صناعة الفتنة الطائفية!
لم تعد هناك صعوبة فى اكتشاف هذه الحقيقة، وهى أن فى مصر- وفى الدول العربية أيضا- صناعة رائجة هى صناعة الفتنة الطـائفية، وهذه الصناعة لها خبراء ومديرون وسماسرة وعمال، وهم جميعا يرزقون رزقا وفيرا من الأموال التى تتدفق للاستثمار فى هذه الصناعة.
يكفى أن نراجع كيف تم استثمار كل مناسبة وكل حادثة صغيرة أو كبيرة وتحويلها إلى أزمة تنشغل الدولة وعقلاء الأمة فى حلها، ولكنها تترك آثارا تتراكم فى النفوس طبقة فوق طبقة وخبراء هذه الصناعة يدركون أن تراكم هذه الآثار، يؤدى إلى تعبئة نفسية قابلة للانفجار عندما تصل عند نقطـة معينة، وخبراء هذه الصناعة يدركون أن تراكم هذه الآثار يؤدى إلى تعبئة نفسية قابلة للانفجار، عندما تصل عند نقطـة معينة.
وخبراء هذه الصناعة هم الذين يديرون الأمور، ويثيرون المشاعر عند كل حادثة مهما تكن صغيرة وهم الذين يحركون الشباب والمؤمنين وأصحاب النوايا الحسنة الذين يخدمون المخطط الشيطانى بمنتهى حسن النية وهم يظنون أنهم يدافعون عن عقيدتهم، ومعروف أن النزعة الدينية قوية عند المصريين جميعا.. المسلمون منهم والأقباط، وما علينا إلا أن نسترجع كيف تم تضخيم أحداث الكشح، وقصة الراهب المشلوح، وحكاية اعتناق وفاء قسطنطين للإسلام، وأخيرا جاءت حكاية مسرحية (كنت أعمى والآن أبصر) التى قام بها مجموعة من شباب كنيسة مارجرجس فى حى محرم بك بالإسكندرية.
المسرحية عرضت ليوم واحد، وكان ذلك منذ عامين، ولكن خبراء صناعة الفتنة حصلوا على نسخة من تسجيل لها، وقاموا بنسخ عدد كبير من الأقراص المدمجة (سى. دى) وزعوها بالمجان فى المسجد المجاور للكنيسة وفى حى محرم بك، فتحرك عدد من مثيرى الشغب المحترفين لإثارة مشاعر أهل الحى مستغلين الجو الدينى لشهر رمضان الكريم، وجو المعارك الانتخابية، وهكذا تحولت الشرارة إلى نار دفعت آلاف المسلمين إلى التظاهر وتحطيم عدد من المحلات وسيارات الشرطة وتبادلوا الهجوم مع قوات الشرطة فأصيب عدد من المتظاهرين والمجندين وهم أبناؤنا الذين يقضون فترة التجنيد فى قوات الشرطة ومسئوليتهم حماية المواطنين وممتلكاتهم وواجب المواطنين فى المقابل حمايتهم والتعاون معهم.
فى كل حادثة من أحداث الفتنة الطائفية هناك خطأ ما ارتكبه فرد أو مجموعة من المسلمين أو الأقباط، فإذا كان المناخ السائد فى المجتمع طبيعيا ويحكمه العقل والمنطق فإن هذا الخطأ يتم التحقيق فيه والتوصل إلى حقيقته والمسئول عنه ومحاسبته عما ارتكبه باعتباره مواطنا مصريا وليس باعتباره مسلما أو قبطيا، ولكن عندما يكون هناك من يتربص وينتظر وقوع هذا الخطأ مهما يكن صغيرا لاستغلاله وتحويله من خطأ فرد أو مجموعة إلى جريمة كبرى واعتداء لا يغتفر على المقدسات الدينية فهنا يكون الخطر، وهذا بالضبط ما يحدث دائما وفى كل مرة يصبح الحادث الصغير قضية كبيرة فى الصحافة وشبكات التليفزيون الأمريكية وبعض الفضائيات العربية التى تبدو سعيدة وهى تكرر بث صورها وإدارة حوارات حولها وتقديم تحليلات وتعليقات وتستدعى خبراء للتعليق وكأن القيامة قد قامت وتدفع مكافآت سخية لكل من يصور الأمور على أنها كارثة قادمة على مصر والمصريين.
صناع الفتنة فى مصر هم فى الحقيقة وكلاء لجهات فى الخارج تخطط وتدفع بسخاء فى السر والعلن، وتحرض على إعداد دراسات وكتب وأبحاث لإثارة الحساسيات الدينية بين الأقباط والمسلمين،ولهؤلاء جسور اتصال بأجهزة ومنظمات وهيئات موجودة فى الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا واستراليا، ومعروف أن الولايات المتحدة وإسرائيل تعملان بقوة على استغلال الملف القبطى فى مصر واستغلال الحساسيات الدينية والطائفية فى كل الدول العربية والإسلامية للتدخل فى شئونها الداخلية ابتداء من العراق ولبنان والسودان إلى أندونيسيا ونيجيريا والفلبين، وتظهر فى الخارج كتب ومنشورات ومقالات على مواقع خاصة على الانترنت لتغذية الفتنة الطائفية وقد سبق أن نبهت إلى ما يقوم به تنظيم مشبوه فى الخارج يطلق على نفسه (جنود الصليب) وشخص مجهول ظهر فجأة على أنه رئيس اتحاد الأقباط الأمريكيين اسمه رفيق اسكندر وصل به الأمر إلى حد إرسال رسالة إلى الرئيس الأمريكى جوج بوش ادعى فيها أن الضغوط على مليونى قبطى فى مصر اضطرتهم إلى شهر إسلامهم بالإِكراه وأن المسلمين اعتدوا على400 فتاة قبطية، ومع أن هذه أكاذيب من صنع شخص مريض وموتور إلا أن هناك من يتلقفها ويرددها وكأنها حقائق، وتأتى إلى مصر وفود من لجنة الحريات فى الكونجرس الأمريكى ومن بيت الحرية هناك لبحث هذه الوقائع الوهمية وأمثالها.
ومنذ سنوات كشف الأنبا مرقس أسقف شبرا الخيمة جانبا مما يجرى فى الولايات المتحدة وقال: إن مثيرى الفتنة هناك لا يتجاوز عددهم عشرة أشخاص لهم ميول وأهداف معينة، ووراءهم جهات تمويل تستفيد من نشاطهم، وقال أنا أقوم بزيارة أمريكا كل سنة وأقابل الأقباط المهاجرين هناك، وهم يحبون وطنهم، وفى نفس الوقت هناك جهات تتمنى لمصر ألا يكون فيها وفاق واستقرار وأن دوائر أمريكية معروفة تحاول استغلال كل حدث لتكرار الحديث عن حماية الأقباط وتحدث عن لقائه مع وفد من الكونجرس جاء إلى القاهرة والتقى به وطلبوا منه أن يحكى لهم عن مشاكل الأقباط فى مصر فلما أجابهم بأن الأقباط يعيشون مع المسلمين فى كل مدينة وكل حى وكل شارع وكل بيت وأن الأحداث التى تقع من الأمور العادية التى تحدث بين مسلمين ومسلمين أو بين أقباط وأقباط أو بين مسلم وقبطى باعتبارهم مواطنين، وليس غريبا أن تحدث خلافات فى المعاملات اليومية وسألوه عن مشكلة الأقباط فى بناء الكنائس فقال لهم إن الرئيس مبارك أنهى هذه المشكلة، فسألوه: ما هى الرسالة التى تريد إبلاغها إلى الرئيس بوش فقال لهم: أطالبه بأن يشكر الرئيس مبارك على الأعمال الكبيرة التى يقوم بها مع المسيحيين فى مصر، وكل مشكلة تجد حلا داخل العائلة، وسألوه: هل يجد المسيحيون فى مصر نوعا من التمييز فقال لهم: إنهم يحصلون على حقوقهم باعتبارهم مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات كالمسلمين سواء بسواء، وإذا كانت لهم مطالب فإنهم يعبرون عنها من خلال قنوات شرعية مثل كل الفئات فى البلاد.
والقمص صليب متى ساويرس سبق أن قال بصراحة إن مصر مستهدفة، وأن تاريخ التدخل الأجنبى فى مصر قديم ومستمر على مدى السنين، وأن موقف الأقباط على مدى التاريخ هو رفض التدخل الأجنبى فى شئونهم بحجة حمايتهم أو الدفاع عن حقوقهم، فقد رفضوا منذ سنوات طويلة محاولة تدخل قيصر روسيا بحجة حمايتهم، وتكرر هذا الرفض مع الاحتلال الفرنسى والاحتلال البريطانى، ويتكرر اليوم مع سياسة التدخل الأمريكية فى الشئون الداخلية للبلاد.
هذا هو الصوت القبطى فى مصر، ولكن البعض يعمل على النفخ فى الرماد لإشعال التعصب الطائفى،وليس بعيدا عن ذلك مؤتمر الأقليات الذى عقد فى قبرص عام 1994 لاستدعاء التدخل الأجنبى بحجة اضطهاد الأقباط والمؤتمر المزمع عقده فى الكونجرس الأمريكى الشهر القادم، وهناك من يوجه المشاعر الوطنية لأقباط المهجر نحو التعصب الطائفى، والأقباط المصريون فى المهجر مصريون أولا وأخيرا.. ويحمل كل منهم الحنين إلى الوطن والأهل، وهم يمثلون عمقا بشريا واستراتيجيا لمصر فى بلاد المهجر، ولكن أصحاب الصوت العالى المجندين لإثارة الفتنة فى المهجر وتصديرها إلى مصر هم قلة، ولكنها قلة نشطة وتستخدم لغة عنيفة ومثيرة وتختلق وقائع لا أساس لها، وتتناول بالتهويل أحداثا صغيرة فتجعل منها قضية طائفية وهذه الفئة هى السبب فى سوء الفهم والإساءة إلى أقباط المهجر وهم يرددون نفس الحجة وهى أنهم يعيشون فى مجتمعات ديمقراطية تسمح بحرية كاملة لكل فرد ليقول ما يشاء،ومع ذلك فإن تناول هؤلاء لما يسمونه اضطهاد الأقباط بما فيه من أكاذيب ومبالغات يفقدهم المصداقية لدى أقباط الداخل وأقباط الخارج.
وأخيرا لابد أن نضع فى اعتبارنا أن المؤمنين فى كل دين يعتنقون هذا الدين عن يقين بأنه الدين الحق وإلا ما كانوا آمنوا به، وليس من المنطقى مطالبة أهل دين بالتخلى عن تمسكهم وحماسهم لدينهم، ومن الطبيعى أن تكون هناك كتب ومواعظ وأحاديث عن محاسن هذا الدين أو ذاك موجهة إلى المؤمنين به وأن تستخدم كل الوسائل لتثبت عقيدة هؤلاء المؤمنين. وليس فى ذلك ما يمكن الاعتراض عليه، وإلا فلماذا كانت خطب الجمعة وأحاديث شيوخ الإسلام فى المساجد والتجمعات والإذاعة؟.. ولماذا كانت مواعظ وأنشطة الكهنة فى الكنائس؟.. وهل ينتظر من كل منهم أن يتحدث لاتباعه عن مزايا الدين الآخر؟.
كل أهل دين من حقهم أن يقولوا لأنفسهم ما يريدون لتثبيت عقيدتهم داخل تجماتهم، بشرطين: ألا يسيئوا إلى دين الآخر، وألا يصل التمسك بالدين إلى درجة التعصب الأعمى وكراهية الآخر.. والإِعلام عليه مسئولية كبرى لغرس التسامح ومحاربة التعصب.
وهذا هو صمام الأمان للمسلمين والأقباط، ولمصر أولا وأخيرا