كيف يبدو الإسلام فى بلاد المسلمين ؟


البروفيسور (بروس.ب.لورنس Bruce B. Lawrence) رئيس قسم الديانات فى جامعة دوك الأمريكية له كتاب مشهور عنوانه (الإسلام بعيد عن العنف Islam Beyond Violence) دافع فيه عن الإسلام الذى يدعى كثير من الكتاب من الغرب أنه دين يدعو المؤمنين به إلى التطرف، والعنف، والعدوان على المخالفين له فى العقيدة. ويناقش لورنس أقوال المستشرقين حول مفهوم الجهاد فى الإسلام وادعائهم بأنه يعنى الحرب ضد (الآخر). ويستشهد بعبارة من كتاب الزعيم البوسنى على عزت بيجوفيتش (الإسلام بين الشرق والغرب) يقول فيها: (إن الجهاد هو نضال المسلمين من أجل العدالة الاجتماعية والسلام، وإن الهدف الأسمى لكل مسلم هو الاستسلام والخضوع لله).
ويصل بروس لورانس فى بحثه إلى أن الإسلام دين الوسطية والدليل على ذلك أنه يتعرض للهجوم من المتطرفين من الاتجاهين المتعارضين: اتجاه المتطرفين فى الديانات الأخرى، واتجاه المتطرفين فى المادية. بينما يؤمن الإسلام بالمادة والروح، ويدعو إلى السعى للدنيا وللآخرة معا، ويرفض الانغماس فى طرف دون الآخر. ومن هنا فإن الإنسان المسلم يعيش على الأرض بقدميه، ويحلق بروحه فى السماء.
وملخص نظرية (بروس لورنس) أن: التشوه الذى أصاب المجتمعات الإسلامية بلغ قمته فى القرن الثامن عشر وما بعده بالغزوات الاستعمارية. وكان من نتائج ذلك تشويه التطور الاقتصادى، وإخضاع العالم الإسلامى للأطماع التجارية للغرب، وظهور الطبقات البيروقراطية العليا التى تحالفت مع المصالح الاستعمارية، وطمس الهوية الوطنية، وعانى المسلمون من العنف المنظم ضدهم وأصبحوا ضحايا الهيمنة السياسية والاقتصادية. ومع ذلك فإنه مما يحسب للإسلام أنه على الرغم من كل هذه الضغوط ظل محتفظا بالقيم والمعتقدات كما جاءت فى القرآن والسنة، وظل حيا وقادرا على مسايرة التطورات العالمية، ولم يتجمد أو يتخلف. وقد شهد القرن التاسع عشر والقرن العشرون تحديات واجهت الإسلام والمسلمين. فقد كان التحدى الخارجى هو الاستعمار والسيطرة والأطماع الغربية، وتمثل التحدى الداخلى فى الدعوة إلى العودة للحياة فى الماضى والتنكر لكل ما استجد فى الحياة المعاصرة. وأخيرا ظهر تيار السلفية، كما ظهرت الحركات الإصلاحية للنخبة. وفى كل هذه الأحوال عاشت المجتمعات الإسلامية فى معارك من أجل الاستقلال والتحرر من التبعية، ومعارك أخرى مع التيارات المتشددة التى سببت التوترات والأزمات التى تعانى منها المجتمعات الإسلامية اليوم.
***
ويكرر بروس لورنس كثيرا أن الصورة النمطية عن الإسلام فى الغرب ظالمة، فالصور النمطية Stereo Types السائدة عن الإسلام أنه دين عنف، وأن العنف هو الطبيعة الأساسية للمسلمين، ويقول: إن هذه الأفكار وغيرها من الأوصاف المبتذلة لا تعتمد على دراسة موضوعية منصفة للإسلام والمسلمين ولكنها مدفوعة بمشاعر العداء ومعبرة عن المصالح الغربية. وأهم من ذلك أنها تغفل حقيقة مهمة، وهى أن المسلمين ليسوا مجتمعا واحدا، وأن هناك مجتمعات إسلامية لكل منها تاريخ وثقافة وميراث حضارى خاص بها، ومن الطبيعى أن يتأثر مفهوم الإسلام فى كل مجتمع بهذه العوامل، وهذا أمر طبيعى، فكما أن فى أوروبا مجتمعات متعددة بينها عوامل تجمعها وعوامل تجعل لكل مجتمع أوروبى خصوصية، فإن ذلك ينطبق أيضا على ما نسميه العالم الإسلامى. هناك عوامل تجمع هذا العالم فى إطار روحى واحد، وهناك اختلافات فى اللغة والثقافة والأصول العرقية داخل هذا العالم الواحد. فالإسلام فى الدول العربية ليس صورة طبق الأصل للإسلام فى آسيا وأفريقيا.. وحتى فى داخل هذه الكتل هناك أيضا اختلافات، وعلى ذلك يخطىء الباحثون عندما يتحدثون عن المسلمين كأنهم كيان واحد ويحكمون على الإسلام بما يلاحظونه فى مجتمع إسلامى واحد، فهذا التعميم غير علمى وغير واقعى، وهو السبب الأول فى وصول معظم المتحدثين عن الإسلام فى الغرب إلى نتائج خاطئة أو منحرفة أو مضللة.
ويروى بروس لورنس أن صديقا أندونيسيا قال له ذات مرة إن هناك ثلاثة إسلامات وليس إسلاما واحدا. الإسلام الشعبى الذى يحب علماء الأنثربولوجيا دراسته، وهم معظمهم متفرجون فضوليون، وهناك الإسلام العام الذى يعرفه علماء السياسة وصناع القرارات والصحفيون، وهم غالبا من الخصوم. وهناك الإسلام الأكاديمى الذى يستمتع المستشرقون بالحديث عنه.. والساسة الغربيون يكرهون الإسلام ويرون أنه عدو لهم لأنه فى الحقيقة عدو لأطماعهم، ولذلك يتحدثون عن الإسلام المتشدد، وغير المرن، ويتحدثون عن العنف والعدوانية فى الإسلام، وهم فى الحقيقة يتحدثون عن كراهيتهم للمقاومة التى يبديها المسلمون للأطماع الغربية. ولكن فى الغرب من يوجهون هذا الاتهام إلى الإسلام.. ومن أمثلة هؤلاء أستاذ الديانات الأمريكى (روبرت مورى) الذى ألّف كتابا بعنوان (الاجتياح الإسلامى-مواجهة مع أسرع الديانات انتشارا) يدور حول فكرة واحدة هى أن الإسلام دعوة توسعية إمبريالية كما حدث فى القرن السابع عندما زحفت الجيوش الإسلامية من الجزيرة العربية للسيطرة على مناطق واسعة فى آسيا وأفريقيا وأوروبا. ويعلق البروفيسور بروس لورنس على هذا الطرح بأنه ساذج وعدائى وملىء بالتشويهات، ومع ذلك فإن هذا الكتاب يدرّس حتى اليوم فى مناهج التعليم الدينى فى بعض الكليات الأمريكية. كما يشير لورنس إلى مقال فى صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية يعتبرها نموذجا لتوجهات الصحافة الأمريكية، والمقال بعنوان (رؤية الأخضر) وفى مقدمته: (ذهب الخطر الأحمر الشيوعى ولكن مازال هناك الإسلام). وهكذا يردد الإعلام الأمريكى أن الإسلام واحد، وأنه خطير، وكل مسلم إرهابى محتمل يتربص بأمريكا. ويقول لورنس: يبدو أن صورة صلاح الدين الأيوبى المقاتل العنيد الذى هزم الصليبيين ماثلة دائما فى العقل الغربى، ويصاحبها تخوف من أن يكون له أشباه كثيرون فى الوقت الراهن. ويعتقد الأمريكيون أن النساء المسلمات يتعرضن لقمع الرجال المسلمين المستبدين، ولا تظهر فى الإعلام الصورة الحقيقية للمرأة المسلمة المشاركة فى الحياة العامة. وهكذا تتلخص فكرة معظم الأمريكيين فى أن المسلمين يكرهون الغرب ويسيئون معاملة المرأة.
فالإسلام –كما يراه كثير من الغربيين- دين يحابى الذكور ويجعل للرجل مكانة أعلى من مكانة المرأة فى الحياة، وفى البيت، وفى المجتمع. وتضاف هذه الصفة إلى الصفات الأخرى: العنف، والعدوان، والتخلف، ويركز الغربيون على نماذج من قيادات الجماعات المتشددة أو الجماعات الإرهابية، ولا يتوقفون أمام نماذج للمسلمين المعتدلين. مثل على عزت بيجوفيتش، فهو مسلم أوروبى شرقى من البوسنة، وهو مفكر تحول إلى مناضل من أجل حرية بلاده، وهو ليس عربيا، ولا آسيويا ولا أفريقيا، وإنما هو أوروبى بالكامل، وهذا يهدم صورة الإسلام السائدة فى الغرب بأنه دين أفريقى وآسيوى وعربى، وأن المسيحية دين أوروبى-أمريكى. والحقيقة التى يكشفها بيجوفيتش أن هناك إسلاما أوروبيا. وأن الإسلام موجود فى أوروبا كما هو موجود فى جميع القارات، وهو ينظر إلى العنف باعتباره الحل الأخير لمواجهة اعتداءات الآخرين على المسلمين، وهو يدعو إلى العنف الدفاعى وليس الهجومى، وهو يؤمن بضرورة وجود نظام تعددى فى المجتمع الإسلامى، وبضرورة التعاون مع سائر الدول.. وبالإضافة إلى ذلك فإن بيجوفيتش الذى درس القانون واشتغل بالمحاماه متعمق فى دراسة الآداب الفرنسية، والتاريخ البريطانى، والأدب الروسى، ويستشهد بفرويد، وماركس وانجلز، وبودلير، فهو مثقف أوروبى من طراز رفيع ومسلم عصرى، ولكنه ظل طويلا يعانى من الضغوط والعداوات، لأنه أعلن الحقيقة وهى أن الإسلام واقع تحت الهجوم، ويتعرض للتشويه إلى حد تصويره على أنه (دين الشيطان). ووجهة نظره أن العنف فى العالم الإسلامى ليس نابعا من الإسلام ولكنه نابع من القهر والاضطهاد من جانب الغرب. وهو يحاول إعادة دور المثقفين المسلمين فى رسم الخريطة المستقبلية للأنظمة السياسية فى العالم الإسلامى.
***
ويرفض بروس لورنس (الموضة) السائدة فى الغرب بالحديث عن نهاية التاريخ وهذا هو الشعار المضلل الذى اخترعه فرنسيس فوكوياما أو الحديث عن صراع الحضارات وهو الشعار الذى اخترعه صموئيل هنتنجتون لعملية الصراع التى تهدف إلى الإقرار بانتصار الغرب بعد انتهاء الحرب الباردة القول بأنها كانت نهاية التاريخ المعاصر ومثل هذه النظريات هى وسيلة القوى الغربية الاستعمارية لفرض نفوذها، وتسخير الدين لخدمة الأيديولوجية..
ويقول بروس لورنس: إننى أدرس الإسلام وأنا أنجلو ساكسونى، تعود جذورى إلى أوروبا، لكننى مولود فى أمريكا، ونشأت غير مسلم، ومازلت غير مسلم، ولكن بعد دراستى للغة العربية وتاريخ الشرق الأوسط أصبحت منجذبا بعمق إلى الإسلام كقوة حية، هذه القوة التى تبعث الحياة فى مسلمين كثيرين عشت وعملت معهم، وأعتبرهم من أقرب أصدقائى، وأرى أن على مفكرى الغرب أن يعيدوا التفكير فى معتقداتهم السابقة الدينية والسياسية والاجتماعية التى أثرت على فهمهم للإسلام، واتباع منهج علمى محايد لدراسة الفكر الإسلامى والمجتمعات الإسلامية.
***
ومعظم المفكرين الغربيين يربطون بين الدين الإسلامى والقومية ويرون أنها شىء واحد، بينما ينظر الإسلام إلى القومية على أنها حقيقة منفصلة عن الدين، ولذلك عاشت قوميات متعددة فى ظل الإسلام دون وجود تناقض بينها أو محاولة لطمس الشخصية القومية لشعب من الشعوب الإسلامية، والدين الإسلامى- كما قال بيجوفيتش- وسيلة لإصلاح الحياة العامة وضبط العقل والجسد و السلوك، وتكامل الإنسان.. فالإسلام ينظم الحياة الداخلية والخارجية للإنسان المسلم، ويوحد بين العقيدة والإيمان والسلوك الإنسانى، ويكفى أن نعرف الدور التاريخى للمسجد فى المجتمع الإسلامى، فقد كان دائما مكانا للعبادة، ومدرسة للتعليم وساحة للاجتماع وبحث شئون المسلمين، وهو ملجأ المظلومين طلبا للعدالة، ولذلك كان القاضى يتخذ المسجد مكانا للفصل بين المتخاصمين. ولأن الإسلام دين العدل فهو أيضا دين القوة، لأن العدالة لا يمكن تحقيقها إلا بوجود قوة تفرضها وتعيد الحق للمظلومين..
ويشير بروس لورنس إلى موقف بعض المفكرين المسلمين تجاه الغرب وهو موقف يتسم بالندية، وليس فيه شعور بالنقص أو بالخجل أمام الحضارة الغربية، وهؤلاء يرون أن الإسلام ليس مجرد عبادات، ولكنه حياة كاملة.. والحياة فى الإسلام كما يرونها هى حياة عمل وإبداع وعلم وسعى إلى إحراز التقدم فى السباق العالمى، وهؤلاء يرون أن الإسلام دعوة للتوافق والتعاون مع المختلفين معه، وليس تحريضا على التصادم معهم، وأن الإسلام يرفض كل أشكال العبودية.. عبودية الدول.. وعبودية الأفراد والطبقات.. وعبودية الرجال والنساء.. بينما النظم الغربية قائمة على النمط القديم للعبودية فى صورة جديدة.
كما يشير بروس لورنس إلى المصالح الاقتصادية للغرب فى الدول الإسلامية والتى تمثل سببا من أهم أسباب الصراع، فالقوى الرأسمالية فى الغرب تسعى إلى تغيير العالم الإسلامى، وتغيير الإسلام ذاته، وتفكيك النظام الإسلامى، كما فعلت بتفكيك الإمبراطورية العثمانية، وذلك لفتح الأسواق أمام المنتجات الغربية، والسيطرة على منابع البترول، وهو الأساس الذى تقوم عليه الحضارة الغربية فى العصر الحديث، وقد أثبتت الباحثة الأمريكية (ليزا أندرسون) أن البترول أدى إلى المزيد من التخلف فى البلاد المنتجة له، كما أدى إلى تآكل فى هياكلها الاجتماعية، وقد عملت الدول الغربية على إعادة صياغة عقلية قطاع من النخبة فى العالم الإسلامى لكى تكون القوة المؤيدة للغرب فى داخل المجتمعات الإسلامية.
***
ويذكر لورنس أن تعداد المسلمين فى العالم حوالى ثلث سكان الكرة الأرضية، والمسلمون فى آسيا أكثر عددا من المسلمين فى أفريقيا، والمسلمون فى أفريقيا أكثر عددا من المسلمين العرب، ففى الشرق الأوسط 200 مليون مسلم تقريبا، وحوالى 100 مليون مسلم من العرب، وفى باكستان والهند وبنجلاديش أكثر من 300 مليون مسلم، وفى إندونيسيا ما يزيد على 150 مليون مسلم، وهذه الأرقام التقريبية تدل على عدم صحة الفكرة الشائعة بأن معظم المسلمين من العرب أو من الشرق الأوسط أو أن الإسلام هو الديانة الوحيدة فى الشرق الأوسط. ويجمع المسلمين فى جميع أنحاء العالم شعور بهذا (الكابوس الاقتصادى) والتوزيع غير العادل للموارد العالمية، وانقسام شعوب العالم إلى أغنياء وفقراء، وبفرض القيود الاقتصادية على العالم الإسلامى، وإعاقة محاولاته للتحديث والتقدم، وقد انقسم العالم إلى دول العالم الأول وهى دول أوروبا وأمريكا، ودول العالم الثالث، وفيها الدول الإسلامية، وهى دول متخلفة اقتصاديا وصناعيا وعلميا مع استثناء بعض الدول مثل تركيا، ومصر، وإيران، وماليزيا، والدول الإسلامية عموما تم تصنيفها كدول قليلة الشأن لأنها تفتقر إلى التكافؤ الاقتصادى والاجتماعى مع أوروبا وأمريكا.. وهذا الوضع جعل مفكرا أمريكيا مثل (إريك هوفر) يقول فى كتابه (المؤمن الحقيقى) لم تتمكن أية دولة إسلامية من إتقان الإنتاج الصناعى، أو تحقيق شىء تمكن مقارنته بما حققته اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وهونج كونج والهند.. وإن كانت ماليزيا وإندونيسيا قد شهدتا مؤخرا ولادة اقتصاد يعتمد على التكنولوجيا المتطورة.
***
ويشير بروس لورنس إلى أن أزمة البترول فى عام 1973 جعلت معظم الأمريكيين يرون المسلم خليجيا ويرحبون بالأفلام الكرتونية التى تظهر شيخا مسلما ثريا يحرم الغربيين من البترول، بينما يركز الباحثون الأمريكيون على أن طوفان دولارات البترول لم يحرر الدول العربية والإسلامية من الفقر، ولا بظهور طبقة رأسمالية حقيقية بالمفهوم الحديث للرأسمالية، ولا يزال المسلمون يقدمون حضارتهم للغرب بمجالس القهوة والنرجيلة، وفى رأى بعض المفكرين الغربيين أن الثورة النفطية أدت إلى سوء توزيع الثروات وكانت عائقا أمام تطور هذه المجتمعات، ولذلك مازالت محرومة من الدخول فى عالم الصناعة والعلم، والأسوأ من ذلك ظهور دعوة تسعى إلى إقناع المسلمين برفض قيم التقدم والحضارة! .لأنهم إذا قبلوها سيكون عليهم حتما التخلى عن القيم الإسلامية، وبذلك وضعوا الإسلام فى تناقض وتعارض مع التحديث والديمقراطية والعلم.
***
وينبه بروس لورنس إلى ظاهرة فى العالم الإسلامى لم يتنبه إليها كثير من الباحثين المسلمين، وهى أن الاستعمار الأجنبى خرج من الدول الإسلامية ومع ذلك فإنه بقى، لأن قيم المستعمرين استمرت بعد رحيلهم، والدليل على ذلك أن بعض الدول الإسلامية ما زالت فيها تقاليد وقيم الاستعمار البريطانى، وبعضها الآخر فيها تقاليد وقيم الاستعمار الفرنسى، وحتى بعض الزعماء الذين ظهروا بعد الاستقلال كانوا يحملون التوجهات الاستعمارية بشكل أو بآخر، خاصة فى المرحلة التى يسميها بروس لورنس مرحلة (هوس النفط) التى بلغت ذروتها فى السبعينات من القرن العشرين، وفى نفس الوقت تصاعد تيار الأصولية الإسلامية على يد أبو الأعلى المودودى فى باكستان، وكان المودودى صحفيا وليس عالما دينيا محترفا، وقام سنة 1941 بتأسيس (الجماعة الإسلامية) للدعوة إلى التزام السلوك الإسلامى فى الهند، ولم يكن متحمسا لإنشاء دولة باكستان، واختلف مع محمد على جناح مؤسس باكستان، ولكنه عندما أعلنت دولة باكستان هاجر إليها، وعاش فى لاهور، وقام بدور نشط من خلال (الجماعة الإسلامية) وعارض الحكومة واتهمها بأنها ليست إسلامية، وتعرض للسجن، وحكم عليه بالإعدام فى سنة 1953، ولكن أيوب خان- الحاكم العسكرى لباكتسان- أطلق سراحه، وبقى من سنة 1962 حتى وفاته سنة 1979 يعمل على مهاجمة الحكومات الباكستانية وشيوخ الدين، وكان كتابه الأول عن الجهاد، وأخذ عليه منتقدوه أنه كان فى مرحلة متحالفا مع حكومات عسكرية علمانية، وفى مرحلة أخرى داعيا إلى الجهاد ضد الحكومة لأنها غير إسلامية، دون أن يقدم الأيديولوجية الإسلامية فى صورة عملية قابلة للتطبيق.. هل هى اشتراكية أو رأسمالية؟.. وهل هى ديمقراطية أو شمولية؟.
ولقد رفع حكام باكستان راية الإسلام دائما.. أيوب خان رفع راية الإسلام الليبرالى، ورفع خليفته يحيى خان راية الإسلام الوطنى، ورفع ذو الفقار على بوتو شعار الإسلام الاشتراكى، وهو فى الحقيقة علمانى، ورفع خليفته ضياء الحق شعار الإسلام الأصولى، وعادت بناظير بوتو لتنادى بالإسلام الاشتراكى مثل والدها، بينما دافع خليفتها نواز شريف عن الإسلام الرأسمالى، وعندما عادت بناظير بوتو إلى الحكم أبقت على مفهوم الإسلام الرأسمالى، وعندما عاد نواز شريف إلى الحكم سار خطوات واسعة لتطبيق الشريعة الإسلامية على أنها الرأسمالية، وهكذا فإن الإسلام فى دولة مثل باكستان ظهر فى صور متعددة ومتناقضة.
وقد دعا المودودى إلى أن تكريم المرأة يكون بحرمانها من العمل وإبقائها فى البيت، ومع ذلك تراجع ودعم بحماس كبير ترشيح امرأة للرئاسة ضد أيوب خان، وانفصل أهم أعوانه عنه عندما رأوا أنه يتعاون مع التيار العلمانى، يتقبل أفكارهم الجديدة لتحديث المجتمع الباكستانى.
***
ويتحدث بروس لورنس عن الإسلام فى مصر، فيقول: إن مصر هى قلب العالم العربى، والأفريقى، وموقعها على تقاطع استراتيجى بين البحر الأبيض والبحر الأحمر جعلها رأس الحربة للتوسع التجارى الأوروبى، وجعلها فى نفس الوقت قاعدة للثورة على الاستغلال الخارجى، وقد تصاعد غضب المثقفين ضد الاحتلال البريطانى للمرة الأولى فى القرن التاسع عشر، وفى دعوتهم إلى طرد الأجانب كان المصريون يعلنون التحدى للهيمنة الأوروبية من خلال مفهوم عصرى للقومية العربية والإسلامية فى آن واحد، وإن كانت بعض النخب من السياسيين والتجار قد تعاونت مع الوجود الاستعمارى البريطانى، وقد اجتمعت الحركة الوطنية حول سعد زغلول وكان قد تأثر بالأفكار الإصلاحية الإسلامية للشيخ محمد عبده، وقام بتأسيس حزب الوفد على مبادئ هى مزيج من الاستقلال السياسى والالتزام الدينى بالإسلام، وتأسست جماعة الإخوان المسلمين رسميا سنة 1929 ودعوتها استعادة الهوية الإسلامية، وقد تصادمت جماعة الإخوان المسلمين مع نظام عبد الناصر ولم يكن مستغربا أن يتعرض ناصر لمحاولة اغتيال قام بها عضو فى هذه الجماعة سنة 1954، ولم يكن ناصر رافضا للإسلام- كما يقول بروس لورنس- ولكنه كان رافضا للنشاطات (الإِرهابية) لجماعة الإخوان فلم يكن الصدام بين الإسلام ومعارضة الإسلام.. بل كان بين صيغتين مختلفتين للإسلام، وقد دعّم ناصر الطبقة المتوسطة ورفع لواء الاشتراكية العربية التى دعمت مصالح الطبقات العاملة وانتشرت هذه الأيديولوجية ووجدت من يسبغ عليها الصبغة الإسلامية فتظهر نظريات عن الاشتراكية فى الإسلام، وبعده رفع السادات شعارات إسلامية، وأطلق العنان للجماعات الإسلامية، ولكنه وصل فى يوم 6 أكتوبر 1981 إلى لحظة قدره واغتالته مجموعة من خلية سرية أصولية.
ويقول بروس لورنس:إن الأصوليين فى مصر ينحدرون من الطبقة المتوسطة الصاعدة، أى أنهم ليسوا فقراء، ولديهم ما يكفى من التعليم، فمنهم أطباء، ومهندسون، وفنيون، وتأثروا بفكر المودودى رغم اختلاف الظروف التى كانت سائدة فى باكستان فى عهد المودودى عن الظروف السائدة فى مصر فى هذا العصر، خاصة أن المجتمعات الإسلامية السنية لا تعطى لرجال الدين سلطة أو نفوذا متميزا كما فى المجتمعات الشيعية، ولذلك فإن الأصوليين الإسلاميين من الراديكاليين العاديين وليسوا من رجال الدين، وكانت الدعوة الراديكالية على يد سيد قطب الذى أعلن (الوطنية هى الإسلام، والوطن هو الإسلام، والحاكم هو الله.. والدستور هو القرآن).
وهى دعوة غامضة لأنه لم يحدد كيف يكون الله هو الحاكم وحده وليس هناك حاكم غيره؟. وهل يعنى ذلك أن الحاكم سيكون صوت الله، وحكمه هو حكم الله؟.. أو أن الحاكم فى هذا النظام سيظل بشرا، ويجوز الاختلاف معه، وأحكامه أحكام بشرية يجوز الاعتراض عليها وتعديلها؟.. وهل سيكون الحكم فى الدولة الإسلامية حكما فرديا مطلقا مادام الحاكم يكتسب شرعيته من تطبيق أحكام الله بحيث يكون الخروج عليه كفرا بالله؟.. هذه القضايا تحتاج إلى توضيح كما يرى بروس لورنس.
***
ويتحدث لورنس عن أحوال المرأة فيقول: إن معظم النساء فى العالم الإسلامى لا يتمتعن بفرص متساوية مع الذكور فى التعليم والعمل ويواجهن القمع.. ويفسر ذلك بأن الإسلام ليس هو السبب، ولكن الأحوال الاجتماعية هى السبب، فالذى يعوق النساء هو ذاته ما يعوق الرجال، مثل التخلف الاقتصادى والاجتماعى، ونقص الفرص للعمل، وقلة الدخل، وعموما فإن الموارد غير متوافرة لمعظم المسلمين بغض النظر عما إذا كانوا رجالا أو نساء، وفى معظم الدول الإسلامية نجد عدم المساواة الاقتصادية، وقلة من الأغنياء فوق جماهير المدن والريف الفقيرة، ومازالت الاعتبارات القبلية أو الطائفية هى التى تحدد درجة الحماية الاجتماعية للفرد، يضاف إلى ذلك قلة عدد الجامعات، وعدم وجود مؤسسات التكنولوجيا الحديثة ذات النوعية العالية، هذه العوامل تؤثر على أوضاع المرأة.. ويضاف إليها التقاليد القبلية السائدة فى كثير من المجتمعات الإسلامية، والنتيجة أن حرمان المرأة من المساواة فى العالم الإسلامى ليس بسبب العقيدة الإسلامية، ولكن بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. ومع ذلك فإن هناك أصواتا نسائية ترتفع احتجاجا على النظام الحالى، وهناك مجتمعات إسلامية تحظى فيها المرأة بحقوقها.
***
ويستشهد بروس لورنس بدراسة للباحثة الأمريكية (أرلين ماكليود A rlene Macleode) صدرت فى كتاب لها بعنوان (التعايش مع الاحتجاج: النساء العاملات والتحجب الجديد والتغيير فى القاهرة) تشير إلى أن نساء الطبقة المتوسطة فى القاهرة يعملن فى الوظائف المختلفة، وفى نفس الوقت يحافظن على المظهر الإسلامى فى ملابسهن، وفى نفس الوقت فإن الجماعات الأصولية تمنع الاختلاط وتحرص على الفصل بين الرجال والنساء.
ويتناول بروس لورنس أوضاع المرأة المسلمة فى إيران فيقول: إنها فى ظل حكم الشاه فرضت عليها قواعد السلوك الأوروبية- الأمريكية.. ففى عام 1935 تم إجبار النساء على عدم ارتداء الحجاب فى الأماكن العامة.. وفى عام 1937 قرر رضا شاه أن يكون يوم 7 يناير من كل عام يوما للاحتفال به كيوم للمرأة، وفى عام 1938 تقرر قبول الفتيات لأول مرة فى جامعة طهران، وفى عام 1958 أنشئ المجلس الأعلى للمرأة، وفى عام 1966 تم استبداله بإنشاء منظمة النساء الإيرانيات وكان لها فروع فى كل المدن.. وفى يناير 1963 أعلن الشاه سياسة الاصلاحات التى أطلق عليها اسم الثورة البيضاء وتضمنت وعدا بإعطاء المرأة حق الانتخاب.. وفى عام 1967 دخلت المرأة الإيرانية سلك القضاء والشرطة والجيش.. وفى عام 1967 صدر قانون الحماية العائلى الذى يعطى المرأة الحق فى طلب الطلاق.
وفى فترة 44 عاما، من 1935 التى تم فيها حظر الحجاب إلى 1979 عام قيام الثورة الإيرانية توسعت شبكة منظمة النساء الإيرانيات وأصبح لها 400 فرع، و118 مركزا، و51 جمعية منضوية تحت لوائها.. وكان لها نشاط كبير لرفع مستوى المرأة بالتدريب المهنى ومحو الأمية والإرشاد القانونى والأسرى وارتفع عدد الفتيات فى المدارس حتى بلغ فى عام 1978 (33%) من مجموع طلبة الجامعات، وأصبح عدد الطالبات فى كلية الطب أكبر من عدد الذكور.. وفى عام 1979 دخل مليون امرأة إيرانية فى عداد القوى العاملة، و200 ألف فى التخصصات الأكاديمية، و150 ألفا فى القطاع العام، و1500 وصلن إلى درجة مديرة و1800 أستاذة جامعية، وازداد عدد النساء فى القضاء والجيش والشرطة وسلاح الجو، وانفتحت أمام المرأة الفرص فى جميع المجالات فيما عدا مدارس الشريعة والنشاطات الدينية، وفى عام 1978 تم انتخاب 33 امرأة للمجالس البلدية، و22 امرأة فى البرلمان، وتم تعيين وزيرة وسفيرة وحاكمة مقاطعة وخمس رئيسات للبلديات وكانت الحكومة تدعم إشراك المرأة فى جميع المجالات.
لكن الحال تغير بعد ثورة الخمينى، ففى فبراير 1979 تم وقف العمل بقانون الحماية العائلية، وفى مارس 1979 تقرر منع تولى المرأة منصب القضاء وكل المناصب الأخرى التى تعطيها الحق فى إصدار قرارات.. وفرض الحجاب على المرأة فى الأماكن العامة، وتم إغلاق مراكز رعاية الأطفال، ومنعت المرأة من الاشتراك فى المنافسات الرياضية الدولية، وفى مايو 1979 تقرر حظر الاختلاط فى المدارس والأماكن العامة والفصل بين الرجال والنساء فى المدارس والجامعات والمواصلات العامة، وفى ديسمبر 1979 تمت محاكمة أول امرأة تولت منصب الوزيرة فى عهد الشاه وأدينت بتهمة نشر الفساد فى الأرض وحكم عليها بالإعدام رميا بالرصاص، وفى مارس 1980 تم انتخاب أول مجلس إسلامى عدد أعضائه 270 عضوا وليس فيه سوى امرأتين فقط، وفى أبريل 1980 تم إغلاق الجامعات إلى أجل غير مسمى، وفى مايو 1981 قررت الثورة فرض الحجاب الإجبارى وطرد غير المحجبات من الوظائف، وفى يوليو 1981 صدر قانون لعقاب النساء المخالفات.. وصدر دستور 1979 وفيه نصوص عن حقوق المرأة كمربيات أطفال ومعلمات.
ويتساءل بروس لورنس: هل سيادة الرجل على المرأة من أساسيات الإسلام، كما ادعى بعض رجال الدين الكبار فى إيران أو أن هذا الوضع هو انعكاس لبناء المجتمع الإسلامى ودرجة تطوره؟.. ويقدم الإجابة بأن علماء الدين هم الذين جعلوا المرأة فى مرتبة أدنى من الرجل.. وهذا ما وصلت إليه الباحثة الأمريكية بربارة ستوواسر Stowasser فى تحليلها لأوضاع المرأة فى العهود الأولى للإسلام فقالت: (إن القوانين والممارسات الظالمة التى تحرم مساواة المرأة بالرجل لا ترجع إلى ما أنزله الله فى كتابه، إنما إلى تفسير علماء الدين للقرآن وإلى الأحاديث الموضوعة).. وتجب ملاحظة أن أوضاع النساء لا تحددها النصوص والأحكام الدينية وحدها، ولكن تحددها الأوضاع والتقاليد والقيم الاجتماعية السائدة فى كل مجتمع والتى تؤثر فى فهم وتفسير النصوص الدينية، وهذا ما يفسر اختلاف الأحكام الدينية بين البلاد الإسلامية واختلافها بحسب الانتماء إلى الطبقة الاجتماعية، وكذلك اختلافها فى الريف عن المدن..
وقد بدأ التغيير بعد وفاة الخمينى، ففتحت الأبواب أمام المرأة مرة أخرى وصدرت مجلة (زنان) أى النساء فى عام 1991 تناقش قضايا لم يكن مسموحا بمناقشتها علنا مثل حق المرأة فى طلب الطلاق، وسوء أوضاع النساء السجينات، والأفكار المغلوطة عن المرأة فى الكتب الدراسية، وصورة المرأة فى السينما الإيرانية، والتفسير الرجعى لآيات القرآن المتعلقة بمكانة المرأة، وتمثل هذه المجلة صوت الاحتجاج النسائى على القيود التى فرضتها ثورة الخمينى على المرأة، والآن أصبح 35% من المعلمين من النساء، واحتلت المرأة مكانا فى البرلمان، وفى الإدارة العليا وهكذا انتصر التيار الإصلاحى فى داخل القيادة الإيرانية.
***
وفى تحليل بروس لورنس لأوضاع المرأة المسلمة فى مصر يقول: إن فى مصر ثلاث فئات من النساء.
الفئة الأولى: تشمل الكوادر النسائية المتحالفة مع الأصوليين الذكور، وهى تنحدر غالبا من أصول ريفية من الطبقة الدنيا والطبقة المتوسطة الصغيرة، وأصواتهن الحقيقية غير مسموعة لأنهن لا يشاركن فى الحياة العامة.
والفئة الثانية: تشمل النساء اللاتى يتأثرن سلبا بالقوانين والقواعد المستوحاة من الأصوليين، وهى قواعد وتقاليد تبعدهن عن المجالات العامة التى كانت مفتوحة أمامهن قبل ذلك. وعدد هؤلاء النساء قليل أيضا، وتنحدر معظمهن من الجيل الثانى والثالث لسكان المدن، ولهن معرفة بمكانة المرأة فى أوروبا وأمريكا من خلال التعليم الذى حصلن عليه وفرص السفر للخارج المتاحة لهن، وهن يمارسن قدرا من المساواة، وفى نفس الوقت يوجهن النقد للإفراط الذى يبدر عن المدافعات الغربيات عن حقوق المرأة.
أما الفئة الثالثة: فهن لا يأخذن بعين الاعتبار قضايا المساواة وحقوق المرأة.
وقد تطورت أوضاع المرأة المسلمة فى مصر منذ عام 1923 وهو عام تأسس الاتحاد النسائى المصرى، وصدور مجلة الاتحاد (المصرية) باللغة الفرنسية، وكانت القاعدة المؤسسة لهذا الاتحاد من نساء الطبقة العليا الداعية للإصلاح الاجتماعى بقيادة هدى شعراوى، وبدأ التحاق الفتيات بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا) عام 1929، ورفع سن الزواج للفتيات إلى 16 سنة فى عام 1930، وفى عام 1933 صدر قانون حماية المرأة العاملة، وفى عام 1937 صدرت مجلة الاتحاد النسائى باللغة العربية للدفاع عن حقوق المرأة، وفى عام 1944 تأسس الحزب النسائى الوطنى فى القاهرة فقط، وهو أول حزب نسائى فى العالم.. وفى عام 1945 تم تأسيس اتحاد الجامعيات برئاسة انجى أفلاطون، وكان دعوة هذا الاتحاد تحرير المرأة وعدم تعارض ذلك مع الإسلام، وفى عام 1948 تم تأسيس اتحاد بنات النيل فى القاهرة وله فروع فى أنحاء البلاد يطالب بالحقوق السياسية والرعاية التعليمية والصحية للنساء الفقيرات. وفى عام 1971 صدر الدستور ويكفل للمواطنين المساواة أمام القانون دون تمييز بسبب العرق، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، وفى عام 1979 صدر قانون بتخصيص 30 مقعدا فى البرلمان للمرأة، وفى عام 1979 صدر قانون الأحوال الشخصية وتم تطويره فى قانون جديد صدر عام 1985.
ولم يستكمل بروس لورنس التطورات التى حدثت بعد ذلك مثل إنشاء المجلس القومى للمرأة والمجلس القومى للطفولة والأمومة، وإنشاء محاكم الأسرة ومكاتب تسوية المنازعات الأسرية، وقانون الخلع الذى يعطى المرأة الحق فى الطلاق، وقانون صرف أحكام النفقة من بنك ناصر، وإصدار قانون الطفل، وتعيين المرأة فى المناصب القضائية حتى صارت تشغل 12% من المناصب فى الدستورية العليا وهيئة المفوضين، وتشجيع المرأة على المشاركة السياسية فى الأحزاب والانتخاب والترشيح لمجلس الشعب والمجالس المحلية، وعقد مؤتمر قومى للمرأة سنويا.. وكان المؤتمر الخامس فى مارس 2005 تحت شعار (تنمية أساسها المشاركة)، وعقد دورات تدريبية فى مركز تأهيل المرأة سياسيا، وغير ذلك من المؤسسات والأنشطة التى تسعى إلى إعطاء المرأة المسلمة فى مصر الفرصة لدخول جميع المجالات دون استثناء وعلى قدم المساواة مع الرجل، ولا يجد ذلك معارضة من المؤسسات الدينية.. بل على العكس فإن رجال الدين الإسلامى والمسيحى فى مصر يشاركون فى حملات التوعية بحقوق المرأة وتدريبها وتشجيعها على المشاركة فى العمل السياسى والاجتماعى، وربما كان القصور فى رصد بروس لورنس للتطورات التى حدثت فى السنوات العشرين الأخيرة فى أوضاع المرأة فى مصر يرجع إلى قلة معلوماته عن هذه الفترة الخصبة التى شهدت أسرع مراحل التطور الاجتماعى فى مصر.
***
ويرصد بروس لورنس أوضاع المرأة فى بلد إسلامى ثالث هو باكستان، ففى عام 1949 أنشئت الجمعية النسائية التى قدمت توصية بفرض قيود على الطلاق وتعدد الزوجات، وفى عام 1961 صدر قانون يرفع سن زواج الفتيات من 14 سنة إلى 16 سنة وسن الرجال من 18 سنة إلى 21 سنة. وفى عام 1973 صدر الدستور وينص على المساواة بين المرأة والرجل. وفى عام 1974 صدر قانون يسمح للمرأة المتزوجة بالتملك، وفى عام 1979 صدر قانون الحدود، وفى عام 1981 تأسس منبر العمل النسائى وشاركت فيه المحاميات والمشتغلات بالمهن المختلفة، وفى عام 1982 نادى الداعية المتشدد (من غير رجال الدين) الدكتور أسرار أحمد إلى عزل النساء وفرض الحجاب ثم صدر قرار من الجنرال ضياء الحق بفرض قيود على مشاركة النساء فى مشاهدة المناسبات الرياضية.
وهكذا فإن وضع المرأة فى باكستان تعرض لموجات من المد والجزر نتيجة تشدد الأصوليين. وباكستان دولة ريفية فى غالبيتها، سكانها حوالى 95 مليون نسمة منهم 75% يعيشون فى القرى، وتعانى النساء من الفقر الشديد إلى حد أن قال عنها تقرير صادر عن مفوضية الأمم المتحدة: (إن المرأة الريفية العادية تولد فى باكستان فى وضع أشبه بالعبودية، وتعيش حياة الكادحين طول عمرها، وتموت دون أن يذكرها أحد).
أما تعليم الفتيات فإنه نادر ندرة المياه النقية والكهرباء. وظاهريا فإن انتخاب بناظير بوتو رئيسة للوزراء قد يوحى بأن مسيرة المجتمع الباكستانى قد تغيرت، ولكن الحقيقة فإن نجاحها كان بتحالف مع الأصوليين، ولذلك لم تلغ القوانين التى تظلم المرأة.
وفى دراسة لأوضاع المرأة المسلمة فى بنجلاديش يركز بروس لورنس على سوء أحوالها الاقتصادية والاجتماعية والقانونية. ويبدى ملاحظة مهمة هى أن هناك مجتمعات إسلامية تعطى للمرأة المساواة ومجتمعات إسلامية أخرى تحرم المرأة من المساواة وكلها تفعل ذلك باسم الشريعة الإسلامية، مما يدل على أن المشكلة ليست فى الإسلام ولكنها فى عقول الذين يتولون تفسير النصوص الدينية واستخلاص الأحكام الفقهية. وفى النهاية فإن وضع المرأة فى المجتمعات الإسلامية المختلفة يعكس درجة التطور فى كل مجتمع ولا يعكس بالضرورة حقيقة الإسلام.
***
ومن دراسة أوضاع المرأة فى المجتمعات الإسلامية ينتقل بروس لورنس إلى ظاهرة الأصولية الإسلامية فيرى أنه ليست هناك حركة واحدة تسمى الأصولية، وكل أصولية يجب فهمها فى سياقها التاريخى وظروف المجتمع الذى نشأت فيه. ويجب الانتباه إلى أن المسلمين فى عمومهم ليسوا أصوليين، ولكنهم مسلمون معتدلون، ولذلك فإن الباحث عليه أن يحدد المجتمع الإسلامى ويحكم عليه دون أن يقع فى خطأ التعميم على جميع المجتمعات الإسلامية.. فهناك مسلمون معتدلون، ومسلمون أصوليون، ومسلمون عرب، وفرس، وأفارقة، وآسيويون، وهناك مفهوم للإسلام عند السلطات الحاكمة ومفهوم عند رجال الدين، ومفهوم ثالث عند الجماعات المختلفة، وليس فى هذا التعدد والاختلاف ما يثير الدهشة، فهناك اختلافات بين الطوائف اليهودية، وبين المذاهب المسيحية، فلماذا نندهش عندما نجد اختلافات بين الطوائف والمذاهب الإسلامية؟
***
ثم يتوقف بروس لورنس عند مفهوم الجهاد فى الإسلام الذى تحول إلى مصدر خوف فى الغرب، لأن كلمة الجهاد تترجم إلى الإنجليزية (الحرب المقدسة) ويفهمها الغربيون على أنها الحرب الدينية على غير المسلمين. فهى تثير فى الذهن الغربى الحرب الصليبية من الجانب الإسلامى. بينما هو الحرب دفاعا عن الحقوق، سواء كان ضد الاستعمار، أو ضد الغزو الأجنبى، ولدى بعض المفكرين الإسلاميين فإنه يعنى الدفاع عن العدالة الاجتماعية، وعند مفكرى ماليزيا يعنى التعبئة الاقتصادية للمستقبل، ووراء معجزة ماليزيا مؤسسة فكرية للأبحاث والدراسات أقامتها الحكومة للتوعية بالقيم الإسلامية الإيجابية، هى المؤسسة الماليزية الإسلامية ويختصر الاسم فى حروف أربعة هى (إكيم IKIM) وهى تتولى نشر الكتب التى تقدم المفاهيم التقدمية للإسلام التى تدعو للتفوق والاتفاق والتعاون والاقتصاد، وتقدم هذه المؤسسة مفهوم الجهاد على أنه (التغيير) والتطور والتحديث استنادا على الحديث الذى نص على أن الجهاد الأكبر هو جهاد النفس. والجماعات الإسلامية فى ماليزيا تدرك الخطر الذى يمثله تزايد اللجوء إلى الشعارات الدينية الحماسية للترويج السياسى أو المزايدات الانتخابية. وكانت دعوة مهاتير محمد عندما كان رئيسا للوزراء: علينا أن نعمل على أن تكون ماليزيا قوية. وعندما تكون ماليزيا قوية سيكون الإسلام قويا.
وإن كان الجهاد قد تحول لدى بعض الجماعات إلى مفهوم العنف المسلح واغتيال الشخصيات المخالفة لهم، بينما تزداد حركة المراجعة لمفهوم الجهاد فهو عند الباحث السورى محمد شحرور يعنى الدفاع عن العقيدة إذا تعرضت للاعتداء، ومعارضة الإكراه فى الدين، والجهاد عنده موجه دائما ضد العنف، وفى الشيعة فإن آية الله مرتضى مطهرى من أهم علماء الدين الإيرانيين قال عنه الخمينى (إنه فاكهة حياتى- وجزء من لحمى) وقد قتل فى مطلع الثورة الإيرانية سنة 1979 ومازال الباحثون الإيرانيون يستشهدون بخطبه ومقالاته، وله كتيب بعنوان (الجهاد: الحرب المقدسة للإسلام وشرعيته فى القرآن) وهو يستند بداية إلى الآية : (وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) البقرة (190) وعلى ذلك فإن شرعية الجهاد قائمة على شرطين: أن يكون ضد جنود فى ساحة معركة، وأن يكونوا معتدين. فالجهاد فى الإسلام دفاعى وليس عدوانا. ويشمل الدفاع عن المظلومين من المسلمين كما هو الحال بالنسبة للفلسطينيين، وهكذا فإن الجهاد ليس دعوة للحرب من أجل الحرب، ولكنها الحرب من أجل الدفاع عن حقوق المسلمين وغير المسلمين على السواء.
***
ملخص أفكار البروفيسور بروس لورنس أن الإسلام نظام دينى عالمى، ولا يمكن اختزاله فى أقوال فردية لمفكرين مسلمين، وهو دين فيه مرونة وصلاحية للتعامل مع التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وليس عقيدة جامدة كما يتصور البعض فى الغرب، وبالتالى فإن التشدد والتعصب والجمود ليس التعبير الحقيقى عن الإسلام. وقد حان الوقت لكى يغير الغرب فكرته وموقفه تجاه الإسلام والمسلمين، ولابد من تحطيم الأسطورة التى صنعتها الدعايات والإعلام والحروب الصليبية وجعلت الإسلام يبدو على أنه الدين الشرير العدوانى الرافض للآخر. فإن من يدرس الإسلام فى الغرب لابد أن يكتشف أن المفاهيم السائدة عنه فى الفكر الغربى خاطئة، وأن المخاوف منه إنما يتبناها ويروج لها من لديهم معرفة ناقصة بهذا الدين، أو لديهم نوايا مسبقة للإساءة إليه. ومن الضرورى أن يفهم الغرب الإسلام فى تنوعه واختلاف صورته باختلاف المجتمعات والمذاهب، وإدراك أنه نظام دينى متطور لا ينفصل عن حياة ومصالح المسلمين اليومية.
وبروس لورنس ليس معروفا للكثير من المثقفين فى العالم الإسلامى رغم أن له كتبًا عديدة فى الدراسات المقارنة للأديان. وتاريخه العلمى يدل على اهتمامه منذ البداية بالإسلام، فقد تخرج فى جامعة برنستون، وحصل على الماجستير من جامعة كمبردج البريطانية، وعلى الدكتوراه من جامعة ييل وكل دراساته عن تاريخ الأديان، وقد عاش فترة فى دول إسلامية لدراسة الثقافات واللغات فيها، كما درس عقائد غير المسلمين مثل الهندوس، والسيخ، وله مؤلفات عن الشهر ستانى، وابن خلدون، ودرس الجماعات الأصولية فى كتابه (مدافعون عن الله) ودرس المجتمعات الإسلامية والاختلافات فى المفاهيم الإسلامية فى كتابه (تحطم الأسطورة: الإسلام بعيد عن العنف) وكتاب (الثورة ضد العصر الحديث) الذى فاز بجائزة الامتياز فى الدراسات التاريخية من الأكاديمية الأمريكية للديانات. وله أيضا كتاب (الإسلام فى تركيا والهند) وآخر كتبه بعنوان شبكات (المسلمين) وكتاب (الحضارة الإسلامية). صدرا فى عام 2005.
ومثل هذا الأستاذ المتخصص فى الدراسات الإسلامية يجب أن تهتم به المؤسسات الإسلامية، سواء بترجمة كتبه، أو بدعوته لزيارة البلاد الإسلامية ولقاء رجال الدين والمفكرين، فهذا هو الحوار الذى يفيد فى كسب الأصدقاء وتوضيح صورة الإسلام فى الغرب ومواجهة موجات العداء الموجهة ضده.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف