رحلة الدكتور نبيل العربى
التقيت بالدكتور نبيل العربى الأمين العام للجامعة العربية مرة واحدة حين كان مندوب مصر فى الأمم المتحدة، وكنت فى نيويورك لبضعة أيام، وتفضل الدكتور العربى فدعانى على العشاء معه فى مقر إقامته، وأثناء العشاء، وبعده، استمتعت بحديث حكى لى فيه - بطريقته الدبلوماسية المتحفظة - بعض ما جرى فى كامب ديفيد حيث كان مديرا للإدارة القانونية بوزارة الخارجية وعضوا فى المباحثات إلى جانب الرئيس الراحل أنور السادات، وكانت له فى اتفاقية كامب ديفيد ملاحظات اختلف فيها مع الرئيس السادات..
وحكى لى جانبا مما دار فى كواليس المعركة التى كانت ساحتها فى المباحثات وفى محكمة العدل الدولية، وكانت لهذه المعركة جوانب متعددة سياسية وقانونية وتاريخية ودبلوماسية، وكان نبيل العربى - كما يعلم الجميع - أحد أبرز فرسان هذه المعركة التى انتهت بالانتصار للحق المصرى، لكن الرجل لم يشأ أن يسند لنفسه هذا الفضل، وبتواضعه المعروف اكتفى بالقول بأنه كان واحدا ممن أدوا واجبهم لا أكثر!
وفى نهاية اللقاء تمنيت عليه أن يسجل الأحداث التى عاشها لأن لديه الكثير مما يلقى الضوء على أمور وقضايا غير معلومة بينما يجب أن تكون معلومة ومسجلة لأنها ملك التاريخ وليست ملكا لأحد.. وبأسلوبه الدبلوماسى أجابنى بكلمات لم أفهم منها إن كان سيكتب شهادتها للتاريخ أم سيكتم الشهادة ويفضل الصمت حتى النهاية.
وأخيرا جاء كتاب الدكتور نبيل العربى «صراع الدبلوماسية من مجلس الأمن إلى المحكمة الدولية» ليحقق بعض - وليس كل - ما كنت أتمناه، لأنه لم يقل كل شىء وإن كان ما قاله عن طابا وكامب ديفيد، والجدار العازل، وعن سيرة حياته ومسيرته فى العمل الدبلوماسى، ورؤيته لأسلوب إدارة السياسة الخارجية لمصر، فى غاية الأهمية لكل مهتم بالتاريخ وبالمستقبل.. والغريب أن الدكتور العربى لم يكتب مذكراته - أو ذكرياته - إلا حين ألح عليه المؤرخ الكبير الراحل الدكتور يونان لبيب رزق الذى كان يعرف دور العربى فى قضايا جوهرية وشائكة فى مقدمتها قضية طابا، حيث كان الدكتور يونان مشاركا معه ضمن هيئة الدفاع عنها ولمس أهمية دور العربى فيها بالقانون والمنطق والحس الوطنى العالى.. وجاء كتابه تسجيلا لأسرار قضايا تمس السياسة المصرية والأمن القومى، ونجح فى أن يجعلنا نعيش معه فى روما ونيويورك وجنيف ونيودلهى وكامب ديفيد وتل أبيب ولاهاى، ولكنه لم يقل كل شىء.. وتقول الدكتورة لطيفة محمد سالم أستاذ التاريخ الحديث:«كثيرا ما كنا نطلب منه معرفة المزيد من الخفايا عن قضايا مصيرية، لكن تحفظه كان يقف حجر عثرة أمامنا، إذ فرض على نفسه نوعا من الرقابة المحببة إليه، وقد احترمنا ذلك فيه» وأقول بعد قراءة هذا الكتاب الممتع إذا كانت الرقابة التى فرضها الدكتور العربى قد غلبت عليه فأرجو أن يتخلص منها فى الطبعة الثانية وهو يعلم ما يكتبه نظراؤه فى الغرب بصراحة وقليل من التحفظ فى مذكراتهم.
عندما وقعت حرب 1967 كان الدكتور العربى مختصا بالشئون القانونية فى البعثة الدائمة فى الأمم المتحدة وعاش مرارة نتائجها التى قلبت موازين القوى فى الشرق الأوسط، وعاش ملابسات قرارات مجلس الأمن بوقف القتال دون مطالبة القوات المعتدية بالانسحاب خلافا للحالات المشابهة، وشهد بعد ذلك ميلاد قرار مجلس الأمن 242 فى 22 نوفمبر 1967 ومحاولات تنفيذه، وخلال السنوات الحاسمة فى التحكيم فى قضية طابا كان فى دائرة صنع القرار والمسئول عن الإعداد والتفاوض والكتابة والمرافعة والتنفيذ وكل ما تتطلبه هيئة التحكيم إلى أن صدر حكمها فى 29 سبتمبر 1988 وكان الحكم انتصارا للوفد المصرى واستعادة مصر لآخر نقطة من أرضها كانت إسرائيل تريد اغتصابها وتتمسك بها.
???
وشخصية الدكتور نبيل العربى متأثرة بوالده العظيم الدكتور محمد عبد الله العربى(بك) أستاذ القانون الكبير صاحب المؤلفات القانونية ومنها أول كتاب عن حرية الصحافة لايزال هو المرجع الأساسى.. وقد رفض والده تعليمه فى مدرسة أجنبية وألحقه بمدرسة حكومية حتى حصل على الشهادة التوجيهية (الثانوية العامة) فى قسم أدبى (فلسفة) فى عام 1951 من مدرسة مصر الجديدة الثانوية وعمره 16 عاما، وتخرج فى كلية الحقوق وعمره 20 عاما. وتدرج فى وظائف وزارة الخارجية إلى أن أصبح سفير مصر ومندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة لمدة ثمانى سنوات، وانتخب قاضيا فى محكمة العدل الدولية، وخلال ذلك حصل على الماجيستير والدكتوراه فى القانون الدولى من جامعة نيويورك، وفى عام 1957 عمل فى سفارتنا فى روما وكان ثروت عكاشة سفيرا لمصر هناك، وتعلم هناك اللغة الإيطالية، وفى روما التقى أول مرة بطالبة الهندسة نادية علوى تيمور وتزوجها بعد تخرجها بامتياز وتعيينها معيدة فى الكلية، وأنجبا ثلاثة أبناء (مى ومروان وهشام) وفضلت أستاذة الهندسة أن تضحى بمستقبلها العلمى وتفرغت لزوجها وأبنائها ولدورها كزوجة دبلوماسى عليها مسئولية تمثيل مصر إلى جانب زوجها.
شارك الدكتور العربى فى مؤتمر جنيف حول الشرق الأوسط، وفى محادثات فض الاشتباك الأولى والثانية عامى 1974 و1975، وفى عام 1981 عمل سفيرا لمصر فى الهند حتى سنة 1983، وسفيرا فى إيطاليا أربع سنوات، وفى سنة 1999 وصل إلى سن التقاعد فعمل مستشارا وشريكا فى مكتب الدكتور زكى هاشم للمحاماه والاستشارات القانونية، وفى 2008 عمل مديرا لمركز التحكيم التجارى الدولى، وعضوا فى المحكمة الدائمة للتحكيم فى لاهاى ،وقاضيا فى محكمة الدول العربية المصدرة للبترول (اوبك) ومستشارا لحكومة السودان فى النزاع على الحدود مع جنوب السودان.. إلى أن وصل به قطار العمر إلى منصب الأمين العام للجامعة العربية.. قصة نجاح كبرى لواحد من أبناء مصر العظام.