المخابرات الأمريكية تكشف أسرار بوش!
كتاب غريب صدر فى الولايات المتحدة مؤخرا، أهدانى صديق أعتز برأيه نسخة منه، وقال لى: خذ هذا الكتاب لتعرف الأسرار الداخلية فى إدارة الرئيس جورج دبليو بوش إن كانت تهمك، وهو من تأليف واحد من الرءوس الكبيرة فى المخابرات الأمريكية، وبحكم وظيفته فإنه مطلع على الخفايا وما يدور وراء الكواليس.. الكتاب بعنوان (لماذا يخسر الغرب الحرب ضد الإرهاب؟).
وعندما تصفحت الكتاب تشككت فيه فى البداية، ووجدت أنه كتاب غريب بالنسبة للكتب الأمريكية، لأنه من تأليف رجل مخابرات سابق، ولكنه لم يذكر اسمه، فالكتاب له عنوان وليس له مؤلف معروف، وكان سؤالى الأول كيف سمحت المخابرات الأمريكية بنشره وهى تفرض رقابة مشددة على نشر أية معلومات عنها، ولا تسمح إلا بنشر ما تريد نشره؟ وكان سؤالى الثانى: لماذا أخفى المؤلف اسمه واكتفى بذكر صفته؟
وأخيراً وجدت الإجابة فى مجلة تايم الأمريكية، عدد 28 نوفمبر 2004.. فى تحقيق كبير عن الدور الذى جاء من أجله مدير وكالة المخابرات الأمريكية الجديد (بورتر جوس)، وقد أعلن أن مهمته إعادة بناء المخابرات الأمريكية وتطهيرها، وكان التحقيق يناقش: هل سيقوم جوس بإعادة تشكيل المخابرات أو سيقوم بإصلاح الجهاز؟ ووجدت فى هذا التحقيق إشارة إلى الكتاب تقول: إن أنصار بوش يعتقدون أن المخابرات سمحت بنشر هذا الكتاب مساهمة منها فى الحملة ضد بوش ربما بعد أن ضاقت بتجاهله وتجاهل نائبه ديك تشينى ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد للمعلومات والتحليلات التى قدمتها وكان يمكن أن تمنع (الكارثة). وكشفت تايم عن اسم المؤلف وهو مايكل شيوار، وكان يعمل محللا للمعلومات ورئيس وحدة مختصة بمتابعة نشاط بن لادن. وبعد تعيين مدير المخابرات الجديد بدأ عدد كبير من كبار قيادات المخابرات الأمريكية يقدمون استقالاتهم مما يدل على عدم رضاهم عن سياسة بوش والرجل الذى اختاره لتطهير المخابرات لتكون أكثر ولاء للرئيس بوش، وتعمل على تقديم التبرير لسياسة الحرب المستمرة التى بدأها فى أفغانستان للقضاء على أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة، ثم انتقل إلى العراق بكذبة أسلحة الدمار الشامل، وبدأ فى تهديد عدد من الدول الأخرى يتهمها برعاية الإرهاب دون معلومات أو دليل على ذلك، ويريد من المخابرات أن تلفق له الأدلة والمعلومات!
وفى مقابلة معه نشرتها صحيفة الشرق الأوسط اللندنية فى عدد 26 نوفمبر 2004 قال مايكل شيوار: إنه استقال من وكالة المخابرات الأمريكية بعد خدمة استمرت 25 سنة؛ لأنه أراد أن يقول الحقيقة، وأنه ألّف كتابه بموافقة جورج تينت مدير المخابرات فى ذلك الحين الذى اشترط عليه ألا يذكر اسمه عليه. وقال أيضا: إن مشكلة الولايات المتحدة أنها لا تمتلك شجاعة الاعتراف بأن الثمن الذى تدفعه البلاد مقابل تأييدها اللامحدود لإسرائيل يضر بمصالح أمريكا. وقال كذلك: عندما بدأت أنتقد جورج تينت وكبار المسئولين فى وكالة المخابرات، وأحمّلهم مسئولية فشل الحرب ضد الإرهاب، غضبوا علىّ، وأساءوا معاملتى، وكان ذلك أيضا من أسباب استقالتى.
وحين سئل مايكل شيوار: لماذا قلت إن الحرب ضد الإرهاب لن تنجح؟ أجاب: ليس لأن الإرهابيين أقوى منا، ولكن لأننا نرفض الاعتراف بأسباب غضبهم علينا. فالحقيقة التى لا يريد كثير من الأمريكيين، وخاصة كبار المسئولين الاعتراف بها هى أن عشرات الملايين من المسلمين- إرهابيين وغير إرهابيين- يؤمنون إيمانا قويا بأننا نعادى دينهم، ويؤمنون بأننا نقود حملة صليبية غربية ضد الإسلام، ويؤمنون بأننا سنغير الإسلام، أو سنقضى عليه، مالم يضح المسلمون بأرواحهم مثلما دعاهم الله والنبى محمد، أنا لا أقول ذلك لأنى أعطف عليهم، أو أؤيدهم، لكن الذى يريد أن يدمر عدوه فعليه أن يعرفه ويعرف أسباب غضبه.
وقال إن أسباب غضب المسلمين: أولا- تأييدنا بدون حدود لإسرائيل. وثانياً- اهتمامنا ببترولهم أكثر من اهتمامنا بهم. وثالثا- وجود قواعدنا العسكرية فى بلادهم. ورابعا- احتلالنا للعراق وأفغانستان. وخامسا- حمايتنا لحكوماتهم غير الديمقراطية. وسادسا: مطاردتنا لإخوانهم فى الفلبين واليمن. وسابعا- تأييدنا للدول التى تضرب إخوانهم مثل الصين التى تضرب مسلمى سنكيانج، وروسيا التى تضرب مسلمى الشيشان، والهند التى تضرب مسلمى كشمير.
وقال أيضا: أنا لا أدعو للتخلى عن إسرائيل كحليف، ولا أدعو لوقف تأييدنا لها. بالعكس. أنا أقول إننا كنا وراء تأسيس إسرائيل كدولة ديمقراطية، ولا بد أن نستمر فى حمايتها، لكن المشكلة هى اعتقاد كثير من العرب والمسلمين أن إسرائيل تسيطر على سياستنا فى الشرق الأوسط، بل هناك أمريكيون يعتقدون نفس الشىء. والحقيقة قد تتمثل فى أن الكلب يسيطر على ذيله، لكن هناك عشرات الملايين من الناس هنا وهناك يعتقدون أن الذيل هو الذى يسيطر على الكلب!.
وعن اللوبى المؤيد لإسرائيل فى داخل أمريكا قال شيوار: كل مجموعة ضغط تملك حق الدفاع عن مصالحها وسط أعضاء الكونجرس وفى الإدارة، لكن المشكلة فى أعضاء الكونجرس، لأنهم لا يملكون الشجاعة للاعتراف بالثمن الذى ندفعه مقابل تأييدنا اللامحدود لإسرائيل، وأنا لا أدعو إلا إلى شىء بسيط هو أن مصالحنا يجب أن تكون أهم من مصالح إسرائيل.. وأعرف أن ذلك ليس سهلا، ولذلك سنستمر نحارب بدون نهاية، وكلما طالت هذه الحرب تأكد فشلنا!
***
والكتاب يتحدث عن غرور القوة فى الامبراطورية الأمريكية، ويقول إنه لا يعرف حالة تحقق فيها الفشل فى السياسة الخارجية والعسكرية الأمريكية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية كما حدث فى أفغانستان، فقد بدأت الإدارة الأمريكية الحرب فى أفغانستان دون دراسة دقيقة للعدو الذى ذهبت لمواجهته، وبدأت فى إثارة حالة هيستيرية جعلتها تعمل دون مراعاة القواعد العلمية الأساسية التى يجب اتباعها عند اتخاذ أى قرار.
***
قبل الهجمات على مركز التجارة العالمى فى نيويورك ووزارة الدفاع فى واشنطن عام 2001 كانت القاعدة قد حققت 6 هجمات لا تقل خطورة عنهما، فى عدن باليمن عام 1992، وفى مقديشيو بالصومال عام 1993، وفى الرياض بالسعودية عام 1995، وفى الظهران بالسعودية عام 1996، وفى نيروبى بكينيا، ودار السلام فى تنزانيا عام 1998، وفى عدن مرة أخرى عام 2000. ومعنى ذلك أنه كان على الإدارة الأمريكية أن تتوقع الهجوم التالى. وكان أى إنسان يستمع إلى أسامة بن لادن يستطيع أن يتوقع هذا الهجوم، وكان المفروض أن تتخذ الإدارة الإجراءات والاحتياطات لتؤكد أن أمريكا أكبر قوة عسكرية فى العالم قادرة على إحباط أى هجوم جديد. وكانت المواقع والأهداف الخاصة بتنظيم القاعدة معروفة جيدا ومنذ فترة طويلة، وكانت المعلومات كاملة لدى الإدارة الأمريكية. معلومات كاملة عن معسكرات التدريب، والمطارات، والدفاعات الجوية، والمنشآت الحكومية فى المدن الرئيسية فى أفغانستان، والمحطات، ومستودعات الذخيرة، ومناطق تخزين الأسلحة، ومنشآت تصنيع الهيروين التى تمثل المصدر الرئيسى لتمويل طالبان والقاعدة، وثكنات القوات، ومراكز الاستخبارات، والكهوف والأنفاق التى تم تحديدها بدقة منذ الثمانينات. وكان معلوما لدى الجنرالات الأمريكيين أن الهجوم على أفغانستان يجب أن يبدأ بقوة لتدمير القاعدة وطالبان قبل أن يفروا إلى الجبال الأفغانية والريف الأفغانى، أو عبر الحدود إلى باكستان أو إيران أو وسط آسيا. وكان الجنرالات يعلمون أن (العدو) لا يستطيع صد أى هجوم لأن قوة طالبان الجوية، ونظام الدفاع الجوى لديها من طرازات سوفيتية قديمة عمرها ثلاثون عاما، وتتكون من بضع مقاتلات قديمة من طراز ميج، ورادارات مستهلكة من الجيل القديم، وأسلحة مضادة للطائرات من عهد فيتنام.
هذا كل ما لدى طالبان والقاعدة. وكل شىء كان معلوما بمنتهى الدقة والتفصيل أمام القيادات العسكرية والسياسية. وقد تأكد صدق هذه المعلومات بعد تقرير الليفتنانت جنرال سى. إف. اليوساف الذى قال فيه: إن دفاعات طالبان الجوية، وأجهزة القيادة والتحكم تم تدميرها فى ربع الساعة الأولى من بدء الحرب.. وباختصار لم يكن أحد فى أفغانستان، لا المُلا عمر ولا غيره، قادراً على الاشتباك أو الدخول فى هجوم مضاد على القوات الأمريكية.
كل ذلك كان معلوما، وكان أسامة بن لادن قد كرر الإعلان بعد الهجوم على المدمرة كول أن الهجوم القادم سيكون على الولايات المتحدة فى الداخل والخارج، وكرر تهديده بأن الهجوم القادم ستكون خسائره الاقتصادية والمادية أكبر. فكيف لا تتنبأ أمريكا بالهجوم عليها وهى تمتلك أقمار التجسس فى السماء، وطائرات عالية الارتفاع، ومجتمع استخبارات يكلفها 28 مليار دولار سنويا، وتملك أكبر قوة عسكرية فى التاريخ.. كيف لا تستطيع إجهاض محاولات رجل نشرت الصحف معلومات عنه وأحاديث أدلى بها لعدد كبير من الصحفيين فى أنحاء العالم. وكشف فيها عن نواياه وكيف لم يتوقع القادة الأمريكيون أين ومتى سينفذ أسامة بن لادن تهديده؟
وكل ما حدث بعد أن أعلن بن لادن الحرب أن مجلس الأمن القومى تحرك مع مكتب التحقيقات الفيدرالية (إف. بى. آى) بسرعة للمساعدة فى ترحيل أكثر من عشرين فردا من عائلة بن لادن كانوا فى الولايات المتحدة.
***
وبالرغم من أن هجوم 11 سبتمبر كان فاجعة إنسانية واقتصادية، فقد فشلت الإدارة الأمريكية فى إعداد قواتها العسكرية للهجوم على القاعدة فى اليوم التالى مباشرة. وكان التأخير هو الفرصة التى منحتها الإدارة الأمريكية للقاعدة وطالبان، وضاعت بذلك الفرصة الوحيدة التى كانت الولايات المتحدة تستطيع فيها القيام بعملية (قطع الرأس). لكن الهجوم لم يحدث فى اليوم التالى 12 سبتمبر، أو 13 سبتمبر، أو حتى بعد ذلك، وكان باديا أن إدارة الرئيس بوش قد أصيبت بالشلل. وبدلاً من تحديد الهدف فورا (القاعدة وطالبان) ظهر التخبط فى تحديد أهداف أخرى مثل إيران أو العراق أو حزب الله، وكان هناك من يرى أن يكون رد الفعل العسكرى محدودا، رغم أن خبير الإرهاب بريان جنكينز أعلن منذ اللحظات الأولى أن هذه الصفعة جاءت من أسامة بن لادن، وكان معلوما لدى القادة أن العدو الوحيد الذى يمكن أن يهاجم أمريكا هو تنظيم القاعدة، ولكن التلكؤ كان المقصود منه إخفاء الحقيقة، وهى أن القوات العسكرية الأمريكية كانت غير مستعدة، ولم تكن هناك قوات كافية قريبة من الموقع، ولم تكن لديها خطط سابقة الإعداد، ولا حتى خطط لتدمير مصانع الهيروين الأفغانية الذى تسبب فى قتل عدد من الأمريكيين يزيد على عدد ضحايا هجمات 11 سبتمبر.
كان الإهمال والتقصير فى كل مكان وعبر عن ذلك بوب وودوارد فى كتابه (بوش فى حرب) بقوله: إن القوة العسكرية الأمريكية التى كانت تبدو كأن لديها خططاً وسيناريوهات لا يمكن تصورها، لم يكن لديها فى الحقيقة أية خطة لأفغانستان)، وأفغانستان هى ملاذ أسامة بن لادن وشبكته كما يعرف الجميع. وكان كل ما لدى وزير الدفاع دونالد رامسفيلد أن يطلب من المسئولين عن التخطيط وضع بدائل وخيارات عسكرية موثوق بها، ولم يحصل على ذلك إلا يوم 21 سبتمبر، وأعاد رامسفيلد خطة القادة إليهم مرة أخرى فى أكتوبر لمزيد من التفاصيل عن المواقع المستهدفة، والقوات والأسلحة اللازمة، ولم تعتمد الخطة من الرئيس بوش إلا يوم 2 أكتوبر، أى أن العمل العسكرى تأخر لمــدة شهر. وقــد علـق على الموقف البروفيسور آر. كيه. بيتس قائلا: إن أمريكا هى الدولة الوحيدة التى تعتبر القوات المسلحة فيها أن الدفاع المباشر عن أرض الوطن تشتيت للانتباه.
هذا التأخير فى الرد العسكرى أعطى قادة القاعدة وطالبان الفرصة لتوزيع المخزون العسكرى، والأفراد، والموارد المالية، وتهريب معظمها عبر الحدود، وبذلك كان أسامة بن لادن حين بدأ الغزو الأمريكى يوم 7 أكتوبر فى موقف يجعله قادرا على المقاومة ليس فى أفغانستان فقط ولكن فى مناطق أخرى فى العالم. وبذلك خسرت العسكرية الأمريكية الحرب ضد القاعدة التى بدأت يوم 11 سبتمبر لأنها لم تكن مستعدة. بينما كان تنظيم القاعدة مستعدا، وهذا ما قاله فى مجلة الايكونومست البروفيسور جراهام آليسون الأستاذ بجامعة هارفارد من أن وضع الطرفين المتحاربين فى أفغانستان كان مختلفا.. الأمريكيون يشقون طريقهم بصعوبة، والإسلاميون السياسيون ينفذون المخطط الذى أعدوه منذ فترة طويلة.
***
ومع اندفاع الحكومة الأمريكية لخوض حرب لم تكن مستعدة لها، كان قرارها (أن نذهب للحرب بما لدينا) وحاولت بسرعة حشد ائتلاف من الحلفاء، والحصول على معلومات الاستخبارات من مصادر وبطرق كانت تهملها من قبل، وبدأت فى عمل ما كان يجب عمله قبل ذلك، بتنظيم الحماية للمناطق المعرضة للهجوم، وكانت تتصرف بسرعة وتعدو فى جميع الاتجاهات، وتفعل ذلك دون تقييم شامل للتهديدات التى تواجهها الآن، ولم يكن لديها استراتيجية مترابطة لمحاربة الإرهاب. بينما كان أسامة بن لادن والقاعدة يفكرون، ويخططون، ويتدربون منذ عشر سنوات استعدادا لهذه الحرب، ولذلك أظهروا مستوى من الخيال والجرأة كانت الحكومة الأمريكية تعتقد أنه مستحيل.
كانت أمريكا فى أفغانستان غاضبة، وقوية، ولكن غير قادرة على الرد إلا بتدمير مناطق بأكملها فى الإقليم الواقع على الحدود الشمالية الغربية لباكستان التى يأوى فيها مقاتلو القاعدة وطالبان، وهذه الضربات تصيب باكستان بالتدمير أكثر مما تصيب (عدونا) وقد كتب جوناثان ستيفنسون فى صحيفة وول ستريت أن القاعدة أصبحت أقل عرضة للتدمير عما كانت عليه قبل 11 سبتمبر.
***
وتحت عنوان (إلى أفغانستان: دولة تراجيدية وتحليل مضحك) يقول خبير المخابرات الأمريكية السابق مايكل شيوار إن أفغانستان فى حربها ضد الاحتلال السوفيتى فقدت مليونا ونصف المليون من سكانها، ورحل خمسة ملايين أفغانى عن بلادهم ليعيشوا فى المنفى فى باكستان أو فى خيام اللاجئين فى إيران، وخلال مقاومة السوفييت تم تدمير نظم الرى والزراعة، والطرق، واضطر الفقر المدقع الأفغان إلى زراعة الأفيون بعد تدمير زراعات الحبوب والفواكه، واشتد تمسكهم بالانتماء العرقى والقبلى بدرجة لا يمكن أن يتصورها الغرب.
وكانت المخابرات الأمريكية متغلغلة داخل أفغانستان حتى قبل الغزو السوفيتى عام 1979 بسبب موقعها الاستراتيجى على الحدود الجنوبية للاتحاد السوفيتى. وكانت المخابرات الأمريكية (سى. آى. إيه) تدير فى أفغانستان أكبر نشاط سرى فى تاريخ أمريكا لمساعدة المجاهدين فى حربهم ضد السوفييت، وتوج هذا البرنامج بنجاح عندما خرج آخر جنرال سوفيتى من أفغانستان فى فبراير 1989، وانهزم نظام الحكم الشيوعى الذى كان يحكم أفغانستان فى أبريل 1992، وخلال هذا كله اكتسب مئات من العسكريين، وضباط الاستخبارات، والمحللين، وخبراء التدمير، والاتصالات، ورسامى الخرائط، اكتسبوا خبرة كبيرة بأفغانستان، وكانوا على معرفة قوية بشخصيات الرجال المقاتلين الذين هزموا الشيوعيين بشجاعتهم وصبرهم وقدراتهم القتالية، وفى نفس الوقت كان اهتمام الكونجرس شديدا بالبرنامج السرى للمخابرات الأمريكية فى أفغانستان. وزار أعضاء من مجلس الشيوخ ومجلس النواب أفغانستان عدة مرات، وأعطوا أصواتهم بحماس بالموافقة على الميزانيات المطلوبة للعمل السرى المتزايد فى أفغانستان، واعتبروا هزيمة السوفييت فى أفغانستان الرد على هزيمة أمريكا فى فيتنام.
معنى ذلك أن الحكومة الأمريكية كانت لديها معلومات دقيقة وكاملة عن كل شىء فى أفغانستان ودور كل جماعة من الجماعات العرقية والطائفية المتعددة فيها، وكان معلوما ما يتميز به الأفغان من عزيمة وعناد وصبر وشراسة فى القتال ضد الأجانب. وكانت الحكومة الأمريكية تعلم استحالة تنصيب حكومة مركزية تفرض سلطتها على جميع أنحاء الدولة، واستحالة وجود حكومة ديمقراطية على الطراز الغربى تقوم على الفصل بين السلطات، وكان معلوما أن محاولة فرض هذا النمط سوف تؤدى إلى مجازر دموية لابد أن تنتهى بإقامة حكومة إسلامية من قبائل الباشتون أو خاضعة لها، ولن تختلف كثيرا عن حكومة طالبان سوى فى الاسم.
كانت أفغانستان كتابا مفتوحا أمام الإدارة الأمريكية وتعلم كل شىء فيها، ومع ذلك كان الأداء غريبا، وقد وصف بوب وودوارد الاستراتيجية التى كانت تناسب العقلية الأمريكية باستخدام قوة المال، والاستعانة بقوات أجنبية لكى يكونوا هم ضحايا المعارك ويموتوا من أجلنا، والاعتماد على أعداد محدودة من القوات الأمريكية. وكانت هذه الاستراتيجية من بنات أفكار من لا يعلمون الواقع فى أفغانستان على حقيقته بما فيه من تركيبة معقدة قبلية، وعرقية، ودينية، وما دام غير الخبراء هم الذين وضعوا استراتيجية الحرب دون الاستعانة بالخبراء، فقد شعر مجتمع الاستخبارات الأمريكى بأن هذه إساءة إليهم، وبعد بدء الحرب مباشرة نقلت صحيفة نيويورك تايمز عن مسئولين كبار فى المخابرات لم تذكر أسماءهم قولهم بأن الحكومة الأمريكية ليس لديها من يجيد الاستفادة بالمعلومات المقدمة إليهم عن أفغانستان، وكتبت الصحفية ديانا جين سكيمو عن مسئولين بارزين فى المخابرات وخبراء وأكاديميين أن الولايات المتحدة بدأت حربا ضد الإرهاب، وكان المفروض أن تستفيد فيها بمعلومات الاستخبارات قبل استخدام القنابل الذكية، ولكنها تعانى من نقص على مستوى الدولة فى القادة الذين يتمتعون بالمعرفة العميقة بلغات وثقافات أفغانستان والمنطقة المحيطة بها. وحتى لم يكن لدى الولايات المتحدة أعداد كافية ممن يجيدون الحديث بطلاقة باللغات الإقليمية فى أفغانسان. وكانت الكوارث التى نزلت بأمريكا فى أفغانستان هى الثمن لاستعانة الحكومة بمن لا يتمتعون بالموهبة.
***
وتحت عنوان (هل كان أحد يعلم أن الجيش الأحمر انهزم فى حربه فى أفغانستان؟) يقول الكتاب إن الصحافة الأمريكية عبّرت بقوة عن القلق لافتقاد الحكومة الأمريكية للخبرة بأفغانستان، وذلك بعد انكشاف العمليات العسكرية ابتداءً من أكتوبر 2001 وحتى أواخر العام. حقيقة أن برنامج مساعدة الأمريكيين للمجاهدين الأفغان فى حربهم ضد السوفييت على مدى 13 عاما كان أكبر وأنجح برنامج للعمل السرى فى التاريخ الأمريكى، ونتيجة لذلك اكتسب مئات من العسكريين ورجال المخابرات والدبلوماسية خبرة واسعة بأفغانستان، ومع ذلك لم تتم الاستعانة بهذه الخبرات فى الورطة الأمريكية التى استمرت عامين، ولم تتم الاستفادة من تجربة الاتحاد السوفيتى، مع أن العسكريين السوفييت نشروا الكثير من المذكرات والكتب الممتازة عن هذه الحرب، وكلها متاحة فى المكتبات، ونشرت جامعة كنساس تقرير قيادة الأركان السوفيتية عن الحرب السوفيتية فى أفغانستان عن تجارب النجاح والفشل فى العمل السياسى والعسكرى، ويصور هذا التقرير الإحباط الذى أصاب قوة عظمى سيطر عليها الغرور وحاولت الانتصار على شعب لم تفهمه جيدا، يجيد التعامل مع القوات الخاصة، كما يجيد التحصن ضد العمليات العسكرية التقليدية، وقد عبّر عن ذلك مسئول بارز فى المخابرات الروسية عندما التقى بعدد من كبار المسئولين فى المخابرات الأمريكية فى منتصف سبتمبر 2001 وقال لهم: للأسف، إننى مضطر لأن أقول لكم إنكم ستواجهون (الجحيم). ورد عليه أحد القادة الأمريكيين: سوف نقتلهم ونعلق رءوسهم على الأعمدة، وسوف نملأ حياتهم بالقلق.
كان المفروض أن يكون مجتمع الاستخبارات الأمريكية قد قام بإعداد أكوام من التحليلات السرية عن كل شبر فى أفغانستان، وعن تاريخ حربها ضد السوفييت، ابتداء من الانقلاب الذى أتى بحكومة عميلة للسوفييت، إلى غزو السوفييت لأفغانستان واحتلالها، إلى الحرب التى أعلنها المجاهدون، إلى النصر الذى انتهى بهزيمة الاتحاد السوفيتى ثم إلى زوال الاتحاد السوفيتى، ثم قيام الحرب الأهلية بين الفصائل الأفغانية، إلى صعود حركة طالبان، وازدهار زراعة الأفيون وتجارة الهيروين على نطاق واسع، وأخيرا صعود المُلا عمر إلى الحكم وعودة أسامة بن لادن. ولا شك أن دراسة وتحليل هذه المراحل كان سيضع أمام القادة الأمريكيين أسباب فشل الجيش الأحمر فى أفغانستان ليكون درسا يستفيدون منه، ولكن ذلك لم يحدث. ولذلك وقع الأمريكيون فيما وقع فيه السوفييت وكرروا أخطاءهم. وما جاء فى دراسة رئاسة الأركان السوفيتية عن تحليل عوامل هزيمة الجيش الأحمر يمكن أن تنطبق على الأداء الأمريكى من عام 2001 حتى 2004.
لقد كان الدرس من تجربة الهزيمة السوفيتية كما جاء فى تقرير رئاسة الأركان السوفيتية أن القوات ذهبت إلى الحرب دون أن تأخذ فى اعتبارها الخصائص التاريخية، والدينية، والوطنية، للشعب الأفغانى، وبعد الدخول فى المعارك اكتشف السوفييت أن هذه الطبيعة الخاصة للشعب الأفغانى هى التى أدت إلى استمرار وقوة الصراع المسلح، ولم يتوصل السوفييت إلا متأخرا إلى أن قرار إرسال قواتهم إلى هذه الأرض كان قرارا طائشا، وكذلك لم يكتشفوا إلا بعد الهزيمة أن الأفغان عاشوا قرونا طويلة من تاريخهم فى الحروب ضد الأجانب، ولم يتعايشوا أبدا مع الغرباء، وظلوا ينظرون إليهم على أنهم غزاة مسلحون غير مسلمين، وبذلك فإن عنصر القومية أولا وعنصر الدين ثانيا كانا وراء إشعال العداء، وإثارة النزعة للمقاومة الجماهيرية الواسعة، ولم يستطع الغزاة الأجانب أن ينتصروا على الشعب الأفغانى فى أية مرحلة من مراحل التاريخ، وكانت هذه هى الحقيقة التى اكتشفها السوفييت ولكن بعد فوات الأوان.
وكان التبرير للهزيمة فى تقرير رئاسة الأركان السوفيتية أن الجيش الأحمر لم يسبق له خوض حرب من هذا النوع. وهذا ما قاله القادة الأمريكيون فى أفغانستان بعد ذلك.
والتجربة الأمريكية فى أفغانستان تستحق القراءة كما يرويها مسئول المخابرات السابق مايكل شيوار فى كتابه المثير عن خسارة الحرب على الإرهاب. *