عـالم فرنسى سبق الباحثين عن الإعجاز العلمى فى القرآن !
كان موريس بوكاى من أكبر المدافعين عن الإسلام فى الغرب، إلى حد أنه ألّف كتابا تضمن نتائج دراساته المقارنة للأديان كشف فيه الأدلة التى جعلته يؤمن بالإسلام فى النهاية.
وكتاب موريس بوكاى (التوراة والإنجيل والعلم) معروف فى الغرب بعد أن ترجم إلى عدة لغات، ومعروف أيضا فى العالم الإسلامى بعد أن ترجمه إلى اللغة العربية على الجوهرى وصدرت منه عدة طبعات، أما موريس بوكاى نفسه فهو أستاذ فى الطب فى جامعة باريس تفرغ لدراسة الكتب المقدسة والديانات السماوية الثلاث ولد فى سنة 1920 وحصل على جائزة من الأكاديمية الفرنسية وجائزة أخرى من الأكاديمية الوطنية للعلوم الطبيعية فى فرنسا وذلك تقديرا لأبحاثه المبتكرة، وعرض نتائج للدراسات التى أجراها على القرآن والعلم الحديث فى العديد من المؤتمرات العلمية ولقيت أبحاثه تقديرا كبيرا من العلماء وترجم كتابه إلى اللغات الفارسية، والتركية، والأردية، والمالاوية، وغيرها من لغات الشرق والغرب.
وهو يستنكر موقف المفكرين الغربيين الذين يرفضون الاعتراف بأن القرآن من عند الله، بينما يؤمن المسلمون بكل الأنبياء السابقين على محمد صلى الله عليه وسلم وبكل الديانات السابقة على الإسلام، وذلك بأمر إلهى فى القرآن: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل، ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) (النساء: 136)، وإذا كانت الديانة المسيحية تؤمن بأن اليهودية وكتابها المقدس (التوراة) من عند الله، فإن الديانة اليهودية لا تعترف بصحة أى وحى إلهى بعد التوراة، ومع ذلك فقد أخذت المسيحية التوراة المكتوبة بالعبرية ككتاب مقدس لها إلى جانب الإنجيل، ويشير بوكاى إلى أنه كانت هناك أناجيل كثيرة استبعدت الكنيسة كثيرا منها واعتمدت عددا محدودا من الأناجيل أهمها الأناجيل الأربعة المعروفة، وهى إنجيل متى، وإنجيل مرقس، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا، ولا تعترف المسيحية بوجود وحى إلهى بعدها، والإسلام يؤكد المكانة البارزة التى يحتلها جميع الأنبياء منذ إبراهيم (عليه السلام) إلى المسيح الذى يخصه بمنزلة خاصة، ففى القرآن سورة باسم (مريم) ويشير القرآن إلى معجزة ولادته بغير أب، ويؤكد أن أمه السيدة مريم عذراء شاء الله أن يطهرها ويصطفيها على نساء العالمين، ويبدى موريس بوكاى دهشته لأن اعتراف الإسلام بالديانات الأخرى غير معلوم على نطاق واسع فى الغرب، وقد ساهم فى الجهل بحقائق الإسلام أن الغربيين عندما يتحدثون عن الإسلام يسمونه (الديانة المحمدية) ويسمون المسلمين (المحمديين) لإعطاء الانطباع بأن هذا دين منسوب لشخص وليس وحيا من الله، وأن المسلمين هم اتباع رجل وليسوا مؤمنين بالله، ويشير أيضا إلى تقصير كثير من الباحثين الغربيين وعدم اهتمامهم بدراسة القرآن، واكتفائهم بدراسة التاريخ الإسلامى، والجوانب الفلسفية والسياسية والاجتماعية فى الإسلام، ولكن السنوات الأخيرة شهدت نوعا من التحول فى الدوائر المسيحية الرسمية بعد أن أصدر المؤتمر الثانى للفاتيكان فى عام 1970 وثيقة بعنوان (توجيهات لإقامة حوار بين المسيحيين والمسلمين) وجاء فى هذه الوثيقة: (أن الفاتيكان ينظر بعين الاعتبار إلى الظلم الذى وقع على المسلمين، وهو ظلم يستحق عليه الغرب اللوم لما كانت عليه نظم التعليم المسيحى)، وتنتقد هذه الوثيقة التصورات الخاطئة التى تعتبر المسلمين كسالى متواكلين ومتعصبين، وجاء فى هذه الوثيقة عبارات فى غاية الأهمية مثل (علينا أن نهتم أولا بأن نغير تدريجيا من عقلية إخواننا المسيحيين، ويجب التخلى عن الصورة القديمة المملوءة بالأحكام الخاطئة عن الإسلام. ويجب الاعتراف بالمظالم التى ارتكبها الغرب المسيحى فى حق المسلمين).
وكان لهذه الوثيقة صداها فى الغرب، وكانت تكملة لخطوة مهمة فى مارس عام 1969 حين زار الكاردينال كوننج cardinal konning جامعة الأزهر وألقى كلمة أعلن فيها أن الإسلام دين يؤمن بوحدانية الله.
***
لكن هذا التفهم للإسلام من جانب الفاتيكان لم يأخذ ما يستحقه من اهتمام المفكرين ورجال الدين والإعلام فى الغرب.. ولم يهتم الإعلام فى الغرب بالخطوة المهمة التى تمثلت فى زيارة الكاردينال بنيودولى cardinal pignedoly للسعودية فى أبريل 1974 وهو رئيس سكرتارية الفاتيكان لشئون غيّر المسيحيين وحمل رسالة من البابا بولس السادس إلى الملك فيصل عبر فيها عن إيمان البابا باتحاد العالم الإسلامى والعالم المسيحى فى عبادة إله واحد.
وهذا هو التعبير الذى يستخدمه البابا شنودة الثالث حين يتحدث إلى المسلمين فى حفلات الإفطار فى رمضان وفى كلمته فى افتتاح المؤتمر الإسلامى العالمى الذى تنظمه وزارة الأوقاف إذ يبدأ دائما بقوله: باسم الإله الواحد الذى نعبده جميعا، تعبيرا عن إيمان الكنيسة الأرثوذكسية بأن الله واحد وليس للمسلمين إله وللمسيحيين إله آخر، لكن هذا المعنى السامى لا?يؤمن به البعض فى الغرب وآخرهم القائد العسكرى الأمريكى البارز الذى قال فى كلمته للقوات الأمريكية: إن إلهنا أفضل من إلههم (!) وكان ذلك تعبيرا عن ردة تعيد التفكير إلى ما كان عليه الأمر فى العصور الوسطى.
ويسجل موريس بوكاى الخطوات التى تمت بعد بيان الفاتيكان وزيارة الكاردينال بنيودولى للسعودية واعتراف البابا بولس السادس بالإسلام كدين قائم على عبادة الله الواحد الذى يعبده سائر المؤمنين، ومن هذه الخطوات استقبال البابا بولس السادس رسميا لوفد من كبار علماء الدين الإسلامى فى أكتوبر 1974، ثم عقد ندوة شارك فيها رجال الدين الإسلامى والمسيحى كان موضوعها (حقوق الإنسان الثقافية فى الإسلام)، وبعدها استقبل المجمع المسكونى الأعلى للكنائس عددا من كبار رجال الدين الإسلامى تحت رعاية الأسقف إلشينجر Elchinger أسقف ستراسبورج، وتم اللقاء فى العاصمة السويسرية (جنيف).
يعتبر موريس بوكاى أن هذه الخطوات الأولى للتقارب كان لها أهمية كبيرة لأنها نبهت بعض الغربيين إلى الخطأ فى التعليم الذى تلقوه منذ الصغر الذى غرس فيهم الروح العدائية للإسلام والمسلمين، وينبه أيضا إلى أن الأديان الثلاثة تواجه تهديدا خطيرا بسبب انتشار النزعات المادية والالحادية، وبالتالى فإن المعركة يجب ألا?تكون فيما?بين الأديان والمؤمنين بالله مع اختلاف الأديان، ويجب أن تكون المعركة بين المؤمنين بالأديان الثلاثة والملحدين، وهذا يفرض على أصحاب الأديان الثلاثة أن يتجمعوا معا فى جبهة واحدة. ويقول إن الفكر السائد فى الغرب الآن أن الدين والعلم لا يتلاقيان.
ويجعل موريس بوكاى موضوعه الأساسى الذى كرّس له حياته هل: أن الإيمان بالدين يتعارض مع الإيمان بالعلم؟. لكنه وجد نفسه أمام سؤال آخر لابد أن يبحث عن إجابته لكى يؤسس بحثه عن العلم والدين على أساس سليم، وهو: ما مدى مصداقية النصوص الموجودة فى الكتب المقدسة الموجودة فى أيدينا الآن؟
***
يقول موريس بوكاى إن الدراسة النقدية للكتب المقدسة فى الغرب دراسة جديدة لم تبدأ إلا منذ سنوات قليلة، قبل ذلك كان توجيه أى نقد لهذه النصوص يعتبر خطيئة من الخطايا الكبرى، وفى السنوات الأخيرة أصبح نقد النصوص الدينية علما يدرّسه علماء متخصصون فيه يمارسون أبحاثهم بعقلية متحررة، وينطبق ذلك فى الدراسات الإسلامية على الأحاديث النبوية، فلم تدون الأحاديث إلا بعد وفاة الرسول (ص) بسنوات. وتخصص عدد غير قليل من علماء المسلمين فى دراسة مدى صدق أو كذب كل حديث، وقد حددوا بالفعل عددا من الأحاديث المدسوسة، ورتبوا الأحاديث بحسب درجة اليقين فى صدورها عن النبى (ص) من حديث متواتر إلى حديث حسن، وحديث ضعيف.. وهكذا.. أما القرآن فكان يتم تسجيله وحفظه عن ظهر قلب، وكانت تلاوته مستمرة عند المسلمين فى صلواتهم، وفى غير أوقات الصلاة، وخصوصا فى شهر رمضان، حيث يرتل المسلمون القرآن كاملا فى هذا الشهر، ولا يزال المسلمون يفعلون ذلك إلى اليوم فى كل مكان فى العالم، وقد رتب النبى (ص) الآيات والسور بنفسه كما أمره الله، وتم جمع السور القرآنية بعد وفاته وكانت مدونة قبل وفاته.
ويعرض موريس بوكاى نتائج دراساته التى قام بها لبحث ما إذا كان فى القرآن إشارات إلى حقائق علمية تتعارض مع ما توصل إليه العلم الحديث، وقد وجد فى القرآن آيات كثيرة تشير إلى ظواهر طبيعية أعد موريس بوكاى قائمة بها بعد دراسته للقرآن باللغة العربية، وبعد سنوات من دراسة مدى صدق كل إشارة علمية وردت فى القرآن أعلن بوكاى (أن القرآن ليس فى آياته إشارة واحدة يمكن نقضها فى ضوء مناهج وقوانين العلم الحديث)، ويخصص بوكاى أكثر من نصف كتابه لنقد نصوص التوراة والإنجيل التى فى أيدينا، ولكن ما يعنينا هو حديثه عن القرآن والإسلام.
***
ونكتشف من كتاب موريس بوكاى أنه من أوائل الباحثين عما فى القرآن من إشارات إلى ظواهر وحقائق طبيعية أكدها العلم الحديث بعد مرور قرون من نزول القرآن. ويعلن أن الباحث يشعر بالدهشة عندما يكتشف أن القرآن ليس فيه كلمة واحدة تتعارض مع قوانين العلم الحديث، وأن هذه الحقيقة تلطم العلماء الماديين الذين كانوا يرون أن النصوص الدينية لا علاقة لها بالعلم وأنها أساطير وتعاليم أخلاقية. لكن هؤلاء لم ينتبهوا إلى ما فى القرآن من آيات تكذب نظريتهم وتؤكد لهم أن هذا القرآن من عند الله ولا يمكن أن يكون غير ذلك، كما أن فهم حقيقة الإسلام يظهر كذب الذين قالوا إن (الله) الذى يعبده المسلمون غير (الله) الذى يعبده المسيحيون واليهود، وقد أشارت وثيقة الفاتيكان إلى ذلك وقالت بالنص: (.. ونرى باطلاً أن نقول مع بعض الغربيين أن (الله Allah) ليس الإله المقصود فى المسيحية باسم (God) بالإنجليزية و(Dieu) بالفرنسية. ويدين موريس بوكاى الذين يكتبون كلمة الله بالإنجليزية أو الفرنسية كما هى بالعربية وبحروف لاتينية (Allah) للإيحاء بأنها تشير إلى إله آخر خاص بالمسلمين وهو غير الإله الذى يعبده المسيحيون واليهود. كما أنصفت وثيقة الفاتيكان الإسلام مما يتهمه به الغربيون من أنه قائم على الجبر، وأن الإنسان فى عقيدة الإسلام لا يملك حرية التفكير وحرية الاختيار. وذكرت الوثيقة آيات فى القرآن تفيد مسئولية الإنسان عن أعماله، وحرية اختيار الإنسان لأفعاله، وهذا ما يجعل من المنطقى أن يحاسب الله الإنسان على أفعاله ومعتقداته.
وتبرز هذه الوثيقة الحرية الدينية فى الإسلام وأنه لا يجبر أحدا بالقوة على اعتناق الإسلام، ويستشهد موريس بوكاى بآيات تؤكد عدم صحة الفكرة الشائعة فى الغرب عن أن الإسلام انتشر بقوة السيف، مثل: (لا إكراه فى الدين) البقرة (256) و(وما جعلنا عليكم فى الدين من حرج) الحج (78). كذلك يشير بوكاى إلى ما جاء فى وثيقة الفاتيكان من مواجهة للفكرة الشائعة فى الغرب عن الإسلام على أنه دين قائم على الكراهية والتخويف وكراهية الآخر، فتشير الوثيقة إلى أن الإسلام دين الحب، والنصوص كثيرة فى القرآن والحديث تدل على أن الإيمان لا يكتمل لإنسان ما لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
***
وتشير وثيقة الفاتيكان أيضاً إلى فكرة شائعة عن التعصب فى الإسلام وتستشهد بآيات فى القرآن تؤكد التسامح وتقول: (لم يكن المسلمون فى حقيقة الأمر أكثر تعصبا من المسيحيين عندما كانت لهم السيطرة فى مناطق كثيرة فى العالم، وأن مفهوم الجهاد شبيه بمفهوم الحرب المقدسة فى المسيحية، وتعنى بذل الجهد لنشر الإسلام والدفاع عنه كما يفعل المسيحيون ببذل جهودهم لنشر المسيحية والدفاع عنها. وليس الجهاد فى الإسلام مثل مفهوم (الخوريم Kherem) فى الديانة اليهودية الذى يعنى إبادة المخالفين للدين اليهودى.. أما أعمال العنف التى وقعت فقد كانت تخضع لقوانين الحرب، وفى الحرب الصليبية مثلاً لم يكن المسلمون هم الذين ارتكبوا المذابح. كذلك تناقش الوثيقة ما شاع فى الفكر الغربى من أن الإسلام دين يتصف بالجمود، وأن ذلك ما جعل المسلمين متخلفين وغير قادرين على مسايرة التطور، وتقارن الوثيقة بين مظاهر التخلف الموجودة فى بعض البلاد الإسلامية ومثيلاتها فى بعض البلاد الغربية المسيحية، وتقرر فى النهاية: (أننا نجد فى الفكر الإسلامى مبادئ وإمكانات لتطور المجتمع المدنى).
ويعلق موريس بوكاى على هذه الوثيقة التاريخية التى تعمدت أجهزة الإعلام ومراكز البحوث فى الغرب التعتيم عليها وعدم الإشارة إليها، فيقول: إننى متأكد أن كل من يطلّع على ما فى هذه الوثيقة ستصيبه الدهشة، فهى إعلان ودفاع عما فى الإسلام من عناصر إيجابية تدل على التفتح العقلى، ومن المؤسف حقاً أن الذين يعلمون بهذه الوثيقة الصادرة عن المؤتمر الثانى للفاتيكان عام 1970 ليسوا سوى قلة قليلة جداً، ولو أن المسيحيين فى الغرب كانوا على علم ووعى بما فيها من موقف منصف للإسلام لما حدثت هذه المصادمات والأحداث المؤسفة التى نراها ضد الإسلام والمسلمين، ولو علم الغربيون كيف استقبل وفد علماء المسلمين باحترام فى قاعة الاحتفالات الكبرى بكاتدرائية ستراسبورج، وكيف دعا الأسقف إلشينجر Elchinger أعضاء الوفد لأداء الصلاة فى بهو الكاتدرائية نفسها، وأنهم قاموا بأداء الصلاة أمام المذبح متجهين نحو القبلة لأدركوا أن تلك كانت خطوة مهمة للتفاهم والتقارب بين أصحاب الديانات السماوية، كما أنها كانت إشارة إلى التركيز على ما بين الديانات السماوية من نقاط التقاء وأهمها الإيمان بإله واحد، وترك نقاط الخلاف التى تثير النفوس، وهى على أى الأحوال لا تتعلق بأسس العقيدة فى كل الأديان وهى الإيمان بالله، وبالحياة الآخرة بعد الموت، والحساب أمام الله. مع ملاحظة عدم الخلاف بين الأديان فى كل ما يمس القيم الأخلاقية وحماية العلاقات الاجتماعية.
***
ويبحث موريس بوكاى عن موقف الأديان من العلم فيقول إن سلطات الكنيسة ظلت لعدة قرون تعارض تطور العلوم الطبيعية، مما دفع بعض العلماء إلى الهرب من أحكام الكنيسة بالحرق أو الإعدام أو التخلى عن الحقائق العلمية التى اكتشفوها بالملاحظة العلمية والتجربة والاستقراء، كما اضطر بعض العلماء إلى التراجع وإنكار ما توصلوا به وطلب الصفح والمغفرة من الكنيسة، ويضرب مثالاً على ذلك ما حدث للعالم جاليليو الذى استكمل اكتشافات كوبرنيكوس الخاصة بدوران الأرض حول الشمس، وحاكمته الكنيسة بتهمة الكفر لأن نصوص التوراة فيها إشارات إلى أن الشمس هى التى تدور حول الأرض. وتم إعدام جاليليو ودفع حياته ثمنًا لإعلانه الحقيقة العلمية. أما فى الإسلام فكان الموقف مختلفًا، فقد جاءت فى القرآن آيات كثيرة تشجع على النظر فى الكون وظواهر الطبيعة وفى تكوين الإنسان ومراحل نشأته، وجاء فى الحديث (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة). وإن كان المسلمون قد مروا فى مراحل ساد فيها الجهل وإنكار العلم، إلا أن ذلك لا يجعلنا نغفل النهضة العلمية العظيمة للحضارة الإسلامية فيما بين القرن الثامن الميلادى والقرن الثانى عشر، فى الوقت الذى كان فيه الغرب أسيرا للقيود على التطور العلمى. ولقد حققت مراكز العلوم فى العالم الإسلامى إنجازات واكتشافات علمية أثرت فى نهضة أوروبا، وكان الباحثون والعلماء فى العالم الإسلامى يجدون من الرعاية والدعم من الدولة والمجتمع ما جعلهم يتفوقون فى جميع المجالات.
ويشير بوريس بوكاى إلى فترة ازدهار الحضارة والنهضة العلمية فى الأندلس، حيث كانت قرطبة مركزا لدراسة علوم اليونان والهند وبلاد فارس، وكانت مكتبة الخليفة تحوى أربعمائة ألف مجلد، وكانت الجامعات الإسلامية تدرس العلوم الطبيعية والكيمياء والطب والتشريح والجراحة والفلك والرياضيات والجيولوجيا وعلم النبات ولهذا كان كثير من العلماء والطلاب يسافرون من أنحاء أوروبا للدراسة فى قرطبة مثلما يحدث فى عصرنا هذا عندما يسافر طلاب العلم إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراساتهم. ويدعو موريس بوكاى الغربيين جميعًا إلى معرفة فضل المسلمين على الحضارة الغربية والاعتراف بهذا الفضل، ولم يكن الدين عائقا أمام حرية البحث العلمى على الإطلاق، بل كان مشجعا للعلماء لثقة المسلمين فى أن اكتشافهم للمزيد من الحقائق العلمية يثبت إيمانهم بقدرة الله فى الكون ويزيدهم إيمانا، وهذا ما يفسر وجود علماء فى الطبيعة والكيمياء وغيرهما كانوا علماء فى الدين أيضا وجمعوا بين علوم الدين والدنيا. ولم يحدث الانفصال بين العلم والدين فى العالم الإسلامى كما حدث فى أوروبا.
ويفسر موريس بوكاى أسباب هذا الانفصال بين العلم والدين فى أوروبا بأن البلاد المسيحية عاشت فى القرون الوسطى فى ركود علمى وتزمت، فتوقف البحث العلمى تحت ضغط أولئك الذين كانوا يعتبرون أنفسهم (خدام التوراة والإنجيل). وعندما بدأ عصر النهضة كان من الطبيعى أن يكون رد الفعل لذلك أن يأخذ العلماء بثأرهم من رجال الدين، فثاروا عليهم، وكرّسوا الانفصال بين الدين والعلم، ولا يزال ذلك الانفصال مستمرا حتى اليوم إلى درجة أنه لو حدث وتحدث أحد العلماء عن الإيمان بالله يعتبره بقية العلماء شاذا يرغب فى الشهرة عن طريق الاختلاف عن سائر العلماء. وهذا الموقف يعمق التنافر بين العلم والدين إلى حد أن أحد العلماء الحاصلين على جائزة نوبل قام بتأليف كتاب يؤكد فيه أن المادة الحية تخلق نفسها بنفسها، ومن المادة الحية الأولية تكونت بقية الكائنات وانتهت بظهور الإنسان فى ظروف البيئة الخارجية الملائمة لذلك التطور الحيوى.
يقارن موريس بوكاى بين هذا الموقف لعلماء الغرب وموقف العلماء المسلمين فى الماضى والحاضر الذين تعلموا من الإسلام أنهم كلما ازدادت معرفتهم العلمية زادت دهشتهم من قدرة الله الخلاّقة التى يرجعون إليها كل ما فى الكون والإنسان من ظواهر وازداد إيمانهم بقدرة الخالق. فالعلماء المسلمون ينطلقون فى أبحاثهم من نقطة واحدة هى الإيمان بالله خالق ومدبر كل شىء، فالله وراء كل ما يصل إليه علمهم من اكتشافات. ويوجه بوكاى النقد إلى علماء الغرب الذين يسخرون من هذه العقيدة وينكرون تأثير القوى الروحية والإلهية فى الكون. ويقول إن عجز المسيحية واليهودية عن الصمود والتغلب على هذه الموجة الإلحادية فى الغرب أدى إلى ظهور فكر يدعى أن الدين ليس إلا نظاما تبناه البشر منذ ما يزيد على ألفى عام لإنشاء سلطة دينية تعطى امتيازات لرجال الدين على سائر الناس. ويبدى موريس بوكاى أسفه لأن الغربيين لا يعلمون ما فى الإسلام من قوة دافعة للتقدم الإنسانى، وذلك بتأثير ما يسميه (عملية التشهير المنظم المنهجى) ضد الإسلام منذ القرون الوسطى.
ولذلك فإن كل غربى تتاح له فرصة اطلاع على حقيقة الإسلام يصاب بالدهشة عندما يدرك إلى أى حد تم تشويه هذا الدين وكيف ظلت المراجع العلمية إلى اليوم مليئة بالأخطاء المتوارثة عن الإسلام من العصور الوسطى، ومازالت موجودة حتى فى دوائر المعارف المشهورة فى الغرب مما يجعل مهمة الباحث الذى يعتمد عليها مهمة عسيرة إذا أراد الوصول إلى المعلومات الصحيحة عن كل ما يتعلق بالإسلام. وإلى جانب ذلك فإن الآيات التى تشير إلى حقائق علمية ترجمت فى الغرب ترجمات سيئة جعل العلماء يوجهون إليها النقد، وقد يكون الخطأ فى الترجمة لصعوبة نقل المعنى بدقة كما فى الآيات باللغة العربية، أو لأن اللفظ القرآنى متعدد المعانى ولا يحيط المترجم بهذه المعانى كلها لمعرفة المعنى المقصود، وهناك معان لألفاظ فى القرآن لم ينكشف معناها الصحيح إلا فى العصر الحديث بعد أن تقدمت المعارف العلمية وفى ذلك عذر للمفسرين القدماء الذين لم يكن فى مقدورهم إدراك هذه المعانى.
***
ويقول موريس بوكاى إنه أصيب بدهشة بالغة عندما تفرغ لدراسة القرآن باللغة العربية فاكتشف إشارات وحقائق علمية لم يكن يتوقع أن يجدها فى كتاب دينى أنزل منذ أربعة عشر قرنا. ويقول إنه لم يكن لديه فى البداية استعداد للإيمان بالإسلام. وإنه كان يدرس نصوص القرآن بعقلية علمية متحررة من العاطفة ومن الأحكام المسبقة، ولم يكن فكره يخلو من تأثير التعاليم المعادية للإسلام التى تلقاها فى طفولته وشبابه وأولها أن الإسلام دين افتراه رجل عربى أسمه محمد (ص)- ولكن بعد أن تعلم اللغة العربية وأجادها، وعكف على دراسة القرآن آية آية، وجملة جملة، واستعان بكتب التفسير المعتمدة، فكانت تذهله الدقة التى يصف بها القرآن الظواهر الطبيعية، ولا يمكن إدراك المعجزة فيها إلا بالرجوع إلى النص الأصلى باللغة العربية . ومن هذه الظواهر التى يتحدث عنها القرآن كيفية خلق الله للعالم، والإشارات المتصلة بعلم الفلك وعلم الأرض وعلم الحيوان وعلم النبات بالإضافة إلى المسائل المتصلة بالتكاثر والتناسل. ويقول: إن ذلك جعلنى أتساءل: كيف يقال إن هذا القرآن من تأليف بشر وفيه هذه الحقائق العلمية التى لم يتم اكتشافها إلا فى العصر الحديث بعد قرون عديدة من نزول القرآن؟
يتحدث موريس بوكاى كيف تحولت مشاعره إلى الإسلام بعد اكتشافه لما?فى القرآن من إشارات علمية لا سبيل إلى تكذيبها بعد الاكتشافات العلمية الحديثة، فيقول: لم يعد أمامى مجال للشك فى أن القرآن أوحاه الله إلى نبى الإسلام، وأن القرآن الموجود فى أيدى الناس اليوم هو هو ذات النص الذى أنزله الله. وأدركت أيضا لماذا أساء الغربيون للقرآن فى العصر الوسيط وأخطأوا فى تفسير الآيات، لأنهم فى ذلك الوقت لم يكن باستطاعتهم الوقوف على محتواها العلمى الذى لم تتوصل إليه البشرية إلا بعد قرون.
***
وينبه موريس بوكاى إلى أن وجود إشارات علمية فى القرآن لا تعنى أنه كتاب أنزل لتعليم البشرية القوانين العلمية، فهو كتاب دينى بالدرجة الأولى يدعو إلى الإيمان بالله، وأن الحقائق العلمية فيه هى ومضات أو إشارات للقدرة الإلهية لتثبيت الإيمان بقدرة الله خالق كل شىء. وينبه موريس بوكاى إلى مسألة مهمة لمن يبحث عن الحقائق العلمية فى القرآن، وهى أن حقائق العلم تتغير كلما تقدمت المعرفة، ولذلك يجب أن نفرق بين القانون العلمى أو الحقيقة العلمية التى ثبتت صحتها بالأدلة العلمية، وبين النظرية العلمية أو الفرض العلمى الذى ما يزال فى مرحلة البحث والملاحظة والدراسة ولم يصل إلى درجة الحقيقة العلمية أو القانون العلمى، فالقرآن فيه إشارات إلى حقائق علمية تأكدت صحتها، وأصبحت من المسائل العلمية الثابتة المؤكدة، مثل حقيقة أن الأرض تدور حول الشمس وأن القمر يدور حول الأرض، ومثل حقيقة أن الماء هو أصل كل شىء حى، ومثل مراحل تطور الجنين البشرى.. إلخ.
***
ويؤكد موريس بوكاى على ما جاء فى القرآن من إشادة بالقلم فى سورة العلق (اقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم) العلق (3-4) باعتباره وسيلة الإنسان لتدوين معارفه وحفظها للأجيال على مر الزمان، وهذا ما جعل النبى (ص) يحرص على إملاء الآيات على كتبة الوحى مما حفظ القرآن كما أنزل.
ويرى موريس بوكاى أن حديث القرآن عن كيفية خلق السموات والأرض كما جاءت فى آيات متفرقة هى الأصدق فى هذا الموضوع، لأن التوراة-مثلا-تقول إن عملية الخلق تمت فى ستة أيام تبعها يوم استراح فيه الله هو يوم السبت. واليوم الذى تتحدث عنه التوراة هو أربع وعشرون ساعة، لكن القرآن يشير إلى معنى آخر، ففى الآية (إن ربكم الله الذى خلق السموات والأرض فى ستة أيام) الأعراف (54) وفى آية أخرى يعلمنا الله أن هذه الأيام ليست بالمعنى الشائع ولكن مفهومها عند الله مختلف، فهى تعنى مراحل زمنية Periods أو عصور ages وليست أياما days والدليل على ذلك ما جاء فى الآية: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) السجدة (5) ويشير القرآن إلى حدوث مرحلة بعد مرحلة فى خلق الكون فى الآيات: (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها. رفع سمكها فسواها. وأغطش ليلها وأخرج ضحاها. والأرض بعد ذلك دحاها. أخرج منها ماءها ومرعاها. والجبال أرساها. متاعا لكم ولأنعامكم) النازعات (27-33).
ويشير القرآن إلى ظاهرتين توصل إليها العلماء مؤخرا أولهما: أن الأرض نشأت من انفصالها عن الشمس وبردت ، وثانيهما: أن الماء هو أصل الخلق لكل شىء: (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شىء حى أفلا يؤمنون) الأنبياء (30) كما يشير إلى حقيقة توصل إليها العلماء فى العصر الحديث وهى أن الكون مر بعصر كان فيه عبارة عن كتلة غازية ذات جزئيات تشكل منها العالم: (ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض أئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) فصلت (11).
ويستخلص موريس بوكاى من القرآن الحقائق الآتية عن خلق الكون:
1 - وجود ست مراحل للخلق بوجه عام.
2 - تداخل مراحل خلق السماوات مع مراحل خلق الأرض.
3 - خلق الكون من كتلة أولية متماسكة العناصر انفصلت عنها أجزاء الكون.
4 - تعدد السماوات وتعدد الكواكب التى تشبه الأرض.
5 - وجود مادة مخلوقة وسيطة بين السماوات والأرض.
وعظمة الله تتجلى فى الكون ولذلك يطالبنا بالنظر فى المعجزات الكثيرة فيه. فليس من السهل على العقل البشرى أن يستوعب حقيقة أن الأرض تبعد عن الشمس مسافة مائة وخمسين مليون كيلو متر تقريبا. ومع ذلك فهى مسافة صغيرة إذا قورنت بالمسافة التى تصل بين الشمس وبين مدار كوكب بلوتو وهى تقدر بما يساوى المسافة بين الأرض والشمس أربعين مرة تقريبا أى ستة آلاف مليون كيلو متر تقريبا، وبناء على تقديرات العلماء فإن قطر مدار كوكب بلوتو يبلغ حوالى 12 ألف مليون كيلو متر، ومع أن سرعة الضوء تقدر بحوالى 300 ألف كيلو متر فى الثانية الواحدة، فإن شعاع الضوء يستغرق ست ساعات تقريبا ليصل من الشمس إلى كوكب بلوتو. وفى الكون نجوم يصل الضوء منها إلى الأرض فى مليارات من السنوات.. وسبحان الله.
