إنذار كاذب من الإسلام فى الغرب
فى الغرب أصوات كثيرة تتحدث عن الإسلام باحترام، فى مواجهة العداء للإسلام والمسلمين. بعض هذه الأصوات لرجال الحكم والسياسة، وبعضها لكتاب ومفكرين ورجال دين، ومعظمها من مواطنين يحملون جنسيات دول غربية تعرفوا على الإسلام فوجدوا فيه ما كانوا يبحثون عنه من مبادئ وقيم، وعقيدة تخاطب العقل كما تمس القلب وتسمو بالروح.
وقد كان رئيس الوزراء البريطـانى أقوى الأصوات التى ارتفعت بالدعوة إلى تفهم حقيقة الإسلام ومعرفة ما?ينسب إليه من أكاذيب شوهت صورته فى الأذهان وفى الإعلام فى الغرب. وفى مجلس العموم تليت رسالة من رئيس الوزراء بمناسبة بدء أسبوع الوعى الإسلامى فى نوفمبر 2001 وقال فيها: إن الأحداث الفظيعة التى وقعت فى 11 سبتمبر 2001 (بتدمير برجى مركز التجارة العالمى فى نيويورك) جعلت التعامل مع الجهل بهذا الدين العظيم أمرا مهما، وجعلت زيادة فهم التعاليم الحقيقية للإسلام- بحكمته ورحمته- بين المسلمين وغير المسلمين أكثر أهمية من أى وقت مضى.
فقد أجمع المسلمون على أن مثل هذه الأعمال تخالف المبادئ الحقيقية للدين الإسلامى، كما أنه من الضرورى أن نتذكر بأن كثيرا من المسلمين فقدوا حياتهم فى هذه الاعتداءات. ولا يمكن أن نسمح لأحد بالمساواة بين أفعال مجموعة من الإرهابيين والدين الإسلامى الذى يتسم بالسلام والتسامح.
وأبدى رئيس الوزراء البريطانى فى كلمته تفهمه لمشاعر القلق لدى المسلمين فى بريطانيا قائلا: إننى على يقين من أن المسلمين البريطانيين قلقون فى هذه الأوقات العصيبة من أن يتعرضوا لمزيد من الاعتداءات بسبب عرقى أو بسبب الكراهية، ولذلك طلبت حماية المسلمين المعرضين للتهديد أو الهجوم وأن يكون لذلك أولوية مطلقة، ومن المهم أن نكون يقظين تجاه عناصر المجتمع الذين يتصيدون الفرصة لإثارة التوتر فى مجتمعاتنا، وسوف نقف بحزم ضدهم.
وكانت هذه الصيحة من رئيس الوزراء ضرورية فى ذلك الوقت، لأن المسلمين فى بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وغيرها من دول الغرب تحملوا الكثير من الإهانات وتعرضوا لاعتداءات كثيرة وصلت إلى حد الطرد من الوظائف، والتحرش بهم فى الأماكن العامة، والاعتداء على بيوتهم ومحلاتهم ومساجدهم.
***
وفى سياق الجهد الحكومى لإعادة الثقة فى الإسلام والمسلمين قام وزير الخارجية فى ذلك الوقت- روبين كوك- هو الآخر بزيارة المركز الإسلامى الإسماعيلى وألقى كلمة بعنوان: (حوار جديد مع الإسلام) قال فيها: إن ثقافة الغرب ليست يونانية أو رومانية الأصل فحسب، بل هى إسلامية أيضا. فالعلوم والفلسفة والفنون الإسلامية ساهمت فى تكييف نمونا كأفراد، وأثرت فى تفكيرنا وأسلوب حياتنا. لذلك فإن ثقافتنا مدينة للإسلام بدين يجدر بالغرب ألا?ينساه. ولقد سمحنا للأيام بأن تبعدنا عن بعضنا البعض، وسمحنا لسوء الفهم وعدم الثقة بالتفرقة بين الغرب والإسلام. ويجب ألا ندع سوء التفاهم بيننا يستمر أكثر من ذلك، وألا نسمح بأن تحكم ثقافتان عظيمتان حكما جائرا على بعضهما بهذه الصورة المؤسفة. ثم إنه ليس لدينا أى خيار أو مفر من العيش معا فى عالم اليوم، والعمل معا بسلام ووئام. فمشاكل الشباب فى الغرب هى مشاكلهم فى العالم الإسلامى فى مواجهة خطر المخدرات والجريمة والانحراف.
وأعلن وزير الخارجية رفضه لنظرية صراع الحضارات، وقال: إن البعض يقول إن الغرب بحاجة إلى عدو، ومادامت الحرب الباردة قد انتهت، فإن الإسلام سيأخذ مكان الاتحاد السوفيتى القديم ويصبح هو العدو. ويقولون إن صراع الحضارات قادم لا?مفر منه، وأنا أقول إنهم مخطئون، فنحن لسنا بحاجة إلى الإسلام كعدو، بل نحن فى حاجة إليه كصديق. قد تكون حضارتنا مختلفة، والديانات أيضا مختلفة، ولكن ذلك لا يعنى أننا لن نستطيع أن نتعايش معا، ولكن علينا أن نتعاون معا لإفشال هذه النبوءة. والإسلام يدعو إلى تعاون الشعوب المختلفة، كما فى الآية: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم..) الحجرات (13).
وبعد أن استشهد وزير الخارجية البريطانى بهذه الآية الكريمة طالب مفكرى الغرب بأن يتفهموا معناها وأن يعملوا على تحسين التفاهم بين الغرب والإسلام، والتخلص من مشاعر عدم الثقة ومن الصور الخاطئة والمشوهة فى كل جانب عن الآخر، وقال إن المشكلة أن أبناء الغرب والإسلام يرى كل منهما الآخر من خلال تلك الصورة السطحية والمشوهة والخطيرة الشائعة بغير أساس من الحقيقة. فالإسلام يرى الغرب على أنه مادى يفتقد الاحترام للقيم الروحية، وعلى أنه عدو للإسلام ولديه نوايا لتقويض المجتمعات الإسلامية وفرض قيم الغرب عليها. والغرب من ناحيته يعتبر الإسلام قرينا للتطرف، وكثير من وسائل الإعلام فى الغرب لا ترى ما?فى الإسلام من ثقافة غنية ومتنوعة تدعمها ديانة من أعظم الديانات. بل يتحدثون عنه على أنه الإرهاب الذى تقوم به قلة باسم الإسلام. وكلتا النظرتين فى غير محلهما. وهناك الكثير مما يمكن أن نتعلمه من بعضنا البعض.
***
ولأن روبين كوك من كبار المثقفين البريطانيين، وكان بالإضافة إلى ذلك حريصا بحكم منصبه على حصار حالة العداء للإسلام التى تتزايد فى الغرب، فقد أفاض فى حديثه عن عطاء الإسلام ودوره فى الحضارة الإنسانية، وكرر أكثر من مرة أن الغرب مدين للإسلام بالشىء الكثير. وأن الإسلام وضع الأسس الفكرية لمجالات عديدة مهمة وكبيرة فى الحضارة الغربية، وأن هناك الكثير من أسس الحضارة الغربية يعود الفضل فيه إلى العلوم الإسلامية. وقد تفاعلت الثقافة الإسلامية مع ثقافة الغرب عبر التاريخ والأجيال، ويجب أن يستمر هذا التفاعل، لأن مستقبل كل من الغرب والعالم الإسلامى مرتبط كل منهما بالآخر.
لكن روبين كوك اعترف فى نفس الوقت بأن أهم التحديات التى تواجه صانعى السياسة فى الغرب هى كيفية إقامة علاقة إيجابية مع العالم الإسلامى، وإزالة العقبات الرئيسية التى تعكر الجو بين الجانبين. وهذا يقتضى ألا يكون الحوار مقصورا على الحكومات وحدها، وأن يكون الحوار بين الشعوب أيضا، فيلتقى رجال الدين والمعلمون، والمثقفون، وأساتذة الجامعات، والفنانون من الجانبين، ويستمر الحوار بينهم، وسوف نكسب الكثير من هذه اللقاءات ومن التفاهم المشترك، كما أننا سوف نخسر الكثير إذا لم نفعل ذلك. وفى بريطانيا مجتمع مسلم قوامه مليون ونصف المليون، وأكثر من 900 مسجد، وأصبح من حق المدارس الإسلامية أن تتلقى الدعم المالى من الدولة.
***
وفى السعى إلى الحوار مع الآخر شهدت مدينة الإسكندرية فى يناير 2002 حدثا مهما. فقد التقى فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر د. محمد سيد طنطاوى، ورأس الكنيسة الانجليكانية كبير أساقفة كانتربرى فى بريطانيا د. جورج كيرى، وكبير حاخامات إسرائيل الياهو دورون. وتوصل حوارهم إلى إصدار (إعلان الإسكندرية الأول للقيادات الدينية) دعوا فيه إلى إحلال السلام والعدل فى الأراضى المقدسة، والتزامهم بالدعوة إلى إنهاء العنف، ووقف سفك الدماء، لأن ذلك يتنافى مع كرامة الإنسان وحقه فى الحياة. وأن العنف شر ينبغى أن تتصدى له الشعوب المؤمنة.
وكانت دعوة زعماء الديانات الثلاث كما يلى:
* الدعوة إلى الحفاظ على قدسية المقدسات والأراضى المقدسة لدى الديانات الثلاث وعدم تدنيسها بسفك الدماء أو بالاعتداء عليها، وضمان حرية العبادة فيها والوصول إليها.
* دعوة القادة السياسيين للشعبين الفلسطينى والإسرائيلى إلى أن يعملوا من أجل التوصل إلى حل عادل ودائم بناء على ما جاء به الأنبياء فى الكتب المقدسة. ومواصلة السعى من أجل السلام العادل والمصالحة فى القدس والأراضى المقدسة لصالح جميع الشعوب.
ولا شك أن هذا اللقاء والإعلان الذى أعقبه يمثلان خطوة على طريق التفهم، ولكن الأمور ليست بمثل هذه البساطة، فإن نداءات زعماء الأديان لم توقف الحكومة الإسرائيلية عن سياسة القتل والتدمير والسجن والعزل التى تفرضها على الشعب الفلسطينى. مما يعنى أن النوايا الحسنة لدى رجال الدين لا تعنى شيئا له تاثير على رجال الحكم والسياسة.
***
وبعيدا عن رجال السياسة والدين هناك كثيرون فى الغرب انجذبوا للإسلام وأحسنوا فهمه، والصحف مليئة بالأحاديث مع نماذج يمكن أن نشير إلى بعضها لنتعرف على رؤيتهم للإسلام، وهى رؤية متأثرة بالعقلية وبالثقافة الغربية.
فالكاتب الأمريكى إيان ويليامز فى مقال له بعنوان (المسلمون فى أمريكا: القوة الصاعدة) يصور فيه كيف يواجه المسلمون فى أمريكا مشاكل يمكن أن تنفجر فى أية لحظة، ويدافع عن المسلمين لأنهم يجدون معاملة غير عادلة، فالإعلام يهاجمهم، ومكتب التحقيقات الفيدرالى يتعقبهم بينما يسكت عن المتطرفين اليهود الذين يتدربون على استخدام السلاح علنا فى معسكرات فى الشرق الأمريكى مثل جيش الدفاع اليهودى الذى أسسه الحاخام المتطرف مائير كاهانا. كما أن تعامل الإعلام الأمريكى مع الإسلام والمسلمين يتميز بالسطحية والرغبة فى توجيه الاتهام، وهناك من يشير إلى وجود 160 ألف مسلم فى السجون الأمريكية، وفى نفس الوقت فإن التقديرات تؤكد أن 25 ألف شخص يعتنقون الإسلام كل سنة فى الولايات المتحدة.
ويقول إيان ويليامز: إن الأمريكيين فى نيويورك يتوقفون عندما يسمعون صوت المؤذن، ويشاهدون المسلمين وهم يتوافدون إلى المسجد، وسائقو سيارات الأجرة المسلمون يتركون سياراتهم وينزلون للحاق بالصلاة، ويبدو المشهد مثيرا، فالمسلمون من بلاد وأجناس مختلفة، عرب.. وهنود.. وأمريكيون.. وأتراك.. وألبان.. الخ. ويتكلمون لغات مختلفة، ولكنهم يقفون فى صفوف منتظمة خلف الإمام لأداء الصلاة وهذا المشهد يتكرر فى الأحياء والمدن الأمريكية. وفى أمريكا أكثر من 1200 مسجد. وكان أول مسجد أنشئ فى أمريكا هو مسجد (روس) فى نورث داكوتا وقد هدم فى سنة 1976. ولا يزال الأمريكيون السود يذكرون أدوارد بلايدن الذى كان يقوم فى عام 1889 بجولات فى ربوع الولايات المتحدة داعيا إلى الإسلام ومعلنا أن القرآن هو الذى يحمى الرجل الأسود من التبعية والعبودية، كما يذكرون والاس فارد الأمريكى الأسود الذى اعتنق الإسلام واصبح اسمه والاس محمد، وأسس حركة انضم إليها عشرات الآلاف باسم (أمة الإسلام) وخلفه اليجا بولى الذى اعتنق الإسلام هو الآخر واصبح اسمه اليجا محمد، وكانت دعوته قائمة على إحياء القومية السوداء وأن الجنس الأبيض هو الشيطان، بينما السود هم العنصر السامى، وبهذه الدعوة تجمع حوله كثير من السود الذين عانوا التمييز والإذلال من النظام العنصرى الأمريكى. واتسعت دائرة المسلمين عندما اعتنق مالكولم إكس الإسلام- وهو أيضا أمريكى أسود- وانتشرت دعوته فى المدن والأحياء الفقيرة حيث وجد كثير من السود فى الإسلام الاحترام والكرامة والمساواة وهى المبادئ التى يفتقدها المجتمع الأمريكى، وعندما مات مقتولا فى سنة 1965 على يد منافسيه من أعضاء فى الجماعة تغيرت الأمور ابتداء من سنة 1975 عندما تولى ابنه وارث الدين محمد زعامة الجماعة، وهو يجيد اللغة العربية ودرس القرآن وبعد خمس سنوات حلت الجماعة نفسها واندمجت فى المجتمع الإسلامى السنى فى أمريكا الذى يضم السود والبيض.
***
وليس هذا فقط ما يلفت أنظار الأمريكيين ولكن يلفت نظرهم- ويثير دهشتهم أيضا- أن الإسلام مازال هو أسرع الأديان انتشارا فى أمريكا على الرغم من الحملات الإعلامية المنظمة التى تنفر الأمريكيين من الإسلام وتثير الخوف فى نفوسهم من المسلمين، ويقول إيان ويليامز: إن تشويه صورة الإسلام بدأ يتصاعد عندما أعلن الرئيس جورج بوش (الأب) النظام العالمى الجديد الذى كان يعنى إحياء الحرب الباردة بتشجيع من إسرائيل، ويكشف ديفيد هوفمان مراسل صحيفة واشنطن بوست فى تل أبيب هذه الحقيقة بقوله: إن إسرائيل تحاول إقناع الولايات المتحدة بأن المتطرفين الإسلاميين، وبرنامج التسلح الإيرانى هما أكبر خطرين على المصالح الأمريكية وعلى استقرار الشرق الأوسط، ويضيف هوفمان (وهو يهودى مؤيد لإسرائيل): (إن انهيار الاتحاد السوفيتى جعل إسرائيل هى الحصن المنيع ضد التطرف الإسلامى والأطماع الإقليمية الإيرانية. ومع انتهاء المظلة النووية السوفيتية فى الشرق الأوسط بدأت إيران والعراق ودول أخرى تسعى إلى امتلاك الرادع الخاص بها فى مواجهة الترسانة النووية الإسرائيلية. وتعمل إسرائيل على إقناع الإدارة الأمريكية ودول الغرب بأن هذا السعى إلى امتلاك الرادع على أنه «تهديد» وأن مقاومة الاحتلال الإسرائيلى «إرهاب»).
هذا التحليل لأوضاع المسلمين وصورة الإسلام فى الولايات المتحدة بقلم كاتب أمريكى يدل على أن الإسلام يجد دائما من يتحدث عنه بموضوعية واحترام فى مواجهة الحملات العدائية الطاغية فى الإعلام والجماعات ومراكز البحوث وحتى فى مراكز القرار الأمريكى.
***
ومن المثقفين الأمريكيين القلائل الذى انصفوا الإسلام (مارلين بوث) وهى أستاذ بجامعة الينوى متخصصة فى التاريخ الثقافى والأدب العربى، وقامت بترجمة بعض الأعمال الأدبية العربية المعاصرة- تزور القاهرة كثيرا وتربطها علاقات بعدد من الكتاب والمثقفين. فى حديث صحفى لها قالت: إن الاستشراق حقيقة له دور سياسى، وقام بخدمة الاستعمار، فهى علاقة (جاسوسية) على العالم العربى والإسلامى بأكثر مما هى دراسة لحضارة ومجتمع بقصد المعرفة والتقارب. وهى تحذر العالم الإسلامى من الاستعمار الجديد وتقول إن الاستعمار العسكرى انتهى، ولكنه موجود بشكل آخر ممثلا فى السيطرة الاقتصادية والغزو الثقافى.
أما هى فقد اختارت مجال الأدب لأنها رأت ان إطلاع الناس فى أمريكا على الأدب فى العالم العربى والإسلامى هو أفضل وسيلة تجعل الأمريكيين أقدر على تفهم هذه المجتمعات على حقيقتها وترد على حملات التشويه السائدة فى التليفزيون والصحافة التى يسيطر عليها اليهود. وهى ترى أن الأدب هو جسر التواصل بين الشعوب وأفضل وسيلة للرد على نظرية صراع الثقافات، وأن الجهل فى أمريكا بحقيقة العالم والمجتمعات الإسلامية يرجع إلى أن الأدب العربى تأخر كثيرا فى الوصول إلى أمريكا، فالأدب الصينى واليابانى وحتى الأدب الإفريقى وصل إلى أمريكا قبل الأدب العربى مع أنه أدب غنى بالأفكار والقيم التى تمثل انعكاسا لحقيقة الإسلام. والسبب فى تخوف الأمريكيين من الإسلام ما يحدث فى العالم، وما حدث فى أمريكا ذاتها فى 11 سبتمبر 2001 من حوادث إرهابية. ويضاف إلى ذلك السبب الأساسى وهو فى تكوين الشعب الأمريكى، فهو شعب منغلق على نفسه، ولديه إحساس بأنه ليس فى حاجة إلى معرفة الآخرين وثقافتهم، فالأمريكيون لا يعرفون حقيقة موقف الإسلام من المرأة، وليس لديهم فكرة واضحة عن الحقوق التى قررها الإسلام لها، ومن خلال دراستى فإننى أقرر أن المرأة فى بعض البلاد العربية- وخاصة مصر- أفضل من نظيرتها فى أمريكا، ففى مصر تتساوى المرأة بالرجل فى المرتبات والمعاشات وهذا لا يحدث فى أمريكا، ونسبة النساء فى هيئات التدريس فى مصر أعلى من النسبة فى أمريكا، وفى مصر يعطى القانون للمرأة المطلقة الحاضنة الحق فى الاحتفاظ بمسكن الزوجية وهذا أمر لا مثيل له فى أمريكا، وقد حصلت المرأة مؤخرا على الحق فى الخلع وفى منح جنسيتها المصرية لأبنائها. وبذلك لم يعد فى المجتمع المصرى أية تفرقة بين الرجل والمرأة، وهذا هو المجتمع الإسلامى الحق.
***
وفى روسيا عدد كبير من الباحثين فى اللغة العربية والدين الإسلامى وثقافة المجتمعات الإسلامية، واهتمام الباحثين فى روسيا يرجع أساسا إلى وجود الجمهوريات الإسلامية التى انفصلت عن الاتحاد السوفيتى ولا تزال بينها وبين روسيا علاقات سياسية واجتماعية واقتصادية، ويزداد اهتمام الروس بالإسلام بسبب الحرب المستعرة فى الشيشان باسم الإسلام ضد الوجود الروسى، ولذلك نجد معظم الباحثين الروس يهتمون بظاهرة الأصولية الإسلامية، ومن هؤلاء البروفيسور (فيتالى ناوومكين) مدير مركز الدراسات الاستراتيجية ونائب معهد الاستشراق فى موسكو، وقد توصل من دراساته إلى أن ظاهرة الأصولية الإسلامية تعود قبل كل شىء إلى أسباب اجتماعية، وبدرجة أقل لأسباب سياسية. وهى تنفيس عن استياء الناس من أحوالهم ورد فعل على أحوال معيشتهم من ناحية، ورفضهم لمعايير الحضارة العالمية من ناحية أخرى، وهذان العاملان يدفعان الناس إلى البحث عن بديل فيجدون البديل فى الماضى الذى يبدو لهم فى صورة زاهية أقرب إلى الكمال. والغرب هو الذى أطلق مصطلح (الأصولية الإسلامية) وهو مصطلح لا ينطبق بدقة على الواقع،لأن الظاهرة السائدة فى العالم الإسلامى والتى يسميها الغربيون (الأصولية الإسلامية) فيها جوانب إيجابية وجوانب سلبية. والغربيون يصورون الجانب السلبى وحده، ويغفلون عن الجانب الإيجابى. الظاهرة السلبية هى التطرف، والجانب الإيجابى هو العودة إلى الأصول والمبادئ فى الدين الإسلامى والسير فى عملية التحديث والتطوير انطلاقا من هذه الأصول الإسلامية. فليس فى الأمر رفض للتحديث فى ذاته، ولكن الرفض موجه إلى فرض نموذج وحيد للتحديث هو النموذج الغربى، ففى مصر تسير عملية التحديث بخطوات واسعة مع التمسك بالقيم الإسلامية فى نفس الوقت، وهم يتحصنون بالأصول الإسلامية لحماية أنفسهم من محاولات (التغريب)، فالأصولية فى حقيقتها إذن ليست سوى نوع من المعارضة للحضارة الغربية المرتبطة فى أذهان المسلمين بالاستغلال وبتاريخ مرير من الاستعمار والاذلال. فالأصوليون لا يرفضون العلم، والتكنولوجيا الحديثة. وقطاع منهم منفتح على الثقافة الغربية ولا?يرفض الديمقراطية، لكن الغرب يبالغ فى الحديث عن خطر الأصولية الإسلامية، بينما الخطر هو الإرهاب، ولابد من التفرقة بين العودة إلى الأصول وبين استخدام العنف واستباحة الاعتداء على الآخرين، وظاهرة العنف هذه نجدها اليوم فى كل الأديان وليس فى الإسلام وحده، كما نجدها فى المجتمعات التى لا تؤمن بالديانات الثلاث، كما فى اليابان، والهند، والصين، وغيرها.. وإذن فالتطرف ظاهرة اجتماعية سياسية وليس ظاهرة دينية وإن كان يستغل الدين لإثارة المشاعر.
ولا يجد المستشرق الروسى البروفيسور (فيتالى ناوومكين) شيئا غريبا فى الدين الإسلامى أو المجتمعات الإسلامية عما هو موجود فى الديانات والمجتمعات الأخرى، وإذا كان الغرب ديمقراطيا حقيقة فإن عليه أن يعترف بالحق فى الاختلاف، وقبول الثقافة الإسلامية كما هى، والتعامل مع المسلمين وفق معتقداتهم، لأن نفى الآخر، ورفض الآخر، مما يتعارض مع الديمقراطية، فلكل مجتمع الحق فى أن يعيش حسب قوانينه وشرائعه، والعلاقات الديمقراطية بين الدول تعنى التعايش بين الثقافات المختلفة وليس فرض المعايير الغربية وحدها على العالم، وإدانة كل ما يخالف هذه الثقافة الغربية والحكم عليها بأنها متخلفة.
وفى تحليله لظاهرة الأصولية الإسلامية يرى المستشرق الروسى أنها تختلف من بلد لآخر بحسب التطور الاقتصادى والاجتماعى، ونتيجة لوجود فجوة كبيرة بين الأغنياء والفقراء فى البلد الواحد، ووفقا لدرجة التطور الثقافى والاقتصادى الذى وصل إليه كل بلد. ومن أسباب التطرف التى لا يريد الأثرياء فى الدول الإسلامية الاعتراف بها، أن أموال الأغنياء فى العالم الإسلام تستثمر فى الغرب وتسهم فى ازدهار الاقتصاد الغربى ورفاهية الشعوب الغربية، ولا توجه هذه الأموال للتنمية فى داخل الدول الإسلامية لرفع مستوى شعوبها وتحسين أحوالها..
أما التطرف فى العالم الإسلامى فإنه ينشأ وينمو- فى رأى المستشرق الروسى- لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية، والوسيلة الصحيحة للقضاء عليه هى إزالة هذه الأسباب.
المهم أن مدير مركز الدراسات الاستراتيجية ونائب مدير معهد الاستشراق فى روسيا يبرئ الإسلام من الإرهاب، ويعلن نتائج أبحاثه هو وزملاؤه، وتتلخص هذه النتائج فى أن الإسلام لا يعارض التقدم والتحديث، ولا يرفض التكنولوجيا الحديثة، ولا يحرض على العنف إلا لرد الظلم، واستعادة الحق المغتصب، وفى غير ذلك فهو دين سلام ودعوته الأولى هى الإخوة بين البشر على أساس أنهم جميعا من أب واحد وخالقهم إله واحد.
***
مستشرق روسى آخر هو البروفيسور الكسندر سميرنوف المتخصص فى الدراسات الإسلامية ينصف الإسلام ويدافع عنه ضد الذين يتهمونه بأنه دين التعصب والعنف، فيقول فى البداية لا يجوز الخلط بين الأصولية الإسلامية والتعصب أو التطرف، فالتعصب أو التطرف يؤديان إلى الإرهاب والعنف حتى ضد المسلمين أنفسهم، وتنتشر هذه الظاهرة فى البلاد الإسلامية التى استعمرها الغرب أو التى فرض عليها الطابع الغربى قسرا وشوه أصولها الروحية وثقافتها، وشوه اقتصادها أيضا، ومثال على ذلك إيران، ففى العقود التى سبقت ثورة الخمينى كانت إيران خاضعة للزحف الثقافى للغرب ولنظام بوليسى قمعى، وتبعية كاملة للولايات المتحدة وخاصة فى عهد الشاه رضا بهلوى، وتسبب الفساد السياسى والاقتصادى فى تدهور مستويات المعيشة وتبديد عائدات البترول فى أوجه الإنفاق السفيه للامبراطور وحكومته، وكل ذلك أوصل الأوضاع إلى الثورة التى قادها رجال الدين وانشغل رجال الدين بتصدير هذه الثورة إلى بقية الدول الإسلامية، وصارت فلسطين المحتلة تحتل مكانة خاصة فى السياسة الإيرانية بعد الثورة، وفى فلسطين ظهر التطرف الإسلامى كرد فعل على الاذلال القومى.
وخلاصة نظرية المستشرق الروسى الكسندر سميرنوف أن الإسلام كدين لا يتضمن دعوة لكراهية أصحاب الديانات أو الشعوب الأخرى، ولكنه يدعو إلى رفض الظلم ومقابلة العنف بالعنف، فهو يدعو لمسالمة من يسالم المسلمين، ومحاربة من يحاربهم: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (البقرة: 194) و(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) (الانفال: 61) و(فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) (النساء: 90).. وهذا يدل على أن كثيرا من الغربيين لم يفهموا قانون الحرب ومفهوم الجهاد الإسلامى، فهما فى الأساس دفاع ورد على الاعتداء، وليس فى الإسلام تحريض للمسلمين بالمبادرة إلى العدوان على الآخرين، وعلى ذلك فإن مشروعية الجهاد قائمة على الدفاع ورد العدوان وإزالة آثار العدوان ليس إلا.
***
ومن الواضح أن الدارسين للإسلام فى الغرب انشغلوا بظاهرة الأصولية الإسلامية وعلاقتها بالتطرف والإرهاب، ومدى تعبيرها عن المفهوم الحقيقى للإسلام، فالمستشرق الفرنسى دومينيك شوفالييه الأستاذ بجامعة السوربون يؤكد أن قوة الإسلام تكمن فى أنه يمتلك برنامجا أخلاقيا، وأن مصطلح الأصولية هو فى الأصل مصطلح غربى مسيحى، والظاهرة الإسلامية التى تسمى أصولية لا تشبه الحركة الأصولية المسيحية، فالظاهرة الإسلامية تقدم نفسها على أنها دعوة إلى العودة إلى الأصول، وهى بذلك ليست جديدة، فهى فى الفكر الإسلامى منذ نهاية القرن التاسع عشر، ويمكن اعتبار الشيخ محمد عبده ورشيد رضا من مؤسسى الأصولية، مع ضرورة الإشارة إلى الاختلاف بين معنى الأصولية الحقيقى ومعناها كما تقدم فى الصحافة والإعلام فى الغرب. فهى تقدم على أنها دعوة للجمود والتوقف عند الماضى، ورفض التجديد والتطور والتعامل مع الآخر بعدوانية.
الأصولية الإسلامية فى رأى دومينيك شوفالييه لها أسباب ثقافية هى الخوف من طمس الهوية الثقافية الإسلامية والدعوة إلى الحفاظ على هذه الهوية والتمسك بها. وبالإضافة إلى ذلك هناك تحولات عالمية أثرت فى المسلمين وطرحت عليهم سؤالا ملخصه: كيف يمكن للدين الإسلامى والحضارة الإسلامية تحمل مسئولياتهما فى هذا العالم الحديث بما يطرحه من قضايا وضرورات جديدة؟.. والسؤال يتضمن التحدى الذى يواجه المسلمين: هل هم قادرون على التفاعل مع العالم والمشاركة فيه بفاعلية وبروح خلاقة دون أن يفقدوا هويتهم؟.. والصعوبة القائمة أن الاختراعات العلمية والتكنولوجيا ووسائل العلم الحديث تتضمن مؤثرات أخلاقية وتفرض القيم المتصلة بها، وهذا ما يجعل التيار الأصولى أمام تحديات يفرضها على سبيل المثال: التليفزيون، والسينما، والانترنت، والهندسة الوراثية، والاستنساخ، ونقل الأعضاء، وأطفال الأنابيب، واستئجار الأرحام، والقتل الرحيم، وعشرات المخترعات والقضايا والمشاكل ناتجة عن التقدم العلمى والتكنولوجى فى الغرب، وقد حقق الغرب الانسجام بين هذه المخترعات والقضايا والقيم الأخلاقية والروحية المرتبطة بها، لكن ذلك لم يتحقق فى العالم الإسلامى بعد، وهذا ما يؤدى إلى القلق والتردد وإلى الرفض من بعض علماء الدين الإسلامى لكل ما يأتى من الغرب. لكن هذه المخترعات تفرض نفسها بعد ذلك، ويؤدى ذلك إلى وجود تناقضات تدفع فريقا من المسلمين إلى التقوقع والتراجع والانسحاب فتظهر الدعوة إلى الهجرة فى الزمان والمكان، وتظهر الدعوة إلى العودة إلى صور الحياة الأولى التى كان عليها المسلمون فى القرن السابع.
والإسلام- كما يقول البروفيسور دومينيك شوفالييه- دين قائم على الدعوة إلى الخير والعدل والتعايش مع الآخرين وتبادل المنافع معهم، ولا يظهر المتطرفون الإسلاميون إلا فى مواجهة اعتداءات على المسلمين الفلسطينيين أو الأفغان أو الشيشان، وهكذا..
وفى نفس الوقت فإن الشعوب الإسلامية تدين الأعمال الإرهابية وترفض العنف وسفك الدماء، ويجب أن نعترف بأن الأصولية ليست فى الإسلام وحده، وكذلك التطرف والعنف والإرهاب، فهذه الظواهر نجدها بين المسيحيين واليهود وغيرها، مع فارق جوهرى هو أن المسيحية دين وليست دولة، فقد ولدت المسيحية فى فلسطين من خلال مجموعة صغيرة حول المسيح، وكانت فلسطين مقاطعة صغيرة فى الامبراطورية الرومانية، وبعد المسيح جاء القديس بولس وكان يعلن أنه مواطن رومانى ولم تكن لديه فكرة التحول إلى دولة، وقد استمرت الامبراطورية الرومانية ثلاثة قرون تحولت الكنيسة خلالها إلى قوة إلى جانب الدولة، وتحالفت الكنيسة والدولة فى عهد الامبراطور الرومانى قسطنطين، ولكن كانت هناك دائما مسافة بين الدولة والكنيسة ولم تظهر دولة دينية مسيحية. وفى الإسلام الأمر مختلف. فقد أسس الإسلام دولة فى المدينة، ولم تكن فيها دولة قبل هجرة النبى محمد (ص)، إذ كانت كل قبيلة وحدة سياسية واقتصادية واجتماعية وكأنها دولة مستقلة لها قوانينها وحاكمها، وعندما أسس النبى محمد (ص) دولة فى المدينة كانت له فيها سلطة سياسية كاملة إلى جانب السلطة الروحية دون تمييز بينهما، وكان هو القائد السياسى والعسكرى والروحى الذى يقدم الحلول للمشاكل من كل نوع، ثم اختلف الوضع فيما بعد حين اتسعت الدولة وتعددت فيها الوظائف والمسئوليات، وظهر فيها التخصص. وقدم الاجتهاد حلولا جديدة للمشاكل الجديدة، وبالتالى ظهرت قوانين جديدة، وسار المسلمون على طريق الانتقال من مجتمع القبيلة إلى مجتمع الدولة بالمفهوم الحديث، وأصبحت لهذه الدولة علاقات بالدول الأخرى، ونشأت تحالفات وعداوات ليس للعقيدة الدينية دخل فيها، ولكن هناك فئة ظل يداعب خيالها حلم إعادة مجتمع المدينة، وهؤلاء هم الذين نسميهم أصوليون وأمثالهم موجودون فى كل المجتمعات.. حلم العودة إلى الماضى البسيط الجميل.. وهو حلم جميل، لكن تحقيقه مستحيل فى عالم مختلف فى كل شىء عن العالم القديم، ومن المستحيل إعادة العالم كله إلى القرون الماضية، وكذلك من المستحيل فصل المجتمع الإسلامى عن العالم بحيث يتقدم العالم نحو الأمام ويعود المجتمع الإسلامى وحده إلى الوراء ليحقق حلمه السعيد.
هذه هى رؤية الباحث الفرنسى البروفيسور دومينيك شوفالييه الأستاذ بجامعة السوربون.
***
والبروفيسور (بيار تييه) الأستاذ بجامعة باريس الأولى له دراسات أيضا عن الأصولية الإسلامية يتفق فيها مع من سبقوه فى أن من أسباب ظهورها ما تعرض له المسلمون من اعتداء ونهب فى فترة الاستعمار الغربى. وفى هذه الفترة شهدت المجتمعات الإسلامية تحولا عميقا فى العادات والأخلاق، فتغيرت الملابس والمساكن وحتى عادات الطعام وآداب المائدة، وهذا يعنى أن تحولا قد طرأ على الثقافة والحضارة الإسلامية بالتزاوج مع الثقافة والحضارة الغربية، ولم تشتد الدعوة الأصولية إلا بعد الثورة الإيرانية. لكن قيام الدولة الإسلامية فى إيران لم يحقق الحلم بالقضاء على الفقر وتحقيق المساواة والرخاء والسلام، وكل حاكم ظهر بالدعوة إلى إقامة حكم إسلامى تحول إلى دكتاتور واستغل الإسلام ليحكم قبضته على الحكم ويعتبر الرافضين له خارجين على الإسلام ويحكم عليهم بالكفر.
ويقول البروفيسور (بيار تييه): إن هناك قوى فى الغرب تعمل على إثارة الخوف من المسلمين الغربيين وتدعى أنهم خطر على الغرب، وهذه هى دعوة الأحزاب المتطرفة فى فرنسا ودول أوروبا الأخرى، مع أن هؤلاء المسلمين الغربيين لا يمكن أن تكون لهم مقدرة على إقامة دولة داخل الدولة.. ودول أوروبا دول علمانية تفصل بين الدين والعمل السياسى، وعلى ذلك فإن الأصوليين يمكنهم أن يمارسوا معتقداتهم الدينية، ولن يكون فى مقدورهم تحويل هذه المعتقدات الدينية إلى عمل سياسى، وبالتالى فإن وجودهم لا يمثل خطرا على الدولة والمجتمع، والخطر فقط فى سعى بعض الدول الأصولية الخارجية إلى تغذية الإرهاب، كما حدث فى انفجارات سبتمبر 1986 فى فرنسا، وكما حدث فى عمليات خطف الطائرات.
وعلى ذلك يحذر البروفيسور (بيار تييه) من أن تتخذ دول الغرب مواقف من الإسلام قائمة على الخوف، وفى رأيه أن الإسلام دين لا يتعارض مع العلمانية، ولا يعادى الأديان الأخرى. وفى ظل دولة علمانية مثل فرنسا يمكن أن تتعايش كل الأديان دون مشاكل، وإن كانت الأصولية ترفض حرية الفكر وتفرض على أنصارها قوالب فكرية جاهزة، وتحظر عليهم ممارسة التفكير النقدى وهو جوهر التقدم فى المجتمع وفى الفكر وفى العلوم، فالتقدم مرتبط بالفكر النقدى الحر الذى لا يخضع لشروط مسبقة. ولعل أخطر ما فى الحركة الأصولية هو الجمود، وهو جمود غير مبرر فى الإسلام. ولكن الأصوليين لا يدركون الفرق بين حقيقة الإيمان والحقيقة العلمية، أى الفرق بين نتاج العقل ونتاج النقل، كما يقول علماء الدين الإسلامى، فالأصوليون لا يدركون الفرق بين هاتين الحقيقتين، وأنه لا تعارض بينهما وفى نفس الوقت يجب عدم الخلط بينهما ولو أدركوا الفرق بين هاتين الحقيقتين فسوف يزول التناقض الذى يولد الفجوة مع الغرب ويؤدى إلى الجمود والتعصب والتطرف وكل أشكال الخروج على طبيعة الإسلام.
***
هكذا يعلن هؤلاء المستشرقون تبرئة الإسلام من تهمة الجمود، كما أعلنوا من قبل تبرئته من تهمة الإرهاب.
ويؤكد هذا المعنى أيضا المستشرق الفرنسى (بيار دندره) الذى أعلن فى أحاديثه الصحفية وأبحاثه أن الإسلام لا يمثل خطرا على العالم، كما يروج البعض، وأن التطرف فى جميع الديانات- وليس فى الإسلام وحده- هو الخطر، والأديان فى جوهرها دعوة لالتقاء البشرية تقودهم إلى التفاهم وليس إلى الاقتتال، فلا يعقل أن يبعث الله رسله ليقودوا البشر إلى الحروب بسبب اختلاف عقائدهم الدينية واتفاقهم على عبادة إله واحد. وإذا كان الغرب يحارب التطرف الإسلامى فإن عليه أن يحارب التطرف المسيحى والتطرف اليهودى والتطرف فى جميع الديانات الأخرى غير السماوية وفى جميع المجتمعات فى العالم.
ويقدم (بيار دندره) فى أبحاثه الأدلة على أن أوروبا استفادت كثيرا من علوم وآداب وثقافة المسلمين، وذلك فى كتبه ومنها (الإسلام والمسلمون اليوم) و(الشرق الأدنى)، وكذلك فى أبحاثه التى يجريها فى المعهد الفرنسى للدراسات العربية والمحاضرات التى يلقيها فى الجامعات الفرنسية، ويتصدى فيها لحملات الإساءة إلى الإسلام فى فرنسا وبخاصة فى الأوساط الأكاديمية وبين المثقفين.
***
وفى بولندا كانت (يؤانا فرونتسكا) من المدافعين عن الإسلام تطوعا منها للدفاع عن هذا الدين الذى رأت أنه يتعرض لحملة ظالمة وتلفق له اتهامات لا أساس لها من الصحة، و(يؤانا فرونتسكا) حاصلة على الدكتوراه فى الدراسات الإسلامية، وكانت رسالتها للدكتوراه عن التصوف الإسلامى عن محيى الدين بن عربى الفيلسوف الصوفى الكبير، وقد أصبحت سفيرة لبلادها فى القاهرة وتحدثت كثيرا عن تقديرها للإسلام كعقيدة ومنهج حياة، وقالت:إنها كباحثة وسفيرة درست الإسلام وقضاياه المادية والروحية وأنها تحترم هذا الدين رغم أنها لم تعتنق الإسلام، لكنها عاشت سنوات طويلة فى دراسة اللغة العربية ودقائقها، وتخصصت فى الفكر الدينى فى الإسلام والحضارة الإسلامية، وارتبطت بالتصوف الإسلامى وبخاصة ابن عربى، والغزالى، وابن الفارض، ورابعة العدوية، وقد اكتشفت بعد هذه السنوات من الدراسة أن بين الأديان السماوية نقاطا مشتركة حول المبادئ الروحية والأخلاقية والقيم العليا.
وقالت أيضا: إنها بدأت بدراسة اللغة العربية بجامعة وارسو، وبعد ذلك وجدت نفسها تنجذب لدراسة العقيدة والفلسفة الإسلامية، والتصوف والأدب العربى، ووجدت فى ذلك عمقا كبيرا، وكلما تقدمت فى دراستها وجدت نفسها تتقدم نحو دفعات روحانية تصل بينها وبين الله فى مراحل فكرية وروحانية، واكتشفت فى التصوف الإسلامى نموذجا رفيعا للشفافية والتسامى.
وفى حوار لها مع الأستاذ محمد حسين أبو العلا قالت: إن ابن عربى كان يمثل بالنسبة لها اكتشافا رائعا كرست له حياتها لتفهم فكرته المحورية عن وحدة الوجود وهى فكرة صعبة للغاية، وإننى احترم وأقدر أفكاره وأشعر بتجاذب هائل مع فكره، أما بالنسبة للإمام أبى حامد الغزالى فإن أعظم كتبه كتابان هما: (إحياء علوم الدين) لأنه استخدم فيه مبدأ الاجتهاد القائم على الرؤية النقدية وكتابه (مشكاة الأنوار)، لأنه يتميز بجاذبية خاصة فى تفسيراته لمعانى الإشراق الإلهى حين يعرض لشرح آية النور فى سورة النور، وقد قمت بترجمة هذا الكتاب.
وتحدثت السفيرة البولندية المستشرقة (يؤانا فرونتسكا) عن المد الإسلامى فى أوروبا عموما وبولندا خصوصا فقالت: إن هذه ظاهرة ملحوظة، وبولندا نموذج طيب للمد الإسلامى وفيها أعداد هائلة من المسلمين، وبعضهم حاز شهرة واسعة فى الثقافة والإعلام وهذا ملحوظ فى كثير من دول أوروبا مما فتح الباب لحوار مفتوح ومتصل فى أوروبا عن الإسلام.
ومن بولندا إلى بلجيكا حيث الهجوم على الإسلام والدفاع عنه فى ساحة واحدة، وحيث يعيش ربع مليون مسلم ومع ذلك لم يتم الاعتراف بالإسلام والمسلمين. ومنذ فترة قصيرة سمحت الحكومة البلجيكية بتشكيل لجنة لتمثيل المسلمين لدى الحكومة تقتصر مهمتها فيما يتعلق بتدريس الدين الإسلامى لأبناء المسلمين فى المدارس البلجيكية وزيارة المسلمين فى السجون والمستشفيات، كما أنشئ مركز ثقافى إسلامى فى مسجد قديم فى بروكسل يشرف عليه الدكتور (فندن بروك) يقوم بتوزيع ترجمات معانى القرآن على المساجد وعلى المسملين باللغات الأوروبية وخاصة الفرنسية والإنجليزية، وأسس معهدا للعلوم الإسلامية بمساعدة الأزهر ورابطة العالم الإسلامى، كما نظم انتخابات بين المسلمين لتكوين المجلس الأعلى للمسلمين لم تعترف به الحكومة.
وقد بدأ تدريس الدين الإسلامى لأبناء المسلمين فى بلجيكا منذ عام 1976 بشكل غير رسمى، وأخيرا شكلت الحكومة لجنة من 17 عضوا للمشاركة فى إعداد المناهج والمدرسين لتدريس الدين الإسلامى، ووافقت على أن تخصص ساعتان فى الأسبوع لهذا المنهج، وتعتبر هذه خطوة نحو الاعتراف الرسمى بالإسلام فى بلجيكا.
وفى رأى الدكتور (فندن بروك) أن الوحدة الأوروبية سوف تلعب دورا فى تحقيق التقارب بين المسلمين فى أوروبا كلها، وسيكون ذلك دعما لوضع المسلمين فى المجتمع الأوروبى يساعد على وقف تيار الكراهية والإساءة إلى الإسلام، وإن كانت المشكلة- فى رأيه- أن معظم المسلمين فى أوروبا جاءوا كعمال وليس لديهم ثقافة دينية كاملة ولا يعرفون البلاد التى يقيمون فيها ولا يتفاعلون مع المجتمعات الأوروبية، ولا يتقنون لغاتها، وهذا ما يجعل المسلمين حتى الآن مجرد تجمعات من المهاجرين الغرباء فى بعض الدول الأوروبية، وتزداد مشكلة جهل معظم المسلمين بالإسلام فى أوروبا لدى أبناء الجيل الثانى والجيل الثالث، فهؤلاء الأبناء يتعاملون مع لغاتهم الأصلية وثقافتهم الدينية، كما لو كانوا أجانب، وهذا عامل مهم يزيد من صعوبة تحسين صورة الإسلام، وإن كان المسلمون قد نشطوا فى إقامة المساجد إلا أن ذلك وحده لا يكفى.
وينتقد (فندن بروك) المستشرقين، ولكنهم- فى رأيه- أفضل من الذين يكتبون عن الإسلام فى الصحف الغربية، فالمستشرقون على الأقل درسوا الإسلام ومنهم من يكره الإسلام ويكتب ضده بنظرة متحيزة، كما أن منهم من يدرسه بمنهج علمى محايد وموضوعى، ومنهم من اعتنق الإسلام، ومن بقى على دينه لم يطعن فى الإسلام، وعموما فإن النظرة إلى الإسلام فى الغرب تحسنت عما كانت عليه منذ قرن، وكثير من الغربيين يدخلون الإسلام ولم يكن ذلك شائعا من قبل، كما هو الآن، خصوصا فى ظل ما يسمى (موت الأيديولوجيات)، فالغربيون فى عمومهم تخلوا عن الأيديولوجيات ويبحثون عن الحلول العملية لمشاكلهم الاجتماعية والحياتية، وهذا ما يجعل للإسلام جاذبية خاصة لأنه يقدم لهم الحلول التى يبحثون عنها.
***
يتفق المدافعون عن الإسلام فى الغرب بأن مهمتهم تواجه دائما بحملات هجوم تستغل العمليات الإرهابية، وغياب الديمقراطية فى الدول الإسلامية، وإعلان بعض علماء المسلمين بأن الإسلام يتعارض مع الديمقراطية، كما تستغل أوضاع المرأة المتدنية فى بعض المجتمعات الإسلامية.
ففى معسكر المدافعين عن الإسلام نجد كاتبا مثل دينس ماكثين الذى كتب مقالا فى صحيفة الباييس الأسبانية بعنوان (تحدى الديمقراطية الإسلامية) قال فيه: إن عام 1492 كان عام ظلام فى أوروبا، لأنه العام الذى قامت فيه الحكومة الملكية الأسبانية بطرد المسلمين واليهود من وسط أوروبا باسم الدين المسيحى، وكانت هذه قمة الأصولية الدينية، ومع ذلك فقد عاش اليهود فى سراييفو وسالونيكا متمتعين بالأمن والحرية تحت الحكم الإسلامى، والآن تسنح لأوروبا الفرصة لتصحيح أخطائها التاريخية، وذلك بالاعتراف بأهمية الميراث الإسلامى فى حضارة أوروبا، ولقد تمثلت إبداعات أوروبا الكبرى فى القرن العشرين فى تحول الأحزاب الدينية الرجعية التى تحكمت فى الفكر المحافظ قبل عام 1939 لتحل محلها الأحزاب الديمقراطية المسيحية التى استطاعت التوفيق بين المعتقدات الدينية والسياسة العلمانية الديمقراطية وسيكون إنجازا كبيرا إذا استطاع المسلمون التوصل إلى هذه المعادلة التوفيقية وليس فى الإسلام ما يحول دون ذلك، كما يقول، فإذا نجحت الدول الإسلامية فى إقامة نظم حكم ديمقراطية فى إطار إسلامى تلبى حاجة الناس إلى هوية دينية وتضع ذلك فى إطار الحقوق الديمقراطية، والمشكلة أن بعض الغربيين يطالبون المسلمين بإقامة نظم ديمقراطية على النموذج الغربى، ويجب ألا ننسى دعوة الزعيم الفرنسى شارل ديجول لأوروبا بأن تعترف بذنبها نحو الإسلام واليهودية وهما ينتميان إلى إبراهيم أبو الأنبياء، ويجب أن تدرك أوروبا أنها لم تعد كيانا دينيا واحدا، ففيها ملايين يعتنقون ديانات أخرى غير المسيحية، وهذا ما يجعل الحرية الدينية وحرية العبادات أمرا لا مفر منه، وفى نفس الوقت فإن على أوروبا أن تتصدى لتيار الكراهية للإسلام الذى يغذى سياسات الرفض لكل ما هو أجنبى التى تظهر فى الحركات الراديكالية بين الشباب وفى الأحزاب العنصرية التى تجد أنصارا كثيرين، بينما تقضى الحكمة والواقعية أن تعمل أوروبا على إدماج المسلمين فى الحياة السياسية والنسيج الاجتماعى.
***
وتتزايد الأصوات المدافعة كلما تزايدت حملة الكراهية للإسلام وعلى سبيل المثال فإن كاتبا بريطانيا مرموقا هو فيليب فيرناندو كتب مقالا فى صحيفة الصنداى تايمز بعنوان (الإسلام صديق لابد من الاحتفاظ بصداقته) انتقد فيه الصحافة الغربية التى صدرت فى اليوم التالى للهجوم على مركز التجارة العالمى فى نيويورك بعناوين مؤداها أن هذا الهجوم حرب على الغرب، وأن الذين شنوا هذه الحرب ينتمون إلى حضارة معادية! واعتبر بعض الكتاب والسياسيين فى الغرب أن هذا الهجوم تعبير عن حرب عالمية ثقافية جديدة يقف فيها الإسلام ضد الغرب، وأن صدام الحضارات حل محل صدام الأيديولوجيات، وقال البعض: إن هذا الهجوم حرب يريد المتعصبون بها إرغام الغرب على الإيمان بمهاتراتهم ودعاواهم الدينية التى يستخدمونها كقناع يحجب أعمالهم الوحشية، ويغوى مريديهم بالقيام بالمزيد من الهجمات الانتحارية، بينما الحقيقة أن كراهية الإرهابيين لأمريكا لا علاقة لها بالدين، والحرب التى يشنونها ليست حربا دينية بأى معيار، وكل الدول والشعوب الإسلامية تقريبا استنكرت هذه الأعمال الوحشية وأدانت مرتكبيها، ولو ألقينا اللوم على الإسلام فسوف نخسر ود المسلمين، ولو ضيقنا عليهم الخناق ووضعناهم فى وضع معاد فسوف ينقلب أصدقاؤنا المحتملون إلى أعداء ويصبحون مصدر خطر علينا، فإن حرب الحضارات لا وجود لها إلا إذا أعلنها الغرب.
ويرى فيليب فيرناندو أن المؤرخين يبالغون فى أثر الحروب الدينية بين المسلمين والمسيحيين وبخاصة الحروب الصليبية، ويرى أنها لم تكن فى حقيقتها حروبا دينية، ولم تكن بسبب الصراع على العقائد، ولكنها كانت لأسباب اقتصادية وسياسية.. وكانت حربا استعمارية استخدمت الدين وسيلة للشحن العاطفى وإثارة المشاعر فى الغرب لتأييدها، ولم تكن الحروب فى ذلك العصر بين المسيحيين والمسلمين فقط.. بل كانت أكثر الحروب داخل العالم المسيحى.
ويبدى فيليب فيرناندو دهشته للتركيزالمبالغ فيه على الصراعات بين العالم المسيحى والعالم الإسلامى والإغفال المتعمد عن نماذج التعايش المسيحى الإسلامى الذى كان فى الدولة الإسلامية فى دمشق وبغداد وقرطبة، وكذلك الإغفال المتعمد لفضل الحضارة والعلوم الإسلامية على النهضة الأوروبية، وأيضا الإغفال المتعمد لنموذج التعايش بين المسلمين والمسيحيين فى إطار هوية وطنية واحدة، وحقوق متساوية كما فى مصر، وإذا كانت الدول الإسلامية لم تصل إلى الدرجة المأمولة فى نموها الاقتصادى، والديمقراطى وتطورها الثقافى والاجتماعى، فإن ذلك أسباب يرجع معظمها إلى الاستعمار الغربى، وفى نفس الوقت يجب ألا نغفل أن معظم الدول الأوروبية مرت بهذه المرحلة حتى وقت قريب.
ويمضى فيليب فيرناندو خطوة أوسع فيقول: إن الإسلام يسهم فى صنع الغرب، كما هو اليوم كما فعلت المسيحية من قبل، فقد كانت المسيحية عقيدة تعتنقها الأقلية من ذوى الأصول الشرقية، مع تزايد المهاجرين فى الامبراطورية الرومانية.
واليوم تستوعب الحضارة الغربية ديانات غير سماوية مثل البوذية والهندوسية وهى تنمو نموا سريعا فى الغرب، ويقال إن بريطـانيا فيها من كهنة الهندوس أعداد تقارب أعداد الكهنة الإنجيليين، فلماذا لا يتسع المجتمع الأوروبى للأئمة والمسلمين؟.. وما دام المسلمون فى الغرب ملتزمين بالتعايش والتفاعل مع المجتمع المدنى الأوروبى، وبالقانون الأوروبى، وبالتسامح مع أصحاب الديانات الأخرى، وبممارسة الديمقراطية فكيف يقال إن وجودهم فى الغرب خطر على الحضارة الغربية؟.. إن الانذار عن الخطر الإسلامى انذار كاذب!