أين المدن الخضراء؟
تحتفل مصر اليوم بيوم البيئة العالمى. وقد اختار برنامج الأمم المتحدة للبيئة لهذا اليوم شعار (المدن الخضراء) ليكون حافزا للدول بزراعة الغابات والحدائق والأشجار لإنقاذ الهواء الذى بلغت مستويات التلوث به فى معظم الدول إلى حد الخطر على صحة الإنسان.
ونحن فى مصر أكثر احتياجا من غيرنا إلى الاستفادة بهذه المناسبة لنشر الوعى بين المواطنين بأهمية المحافظة على البيئة، وتعليمهم سلوكيات حضارية لمنع تلوث النيل والهواء وتوجيههم إلى أن الاهتمام بنظافة الشارع لا يقل عن نظافة البيت، وأن انتشار الذباب والناموس والحشرات يؤدى فى النهاية إلى انتشار الأمراض.
وموضوع البيئة كان دائماً فى آخر قائمة الأولويات بالنسبة للحكومة وأجهزتها بما فى ذلك الإعلام، وكان الحديث عن البيئة مجرد سد خانة وأداء لواجب لا مفر منه، مع أن التليفزيون نظّم حملات كثيرة ناجحة لتوعية المواطنين بضرورة تطعيم أطفالهم ضد الأمراض، وكيفية رعاية أبنائهم ذوى الاحتياجات الخاصة، وتحذيرهم من مضار التدخين وغير ذلك إلا أنه لم ينظم حملة مماثلة عن مخاطر إلقاء المخلفات فى النيل والشوارع، أو حرق هذه المخلفات بطرق عشوائية أو تحذيرهم من الأمراض التى يسببها عادم السيارات ذات الموتورات القديمة، إلى غير ذلك.
ومنذ سنوات أدخلت وزارة التربية والتعليم ضمن مقررات المرحلة الابتدائية والإعدادية منهجا لدراسة حماية البيئة وأثرها على سلامة الحياة الإنسانية، ولكن على الجانب الآخر ظلت المصانع تلقى مخلفاتها من الكيماويات فى مجرى النيل، وكانت بعض المدن والقرى تلقى مياه الصرف الصحى فى الترع، وبقيت الأقفاص السمكية فى النيل حتى بعد أن أكدت تقارير معامل وزارتى الصحة والبيئة خطورتها وحذرت من آثارها الضارة وقد أدت إلى عدم صلاحية المياه للشرب خاصة فى دمياط ورشيد كما أثبتت عدم صلاحية هذه الأسماك للاستهلاك الآدمى، وقد حسم القضاء هذه القضية وحكم بإزالة هذه الأقفاص ولكنها ما زالت موجودة.
أما مشكلة تلوث الطعام فقد كانت نتيجة دخول أسمدة ومبيدات مسرطنة ومحظور استخدامها فى الدول المنتجة لها كما أثبت ذلك القضاء فى قضايا الفساد الأخيرة وترتبت على ذلك أضرار لا يعلم مداها إلا الله، ونحمد الله أن استيراد هذه السموم قد توقف أخيراً بعد مماحكات وحيل استغرقت سنوات.
وما زالت الشكوى من تلوث الهواء فى القاهرة لوجود مئات الورش والمسابك والفواخير، ومليونى سيارة، ومصانع الأسمنت فى حلوان التى تلقى بأطنان من تراب الأسمنت فى الهواء رغم تكرار التصريحات عن تركيب فلاتر إلا أن الأمور ما زالت كما هى تقريبا.
والمشكلة أن لدينا قانونا لحماية البيئة إذا تم تطبيقه وعملت أجهزة الدولة على الالتزام به بجدية فسوف يتغير الحال ويخف الضغط على المستشفيات واستهلاك الأدوية وسيؤدى ذلك إلى توفير جزء غير قليل من ميزانية وزارة الصحة، ولكن أجهزة الدولة تتجاهل هذا القانون وتلقى المسئولية كلها على وزارة البيئة، وهذا هو الخطأ الذى يجب تداركه.
فالمسئولية عن حماية البيئة ليست مسئولية وزارة البيئة وحدها، ومهما وفّرنا لها من اعتمادات وسلطات فلن تستطيع القيام بدورها إذا لم تقم جميع الوزارات والهيئات والشركات والجمعيات ومنظمات المجتمع المدنى بمسئوليتها المباشرة عن حماية البيئة، بل إن هذه الجهود وحدها لا تكفى إذا لم يصل وعى المواطن إلى الدرجة التى تجعله يدرك أن ذلك لحمايته وحماية أسرته، وأنه هو المستفيد الأول من كل الجهود التى تبذلها الدولة لحماية البيئة، ومهمة تنمية الوعى لدى المواطن بأهمية الحفاظ على البيئة تقع على عاتق الإعلام والمدرسة والنادى وكل مؤسسات صناعة الوعى فى المجتمع.
وتبقى ضرورة تحويل المدن المصرية إلى خضراء والإنسان يشعر بالفزع عندما يكون فى الطائرة ويشاهد القاهرة وكأنها ملفوفة بغلالة كثيفة من الأتربة والدخان بما يعنيه ذلك من نقص الأوكسجين فى هواء القاهرة، والأطباء لديهم قائمة طويلة من الأمراض التى تصيب القلب والمخ (والجهاز العصبى) والأوعية الدموية نتيجة نقص الأوكسجين، ويشعر الإنسان بالألم عندما يشاهد من الطائرة أية مدينة أوروبية ويرى المساحات الخضراء تتخلل الكتل السكانية وتنتشر خارجها الغابات ومعلوم أن الأشجار تنقى الهواء وتزيد من كمية الأوكسجين وتساعد على صد الأتربة، وهذه حقائق لا يجهلها أحد، والجميع يتحدثون عنها بالتفصيل، ولكن المشكلة فى التنفيذ.
ما زالت القاهرة فقيرة جدا فى الغابات والحدائق والتشجير، مع كل التقدير لما تم مثل إنشاء حديقة الدراسة وقبلها الحديقة الدولية، ومشروع تشجير الطريق الدائرى.. وهذه خطوات مهمة ولكن الأمر يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك، ولقد ظللنا نتحدث منذ الخمسينيات عن إنشاء غابة فى كوم أوشيم وغابة فى تلال زينهم، وانبرى الخبراء منذ سنوات وحتى اليوم للحديث عن أهمية الغابات فى حماية هواء المدن وتوفير الأخشاب.. لكن التنفيذ لم يكن بقدر الكلام.
ويعود الأمل فى أن تأخذ الأفكار والمشروعات الخاصة بحماية البيئة طريقها إلى التنفيذ، وحينئذ فسوف تتغير أحوال سكان القاهرة صحيا ونفسيا وعصبيا، وستجد الأسر متنفسا كسائر سكان مدن العالم. يدعونا للأمل حماس الحكومة الجديد.. ونأمل أن يأتى يوم البيئة العالمى العام القادم وقد تغيرت الأحوال.