***
يتحدث موريس بوكاى بالتفصيل عن النظام الشمسى والمجرات والنجوم والكواكب وعن وجود عوالم متعددة، وأن العالم الذى نعيش فيه ليس سوى واحد من هذه العوالم. وما يقوله علماء الفلك عن وجود خمسين مليار نجم فى مجرتنا الشمسية ولكل نجم كواكب تابعة له تدور فى فلكه. ويقول أيضا إن فى القرآن حوالى أربعين آية تمدنا بمعلومات توضيحية فى علم الفلك جاءت فى سياق الإشادة بعظمة الله الخالق وبديع صنعه وما فى الكون من نظام دقيق محكم، وقد اكتشف نيوتن بعض مظاهر هذه الدقة فى قوانين الجاذبية بين الأجرام وغيرها من القوانين العلمية. ويكفى ما فى التعبير القرآنى من دقة فى التمييز بين ضوء الشمس وضوء القمر: (هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا.. ..) ولم يكتشف العلماء إلا بعد قرون من نزول القرآن أن الشمس هى مصدر الضوء وأن نور القمر هو انعكاس لضوء الشمس.
وسوف تدهش عندما تجد موريس بوكاى يتحدث عن إعجاز القرآن فى حديثه عن النجوم، والكواكب، والسماء الدنيا، والنظام الشمسى، وظاهرة التمدد فى الكون وهى أعظم اكتشاف علمى فى العصر الحديث لم يصل إليه العلماء إلا بعد التوصل إلى نظرية النسبية ويشير إليها القرآن: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) الذاريات (47) وكذلك الإشارة إلى ما يمكن إليه البشر من النفاذ إلى الطبقات العليا بسلطان العلم: (يا?معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا?تنفذون إلا بسلطان) الرحمن (33) ويقول بوكاى إن أداة الشرط (إن) تفيد أن الحدوث جائز فى المستقبل، بينما أداة الشرط (لو) تفيد استحالة أو عدم احتمال الحدوث، فالقرآن إذن يشير إلى إمكانية تحقيق إنجاز علمى بغزو الفضاء والنفاذ أيضا إلى طبقات بعيدة فى أعماق الأرض. ولم يكن فى وسع أحد أن يدرك ذلك وقت نزول القرآن.
ولن ندهش بعد ذلك عندما نجد أن معظم العلماء العرب والمسلمين الذين يبهرون الأسماع بالحديث عن الإعجاز العلمى فى القرآن إنما يكررون الحقائق التى توصل إليها العالم الفرنسى موريس بوكاى بدراسته للقرآن.
***
ويجمع موريس بوكاى الآيات التى تتحدث عن الأرض وكيفية خلقها لمعيشة الإنسان عليها بما فيها من أنهار وبحار وجبال وماء ونبات ورياح وحيوانات وتعاقب الليل والنهار، وعدم اختلاط مياه الأنهار ومياه البحار عند مصبات الأنهار. كما يتحدث عن دورة الماء فى الكون وفى الإنسان ويقول إن الحقائق العلمية المتعلقة بها معروفة لنا الآن، لكنها لم تكن معروفة منذ أربعة عشر قرنا حين نزل القرآن، بل إن المفاهيم الخاطئة هى التى كانت سائدة فى تلك العصور واستمرت سائدة حتى مطلع عصر النهضة، ولذلك لا نستطيع أن نخفى دهشتنا حين نجد آيات القرآن تتحدث فى مواضع كثيرة عن الماء ولم تقع فى أى خطأ من الأخطاء العلمية التى كانت هى المعلومات الشائعة فى ذلك العصر، وبذلك ندرك إعجاز القرآن، ونؤمن بأنه ليس من تأليف بشر، ولم يردد شيئا مما كان شائعًا فى ذلك العصر فى بلاد العرب أو الفرس أو الرومان أو غيرها، فإذا نظرنا إلى تفسير القرآن نجده تفسيرًا دقيقاً مثل: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه فى الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون) المؤمنون (18) و(الله الذى أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور) فاطر (9) و(الله الذى يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه فى السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون) الروم (48) و(أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه فى النار ابتغاء حلية أو متاعٍ زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض كذلك يضرب الله الأمثال) الرعد (17) و(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع فى الأرض..) الزمر (21).
ويشير موريس بوكاى إلى ما جاء فى دائرة معارف يونيفرسال للبروفيسور رمنييراس الأستاذ بالكلية الوطنية للهندسة الزراعية والمياه فى باريس من أن الأفكار الخاصة بدورة المياه فى الكون كانت كلها نظريات وأفكار خاطئة ولم يتخل العلماء عنها إلا فى عصر النهضة بين عامى 1400(م) و1600(م) ويعلق بوكاى على ذلك بأن الدقة التى تحدث بها القرآن لم يستطع أحد من العلماء أن يعارض شيئاً منها، ويبدو الإعجاز فى الآية: (ألم تر أن الله يزجى سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) النور (43) وعندما نقارن معلومات علم الهيدروليكا الحديثة عن الماء بما جاء فى القرآن سنجد التوافق تاما مع آخر نتائج الدراسات العلمية. وكذلك ما جاء فى القرآن عن البحار خاصة فى صفات البحار والأنهار والتقائهما: (وهو الذى مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا) الفرقان (53) و(وما يستوى البحران هذا عذب فرات سائع شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) فاطر (12) وصدق الله العظيم، فعلى مدى قرون لم يحدث أن اختلط الماء العذب والماء المالح عند مصب أى نهر من الأنهار فى أنحاء العالم.
***
يعرض موريس بوكاى بالتفصيل نتائج دراساته عن صدق القرآن فى كل ما ذكره عن تركيب الأرض، وتوزيع البحار واليابس على سطح الكرة الأرضية، وتركيب الجبال التى قال عنها القرآن: (ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا) النبأ (6-7) وعرف علماء الجيولوجيا فى العصر الحديث أن الجبال فى شكل وتد يتعمق فى الأرض وينتج عن ذلك تثبيت القشرة الأرضية. والإعجاز فى القرآن أيضًا فى حديثه عن تخلخل الهواء فى طبقات الجو العليا حيث يقل الضغط الجوى ويصاب الإنسان بضيق التنفس إذا ارتفع عن سطح الأرض ارتفاعا كبيرا وهذه المعلومة لم يكتشفها العلماء إلا فى العصر الحديث، بينما أشار إليها القرآن فى الآية (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعَّد فى السماء) أى أن الإنسان يشعر بانطباق صدره وقد يموت نتيجة لذلك كلما ارتفع فى الجو. وليس ذلك فقط بل أشار القرآن إلى وجود الكهرباء الجوية ونتائجها مثل البرق، والبرد: (وهو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا وينشىء السحاب الثقال. ويسبّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء..) الرعد (12- 13).
كما يشير القرآن إلى العلاقة بين الظل والشمس: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعلـه ساكنـا ثـم جعلنا الشمس عليه دليلاً ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا) الفرقان (45-46).. هذا بالإضافة إلى ما فى القرآن من آيات عن عالم النبات وعالم الحيوان والتكاثر فى النبات: (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) الحج (5).
ومن المعروف علميا الآن أن الثمرة هى نتاج عملية تناسل النباتات العليا، والمرحلة التى تسبق الثمرة هى مرحلة الزهرة بأعضائها الذكرية (الإبر) وأعضائها الأنثوية (البويضات) وبعد نقل حبوب اللقاح من الأعضاء الذكرية إلى الأعضاء الأنثوية تعطى الزهور الثمار. فكل ثمرة تتضمن بالضرورة وجود أعضاء ذكورة وأعضاء أنوثة. وحتى الأنواع التى تنتج زهورا غير ملقحة يسميها علماء النبات (الثمار عذرية التوالد) مثل ثمار الموز وبعض أنواع الأناناس والتين والبرتقال والعنب، فإن هذه النباتات فى الحقيقة- وكما اكتشف علماء النبات- لها نشاط جنسى ولكنه مختلف عن النباتات الأخرى. وبالطبع لم يكن أحد فى عصر نزول القرآن يعلم شيئا من هذه الحقائق العلمية.
***
كذلك يبدى موريس بوكاى انبهاره بما فى القرآن من مسائل كثيرة تتعلق بعلم الحيوان مثل: التناسل فى عالم الحيوان، ووجود الجماعات الحيوانية، ودقائق عن حياة النحل والعناكب والطيور. وقد أثبت العلم الحديث أن الجماعات الحيوانية تتصف بمستوى من التنظيم الفطرى فى نطاق جماعة من الحيوانات أو الطيور، وقد ذكر العالم الفرنسى (بلانشير) أنه يمكن تمييز بعض مظاهر السلوك لدى هذه الجماعات من الحيوانات والطيور تبدو كما لو كانت تسبيحا لله، وقد حظيت مجموعات النحل بأكبر قدر من الدراسات العلمية وفاز كل من (فون فريش) و(لورنز) و(تينبرجن) بجائزة نوبل فى العلوم على دراساتهم فى السلوك الجماعى للحيوانات والطيور والحشرات والعنكبوت، وبذلك توصل العلماء إلى معنى ما جاء فى الآية: (وما من دابة فى الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم..) الأنعام (38). كذلك فإن الإعجاز القرآنى يبهر العلماء فى حديثه عن التناسل الإنسانى من معلومات دقيقة ابتداء من طبيعة السائل المنوى إلى تخصيب البويضة، إلى تطور الجنين فى الرحم فى مراحل تتفق مع ما يقرره العلم الحديث، ولم يستطع أحد من العلماء العظام أن يقدم دليلا على عدم دقة هذه الحقائق العلمية. ويكفى الإشارة إلى الآية: (.. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما) المؤمنون (14) وكذلك ترتيب ظهور الحواس والأحشاء: (ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة..) السجدة (9) وأن الله يخلق الذكورة والأنوثة فى الأجنة: (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى) النجم (45- 46).
ويشير موريس بوكاى أيضا إلى أن القرآن لم يترك شيئا فى حياة الناس دون أن يحدد إطاره السليم بما فى ذلك العلاقات الجنسية ويذكر الآيات الكثيرة التى تتضمن معلومات جنسية باستخدام ألفاظ تجمع بين الدقة والاحتشام.
كما يشير بإعجاب شديد لحرص المسلمين منذ بداية نزول الوحى على تدوين الآيات أولا بأول ومراجعتها دوريا وخاصة فى شهر رمضان، وكذلك يبدى إعجابه بحرص العلماء المسلمين على توثيق الأحاديث وتتبع سلسلة الرواة، حتى أنهم أنشأوا لذلك علما من أشد العلوم دقة يعتمد على منهج صارم فى دراسة كل واحد من سلسلة الرواة لكل حديث حتى يصلوا إلى المصدر الأول له ويدققوا فى التأكد من صدور الحديث عنه ومدى صدق كل راو وسلامته العقلية ومعاصرته لمن سمع منه، ثم رتبوا الأحاديث إلى درجات فبعضها صحيح، وبعضها متواتر، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف، وبعضها منحول سواء عن حسن نية للترغيب فى عمل الخير أو للترويج لمذاهب وفرق واتجاهات سياسية. ويقول موريس بوكاى إن (علم الحديث) يستحق الإشادة لأن علماء الحديث اتبعوا المنهج العلمى الدقيق فى نقد الأحاديث والشك فيها وإثبات ما أثبتوه وتكذيب ما كذبوه بناء على أدلة وأسانيد دون تحرج لأن الأحاديث منسوبة إلى النبى (ص) وليست وحيا مباشرا له منزلة القرآن. وهذه النزاهة العلمية لا نجدها فى نقد النصوص فى الديانات الأخرى.
***
وما يصل إليه موريس بوكاى بعد ذلك يتفق مع ما ذكره الإمام الأكبر الراحل الشيخ جاد الحق على جاد الحق فى كتابه (اجتهاد الرسول) الذى فرّق فيه بين أقوال الرسول التى تتعلق بأمور الدين والدنيا معبّرًا فيها عن مراد الله، وأقوال صدرت عنه كإنسان مثل اقتراح عدم تدكير النخل فلما تبين أن ذلك غير مفيد قال (أنتم أدرى بشئون دنياكم) ومثل حالات كان فيها الرسول (ص) مجتهدا فى استنباط الأحكام وكان بالطبع إمام المجتهدين فى هذه الحالات. وقد أوضح الشيخ جاد الحق بأدلة كثيرة الفرق بين النبى والإنسان، وبين المجتهد وناقل الوحى فى شخصية الرسول (ص).
ودراسات موريس بوكاى عن الإعجاز العلمى فى القرآن نرى أصداءها فى الدراسات التى قدمها لنا بعد ذلك د. مصطفى محمود، ود. عبد الرزاق نوفل، ود. منصور حسب النبى، ود. محمد شوقى الفنجرى، ود. عبد العليم عبد الرحمن خضر، ود. زغلول النجار، وغيرهم، وغيرهم، مما يرجح أنهم تأثروا به وأخذوا عنه.
***
ويكرر موريس بوكاى ذكر نتائج أبحاثه عن مدى صحة المعلومات العلمية والتاريخية فى الكتب المقدسة، ويتوقف طويلا عند طريقة تدوين القرآن، والقدسية التى يشعر بها المسلمون لكل آية وكل كلمة وكل حرف فى القرآن، ولم ينزل القرآن دفعة واحدة، ولكنه نزل على مدى ثلاثة وعشرين عاما وهى مدة كافية جدا لحفظ كل آياته، وظل حفظ القرآن من الأمور التى تلفت النظر فى العالم الإسلامى، حيث يحفظ كثيرون القرآن كاملا عن ظهر قلب. وقد تم تدوين القرآن فى حياة النبى وتحت إشرافه وبمراجعته، وكان (ص) يطلب من الكاتب أن يتلو عليه ما كتبه ويطلب من غيره أن يتلو ما كتب للتأكد من صحة الكتابة، وهكذا تجمعت أسباب عديدة لضمان صحة نصوص القرآن: الحفظ فى ذاكرة المؤمنين العدول، وتدوين الآيات أولا بأول بأقلام الكُتّاب العدول، وهذا ما جعل جمع القرآن بالكامل عملا سهلا فى عهد أبى بكر ثم فى عهد عثمان. وهذا ما أخرس ألسنة كل من حاول التشكيك فى صحة القرآن وهو الكتاب الوحيد الذى لا يثير أية مشاكل تتعلق بصحة نصوصه. ومن غير المعقول أن يتصور إنسان أن حقائق العلم التى ذكرها القرآن وكانت مجهولة وقت نزوله ولم تكتشف إلا فى العصر الحديث يمكن أن تكون من تأليف بشر. وليس أمام الإنسان إلا التسليم بأن هذا الكتاب وحى من الله أنزله على النبى الذى اختاره وكان منذ بداية حياته صادقا حتى أطلق عليه أهل مكة لقب (الصادق الأمين) وظل كذلك فى جميع مراحل حياته، ويكفى أنه لم يطلب لنفسه ثروة أو ملكا أو يضع تاجا على رأسه ويجلس على عرش.. وكان فى استطاعته أن يفعل ذلك.
***
ويبدو أن هناك صلة فكرية بين موريس بوكاى وروجيه جارودى، وأن هناك تكاملاً فى رؤيتهما للإسلام، بوكاى درس الإسلام من زاوية العلم الحديث، وجارودى درسه من زاوية الفكر والحضارة والقيم الروحية والإنسانية. فقد ألقى جارودى محاضرة فى جامعة الإسكندرية أثناء زيارته لمصر عام 1983 فى مناسبة العيد الألفى للأزهر، وكان موضوع الندوة (حوار الحضارات) وقال فيها إن أهم ما يميز الإسلام فى نظره أن كل ظاهرة لا تؤخذ منفصلة عن غيرها من الظواهر، وأن العلاقة واضحة فى الإسلام بين ظواهر الطبيعة وعلاقة الإنسان بربه، ففى الإسلام ترتبط حركة كل شىء فى الكون بإرادة الله، وبالتالى لا ينبغى أن تدرس ظاهرة وحدها وكأنها منقطعة الصلة بغيرها، وإنما يجب أن تدرس من خلال علاقتها بالظواهر الأخرى، وعلاقة جميع الظواهر بالله، وهذه النظرة الكلية الشمولية هى ما تمتاز به العلوم الإسلامية فى جوهرها.
أما عن الحوار بين الغرب والإسلام فكان رأى جارودى أن ذلك من الصعوبة بمكان لأنه سيكون حوارا بين جماعات تتفاوت فى موازين القوى وبالتالى فهو حوار قائم منذ البداية على أساس خاطئ. فقد كان الاستعمار الغربى السبب الرئيسى لوقف نمو الحضارات والثقافات فى البلاد الإسلامية، وعمل الاستعمار على إنكار الحضارة الإسلامية بل وتدميرها وهى فى أوج ازدهارها. وقال جارودى: لقد بهرتنى قدرة الرسول (ص) على إنشاء مجتمع إسلامى مثالى لا ينقل أسسه من المجتمعات الأخرى ولا على صلة الدم التى كانت تربط وتفرق بين القبائل، ولا على ملكية الأرض مثل الإمبراطوريات، ولا على مجتمع الأسواق كما أنشئت المدن الأغريقية، ولا حتى على أصحاب ثقافة واحدة، ولذلك انتشر الإسلام فى دول كثيرة، وقبائل متعددة، وثقافات متباينة، فوحد بين هؤلاء المختلفين فى كل شىء على وحدة العقيدة. فالمجتمع الذى أقامه الرسول (ص) بنى على الإيمان وهذا ما يجعله مجتمعا عالميا مفتوحا لمن يريد أن يؤمن بعقيدته. وإن فى هذا الدين إبداعاً عجيباً، لا شبهة فيه لولاية إلهية، أو لطغيان رجل دين. فهو دين يمد يده لجميع البشر والباب مفتوح أمام البشر للاتصال بالله دون وسيط. وقد عقد الرسول (ص) اتفاقا أشبه ما يكون بالاتحاد الفيدرالى مع اليهود فى المدينة، واليهود هم الذين نقضوا الاتفاق وانقلبوا عليه. وفى عهد الخلفاء الأوائل عاش اليهود والمسيحيون فى الدولة الإسلامية على قدم المساواة مع المسلمين دون تفرقة، وتولوا مناصب سياسية وعلمية واجتماعية رفيعة.
ويبدى جارودى أسفه لأن الغرب انساق وراء نزعته للسيطرة والاستغلال والاستعمار، فلم يفهم الإسلام فهما صحيحا، ولم يتخلص حتى الآن من حملات العداء التى شوهت هذا الدين الذى يقدم للبشرية نموذجا فريدا من العلاقة السمحة بين الإنسان والله والطبيعة، بحيث تتكامل العلاقة وتتوحد فى الخالق الذى يسبح كل شىء بحمده.
ولا يزال فى فكر جارودى ما يستحق العودة إليه. *
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف