مصريون سفراء لأمريكا فى الداخل!
الدكتور سعد الدين إبراهيم أستاذ جامعى مرموق ومفكر اجتماعى، كان يحدثنا فى برنامجه الأسبوعى فى التليفزيون منذ سنوات عن المصريين كشعب واحد، ولكنه حدث له تحول بعد ذلك-ربما بعد أن توقف برنامجه وربما لأسباب أخرى وأصبح متفرغا لمهمة واحدة هى تكوين رأى عام فى مصر يؤمن بوجود أقلية قبطية تتعرض للاضطـهاد، وعندما فشل فى مهمته فى الداخل اتجه إلى الخارج، وله علاقات خاصة مع دوائر أمريكية يتلقى عن طريقها الأموال التى لا يخفى مصدرها، وإن كان الله وحده هو الذى يعلم مقدارها.
ولا بد أن نعترف بأن الدكتور سعد الدين إبراهيم شديد الإخلاص فى أداء مهمته، ويوظف علمه وذكاءه والمركز الذى يديره (مركز ابن خلدون) توظيفا بالغ الدقة، فهو يدافع عن تدخل الولايات المتحدة فى الشئون الداخلية لمصر بحجة الدفاع عن حقوق الأقباط، ولذلك عقد مؤتمرا فى قبرص عن الأقليات فى الوطن العربى ومصر خاصة، ودافع دفاعا حارا عن حق الأقباط ، والأكراد، والنوبيين، والأرمن، والبربر، والشيعة، فى أن تكون لهم كيانات مستقلة، ويقول إن الفكر الغربى الإمبريالى، والفكر الصهيونى الإسرائيلى، والفكر الاشتراكى الماركسى كان أكثر تنبها لظاهرة الأقليات فى الوطن العربى، ولذلك فهو يسعى إلى إقناعنا بأن ننضم إلى جهود الإمبريالية الغربية والصهيونية المسيحية والاشتراكية الماركسية وندعو دعوتهم بتحوبل الدول العربية إلى دول فيدرالية وإعطاء الاستقلال لهذه الاقليات.
الغريب أن الدكتور سعد الدين يعترف بأنه بدأ معالجته الأولى للدعوة إلى إيقاظ الروح الاستقلالية لدى الأقليات والطوائف والجماعات العرقية فى الوطن العربى على صفحات مجلة دراسات عربية التى تصدر فى بيروت واختار التوقيت المناسب لذلك بعد هزيمة 1967 . وهو يعترف أيضا بأن هذا الموضوع له حساسية بالغة، وبأنه بدأ دوره على استحياء، وأغرب من ذلك أنه هو الذى سبق أن نبه إلى أن الفكر الإمبريالى والصهيونى هو الذى يقوم بتوظيف قضية الأقليات فى الوطن العربى-ولايزال- لكى يزيد من تفتيت الوطن العربى، ولكى يستنزف طاقاته المادية والروحية والعسكرية فى صراعات وحروب داخلية، ولكى يزيد الوطن العربى ضعفا على ضعف، وهو الذى نبه أيضا إلى أن الفكر الإسلامى منذ بدايته اعترف بمشروعية اختلاف الأقليات عن الأغلبية المسلمة فى العقيدة، ومع ذلك تناقض مع نفسه وكرّس جهوده لإثارة الحساسيات الدينية والعرقية التى تحدث عنها، وتحريض الأقليات على التمرد، ومطالبة الدول العربية بالاعتراف بحق الأقليات فى الاستقلال فى إطار الفيدرالية، وهو ما قال عنه إنه مخطط استعمارى إمبريالى يهدف إلى تفتيت الوطن العربى. وهو بذلك يدعونا إلى الإيمان بالفكرة ونقيضها، ولا يرى فى هذا التناقض ما يدعو للدهشة أو الرفض!
ومع ذلك فقد تكفل بالرد عليه باحث قبطى جاد هو الأستاذ هانى لبيب وشرح افكاره فى كتاب مهم بعنوان (أزمة الحماية الدينية) ذكرنا الدكتور محمد سليم العوا فى مقدمته بواقعة تاريخية لها دلالتها البالغة، حين اراد البعض إقناع الأقباط المصريين بقبول التدخل الأجنبى بحجة حمايتهم من مخاطر معيشتهم مع الأغلبية المسلمة، فقال القس ٍسرجيوس-أحد أبطال ثورة 1919 عبارته المشهورة (يريدون التدخل لحماية الأقباط، فليمت الأقباط ولتحيا مصر). وكانت النتيجة أن بقى الأقباط وبقى المسلمون وبقيت مصر ايضا. وهذا يؤكد أن التدخل الأجنبى مرفوض من الأقباط والمسلمين جميعا، أو على الأقل من الأغلبية الغالبة الوطنية العاقلة، وهم يعلمون أن الأجنبى لا يريد خيرا للمسلمين أو الأقباط أو لمصر.
ولا أحد ينكر وجود جماعات التعصب الدينى من المسلمين والأقباط، ولا أحد ينكر وجود جماعات من الجهلة والحمقى من هؤلاء وهؤلاء، أو جماعات من الجهلة الذين يقودهم أصحاب المصالح فى تمزيق الشعب الواحد، والمفروض أن يقف العقلاء فى وجه موجات التعصب والحماقة والجهل، وأن يقودوا معركة دفاعا عن وحدة الوطن ووحدة أبنائه، وإلا أصبحنا غرباء فى بلدنا كما حدث فى العراق البلد العربى الشقيق والعزيز، ولابد أن نضع فى اعتبارنا أنه ليس لبلد من البلاد-ومنها مصر- حصانة تحول بينها وبين المصير الذى صارت إليه دول فى الشرق والغرب، وفى الشرق الأوسط بصفة خاصة، أو المصير الذى سوف تصير إليه دول أخرى مرشحة للتمزق ومخطط التنفيذ قائم على قدم وساق وليس خافيا على أحد.
وليس هناك عاقل لا يؤيد الدكتور العوا فى دعوته إلى القيام بجهد حكومى وشعبى فى قضية العلاقات القبطية والاسلامية فى مصر، لكيلا يقع البلد فريسة للباحثين عن الشهرة، أو ضحايا التعصب الأعمى، أو عملاء الأجنبى! وهذا يلقى المسئولية أولا على الدعاة فى المساجد والكهنة فى الكنائس إلى عدم تغذية نزعات التعصب ودعم التوحد الذى ميز الشعب المصرى. وهانى لبيب بنبهنا إلى ظهور شخصيات قبطية صنعت منها الصحف والمجلات رموزا قبطية، يتحدثون عن شئون الأقباط، وهم بعيدون كل البعد عنها ولكنهم يستغلون اتساع هامش الديمقراطية بقدر أكبر مما كان من قبل. وهؤلاء يشاركون مجموعة المسلمين أدعياء الغيرة على حقوق الأقباط ويروجون لذلك الدعوة إلى قبول التدخل الأجنبى، وهم يعلمون أن التدخل الأجنبى أو ما يسميه الداعون إليه فى أمريكا (الحماية الدينية) هو السلاح الذى تستخدمه القوى الإمبريالية، بينما يرفض اقباط مصر هذه الحماية ويعلنون أنهم ليسوا فى حاجة إلى حماية دينية من أية جهة خارج البلاد، وإن كان هناك أفراد من الأقباط والمسلمين فى الداخل والخارج يغذون هذه الدعوة، فإن جهودهم وأموالهم سوف تذهب هباء ولن تحقق أهدافها لأن الأقباط فى مصر لا يعيشون كأقلية والمسلمون لا ينظرون إليهم على أنهم أقلية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، ولكنهم مصريون لهم دين وللمسلمين دين وفيما عدا ذلك فلا فرق ولا تفرقة. ومن ناحية أخرى يجب ألا يغيب عن بالنا ما يذكره هانى لبيب عن علاقة الاستعمار الغربى بالإرساليات التبشيرية فى الماضى، وعلاقة العولمة بالحماية الدينية فى الحاضر والتى تمثل خطرا على الدولة وعلى الأقباط وعلى المجتمع كله، وإن كنا نلحظ أحداث العنف من حين لآخر فإننا نلحظ حالة التسامح السائدة فى كل الأحيان.
والعلاقة غير خافية بين المروجين للادعاء بمتاعب الاقباط ومكتب الحريات الدينية فى الخارجية الأمريكية. وهذا المكتب يتحين الفرص عند وقوع أحداث للفتنة الطائفية لتحديد شكل التدخل المناسب من الحكومة الأمريكية، وهذا المكتب وراء معظم المؤتمرات والاجتماعات ذات الصلة بالشئون الدينية فى مختلف الدول وهو الذى يقدم التمويل بسخاء لهذا النشاط، ويعد تقريرا عن الحريات الدينية كل سنة ويرفع هذا التقرير إلى الكونجرس الأمريكى مع توصيات بالإجراءات والتصرفات التى يمكن للحكومة الأمريكية اتخاذها للاستفادة من الفرص التى تتاح فى أحداث طائفية، وهذا المكتب هو الذى يجرى الاتصالات مع الجمعيات ومراكز الأبحاث والنشطاء فى إثارة الحساسيات والأزمات الدينيةـ ووفقا لقرار الكونجرس بإنشاء هذا المكتب. فإن السفارات الأمريكية على علاقة بالجمعيات والمراكز والشخصيات التى تعمل فى هذا المجال وتتلقى منهم تقارير تفيد فى تنفيذ السياسة الأمريكية فى فرض الضغوط السياسية والاقتصادية والتهديد بقطع أو تخفيض المعونات التى تقدمها الحكومة الأمريكية للدول.
وفى الخارجية الأمريكية سفير متجول اسمه السفير المتجول للحريات الدينية الدولية يأتى إلى مصر كما يذهب إلى دول أخرى ويلتقى بشخصيات وجماعات تساهم فى تنفيذ السياسة الأمريكية داخل البلاد، فهو سفير متجول لأمريكا ولهم سفراء مقيمون..
والموضوع كبير، له أبعاد كثيرة وخطيرة.
ونسأل الله السلامة لمصر والمصريين