أحزاب كسبت.. وأحزاب خسرت كثيرا!
كنت أتمنى أن تخوض كل الأحزاب معركة الانتخابات الرئاسية، وخصوصا حزب التجمع والحزب الناصرى وهما يمثلان تيار اليسار. ومازلت أعتقد أن الأحزاب التى وجدت فى نفسها الشجاعة للنزول إلى الشارع لخوض هذه التجربة التاريخية سوف تكسب ولو جاءت النتيجة فى غير صالحها، وسوف تخسر الأحزاب التى امتنعت واختارت لنفسها الجلوس فى مقاعد المتفرجين.
ولو كان اليسار حاضرا فى هده المعركة لكان قد استفاد فائدة كبيرة جدا- لا تعوض- لأنه لا يزال محدود التأثير ويشكو من قلة الفرص المتاحة له فى الإعلام وفى ممارسة النشاط السياسى بشكل عام. وكانت هذه فرصة نادرة للتواصل مع الجماهير، ومخاطبة الرأى العام من خلال وسائل الإعلام، كما كانت فرصة نادرة لطرح برنامج اليسار المصرى الاجتماعى والسياسى، وأعتقد أن طرح هذا البرنامج على الرأى العام كان سيؤثر فى الحوار الدائر الآن حول أولويات القضايا وحلول المشاكل. ومع ذلك اختار اليسار أن يخوض المعركة بعيدا عن ميدان المعركة!
وربما كان التجمع والناصرى قد أدركا الخطأ الاستراتيجى الذى وقعا فيه، بينما أثبت حزب الوفد أنه قادر على المراجعة والعودة إلى القرار الصحيح قبل ضياع الفرصة. كان الوفد قد قرر الامتناع عن ترشيح رئيسه للرئاسة، ولكن الهيئة العليا للحزب أعادت مناقشة هذا القرار، وتوصلت بأغلبية الأصوات إلى أن المصلحة العامة، ومصلحة الحزب، فى التراجع عن المقاطعة، ولقى هذا القرار الجديد ترحيبا حتى من الحزب الوطنى.
كانت حيثيات قرار الانسحاب تتلخص فى أن الوقت المحدد للدعاية غير كاف، وأن المنافسة منذ البداية غير متكافئة، وأن إجراء الانتخابات فى ظل قانون الطوارئ تحيط به المحاذير ثم اكتشف الحزب أن هذه الأسباب وغيرها يجب ألا تمنعه من المشاركة، لأنه بالابتعاد عن دائرة التأثير، وبالاكتفاء بموقف الرافض المعترض لن يستطيع أن يغير شيئا، ولكنه بنزوله إلى أرض الملعب يستطيع أن يؤثر- بدرجة ما- فى قواعد ومسار اللعبة، وقد يستطيع أن يحرز الهدف هذه المرة أو فى مرة قادمة، وهكذا جاءت حيثيات قرار المشاركة صادرة عن رؤية جديدة للحزب بضرورة إنجاح تجربة الانتخابات التعددية، والتعامل معها بالجدية التى تستحقها، وإعطاء الناخبين الفرصة كاملة للاختيار بأن تكون ألوان الطيف السياسى المختلفة أمام الناخبين، وبذلك تتحقق الجدية فى المعركة الانتخابية، وترسى الأحزاب الأساس لنجاح التجربة مستقبلا، وتسجل موقفا تاريخيا بأنها لم تتراجع ولم تستسلم، وتقدمت لتقول: نحن هنا.
هذه الرؤية هى الخيار الصحيح لصالح الأحزاب المشاركة ولمستقبلها كما دلت تجارب المقاطعة السابقة التى لم تحقق شيئا سوى العزلة والغياب عن الساحة السياسية فى أهم المواقف التى تؤكد فيها الأحزاب وجودها. والوفد بالذات خاض تجربة الانسحاب أكثر من مرة، وكانت المرة الأولى عند بدء التفكير فى إنشاء الحزب عام 1978، وفى الخطاب الشهير الذى أعلن فيه فؤاد سراج الدين باشا فى نقابة المحامين قيام الحزب قال: كان لابد أن نختار أحد الحلين: الإيجابية أو السلبية.. إن الحياة السياسية بلا معارضة كرجل يسير على ساق واحدة، فإنه يسير سيرا أعرج ولا يمكن أن يسير طويلا. وإن أساس النظام البرلمانى وجود أغلبية وأقلية. أغلبية تحكم، وأقلية توجه وتنتقد عند اللزوم.. معارضة هدافة بناءة لا معارضة لمجرد المعارضة.
لكن الحزب تخلى عن مبدأ الإيجابية بدل السلبية وبضرورة وجود معارضة بناءة، ووقع فى خطأ تراجع عنه بعد ذلك، فقد قررت الجمعية العمومية للحزب عام 1978 حل الحزب احتجاجا على الضغوط التى قال إنه يتعرض لها، وبعد سنوات اكتشفت قيادة الحزب وقواعده أن الحزب خسر خسارة كبيرة، لأنه- باختصار- لم يعد موجودا، فعاد فى سنة 1983 ليقرر معاودة نشاطه، واضطر إلى أن يخوض لذلك معركة قضائية بذل فيها رجاله من فقهاء القانون جهدا كبيرا. ومع ذلك جرب حزب الوفد المقاطعة مرة أخرى وقرر عدم المشاركة فى الانتخابات البرلمانية عام 1990 فلم يكسب شيئا، وخسر فرصة التواجد فى ساحة الانتخابات وإمكان الحصول على مقاعد فى مجلس الشعب مهما يكن عددها فإنها تضمن له القيام بدوره فى الرقابة والتوجيه والمعارضة، ولم يكن حزب الوفد وحده، فقد وقعت أحزاب أخرى فى نفس الخطأ وحصدت نفس النتائج.
لا شك أن دروس ومخاطر الانسحاب كانت وراء التراجع عن قرار المقاطعة، وتفضيل الإيجابية والمشاركة حتى ولو كانت الظروف غير مواتية من وجهة نظر بعض قيادات الوفد، فالمشاركة بأية صورة، وتحت أى شروط أفضل من الابتعاد والغياب.. المشاركة تعطى الفرصة للتأثير بشكل ما، والغياب لا يعطى هذه الفرصة.
ولو كان الحزب قد استجاب للجناح الرافض لكان قد خسر فى هذه المرة أكثر من كل خسارة سابقة، لأن الانتخابات هذه المرة فرصة للأحزاب أكبر من كل الفرص السابقة للتواصل مع المواطنين، ولعرض أفكارها وبرامجها والترويج لسياستها وكسب أنصار ومؤيدين مهما يكن عددهم فهم أفضل من عدم اكتسابهم. ومجرد أن يكون للحزب صوت يرتفع بين الناس هو مكسب وله مردود إيجابى يزيد حيويته ويضاعف تفاعله مع الجماهير، ومن خلال هذا التفاعل يتعرف الحزب على نقاط القوة ونقاط الضعف، ويستفيد بذلك فى تطوير برامجه وأدائه.
وبالإضافة إلى كل ذلك فإن كل حزب شارك فى هذه الانتخابات سجل لنفسه سابقة الدخول فى المنافسة على الرئاسة، وإن لم يحصل عليها هذه المرة ربما يحصل عليها فى مرة قادمة، والمثل يقول إن من يداوم طرق الباب لابد أن يدخل ولو بعد حين. والحزب السياسى الحقيقى هو القادر على التماسك، والقيام بدوره بفاعلية سواء كان فى الحكم أو فى المعارضة، وقوة الحزب فى قدرته على العمل بقوة فى الحالتين دون أن يشعر أعضاؤه بالإحباط أو تتفكك أوصاله.
وحزب الوفد بالذات تعرض على امتداد تاريخه لفترات وصل فيها إلى الحكم، وفترات أطول كان فيها فى المعارضة، وكان فى الحالتين محتفظا بشعبيته وكفاءته.. وربما كان احتجاب الأحزاب الأخرى لخشيتها من أن ينكشف حجمها الحقيقى فى الشارع، وتفضيلها أن تصور نفسها بأكبر من حجمها مادامت لم تختبر، ولكنها فى الحقيقة حرمت نفسها من مواجهة الحقيقة، والاستفادة بها فى تجديد فكرها وقيادتها وأساليب عملها.
اختارت أحزاب الطريق الصحيح الذى يجب أن تسلكه الأحزاب السياسية الناضجة، وفضلت أحزاب أخرى الانزواء والاكتفاء بترديد حجج مهما تكن قوتها فإن النتيجة فى النهاية لن تكون فى صالحها.. ولم يبق أمامها سوى فرصة انتخابات مجلس الشعب القادمة فإن ضاعت منها فقد لا تجد فرصة أخرى للبقاء فى الساحة.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف