك لن يفعلوا إلا ما يريدون أن يفعلوه سواء اتفق مع ما تريده أنت أو لم يتفق. وعلاوة على ذلك فإن العناد من أهم خصائص الأفغان لدرجة أنهم قد يأخذون أموالك لكى يفعلوا ما تريده، ويكون ذلك متفقا مع ما يريدونه هم، ولكنهم لا يفعلون ما أرادوا وما أردت لمجرد ألا يكونوا منفذين لإرادتك أو أنهم ينفذون أوامرك. وقد أنفقت أمريكا والسعودية ودول أخرى مليارات الدولارات نقدا وأسلحة ورواتب وإمدادات ورشاوى لتنظيمات المقاومة أثناء الجهاد ضد الاحتلال السوفيتى الذى استمر عشر سنوات، وكان كثير من المسئولين فى أمريكا يتحدثون عن الأفغان وكأنهم تحت أمرنا والحقيقة كانت عكس ذلك. أخذ الأفغان الأموال على أنها غنيمة ولم يفعلوا سوى ما كانوا يريدون عمله، ورفضوا ما كنا نطلبه منهم، وكان أكبر الأمثلة على ذلك تنظيم أحمد شاه مسعود، فقد أخذ الكثير من الدولارات، ولم يفعل سوى القليل تنفيذا للمطالب الأمريكية.
وكمثال على هذه السمة فى الأفغان تتردد حكاية عن اجتماع دبلوماسى أمريكى بارز فى الثمانينات نائبا عن الحكومة مع يونس خالص زعيم الحزب الإسلامى، الذى كان يحصل على الأموال من أمريكا وحلفائها بسخاء، وطلب منه تخفيف حدة القتال ضد القوات السوفيتية، لأن الزعيم السوفيتى جورباتشوف يتفاوض مع الأمريكيين على سحب قواته من أفغانستان، وأمريكا تريد أن تشجعه على ذلك بتهيئة الجو لهذه الخطوة، ويقال إن يونس خالص رد بهدوء: (لا .. سوف نقتلهم إلى أن يرحلوا). وحاول المسئول الأمريكى إقناعه فقال له: (إن أمريكا والدول الغربية تقوم الآن بمساع دبلوماسية للاتفاق على انسحاب السوفييت، وسوف تكون الضغوط الأمريكية أقوى حين يخفض الأفغان الهجمات على القوات السوفيتية)، واستمع يونس خالص إلى حديث المسئول الأمريكى ولم يعلق سوى بقوله: (لا .. سوف يرحلون لأننا نقتلهم. وسوف نقتلهم إلى أن يرحلوا. وإذا استمرت قواتنا فى قتلهم فسوف يرحلون).
وبالرغم من ادعاءات مسئولين أمريكيين بارزين لم يعلنوا عن أسمائهم، بأن الحقائب المليئة بالدولارات حققت نجاحا للقوات الأمريكية، فإن الذى حدث فعلا فى الفترة من 7 أكتوبر 2001 حتى مارس 2002 أن الأمريكيين وجدوا مساعدة جعلت طالبان والقاعدة فى وضعهما الطبيعى كمتمردين، وهيأت فرصة لتنصيب حكومة من الأقليات المكروهة فى كابول موالية لأمريكا، وتم السماح لقادة القاعدة وطالبان الكبار بالفرار على يد الأفغان الذين استأجرناهم! ومعظم المقاتلين فى التنظيمات الحليفة لأمريكا رفضوا القتال ضد طالبان والقاعدة، وفى دراسة للمعهد الدولى للدراسات الاستراتيجية فى لندن أن 90% من قوات أسامة بن لادن أتيح لها النجاة، وكانت معركة القوات الأمريكية فى (تورا بورا) أكبر مثال على تخلى حلفائنا من الأفغان عنا.
وعقب معركة دامية كتب أبو عبيد القرشى يقول: (إن من يتابع الأخبار القادمة من أفغانستان فسوف يرى كيف تلعب الجماعات الأفغانية مع الأمريكان من أجل استمرار تدفق الدولارات أطول وقت ممكن، وهذه الجماعات تعمل لتحقيق أهدافها ومصالحها هى؛ ولا تشارك مشاركة جدية فى الحملة الصليبية الأمريكية).
ودليل آخر على أن الأمريكيين لم يتمكنوا من شراء الأفغان بدولاراتهم، هو أنهم لم يقدموا أية معلومات تؤدى إلى الإمساك بمن تعتبرهم أمريكا (الأهداف رفيعة المستوى) بالرغم من أن الأفغان يعيشون فى أفقر بلد على ظهر الأرض، وهكذا لم تُفَدْ السياسة الأمريكية من مئات الملايين من الدولارات التى يتحدثون عنها، ولا من الأساليب الدعائية التى اتبعتها من صحف ولوحات إعلانية، وعلب كبريت، لم تستفد أمريكا من كل ذلك شيئا فى شراء ولاء الأفغان، ولم تجد واحدا من الأفغان مستعدا لخيانة الإسلام والتقاليد القبلية، ولذلك لم يكشف أحد عن معلومات تفيد الأمريكان فى الحصول على الصيد الثمين الذى أنفقوا الكثير من أجله، وأين الملا عمر؟ وأسامة بن لادن؟ وأيمن الظواهرى؟. مع أن أية معلومة تؤدى إلى الإمساك بواحد منهم ستحقق الثراء الفاحش لمن يدلى بها، وسيحصل على عشرات الملايين من الدولارات.
وقالت صحيفة (الأنصار) التابعة للقاعدة فى مقال بعنوان:(أوهام أمريكا): (إن الأرقام الفلكية التى تعرضها الولايات المتحدة بمكافآت بملايين الدولارات فشلت فى تحريك مسلم واحد فى أفغانستان ولو بوصة واحدة عن مبادئه). ويعلق مايكل شيوار على ذلك بقوله: إن أمريكا لم تحصل فعلا على أية معلومات ذات أهمية يمكن أن تساعدها على الفوز فى الحرب. وكان ذلك مثالا على الإخلاص الذى لم يعد معروفا فى العصر الحديث. وذلك ما أثار غضب أمريكا وأربك حساباتها فى أفغانستان. وأصبح على الأمريكان أن يعملوا بالمثل القديم (على المشترى أن يكون حذرا).
***
رابعا : إذا وجدت حكومة قوية فى كابول فسوف يكون عليها أن تخوض الحروب. ويبدو أن هذه الحقيقة البديهية لم تخطر على بال الرئيس قرضاى ومستشاريه الأمريكيين والغربيين. فالسياسة الأمريكية تريد أن تكون الحكومة الأفغانية قوية لكى تكون قادرة على منع محاولات السيطرة على مناطق من الدولة يمكن أن تقوم بها الأطراف العديدة لتحقيق مصالحها أو لدوافع شخصية. وقرضاى حاول فرض نوع من الحكم المركزى على نمط نظام حكم طالبان بعد إفراغه من المضمون الدينى، وهذا مؤشر آخر على أن قرضاى ليس أفغانيا نموذجيا، وأن مستشاريه الأجانب لم يقرأوا تاريخ أفغانستان.. ولو قرأوا شيئا عن طبيعة هذا البلد لأدركوا أنه يتكون من مناطق كبيرة، وفى داخله مناطق فرعية، وفى داخل هذه المناطق أيضا تقسيمات فرعية، وكل هذه التقسيمات قائمة على اختلافات عرقية، وقبلية، ولغوية، فأفغانستان ليست شعبا ينتمى إلى أصل عرقى واحد، ولكنه يتكون من أصول عرقية متنوعة، وقبائل مختلفة ولغات متعددة، وشبكة العلاقات داخل هذا المجتمع معقدة ومتداخلة، وقوة الانتماءات العرقية والقبلية واللغوية جعلت الولاء للحكومة المركزية ضعيفا، ومعدوما تقريبا فى بعض المناطق، وعلى مر التاريخ كان دور الحكومة المركزية فى كابول محدودا، يظهر غالبا فى الشئون الخارجية، وتكوين جيش وطنى ضعيف، ومنذ عام 1945- أى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية- تعيش أفغانستان على المساعدات الخارجية من الحكومات والمؤسسات الدولية والمنظمات الأهلية (الإسلامية والخيرية) ويتم توزيع هذه المساعدات على المناطق، وحتى عام 1973 كان النظام الملكى هو نظام الحكم فى أفغانستان، وكان الملك ظاهر شاه - آخر الملوك- يحظى باحترام شخصى كبير، أما حكومته المركزية فكانت كغيرها ضعيفة وكانت سيطرتها المباشرة لا تتجاوز العاصمة كابول، ومن هنا أطلق على الرئيس الحالى قرضاى الذى نصّبه الأمريكيون اسم (عمدة كابول) وكانت آخر حكومة حاولت فرض سيطرتها على أنحاء البلاد هى الحكومة الشيوعية التى نصّبها الاحتلال السوفيتى، وقامت بإصدار قوانين وفرضت سريانها على الفصائل العرقية والقبائل، كما حاولت أن تجعل حزب الشعب الديمقراطى (الشيوعى) هو حزب كل الأفغان، كما حاولت نشر أفكار التحديث، والعلمانية، ونظريات ماركس ولينين، وكانت نتيجة ذلك اشتعال الثورات فى أنحاء البلاد، وانتهى الأمر بالإطاحة بهذه الحكومة فى أواخر السبعينات، وهى التى مهدت للغزو السوفيتى وكل الأحداث البشعة التى أعقبت ذلك. وبعد عشرين عاما من الحروب ووجود قوات أجنبية وحكومة ضعيفة جاء الأمريكيون بحكومة قرضاى لتحاول مرة أخرى فرض قوانينها وقراراتها على أنحاء البلاد دون عنف، ولكن ذلك لن يجدى، ولن تقوم حكومة مركزية لها نفوذ وتفرض سيادتها على جميع الأنحاء، ولن يكون أمام الأمريكيين وقرضاى إلا التخلى عن محاولة إقامة حكومة مركزية تحكم البلاد كلها حكما حقيقيا، وإما أن يفرض الأمريكيون نظام الحكم الذى يريدونه بالقوة العسكرية وبسفك المزيد من الدماء على يد جنود (الكفار)!
***
خامسا : أفغانستان فى الحقيقة هى ساحة يجرى فيها الصراع الدولى، توجد فيها أطـراف خارجية كثيرة لها مصالح تسعى إليها. وقد عبّر عن جانب من هذه الحقيقـة الصحفى الباكستـانى أحمــد رشــيد فقــال فى أوائـــل عـــام 2003: (إن روسيا تسلح أحد الجنرالات من زعماء الفصائل الأفغانية، وإيران تسلح جنرالا آخر، والسعوديين يمولون فصائل أخرى، وبعض جمهوريات آسيا الوسطى تساند حلفاءها الذين تربطهم بهم روابط عرقية، والهند وباكستان تساندان سرا قوات وفصائل معينة، والغرب يتجاهل هذا الواقع والذى يتمثل فى تعدد ميادين اللعب فى أفغانستان، ويضع الغرب حساباته على أنه قادر على فرض حكومة مركزية بالقوة على الجميع، ولا يضع الغرب فى حساباته أن القمع سوف يدفع الأفغان إلى مزيد من العنف والتضحيات، وسيؤدى ذلك إلى مزيد من الدماء).
وإذا كان جميع جيران أفغانستان يتحدثون فى العلن عن تأييدهم لعملية بناء أفغانستان موحدة ومستقرة فإنهم فى الحقيقة يختلفون فيما بينهم فى صيغة الوحدة والاستقرار، ولن تقبل أية دولة من دول الجوار وجود أفغانستان مستقرة إلا إذا كانت هذه الدولة سوف تحمى مصالحها. باكستان تريد حكومة مستقرة على أن تكون هذه الحكومة إسلامية تهيمن عليها قبائل الباشتون وتكون حليفة لباكستان ومعادية للهند وتعمل على نشر الطابع الإسلامى على آسيا الوسطى، وتريد باكستان أيضا إبقاء الجماعات الإسلامية فى مناطق الشمال وليس فى الشرق تجاه حدودها، أما روسيا-الجار الآخر- فإنها تريد دولة يسيطر عليها الأفغان من عناصر الطاجيك والأوزبك بشرط أن يكونوا إســـلاميين معتدلين، وهــذا أيضا ما يريده جيران آخرون مثل أوزبكستان، وتركيا، وطاجيكستان، وهم يريدون إقامة حاجز فى المناطق الشمالية لوقف تدفق المجاهدين السنة إلى وسط آسيا، وهذا هو ما جعل روسيا وتركيا تقدمان مساعدات كبيرة إلى زعيم من زعماء الطاجيك هو المشير فهيم، وجنرال من قادة الأوزبك هو رشيد دوستم بدلا من توجيه هذه المساعدات إلى حكومة قرضاى فى كابول. كذلك فإن إيران الجار القوى تعمل على أن يكون نظام الحكم فى أفغانستان قادرا على حماية أرواح ومصالح الأقلية الشيعية التى تعرضت للاضطهاد على مدى التاريخ، وتريد أيضا أن تكون الحكومة قادرة على خفض إنتاج وتصدير الهيروين، ولديها استعداد للسماح بامتداد المذهب الشيعى إلى آسيا الوسطى. ومن ناحية أخرى فإن السعودية ودول الخليج تطالب بما طلبته خلال سنوات الجهاد ضد السوفييت، تريد نظام حكم سنيا يعوق امتداد المذهب الشيعى إلى آسيا الوسطى من إيران عبر أفغانستان. ولا حاجة للقول بأن الهند (الجار الكبير) تريد حكومة أقرب إلى العلمانية، تكون صديقة لها، ولا تساعد على نمو المذاهب السنية أو المذهب الشيعى فى آسيا الوسطى وحتى فى أفغانستان نفسها بقدر الإمكان. ومعروف أن أجهزة المخابرات الهندية تسعى إلى استمرار حالة القلق وعدم الاستقرار الأمنى فى حدود باكستان. وأخيرا فإن مساعى أمريكا والغرب تركز على دعم حكومة قرضاى على أمل أن تتمكن من فرض الوحدة والاستقرار، وهذا الرهان الخاسر- كما يقول مايكل شيوار- سوف يصيب أمريكا والغرب بخيبة أمل موجعة!
***
سادسا : باكستان تعمل بكل قوتها على أن يكون نظام الحكم فى أفغانستان إسلاميا ويسيطر عليه الباشتون. وهذه الحقيقة تتجاهلها أمريكا كما يتجاهلها الغرب دائما، رغم أنه معلوم أن باكستان منذ تقسيم شبه القارة الهندية عام 1947 كانت اهتمامات دولة باكستان تركز على ثلاثة محاور تمثل استراتيجية الأمن العليا التى لا يمكن النقاش حولها، أولها: ردع الهند، وثانيها: الحصول على حماية نووية، وثالثها: وجود حكومة صديقة فى أفغانستان يهيمن عليها الباشتون، لذلك قامت باكستان بإجراء تجربة ناجحة للسلاح النووى فى مايو 1998 يمكن أن يكون مساويا للقنبلة الهندية التى سبقت بصناعتها منذ سنوات طويلة، وفى الوقت نفسه ساعدت باكستان على وصول طالبان إلى الحكم فى أفغانستان، لكى تضمن الأمن على الحدود المشتركة، وسيطرت حكومة طالبان على ثلاثة أرباع أفغانستان، وكانت هذه لحظة ذهبية بالنسبة لباكستان لأن التقارب مع أفغانستان هدف استراتيجى من أهداف الأمن القومى الباكستانى. لكن الموقف الآن مختلف، وازدادت الأمور سوءا بالنسبة للأمن القومى لباكستان، فقد انهزمت طالبان وتحولت إلى حركة تمرد فى الانتظار على أمل أن تعود يوما إلى السلطة، وما يحدث فى أفغانستان يؤدى إلى زعزعة الاستقرار فى باكستان، خاصة أن حكومة قرضاى تحاول إرساء الأساس لدولة أفغانستان لتكون دولة إسلامية بالاسم فقط، وتنزع القيادة من الباشتون وهم الأغلبية، وتتعاون مع الهند، حتى أن الهند أرسلت مراقبين عسكريين إلى أفغانستان، واستأنفت تدريب الضباط الأفغان فى الأكاديميات العسكرية الهندية، وأعادت فتح سفارتها فى كابول بعد أن كانت أغلقت فى ظل حكم طالبان، وأقامت مبنى كبيرا لسفارتها، وفتحت قنصليات فى المدن الكبرى فى هيرات، ومزار شريف، وجلال أباد، وقندهار. وفضلا عن ذلك فإن الولايات المتحدة تدفع باكستان إلى نقل قواتها العسكرية الأساسية إلى مناطق الحدود مع أفغانستان، وهى منطقة لا تخضع لسيطرة باكستان، وفيها احتمالات لاندلاع ثورة ضد باكستان تقوم بها القبائل المستقلة وهم من الباشتون، ويمكن أن ينضموا إلى إخوانهم فى أفغانستان، ويبدو أن هذا ما تسعى إليه السياسة الأمريكية.
ومنطقة الحدود هذه معبأة بالتوتر، وفى تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية فى ديسمبر 2002 كتب ديفيد رودى بعد زيارته لمنطقة القبائل: إن المعارضة للولايات المتحدة هناك عنيفة ومتزايدة، وتبدو المنطقة بعد سقوط طالبان وكأنها صارت معقل النضال الإسلامى. وبالنظر إلى قلق باكستان البالغ من التهديد من جانب الهند فإن الوضع فى أفغانستان بالنسبة لها أصبح خطرا، وفى نفس الوقت فإنها تبدو متعاونة مع الولايات المتحدة ومع حكومة قرضاى، ومصلحة باكستان أن يكون فى أفغانستان نظام حكم على غرار نظام حكم طالبان، وإزالة التوتر على الحدود بين الدولتين حتى لا يقوم نزاع مسلح بين قبائل الباشتون المسلحة على الحدود وبين الجيش الباكستانى. وباكستان من جانبها تفعل عكس ما تريد لإرضاء الولايات المتحدة، ومن ذلك أنها نقلت وحدات من قواتها المسلحة إلى مناطق القبائل رغم عدم رغبتها فى إثارة منازعات فى هذه المنطقة حتى لا يتفجر الموقف وتجد القوات الباكستانية نفسها فى حرب مع قبائل الباشتون فى هذه المنطقة.. فى الوقت نفسه هناك من يساند طالبان فى باكستان وهذا ما يعبر عنه المسئولون فى الغرب ويقولون: إنه عمل عناصر شريرة فى الجيش أو المخابرات الباكستانية، وهذا ما يفسر اختفاء العناصر الهاربة من طالبان بعد معركة تورا بورا، وقوات طالبان والقاعدة تتسلل عبر الحدود الباكستانية لمهاجمة أهداف للقوات الأمريكية والحكومة الأفغانية. وتوجد تقارير عن أن المخابرات الباكستانية نقلت مقاتلى القاعدة إلى مناطق آمنة فى كشمير الباكستانية، وأنهم يلقون المساعدة من جماعات التمرد فى كشمير، وأن حكومة الإقليم عند الحدود الشمالية الغربية يهيمن عليها الإسلاميون ولا تسمح بقيام جيش باكستان بأعمال عسكرية جادة ضد طالبان والقاعدة فى مناطق الحدود. رغم أنها سمحت بتواجد وحدات من الجيش الباكستانى فى هذه المنطقة. ونتيجة للأزمة الاقتصادية فى باكستان وتزايد سلطة الإسلاميين فى المجتمع الباكستانى وفى الأجهزة والمنظمات السياسية والعسكرية والأمنية، وتعانى باكستان من نمو القوة العسكرية التقليدية للهند، ولا تحتمل باكستان إضافة ضغط جديد عليها يهدد أمنها القومى بترسيخ نظام حكم فى أفغانستان يناصب باكستان العداء، كما لا تستطيع القيام بعمل عسكرى دموى لتصفية قوات طالبان والقاعدة فى منطقة الحدود لأن ذلك يمكن أن يؤدى إلى إشعال حرب أهلية وقد يؤدى إلى انسحاب قبائل الباشتون من أفغانستان وباكستان معا لإنشاء دولة خاصة بهم.
***
الواضح كما جاء فى كتاب رجل المخابرات الأمريكية مايكل شيوار أن أفغانستان كانت وستظل دولة يغلب عليها الطابع الإسلامى المحافظ، وهذه هى الحقيقة التى تأكدت فى كل العصور، وكانت النزعة الإسلامية هى القوة الدافعة لمقاومة الحكم البريطانى، ثم مقاومة الحكم الشيوعى، ولا تزال هذه النزعة هى الأقوى حتى اليوم، بل إنها تزداد تشددا بسبب الحروب التى استمرت 13 عاما ضد الشيوعيين ثم ضد الحكم الشيوعى (من 1979 حتى 1992) وخاض الأفغان هذه الحرب المريرة باسم الله، وأشعلتها العقيدة الراسخة، ثم خاض الأفغان بعد ذلك حربا أهلية استمرت عامين (من 1992 حتى 1994) وكان السبب وقوف الولايات المتحدة والغرب والأمم المتحدة ضد تولى الإسلاميين السلطة، وقامت أمريكا فى أفغانستان بما كررته فى العراق بعد ذلك، بادعاء أن الديمقراطية وحق تقرير المصير وتسليم السيادة للشعب تعنى فى النهاية إقامة حكومة موالية لأمريكا ولا تكون حكومة إسلامية، وتسبب ذلك فى إشعال صراع مسلح آخر استمر سبع سنوات أخرى (من 1994 حتى 2001) وأخيرا يخوض الأفغان حربا جديدة ضد الوجود الأجنبى وضد نظام حكم غير إسلامى. وحتى عبد الرسول سياف وهو زعيم تنظيم عسكرى كبير يعلن تحالفه مع قرضاى ويعلن فى نفس الوقت رفضه لوجود القوات الأمريكية وقوات حلف الناتو ويقول فى أحاديثه الصحفية: (إننا لم نتخلص من السوفييت ليحل محلهم الأمريكان). وهو بذلك لا يختلف كثيرا عمّا جاء فى بيان طالبان الذى أذاعته إذاعة كابول قبل الغزو الأمريكى وجاء فيه: (نحن نشكر الله أن الأفغان بقوتهم الصغيرة، وفقرهم، يقفون فى وجه أمريكا التى تعد قوة عظمى، وقد جاءت بكل قوتها لمواجهة الأفغان، ونحن نرد على ذلك بأن نشكر الله على أن الولايات المتحدة- بكل قوتها- تقف ضدنا.. وحين تبدأ بالعدوان على بلادنا فنحن مستعدون بفضل الله.. ونحن نطلب من الله أن تأتى أمريكا إلى أرضنا).
مثل هــذه الكلمات تعبر عن الروح المتأصلة فى الشعب الأفغانى وليس فى طالبــان وحدها، فالعقيدة الإســـلامية هى القــــوة التى تحــرك هذا الشعب ولا يمكن التأثير على هذه العقيدة أو تخفيف شدتها، وكراهيتهم للأجانب لا يمكن تغييرها، وانتماؤهم العرقى والقبلى سوف يظل يحكمهم ولن يحكمهم نظام آخر.. وهذه العوامل هى التى جعلت 6 ملايين أفغانى يقبلون أن يعيشوا فى ظروف قاسية كلاجئين فى المخيمات فى مناطق إيواء فى باكستان وإيران، ونوع التعليم الذى يتلقاه الصغار الذين نشأوا فى المخيمات جعل منهم عناصر نضال تغذيه دروس من رجال الدين الإيرانيين والسعوديين والباكستانيين، وبعضهم انتقل ليتعلم على يد المُلا عمر، ومعنى ذلك أن عودة اللاجئين الأفغان إلى بلادهم ستجعل منهم قوة إضافية تعزز الإسلاميين السنة والشيعة على حد سواء، وتجعل التغيير الذى تريده أمريكا بالغ الصعوبة، ويضاف إلى ذلك أن الجمعيات والمنظمات الإسلامية السنية السعودية تعمل فى أفغانستان منذ أكثر من ربع قرن، وقد تعلم الشباب الأفغانى منها المنهج الإسلامى السلفى الذى يدرس للاجئين فى مخيمات باكستان، ولدى الأفغان يقين بأن هناك ثلاث جهات فقط هى التى وقفت بجانبهم فى السنوات الصعبة التى عاشوها فى ظل الاحتلال السوفيتى، يقولون: إن الله أولا: هو الذى أيدهم ووقف معهم وساعدهم على طرد الاحتلال، وثانيا: الجمعيات والهيئات الإسلامية كان لها الفضل فى مساعدتهم، وثالثا: كان أسامة بن لادن يقف معهم ويقدم لهم ما يحتاجون إليه. وقد أعلن المُلا عمر: (إن أسامة بن لادن ساعدنا فى الحرب ضد الروس ولن يتخلى عنا الآن.. إنه سيعيش معنا ويموت معنا). وهذه العوامل الثلاثة جعلت الأفغان يؤمنون بيقين راسخ أن الإسلام بالنسبة لهم هو الضمان للبقاء والانتصار، وإن المساعدات التى يمكن أن تأتيهم من أية جهة غير إسلامية ستكون عديمة القيمة.
ويصل خبير المخابرات الأمريكية بشئون أفغانستان من ذلك كله إلى أن إقامة نظـام حكم إسلامى فى أفغانستان أمر حتمى ولا مفر منه ويقول بعد ذلك: (يأمل الإنسان أن يتمكن قرضاى ومن معه من المغتربين الأفغان العلمانيين المتأثرين بالطـابع الغربى الذين جاءت بهم أمريكا ليحكموا أفغانستان.. يأمل المرء أن يتمكنوا من النجاة بحياتهم).
هذه هى أفغانستان.. وهذه هى الحرب الأمريكية فيها.. وهذه هى العوامل الحاكمة للصراع القائم والقادم.. والإدارة الأمريكية- كما يقول مايكل شيوار- تتجاهل- هذه الحقيقة، ولذلك فإنها تخسر الحرب على الإرهاب.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف