نتـائج الامتحـان الصعـب!


لا يستطيع أحد أن ينكر أن الانتخابات الرئاسية كانت نقطـة تحول تاريخية دفعت البلاد إلى طريق جديد للحرية والديمقراطية. يشهد على ذلك ما سجله المراقبون فى الخارج والداخل من مظـاهر الانفتاح والحيوية السياسية غير المسبوقة. ولم يختلف أحد على أن الإعلام المصرى بصفة خاصة شهد تحولا كبيرا جدا كان كثير من المراقبين يشككون فى إمكان تحقيقه.
فالتليفزيون الذى ظل نصف قرن لا يعرف سوى زعيم واحد وحزب واحد وفكر واحد أصبح يعطـى فرصا متساوية لكل من رشح نفسه ليكون زعيما، ولكل حزب قدم برنامجا، ولكل الأفكار دون تفرقة أو انحياز، واستطـاع بذلك تحقيق المعادلة الصعبة بالحفاظ على الحياد والموضوعية على الرغم من أنه تليفزيون حكومى ويشرف عليه وزير له موقع قيادى فى الحزب الحاكم، وهذا تحول كبير فى مفهوم الإعلام ودوره فى خدمة الوطن بأحزابه وتياراته الفكرية والسياسية المختلفة دون تفرقة.. وكانت هذه مهمة صعبة.. والبعض كان يراها مستحيلة، ولكنها تحققت واجتاز التليفزيون- ووزير الإعـلام- هذا الامتحان بنجاح.
وخلال الفترة السابقة على بدء الحملة الانتخابية- وحتى أثناءها- تشكك البعض فى حياد الوزراء والوزارات والمحافظين وأجهزة الحكم المحلى، وقالوا إن الدولة بأجهزتها ستكون فى خدمة مرشح الحزب الوطنى، ولم يصدق البعض ما أعلنته الحكومة من التزامها بموقف الحياد، وبأنها ستجرى انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، ولن تسمح بتدخل الإدارة بأية صورة، وكانت هذه أيضا نقطة تحول فى موقف الحكومة والإدارة عموما، بل كانت امتحانا صعبا، ونجحت فيه أيضا، ولم تتحرك الأجهزة الحكومية الرسمية مع أو ضد أى مرشح من المرشحين العشرة وقدمت التسهيلات لهم جميعا لعقد المؤتمرات وتنظيم المواكب والمسيرات.
ولأن هذه أول مرة تشهد فيها مصر انتخابات تنافسية بين أكثر من مرشح لمنصب رئيس الجمهورية فقد حدث تحول كبير فى الإعداد والتحضير لهذه الحملة، ولأول مرة تعد حملات علاقات عامة وتسويق سياسى على أسس علمية ويتم الاستعانة فى التخطيط لها وتنفيذها بخبراء فى العلوم السياسية والسلوكية والتسويق السياسى، وهذا علم جديد علينا رغم أنه معروف فى دول العالم، ولدينا خبراء وأساتذة متخصصون فيه ولكن لم يكن لذلك مجال من قبل. وإذا كانت بعض الأحزاب لم تحسن إعداد حملاتها فالذنب ذنبها والقصور محسوب عليها وليس على غيرها.
ويشهد الجميع أن الصحافة فى عمومها توسعت فى ممارسة الحرية على نحو غير مسبوق، بل إن بعض الصحف لم تلتزم بأى حد أو قيد من حدود وقيود القانون والأخلاق والشرف الصحفى، وتجاوزت سقف الحرية بغير حساب حتى وصلت إلى درجة الانفلات، والكتابة بالسكين وليس بالقلم، ووصل البعض فى كتاباته إلى درجة الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة وعلى الكرامة الشخصية الواجبة وبعض الصحف أعطت نفسها الحق فى ارتكاب الجريمة المحظورة فى كل قوانين الدول الكبرى والصغرى وهى جريمة اغتيال الشخصية. ومع ذلك ظلت الساحة مفتوحة للجميع يمارسون حرية القول والكتابة وحتى حرية العبث والاعتداء على حريات وحقوق الآخرين على أمل أن تفيق بعد ذلك وتمارس النقد الذاتى وتصل إلى درجة معقولة من التوازن والموضوعية والتعقل.
وإن كان بعض المراقبين قد لاحظوا أن بعض الصحف القومية لم تستطع أن تحتفظ بمكانها بالضبط على خط الحياد والتوازن، فإن مرجع ذلك إلى أن هذه الصحف منابر للآراء المختلفة ومن حق كل صاحب رأى أن يقول ويشارك دون حجر عليه، والقاعدة أن الصحيفة ليست مسئولة عن الرأى، والمسئول هو صاحب الرأى، وإذا كانت الصحف الحزبية والمستقلة قد أطلقت العنان للهجوم فهل كان مفترضا أن تحجر الصحف القومية على الكتاب والمفكرين حين يستعملون حقهم فى أن يكون لهم رأى آخر؟
وهل الحرية مقصورة على الرأى المعارض وليس للرأى المؤيد الحق فى ممارسة هذه الحرية؟ وإذا كان لمن حصل على الدولارات من الخارج أن يهاجم؛ فهل حرام على من يدافع دون أن يقبض بالدولار أو بالجنيه أو حتى بالريال من الخارج أو الداخل؟
ومن النتائج الإيجابية لهذه الحملات الانتخابية أنها جعلت المصريين يتعرفون على أحزاب ورؤساء أحزاب لم يكونوا معروفين قبل ذلك. وترددت أسماؤهم، وسمع الناس أصواتهم وتعرفوا على شخصياتهم ومواقفهم وأفكارهم، وكان لذلك تأثير إيجابى مهم، فقد شعر المواطنون بأن أمامهم فرصة الاختيار بين هذه الأحزاب وانتهت بذلك حجة الذين كانوا يقولون إن حزبا واحدا يحتكر الساحة السياسية، وفى نفس الوقت تبلور فكر بعض الأحزاب الهلامية من خلال المواجهة مع الأحزاب الأخرى حين وجدت نفسها مضطرة إلى تقديم برنامج متميز ومحدد، ومن خلال التفاعل مع الجماهير اكتشف كل حزب مدى صلاحيته وصلاحية برنامجه وحجمه الحقيقى فى الشارع، واصبح عليه ان يقف وقفة يعيد فيها بناء هياكله وبرامجه وقياداته ويعمل على اجتذاب عناصر جديدة لها حضور وفاعلية وتأثير، لأن قانون الانتخاب الطبيعى بدأ يظهر ويحكم بالبقاء للأصلح، وعلى ذلك فهناك أحزاب سوف تسقط مثل أوراق الشجر الجافة التى فقدت الحياة، وأحزاب سوف تكتسب قوة ويزداد أنصارها، وقد تولد أحزاب جديدة من رحم هذه المنافسة الانتخابية.. وهكذا سوف تتجدد الحياة الحزبية والسياسية كما تتجدد خلايا الكائن الحى مادام أنه على قيد الحياة.
والخطأ الذى وقعت فيه بعض الأحزاب أنها تصورت أن هذه المعركة هى الأولى والأخيرة. ولم تضع فى حسابها أنها إذا خسرت هذه المرة فإنها يمكن أن تستفيد من الزخم السياسى لهذه (المعركة) فى كسب أرضية تعطيها فرصة أكبر فى انتخابات مجلس الشعب فى الشهر القادم، وفى انتخابات مجلس الشورى بعد ذلك، وانتخابات المجالس المحلية، وانتخابات الرئاسة المقبلة.. أى أن هناك أكثر من فرصة يمكن لكل حزب لديه مقومات البقاء والصلاحية أن يحقق فيها مكاسب سياسية ويحصل على مقاعد فى المجالس المنتخبة يمارس من خلالها دوره.. فقط عليه ألا يستسلم للكسل أو الشعور بالإحباط.. وعليه أن يعمل من الآن وباستمرار ودون توقف ولا ينتظر إلى حين بدء كل معركة انتخابية.
وإذا كانت قد حدثت تجاوزات هنا أو هناك.. وأدى الانفعال والحماس بمرشح إلى أن يتفوه بكلمات غير لائقة، أو اندفعت أقلام بعبارات لا تليق بأصحاب الأقلام المحترمين، أو انطلق بعض المتظاهرين الأبرياء أو المأجورين بهتافات لا تصدر عن متحضرين، أو تسرع البعض باتهامات بالتزوير والتدخل الحكومى دون دليل واحد على ذلك بل ومن قبل أن تبدأ حملة الانتخابات ومن قبل أن يأتى يوم التصويت.. إن كان قد حدث ذلك وما هو أكثر منه فالعذر أننا خضنا تجربة جديدة دخلناها لأول مرة، وكان علينا أن نتعلم من خلال الممارسة والخطأ والصواب كيف نخوض معركة انتخابات حرة وديمقراطية وشفافة ونزيهة، ليس من جانب الحكومة وحدها، بل من جانب السياسيين والكتاب والإعلاميين والمواطنين جميعا.
وإذا كنا قد تعودنا أن نلقى باللوم دائما فى كل خطأ على الحكومة فلا بد أن نتعلم الإنصاف ونتحمل نصيبنا من اللوم على الأخطاء التى نرتكبها نحن أيضا!
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف