فى انتظار (برلمان المستقبل)
كيف سيكون مجلس الشعب القادم؟
هل سيكون نسخة طبق الأصل من مجالس الشعب السابقة، أو سيكون فيه جديد؟
فى كل حزب وكل صحيفة وكل بيت لا حديث إلا عن الحكايات والأحداث والشخصيات التى أساءت إلى صورة مجالس الشعب السابقة وأفقدتها المصداقية لدى الرأى العام.. والناس مختلفون فى توقعاتهم.. بعضهم متفائل ويرى أن الحياة السياسية دبت فيها روح جديدة سوف تكون هى العنصر الحاسم فى صناديق الانتخاب وأن عجلة الديمقراطية دارت ولا يمكن وقفها.. ولكن بعضهم الآخر متشائم ويؤكد أن (ريمة) لابد أن تعود إلى عادتها القديمة.
وأعتقد أن المتشائمين ليس من حقهم أن يحكموا على مجلس الشعب الآن ويصادروا على المستقبل بينما هناك متغيرات كثيرة تؤكد أن الظروف الآن مختلفة عما كانت من قبل.. الناخبون أصبحوا أكثر وعيا وحرصا على المشاركة والتأثير فى النتائح.. والأحزاب لديها خبرة الانتخابات الرئاسية وأمامها فرصة لتطوير أدائها وتنظيم حملاتها الانتخابية بشكل مختلف عن الأشكال التقليدية القديمة.. ومنظمات المجتمع المدنى أصبحت عنصرا مهما للرقابة الشعبية.. والصحافة اتسعت أمامها آفاق الحرية والاستقلال..
ومن الواضح أن الحزب الوطنى سوف يختار مرشحيه هذه المرة على أسس موضوعية تراعى المصلحة العامة أولا. والدليل على ذلك أن الحزب خصص مؤتمره هذا العام للإعداد للانتخابات مما يعنى أنه يأخذ الأمور هذه المرة بجدية ويفتح باب المناقشة ليشارك الجميع بالرأى وأن عصر انفراد قيادات الحزب بالرأى والاختيار قد انتهى. ويبدو من المناقشات التى دارت فى المؤتمر أن كوادر الحزب متفقة على أن مجلس الشعب القادم لابد أن يكون (برلمان المستقبل) وأنه سوف يتحمل مسئولية المشاركة فى استكمال عملية الإصلاح السياسى والاقتصادى.. وكان الرئيس مبارك حريصا فى كلمته الختامية على أن يؤكد بوضوح سياسة الحزب فى اختيار مرشحيه وعلاقته بالأحزاب الأخرى. وذلك حين أكد على أن الكفاءة وحدها ستكون هى المعيار الأول فى الاختيار وأن الحزب سيدفع بدماء جديدة إلى مواقع القيادة وإلى عضوية مجلس الشعب لضمان الحيوية فى الحياة السياسية والبرلمانية ولهذا الهدف جاءت دعوة الرئيس مبارك للأحزاب الأخرى لكى تجدد فكرها وتعمق تواصلها مع قواعدها، وكان فى ذلك منطلقا من رؤيته بضرورة أن تكون الممارسة الديمقراطية قائمة على التعددية والتنافس الشريف بين الأحزاب لما فيه المصلحة العامة. وقد أثبتت التجارب أنه ليس من مصلحة الحزب الوطنى أن ينفرد بالساحة، وأن تغيب عن الحياة السياسية أحزاب قوية بدونها لا يمكن تحقيق تداول السلطة الذى يطالب به البعض، وهؤلاء لا يدركون أن تداول السلطة لا يمكن أن يتم بقرار أو بتنازل حزب الأغلبية عن الأغلبية لأحزاب الأقلية، فتداول السلطة ليس منحة ولا يتم بمجرد الرغبة أو بالمطالبة والإلحاح ولكن يتم بأسلوب ديمقراطى بالانتخابات الحرة وفى وجود أحزاب قوية تستطيع الحصول على الأغلبية.
وفى كلمة الرئيس مبارك عبارات تحمل كل منها رسالة مثل قوله: إن الحزب باق والأفراد زائلون وإن الحزب يعلو على أية قيادة وأى فرد.. ومثل قوله: سوف تحكم الأجيال المقبلة لنا أو علينا..
وأعتقد أن الرسالة وصلت.
والفكرة أن ما كان صالحا فى مرحلة قد لا يصلح فى مرحلة أخرى وأن التغيير حتمى لا محالة.. وأن كل حزب لابد أن يجدد نفسه لكى يظل حيا، كما يجدد الكائن الحى خلاياه طالما هو على قيد الحياة.
الرسالة وصلت.. ومع ذلك لا تزال هناك مخاوف تتردد همسا وجهرا من العودة إلى الأساليب القديمة فى اختيار المرشحين، وتنتصر النغمة التى كانت تحكم الاختيار من قبل وتدعى بأن أى حزب لا يهمه إلا الحصول على الأغلبية، ولا أهمية فى الانتخابات لما يقال عن الكفاءة أو الخبرة.
والمهم هو قدرة المرشح على الحصول على اعلى الأصوات بأية طريقة باستغلال العصبيات أو تقديم الخدمات لأهل الدائرة، أو استخدام سلاح المال، ولابد أن يكون المرشح ممن يجيدون لعبة الانتخابات ومناوراتها ويعرف كيف يؤثر فى الناس ويحسن القيام بالتربيطات والعلاقات العامة.. وغير ذلك من الوسائل المؤثرة التى تحقق الفوز بالمقعد دون استبعاد البلطجة التى نجح بها بعض الأعضاء فى مرات سابقة.
أصحاب هذا الاتجاه يقولون دائما إن الانتخابات لها منطق يفرض نفسه، ولا يمكن تغييره بحكم تكوين المجتمع وطبيعة القوى والاعتبارات المؤثرة فيه ولا قيمة للكفاءة والخبرة فى الانتخابات وحدهما لأن العنصر الحاكم فى الانتخابات ليس الكفاءة، والمثال الشهير الذى يستشهد به كثيرون على ذلك هو ما حدث لأستاذ الأجيال لطفى السيد (باشا) حين رشح نفسه لمجلس النواب، وكان منافسه خبيرا فى لعبة الانتخابات فلم يجد سلاحا يحارب به لطفى السيد إلا أن يقول لأهل الدائرة: إن لطفى السيد ديمقراطى وديمقراطى معناها كافر واسألوه هل هو ديمقراطى أم لا؟ وفعلا سألوا لطفى السيد فى لقائه الأخير مع أهل الدائرة: هلى صحيح أنك ديمقراطى؟ ولم يدرك الفيلسوف الكبير الفخ المنصوب له فأجاب على الفور وبحماس: طبعا أنا ديمقراطى، وسوف أعمل على نشر الديمقراطية فى البلاد.. وصاح الناس: كافر.. كافر.. وانفضوا من حوله. وسقط لطفى السيد بجلالة قدره وهو من أكبر رموز الإصلاح والتنوير أمام مرشح جاهل يعرف كيف يجيد لعبة الانتخابات.
أصحاب المنطق القديم لديهم أمثلة وحجج كثيرة أخرى لا تنتهى ويضيفون إليها أن كل شعب يفرز البرلمان الذى يعبر عن درجة التطور السياسى والوعى التى وصل إليها. ويستدلون على ذلك بأن البرلمانات السابقة وصل إليها تجار المخدرات، ولصوص البنوك، ومتهربون من التجنيد، ومرتكبو جرائم أخلاقية، اضطر مجلس الشعب إلى اسقاط العضوية عنهم، وأميون اضطر مجلس الشعب إلى إجراء امتحانات لهم فى القراءة والكتابة وفك الخط!
لكن أصحاب هذا المنطق يغفلون عن الآثار السياسية لوجود أعضاء من هذا النوع ليسوا مؤهلين لمناقشة التشريعات ومحاسبة الحكومة ومحاربة الفساد. ويتجاهلون الشكوى المزمنة من أن مناقشات كثير من الأعضاء للقوانين التى تقدمها الحكومة كانت تتسم بالسطحية وتكشف عن قلة الخبرة بصناعة القوانين، ويتناسون أيضا النقد المستمر لمجالس الشعب المتعاقبة لأنها لم تقم بوظيفتها الرقابية على الحكومة بالقوة والجدية التى تجعل الحكومات تعمل حسابا لمجالس الشعب ونتيجة لذلك لم يحدث فى تاريخ الحياة البرلمانية فى نصف القرن الأخير أن تأثرت حكومة بالاستجوابات التى قدمت فى البرلمانات منذ نشأة مجلس شورى القوانين عام 1866 حتى اليوم. وكل استجواب انتهى بشكر الحكومة والانتقال لجدول الأعمال!
المشكلة أن معظم الأحزاب القائمة ضعيفة بدون كوادر سياسية قوية وبدون هياكل وتنظيمات وبرامج تجذب الناخبين، وهى تطالب بالديمقراطية وتداول السلطة والتغيير والتجديد ولا تمارس شيئا من ذلك فى داخلها بل تمارس العكس! وبعضها تعرض للمناورات والانشقاقات والخلافات بين قياداتها ومهددة بالتفكك، أو تفككت فعلا.. فكيف تستطيع وهى فى هذه الحالة أن تقدم مرشحين لهم قدرة على المنافسة فى الانتخابات؟
هذا الوضع هو الذى جعل الحزب الوطنى ينفرد بالأغلبية فى مجالس الشعب وبإعداد القوانين وتمريرها. وبدلا من أن تعيد الأحزاب الضعيفة تنظيم نفسها فإنها تلجأ إلى (حجة البليد) وهى الشكوى من سيطرة الحزب الوطنى والادعاء بتزوير الانتخابات وتدخل الإدارة وبقية القائمة الجاهزة من الحجج المعهودة وكأن المطلوب من الحزب الوطنى ألا يكون حزبا قويا أو أن يتنازل عن الأغلبية لهذه الأحزاب الهشة؟
إن البرلمان القادم هو برلمان المستقبل ومازلنا فى انتظار تجديد الأحزاب لتكون صالحة للتعامل مع المستقبل.