المنصفون للإسلام من جوته إلى جارودى
عندما يذكر المنصفون للإسلام فى الغرب فلا بد أن يكون فى مقدمتهم الشاعر والكاتب الألمانى العظيم جوته. فهو أول من اعترف بأنه مدين بشاعريته للشرق الذى منحه (الثراء الروحى) كما كان يقول. وهو أول من أعلن أن الدعوة إلى انفصال الشرق الإسلامى عن الغرب المسيحى دعوة باطلة، وأن الإنسان العاقل هو الذى يأخذ من الجانبين وينظر إلى الأمور بحكمة وباتساع أفق. وهو أيضا أكبر من اعترف صراحة بفضل الثقافة والعلوم العربية والإسلامية على أوروبا.
وكان مدافعا قويا عن الإسلام فى مواجهة الكراهية التى كانت سائدة فى الغرب لكل ما يمت للإسلام بصلة.
وتزداد قيمة جوته عندما نعرف أن دعوته إلى إنصاف الإسلام والاعتراف بقيمته فى إثراء الحضارة الإنسانية، جاءت فى وقت كان قد تم طمس هذه الحقيقة من عقول الغربيين جميعا، ويستثنى من ذلك قلة قليلة مثل الكاتب الألمانى (ليسنج- 1729- 1781م) الذى كتب رواية مشهورة بعنوان (ناتان الحكيم) تدور حول فكرة أساسية هى أن الأديان السماوية الثلاثة جاءت برسالة واحدة.. ورمز لذلك بأسرة فيها ثلاثة أخوة أشقاء لأب واحد.
ومثل المؤرخ الألمانى (يوهان هيردر 1744- 1803م) الذى اعترف بأن المسلمين أقاموا مئات السنين فى أوروبا فكانت علومهم وفنونهم هى المنهل الذى بدأ الغرب نهضته منها. ويقول: (لقد هبّت على أوروبا- عن طريق المسلمين- رياح الدين والشرف وتذوق الجمال فزرعت فى تربة الغرب هذه القيم إلى جنب الدين المسيحى.. ولقد تعلم الغرب الكثير من المسلمين خلال الحروب الصليبية، ومثل الأديب الألمانى الكبير (الكسندر هومبولدت 1769- 1859م) الذى أوضح كيف كان للعرب والمسلمين الفضل فى التطور العلمى والثقافى للغرب.
***
وفى كتاب للباحثة الألمانية د. كاثرينا ممسين بعنوان (جوته والإسلام) ترجمته شيرين حامد فهمى وأصدرته مكتبة الشروق الدولية بحث دقيق عن بداية تعرف الغرب على العالم الإسلامى فى العصر الحديث- بعد عصر النكران لفضل المسلمين-وكان ذلك بصدور أول ترجمة لرواية ألف ليلة وليلة باللغة الفرنسية. فاندلعت شرارة الولع بهذه الرواية وانتشرت ترجماتها فى سائر لغات أوروبا، حتى لم يعد فى أوروبا كلها من لم يقرأها مرة واحدة على الأقل، وألهمت العديد من كتاب وشعراء الغرب بما فيها من سحر وإثارة وخيال، ومازال هذا السحر باقيا إلى اليوم، حتى أن المستشرقة الألمانية العظيمة (أنّا مارى شيمل) كتبت قصيدة عن الروحانية التى تأثرت بها فى ألف ليلة قالت فيها:
لقد جعلتنى أحلم فى ألف ليلة وليلة..
مدينة التوابل والذهب..
الآن استيقظت وأفقت، فذهبت الألوان وبهتت..
إلا أنه مازال باقيا هناك البخور يملأ الطرقات..
وكان تأثير ألف ليلة وليلة كبيرا على الشاعر الألمانى العظيم جوته، وقال إنه كان يعيد قراءتها بين حين وحين دون أن يشعر بملل. وكان جوته مولعا بالشعر العربى القديم وبخاصة القصائد السبع المشهورة باسم (المعلقات) وقد ترجمت إلى اللغة الإنجليزية كنموذج للشعر الكلاسيكى العربى قبل الإسلام. ومنها تعمق جوته فى دراسة الشعر العربى حتى أنه كتب عن الشاعر العربى (أبى تمام) وغيره، وانشغل بترجمة الشعر العربى إلى اللغة الألمانية حتى أنه وهو فى عامه الواحد والثمانين، وقبيل وفاته بعام، كان يحكى عن انشغاله باللغة العربية فى شبابه وكانت ذاكرته تحتفظ بالكثير من أبيات الشعر العربى، وكان إعجابه باللغة العربية شديدا حتى أنه اعتبرها اللغة الوحيدة التى تتمتع بالانسجام بين الروح، والكلمة، والخط، ففيها تناسق غريب لا تجده فى لغة أخرى.
***
وتتحدث د. كاثرينا ممسين عن إعجاب جوته بالقرآن، وتأثر بذلك كثير من كتاب الغرب حتى أن (هيردر) عالم الدين البروتستانتى يعترف بأن (تلك اللغة القرآنية المقدسة أعجوبة العجائب). وكان مفهوم (التسامح) هو الذى جذب جوته إلى الإسلام. ولكى يفهم لغة القرآن تعلم اللغة العربية والخط العربى. وكان يصف لغة القرآن بالقوة والعظمة والرهبة والسكون فى خليط عجيب.. وتذكر د. كاثرينا ممسين أمثلة من كتابات جوته ورسائله التى تدل على مدى احترامه للإسلام، فقد كتب رسالة وهو فى الثانية والعشرين من عمره قال فيها: (أريد أن أدعو كما دعا موسى ربه فى القرآن (رب اشرح لى صدرى) طه(25) ممايدل على أنه قرأ القرآن وتأثر به. وعندما بلغ السبعين أعلن عن قراره بالاحتفال (بتلك الليلة المقدسة التى نزل فيها القرآن من أعلى السماوات إلى النبى محمد (ص). وهذه اللغة فى الحديث كانت بعيدة كل البعد عن اللغة التى كان العالم الغربى يتحدث بها عن الإسلام.
تقول د. كاثرينا ممسين إن جوته رأى- خلافا للعالم الغربى- التأثير الإلهى للقرآن على البشرية. وإن اقتباسات جوته من القرآن فى مواضع كثيرة فى كتاباته تعكس تقديره الشخصى واقتناعه بأمور كثيرة فى الإسلام. وكانت سورة البقرة من أكثر السور التى أثرت فى هذا الشاعر الكبير، وهو يذكر عدة آيات يتوقف عندها ويشيد بما فيها من الفكر الرائع العميق مثل: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)- البقرة: 112- كما يتحدث عن آية أخرى من نفس السورة يقول إنها تعبر عن دليل وجود الله فى الكون كله: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم)- البقرة: 115- والآية: (إن فى خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون)- البقرة: 164.
وسجل جوته إعجابه بما فى الإسلام من الدعوة إلى الخير فقال: إن الله يقول فى القرآن إنه لم يبعث رسولا إلى قوم إلا أن يكون منهم ويتحدث بلغتهم ويعرف ثقافتهم ويستشهد بالآية: (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد)- الرعد: 7. وكتب جوته رسالة إلى المفكر والمؤرخ البريطانى توماس كارليل فى سنة 1827م قال له فيها: (إن القرآن يقول إن الله أرسل لكل قوم رسولا يتحدث بلغتهم). وأشار إلى الكفار الذين طالبوا الرسول محمدا (ص) بأن يأتى بمعجزات، وعلق على ذلك بأبيات من الشعر قال فيها: (قال لهم: المعجزات لا أستطيع الإتيان بها. المعجزة الكبرى هى وجودى بينكم رسولا).
***
كان للشاعر الفرنسى الشهير (فولتير) مسرحية بدأ عرضها عام 1742 واشتهرت فى الغرب اسمها (تطرف النبى محمد) وأعلن جوته أن هذه المسرحية قدمت أبشع صورة يمكن تصورها عن نبى، وألف مسرحية تعارضها بعنوان (الدراما المحمدية) من مشهدين. فى المشهد الأول يصور بعثة النبى محمد (ص) وكيف جاءه الوحى بتكليفه بالرسالة، والمشهد الثانى يصور معاناة الرسول مع قومه فى تبليغ رسالة التوحيد، وقدم جوته بعد ذلك (أغنية محمد) التى تعتبر أول تبجيل للرسول من شاعر أوروبى.
وفى هذه الأغنية يظهر انبهار جوته بشخصية النبى، ثم انبهاره بجهاده وعدم اكتفائه بالدعوة وكفاحه لتأسيس مجتمع قائم على مبادئ الدين الذى جاء به، وربط بين النبى المعلم الروحى والنبى الإنسان ذى الصفات العالية، ويعكس جوته فى أشعاره عموما إعجابه بما فى شخص الرسول (ص) من المزج بين الشخصية التى تؤسس دينا جديدا، وبين نفس الشخصية وهى تكرس جهدها لتربية البشر من حولها روحيا وعقائديا. وجاء فى أشعار (الدراما المحمدية) الكثير من تعبيرات الإعجاب والتقدير للرسول مثل :
بين مضايق الجبال سار
وبخطى أقدام القائد شد معه أصحابه
تنتعش الورود تحت أقدامه
وفى غير ظله لا توجد الورود
وها هو ذا يسير فى الوادى متلألئاً بهياً
والأنهار والجداول تهتف به صائحة: يا أخانا
خذ أخوتك وخذنا معك إلى أبيك الخالد
والآن يعلو ويكبر ويحمل معه الأمراء
وفى وسط انتصاراته دانت المدن تحت قدميه وهو يسير تاركا الترف والثراء
لا يعبأ بهما.. وهكذا حمل أصحابه وأطفاله
ولا يكتب هذه الصور المليئة بالتقدير إلا من يؤمن بأن محمدا رسول بحق وأن دينه دين الحق. وتذكر كاثرينا ممسين مواقف كثيرة تدل على اعتقاد جوته بالتسليم لله كما فى العقيدة الإسلامية، ففى عام 1820م مرضت أخته غير الشقيقة بمرض خطير فكتب إلى صديق له: (لا أستطيع إلا أن أقول إننى أجد نفسى- مرة أخرى- باحثا عن الإسلام) وفى عام 1831 انتشر وباء الكوليرا فكتب: (هنا لا يستطيع أحد أن ينصح غيره فيما يفعله. فنحن جميعا نعيش فى الإسلام الذى يعطينا الشجاعة فى مواجهة الحياة). وقبل موته بأربعة أسابيع- وهو فى عامه الثانى والثمانين- كتب: (من أجل أن يتحرر البشر من الخوف. انتهوا بإلقاء أنفسهم فى حضن الإسلام واثقين فى الله وفى أقداره غير المكشوفة لنا). فهو مؤمن بما فى الإسلام من الخضوع لله والرضا بما كتبه، ويعبر عن ذلك بقوله: (إنه من اللافت للانتباه أن نرى كيف كان المؤمنون بمحمد (ص) يقومون بتربية الأجيال المسلمة، وكان الدرس الأول هو تثبيت عقيدة القضاء والقدر، والإنسان لا يواجه أمرا إلا وقد كتبه الله له، ومن ثم يعيشون حياتهم آمنين مطمئنين).
***
ولقد واجه جوته الكثير من الانتقادات والاتهامات لإعجابه بالإسلام، ومعارضته للتيار العدائى الغالب للإسلام وللرسول (ص) وكان رده على ذلك فى كتاب (المقولات) بأبيات قوية وصريحة قال فيها:
من حماقة الإنسان فى دنياه
أن يتعصب كل منا لرأيه
وإذا كان الإسلام معناه التسليم لله
فعلى الإسلام نحيا ونموت أجمعين
***
هل كان الشاعر العظيم جوته معجباً بروحانية الإسلام فقط، وهو الذى نشأ فى أسرة بروتستانتية، أو كان مسلما بقلبه كما يقول البعض؟.
تقول الباحثة الألمانية د. كاثرينا ممسين إن جوته عندما أصدر (ديوان الغرب والشرق) فى مايو 1814 ثار معظم الألمان عليه لأن هذا العمل لا يصدر إلا عن شخص على علاقة روحية وثيقة بالإسلام، ثم ازدادت ثورتهم عليه عندما قال بعد ذلك بعامين أى فى عام 1816: (إن مؤلف هذا العمل لا ينفى الفكرة بأن يكون هو نفسه مسلما). وهو يتحدث فى هذا الديوان عن الأصالة الدينية فى الشرق، وعن رغبته فى تجاوز التناقضات العدائية بين الديانتين، والجمع بين هذين العالمين تحت مظلة واحدة، كما يتحدث فيه عن شخصيات إسلامية أحبها مثل: السلطان سليم، والمتنبى، وحاتم الطائى، والفردوسى وغيرهم.
***
ويبدو فى ديوان الغرب والشرق أن جوته كان دارسا للقضايا التى شغلت المفكرين المسلمين على مدى العصور فهو على سبيل المثال يشير إلى المعركة التى قامت حول هل القرآن مخلوق أو هو قديم والتى تعرض فيها الإمام أحمد بن حنبل للتعذيب لأنه تمسك برأيه فى أن القرآن قديم. يقول جوته فى إشارته إلى (القرآن المقدس):
هل القرآن قديم؟
شىء لا أسأل عنه
هل هو مخلوق؟
شىء لا أدريه
وكثير من أبيات الديوان عن القرآن، فهو يستلهم من الآية (اهدنا الصراط المستقيم..) فى سورة الفاتحة مناجاته:
ينازعنى الغى والضلال
لكنك تعرف كيف تهدينى
اهدنى أنت فى أعمالى الصراط المستقيم
ويردد جوته الآية: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله)- البقرة 115-فيقول:
لله المشرق
لله المغرب
وله الأرض شمالا وجنوبا
وكان جوته يعبر دائما عن حبه للحروف العربية والخط العربى.
وفى كتابات جوته ما يدل على تأثره بالقرآن ويقول إنه كتاب ليس له مثيل على وجه الأرض ولا مثيل لما فيه من ذكر لأسماء الله الحسنى، وقد رأى فى القرآن الرؤية الإسلامية للذات الإلهية، كما كان أسير الإعجاب بشخصية الرسول (ص) ويقول إنه جمع بين الإنسان والنبى، وقد اكتشف أحد الباحثين مخطوطة ديوان لم ينشر كتبه جوته بعنوان (بعثة محمد) نشرت فى باريس عام 1907م يقول فيها:
حينما كان يتأمل فى الملكوت
جاءه الملاك ومعه النور
اضطرب، فهو لم يقرأ أبدا
كلمة اقرأ تعنى الكثير بالنسبة له
لكن الملاك بلغه الرسالة وبدأها بالأمر (اقرأ)
واستمع إلى الأمر.. وبدأ طريقه
***
وعلى رغم إعجاب جوته بالإسلام وكتابه ورسوله، فإنه يوجه اللوم إلى المسلمين لابتعادهم عن روح الإسلام، ويوجه هذا اللوم إلى المسيحيين أيضا ويتهمهم بالابتعاد عن روح المسيحية، مقارنا بين ما كان عليه المسيحيون عند ميلاد المسيحية وما صاروا عليه بعد ذلك، عندما تحولت الكنيسة إلى سلطة سياسية وانشغالها بجمع الأموال وتملك الأراضى وبحثها عن أمور الدنيا. وهو ينتقد الانقسام الذين حدث بين الكاثوليك والبروتستانت. وفى ذلك كتب فى عام 1816م يقترح إقامة احتفال واحد يجمع المؤمنين بالأديان جميعا أسماه (احتفال الإنسانية النقية) وفيه لا يُسأل أحد عن دينه، (الجميع يذهبون يتلمسون الضوء من شعاع واحد، وتسمو أرواحهم، ويتذكر كل منهم عيده فيحتفل به).
ولقد كان تأثير جوته عظيما ومازال كذلك حتى اليوم، فقد تأثر به الشاعر الروسى الكبير ألكسندر بوشكين (1799- 1837م) والشاعر البولندى آدم ميليفكس (1798- 1855) فكانت أشعارهما تعكس تعاطفا تجاه العالم الإسلامى، وامتدت أصداء شعر جوته إلى آسيا فتأثر به الشاعر والفيلسوف الباكستانى محمد إقبال (1877- 1938م) وله كتاب شهير باسم (سفارة الشرق) يعتبره النقاد الصدى الصافى لديوان الغرب والشرق.
كيف لم تترجم كل أعمال جوته إلى اللغة العربية؟. وكيف لم تفكر منظمة العالم الإسلامى، أو الجامعات الإسلامية بالاحتفال بذكرى هذا الشاعر والمفكر الألمانى الكبير الذى يحتل مكانة عالمية كبرى؟. وكيف يكون أعظم من أنصف الإسلام فى الغرب مجهولا فى العالم الإسلامى؟.
أسئلة تحتاج إلى إجابات من قيادات المنظمات والجامعات فى الدول الإسلامية.
***
وأشهر من أنصف الإسلام فى الغرب فى القرن العشرين هو بلا شك الفيلسوف الفرنسى روجيه جارودى الذى كان فى البداية من أكبر المتحمسين للشيوعية وللفلسفة الماركسية المادية، لكنه أصيب بصدمة عندما اكتشف زيف الشيوعية فى عام 1956 بعد أن كشف الرئيس الروسى خروشوف فضائح عهد ستالين والجرائم التى كانت ترتكب باسم الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة، فأيقظه ذلك من غفوته كما يقول: وبعد أن كان يعتقد أن الدين أفيون الشعوب كما فى الماركسية، بدأ يستعيد وعيه فيرى أن الغرب يجب أن يعترف بأنه مدين للحضارات الأخرى السابقة على حضارته، ثم قاده البحث فى الحضارات التى كان لها الفضل فى نهضة أوروبا إلى مرحلة أعلن فيها أن الإسلام هو الطريق لإنقاذ البشرية.
فى طفولته تعلم جارودى فى المدرسة الأكليريكية، وفى شبابه كان مسيحيا-متدينا، وحارب النازية لأنه كان يعادى كل فكر عنصرى يدعى أن هناك جنساً متفوقاً على سائر أجناس البشر، لكنه تمرد على المسيحية وانضم إلى الحزب الشيوعى الفرنسى فى وقت كان العالم يعيش فيه مرحلة صراع مع النازية، ويعانى من أزمة اقتصادية خانقة، رأى جارودى- وفقا للنظرية الماركسية- أن هذه الأزمة وليدة النظام الرأسمالى، وبعد ذلك اكتشف أن الماركسية ترفض عبادة الله وتدعو إلى عبادة ستالين، وتفرض على دول الاتحاد السوفيتى ستارا حديديا يمنعها من التواصل مع العالم كما تفرض على العقول ستارا حديديا يمنعها من التفكير الحر. وفى هذه المرحلة من تطور شخصيته نشر كتابه (التحول الكبير للاشتراكية)، قال فيه: (لم يعد من الممكن التزام الصمت، إن الحركة الشيوعية الدولية فى أزمة، ومن الظواهر الواضحة لهذه الأزمة انفصال الصين، وغزو الاتحاد السوفيتى تشيكوسلوفاكيا عام 1968، وهناك مشكلة تفرض نفسها على كل فرد منا فى نهاية القرن العشرين، يتوقف على حل هذه المشكلة احتضار العالم أو بعثه من جديد.. إن الشيوعية لم تنجح فى دول أمريكا اللاتينية إلا فى كوبا فقط، وفى أفريقيا لا توجد دولة شيوعية، وفى إندونيسيا قضى على الحزب الشيوعى، وفى الهند و اليابان يعانى الحزب الشيوعى من الضعف والانقسامات، لقد أصبحت (المراجعة الأليمة) أمرا لا مفر منه).
وبدأ جارودى- كمفكر- رحلة الشك بحثا عن اليقين بدراسة الأديان إلى أن توقف عند الإسلام لدراسته كدين وحضارة، وقارن بين ما فى القرآن من إشارات علمية والاكتشافات العلمية الحديثة، وعبّر عن هذه المرحلة من حياته قائلا: كلما تعمقت فى الدراسة والمقارنة ازددت اقتناعا بأن الإسلام هو الدين الذى أبحث عنه.
وأعلن جارودى إسلامه فى شهر رمضان عام 1982 وأصبح اسمه رجاء جارودى، وأصدر كتابه الشهير (وعود الإسلام) فكان ذلك الكتاب بداية حرب شعواء شنت عليه من أكثر من جهة، خاصة أنه قد أعلن فى كتابه هذا (أنه لا توجد اليوم أمة تحمل كلمة الله بأمانة وصدق غير الأمة الإسلامية، ولا يوجد كتاب سماوى يمثل كلمة الله بحق دون تحريف إلا القرآن، ولا أمل فى إنقاذ الغرب إلا بأن يعترف بأنه مدين لحضارات أخرى ويغير موقفه المتعنت من الإسلام. لأن الغرب الذى رفض روحانيات الإسلام هو اليوم أحوج ما يكون إليها، ورفض الغرب عقيدة التوحيد وغرق فى المادة فانتهى به الأمر إلى خواء روحى وتمزق بين الأيديولوجيات.. والإسلام ليس كفراً كما روج المغرضون القدامى فى الحرب الصليبية، وليس إرهابا كما يصوره المغرضون الجدد.. إنه الدين العملى الذى يقدم للإنسان نظاما كاملا شاملا لحياة إنسانية بكل احتياجاتها، وليس مجرد عقيدة منعزلة عن دنيا الناس).
***
ويركز جارودى على أن الإسلام هو الدين الذى يعترف بالديانات السماوية، وقد ترك الإسلام لأهل الكتاب حرية الاختيار بين ما هم عليه والدخول فى الإسلام. والإسلام لم يقل (أفضل الناس عند الله المسلم) ولكنه قال: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). والمبدأ الذى قرره الرسول (ص) سبق به الدعوة إلى حقوق الإنسان بقرون وهو: (لا فضل لعربى على أعجمى، ولا لأعجمى على عربى إلا بالتقوى) فليس فى الإسلام تمييز على أساس اللون أو الجنس أو العقيدة، وليس فيه طبقية، وليس فيه شعب مختار متميز عن غيره من الشعوب.. هو دين ضد العنصرية. ويذكر التاريخ أن كثيرا من المسيحيين واليهود تقلدوا مناصب عليا فى الدولة الإسلامية فى عصورها المختلفة، وأن هؤلاء كانوا يمارسون شعائرهم الدينية بحرية كاملة وتحت حماية الدولة وحماية المسلمين. وهذا يقود إلى إثبات أن الإسلام لم يكن فى حاجة إلى السلاح لكى ينتشر، فقد دخل الناس فى هذا الدين عن رضا وقبول وكان فى إمكانهم ألا يعتنقوا الإسلام دون أن يتعرضوا لأى نوع من الأذى.
وقد تولى جارودى فى كتابه (وعود الإسلام) تفنيد الاتهامات التى تتردد فى الغرب ضد الإسلام.
فهو يواجه الاتهام بأن الإسلام دين جهاد أى دين حرب واستعمار، فيقول إن الجهاد فى اللغة العربية له معنى أوسع من معنى الحرب، فهو يعنى الجهد، فالعمل جهاد، ولو أن الله أراد الحرب لقال: (وحاربوا فى سبيل الله) والمعنى الحقيقى للجهاد يبدو فى الحديث (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.. جهاد النفس) وجهاد النفس ضد أهوائها ونزعاتها من الأنانية والجشع للمال والضعف أمام المغريات الحسية.. وهذا درس من النبى (ص) لأولئك الثوريين الذين يحاولون تغيير كل شىء إلا أنفسهم..
ويذكر جارودى كيف كان الصليبيون يرتكبون فى القدس المذابح الوحشية ضد المسلمين ويصيحون (إنهم كفرة)، وكيف أقيمت المذابح للمسلمين بالجملة فى أسبانيا (الأندلس)، وكيف كان المهاجرون الأوروبيون يرتكبون أبشع الجرائم لقتل الهنود الحمر فى أمريكا.. وكلهم كانوا يرفعون راية الدين المسيحى، والدين المسيحى برىء مما كانوا يفعلون.. بينما كانت التعليمات إلى قادة وجنود الجيوش الإسلامية صارمة: (لا?تقتلوا طفلا ولا شيخا ولا امرأة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة، ولا?تعقروا نخلا ولا تحرقوه) فهل هناك سلوك أكثر رقيا وإنسانية من ذلك؟.
ويقول جارودى: إن الغرب غرق فى الفردية، فلم يعد للأسرة ولا للصداقة ولا للأخوة الإنسانية وجود، وتحول الإنسان إلى ذئب أمام أخيه، بينما يعلّم الرسول (ص) المسلمين: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) و: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه) و(كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) و(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا).. هذا هو دستور الإسلام لبناء مجتمع متماسك يصون حقوق أفراده.
***
ويحكى جارودى تجربة دخوله فى الإسلام منذ بدايتها، فيقول: بدأت إسلامى بالشهادتين، وهذا ركن الإسلام الأول وبه يسلم الإنسان قلبه لله الواحد الخالق المدبر الجدير بالعبادة وحده دون شريك.. لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.. ومحمد (ص) رسول الله المبعوث من الله للناس كافة.. ووجدت فى الصلاة تعبيرا جميلا عن اتصال الإنسان بالله، وتشعر بعظمة الإسلام حين ترى المسلمين وقد وقفوا فى وقت واحد صفوفا منتظمة متجهين إلى قبلة واحدة. وقبل الصلاة يكون الوضوء وهو نوع من الطهارة الجسدية تمهيدا للوقوف بين يدى الله.. ويتحدث عن الزكاة فيقول إنها فى الإسلام لا تعتبر صدقة.. بل هى حق معلوم للفقراء من أموال الأغنياء. والمال كله لله فى مفهوم الإسلام، فالزكاة وسيلة التكافل والتضامن الاجتماعى فى المجتمع الإسلامى، تزيل الحقد من نفوس الفقراء كما تزيل الجشع من نفوس الأغنياء.. أما الحج فإنه يجمع المسلمين فى وقت واحد ومكان واحد أمام الله بلا تمييز طبقى ليشعرهم بعظمة دينهم ويقوى فيهم الإحساس بالترابط ويؤكد المساواة بين المسلمين أمام الله.
وعن الاقتصاد فى الإسلام يقول إنه يقوم على مبادئ مثل: التوازن فى توزيع الدخل- وتحريم الاحتكار- وجعل الملكية الفردية لصالح الفرد والجماعة- واعتبار السوق وسيلة وليس غاية. وأهم من كل ذلك أن المسلم يجعل الله أمام عينيه فى كل ما?يقول وكل ما يعمل، ولا يسمح لنفسه بأن يتعدى حدود الله. أما فى الغرب فإن الهدف هو السعى إلى المزيد من الربح، والمزيد من الإنتاج والمزيد من الاستهلاك.
ويعتبر جارودى أن وضع المرأة فى الإسلام هو الوضع الأمثل، فقد رفع الظلم عنها، وساوى بينها وبين الرجل فى الحقوق والواجبات.. وصان المرأة وحافظ على كرامتها. ويشير إلى وضع المرأة فى الغرب على مدى العصور، فقد أباح سقراط أن يقرض الزوج زوجته لمن يشاء من أصدقائه. وأفلاطون قرر ضرورة شيوع النساء أى أن تكون كل النساء لكل الرجال ولا يكون لرجل امرأة بعينها والأبناء هم أبناء المجتمع!!
وقد أعطى الإسلام للمرأة حقوقا لأول مرة منها حق التملك، وجعل لها نصيبا فى الميراث بعد أن كانت هى نفسها ضمن التركة، وأعطاها حق التعلم والعمل واختيار الزوج وطلب الطلاق. وقرر الإسلام للمرأة حقوقا بعد الطلاق منها النفقة وحضانة الصغار. وقيد تعدد الزوجات بشرط جعله أقرب إلى التحريم وهو العدل بين الزوجات ومجرد خشية الرجل من عدم استطاعته الالتزام الدقيق بميزان العدل يجعله ملزما بزوجة واحدة (.. وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة). ويسخر جارودى من زيادة الأطفال غير الشرعيين فى المجتمعات الغربية والتفاخر بحرية العلاقات الجنسية خارج الزواج، ويتساءل: أيهما أفضل وأكثر حماية للمرأة وللأبناء: تعدد الزوجات فى إطار الشرعية أو تعدد العلاقات غير الشرعية؟
***
يعارض جارودى التيار الغربى الذى يتهم الإسلام بأنه دين ينتمى إلى الماضى، فيقول: إن الإسلام قوة روحية عظيمة للإصلاح وللتقدم فى المستقبل كما كان دائما، كما يعارض الذين يقولون: أين هو المجتمع الإسلامى الذى يمكن أن نذهب إليه ونجد فيه الإسلام حيا وموجودا على أرض الواقع، وليس مجرد وعود ودعوات وآراء يرددها الناس بألسنتهم؟. فيقول: إن على الذين يطرحون هذا السؤال فى الغرب للتشكيك فى صلاحية الإسلام لبناء مجتمع حديث صالح للقرن الحادى والعشرين، عليهم أن يطرحوا على أنفسهم سؤالين على الأقل بدلا من أن ينصّبوا أنفسهم أوصياء على الإسلام.
السؤال الأول: ما هو نصيب الغرب المستعمر من المسئولية عن تخلف العالم الإسلامى وظهور التعصب فيه؟. أليس سبب التخلف هو استنزاف الاستعمار الغربى لثروات العالم الإسلامى؟. ولقد كان العالم الإسلامى تحت الحكم الاستعمارى الغربى فلماذا لم يساعد الغرب على التنمية الاقتصادية والاجتماعية لسد الفجوة الحضارية؟. ثم إن التعصب ظهر فى العالم الإسلامى كرد فعل طبيعى للسيطرة والاستغلال من الاستعمار الغربى، وكان التعصب وظهور الأصولية، هما كل ما تستطيع الشعوب الإسلامية عمله لكى تحافظ على هويتها وتحمى دينها، وبذلك ظل الإسلام محتفظا بنقائه ولم تستطع السيطرة الاستعمارية أن تطمس معالمه أو تغير منه شيئا. لماذا لا يسأل الغرب نفسه هذا السؤال ويعترف بمسئوليته عما وصل إليه العالم الإسلامى؟
والسؤال الثانى: لماذا يقارن معظم الباحثين الغربيين بين النظام الإسلامى كما هو عليه الآن بنظام مسيحى مثالى ليس موجودا على الإطلاق؟. ويقول جارودى هؤلاء يسألون بسخرية حمقاء: أين هو الإسلام الذى تنسبون إليه الكمال؟. وإننى أجيب: هاتوا خريطة العالم وقولوا لنا أين نجد مجتمعا مسيحيا مثاليا يطبق المسيحية ونعتبره النموذج الحى للمبادئ والتعاليم؟. وقولوا لنا لماذا تهاجمون الإسلام لأنه لم يمنع وجود المنازعات بين المسلمين رغم أنه الدين الذى يقرر أن المسلمين أخوة ويدعو إلى الإصلاح بين الأخوة؟. وإننى أقول: إن المسيحية هى دين التسامح والآخاء والرحمة.. فكيف خرج الصليبيون باسم هذا الدين لذبح المسلمين فى بلادهم؟. وكيف خرجت الجيوش الاستعمارية من دول مسيحية لغزو العالم الإسلامى الذى لم يبادر بالعدوان؟. وكيف سمح الضمير المسيحى باستغلال الشعوب الإسلامية واستنزاف ثرواتها وهو يدعو إلى العدل والحق؟. وأخيرا هل يمكن أن تشيروا إلى ما يدل فى الواقع على أنكم تطبقون تعاليم المسيح وأنتم تقومون بأعمال لا تليق بالحضارة الغربية المسيحية وتغتصبون سلطة ليست لكم حين تقومون بدور القاضى والمرشد والبوليس فى بلاد ليست لكم؟.
ليس قصد جارودى أن يهاجم المسيحية، ولكنه قصد إلى تنبيه الغرب إلى أنه يتهم الإسلام بما يجب أن يتهم به نفسه. ومع ذلك فإنه يشرح للغربيين ما يقدمه الإسلام من حلول للمشكلات التى يعانى منها العالم. فالأصل فى الإسلام أن كل شىء فى الكون ملك لله، وليس ملكا للحاكم ولا لطبقة ولا للأفراد، وليس للبشر إلا (حق الانتفاع).. وللملكية وظيفة اجتماعية. ولذلك فإن على المالك- سواء كان المالك هو الدولة أو الفرد أو جماعة- تقديم حساب لله عن ملكيته، فكأنه ليس إلا المدير المسئول أمام المالك الحقيقى.. والقرآن يحذر الذين يكنزون الأموال: (ويل لكل همزة لمزة، الذى جمع مالا وعدده. يحسب أن ماله أخلده. كلا لينبذن فى الحطمة، وما أدراك ما الحطمة، نار الله الموقدة)- الهمزة: 1- 6.
ويتكرر التحذير فى القرآن من اكتناز الأموال، لأن المال له وظيفة ويجب ألا يحبسه صاحبه عن النفع العام، ومن مبادئ المتعمقين فى فهم الإسلام أنهم لا يملكون شيئا ولا يملكهم شىء إلا الله. والإسلام فيه علاج للمشكلة الكبرى فى النظام الرأسمالى، الذى يؤدى إلى الاحتكار والتحكم فى الأسعار، بينما يقدم الإسلام معالجة لمشكلة الفقر عن طريق الزكاة، فالاقتصاد فى الإسلام قائم على التوازن.
***
ويواجه جارودى الرأى الذى يتردد فى الغرب بأن الإسلام دعوة للعبادة وترك الدنيا وما ترتب على ذلك من تخلف فى العلوم، فيقول إن القرآن يرفع شأن العلماء ويشجع على طلب العلم، ويؤكد ذلك أن المسلمين أسسوا نهضة علمية كبرى شملت جميع العلوم وقدم العلماء العرب إنجازات واكتشافات علمية ذات قيمة عالية كانت الأساس للنهضة العلمية لأوروبا، والحديث يؤكد على طلب العلم: (من سلك طريقا يلتمس فيه علماً سهّل الله طريقه إلى الجنة) و(يوزن مداد العلماء بدم الشهداء يوم القيامة) والقرآن يوجه المسلمين إلى المنهج العلمى القائم على الملاحظة والتجربة ويدعوهم إلى أن يسيروا فى الأرض، وأن ينظروا فى الآفاق وفى أنفسهم، وبذلك يوجه الباحثين إلى العلوم الطبيعية والفلكية والعلوم الإنسانية، ويربط بين العلم والإيمان، لأن الإنسانية كلما تقدمت فى المعرفة ازدادت يقينا بقدرة الله وعظمته. وفى نفس الوقت فإن الإسلام ينبه العلماء إلى فضيلة التواضع لأن العلم ليس له نهاية وفوق كل ذى علم عليم. ودعوة الإسلام للمسلمين إلى البحث العلمى وجدت استجابة لها حتى أن هارون الرشيد (786- 809م) عندما استولى على أنقرة، والخليفة المأمون (814- 833م) عندما حققا النصر على الامبراطور البيزنطى ميشيل الثالث طلبا تعويضا عن أضرار الحرب، وكان التعويض مخطوطات علمية كانت فى حوزة الامبراطور، فهل هناك حس حضارى وصل إلى هذه الدرجة فى التاريخ القديم والحديث؟.
واستجابة لدعوة الإسلام للمسلمين بالاشتغال بالعلم بدأت فى القرن الثامن الميلادى حركة ترجمة ليس لها مثيل فى التاريخ. واجتذب هارون الرشيد إلى بلاطه فى بغداد كبار العلماء والفقهاء، وأنشأ المأمون بعد ذلك أول مدرسة للترجمة فى العالم أدارها عالم فارسى هو يحيى بن ماسويه وكان طبيبا، وتولى إدارتها بعده حنين بن إسحق المسيحى الذى قام بترجمة أعمال أبو قراط، وجالينوس، ومؤلفات علماء الرياضيات والفلك والطبيعة والكيمياء والطب. ونقل المسلمون عن الصين صناعة الورق وأنشأوا أول مصنع للورق فى بغداد عام 800م ولم تعرف شعوب أوروبا صناعة الورق إلا بعد 400 عام. وفى عام 815م أنشأ الخليفة المأمون فى بغداد (بيت الحكمة) وكان يضم مليون مؤلف، وذكر أحد الرحالة الغربيين أنه قام بإحصاء مائة مكتبة عامة فى بغداد عام 891م. وفى القرن العاشر كانت مدينة صغيرة مثل النجف فى العراق تملك 40 ألف مجلد. وجمع مدير المرصد ناصر الدين الطوسى مجموعة من الكتب بلغت 400 ألف مجلد. وفى الأندلس (أسبانيا) فى القرن العاشر الميلادى كان فى مكتبة قرطبة 400 ألف كتاب، فى حين كانت أكبر مكتبة فى أوروبا لملك فرنسا تضم 900 كتاب فقط وكان ذلك بعد 400 عام من إنشاء مكتبات الأندلس، وليس فى التاريخ من ينافس الخليفة العزيز الذى حكم مصر وأنشأ فيها مكتبة تحتوى على مليون و600 ألف مجلد منها 6 آلاف مجلد فى الرياضيات و18 ألف مجلد فى الفلسفة.
***
يعلق جارودى على هذه الحقائق التاريخية فيقول: إن المسلمين أسسوا نهضة بالمعنى الكامل، شملت الصناعات، والبحث العلمى، والعلاقات الاجتماعية، والثقافة، وهم أول من طبق سياسة الانفتاح على العالم، فأخذوا من القديم والحديث، ومن الشرق والغرب، وتفاعلوا مع الحضارات والثقافات التى كانت قائمة فى تلك العصور وكان أهمها حضارة اليونان القديمة، وحضارة الهند والصين المعاصرتان. هذا فى الوقت الذى كانت فيه الكنيسة تحكم بالإعدام على العلماء الذين قالوا إن الأرض كروية، وأنها تدور حول نفسها، وكانت محاكم التفتيش فى أسبانيا تحكم بالحرق على المسلمين وعلى الكتب فى القرن السادس عشر بعد طرد المسلمين منها.
ويذكر جارودى أسماء جحافل من علماء العرب الذين أسسوا العلوم وأبدعوا فى الطب والرياضيات والكيمياء والجغرافيا.
ويصل جارودى إلى الظلم الذى يلحق بالإسلام حين يقال إنه السبب فى تخلف الدول الإسلامية فى مجالات البحث العلمى فى العصر الحديث، ويذكر أن الجامع الذى كان يعلم الدين كان جامعة للعلوم الطبيعية مثل جامعة القيروان فى فاس، وجامعة الزيتونة فى تونس، والأزهر فى مصر، وجامعة سمرقند، وجامعة قرطبة. فقد كانت مراكز للعلوم وللتعليم الدينى فى نفس الوقت. ويذكر جارودى لقرائه فى الغرب أن أول مرصد فلكى فى العالم أنشأه الخليفة الأموى عبد الملك فى دمشق عام 717م- وهو أيضا أول من أنشأ المستشفيات وجعلها كليات للطب، بينما أنشئت كليات الطب فى أوروبا بعد ذلك نقلا عن العالم الإسلامى، وكانت تدرس المناهج والعلوم التى تدرسها الكليات الإسلامية. وكان منها كلية (ساليرن) فى إيطاليا، وكلية (مونبلييه) فى فرنسا. وحتى أعرق الجامعات الأوروبية أنشئت على النموذج الإسلامى بعد ثلاثة قرون من نشأة الجامعات الإسلامية، وهذا ينطبق على جامعة باريس، وجامعة اكسفورد وهما أقدم الجامعات الأوروبية.
ويذكر جارودى كيف تعلم الغرب من علم العلماء المسلمين. فقد كان الخوارزمى هو مؤسس علم الرياضيات الذى نقله الغرب، وهو مؤسس علم الجبر وهو صاحب هذه التسمية التى ما زالت اسما لهذا العلم بكل اللغات الأوروبية، وثابت بن قرة هو مؤسس علم حساب التكامل وأول من ربط الهندسة بالجبر. وكان علماء العرب: الطوسى، والبيرونى، والبوزجانى أسبق من كوبرنيكوس فى الغرب بعدة قرون. وكان مرصد بغداد سباقًا فى دراسة واكتشاف الكواكب وحركتها بصورة منهجية، وتعددت المراصد فى جند يسابور، وبجوار دمشق. وكان من دوافع التقدم العلمى حرص المسلمين على التدقيق فى معرفة الاتجاه إلى مكة لتحديد القبلة للصلاة، وتحديد مواقيت الصلاة بدقة، كما كان الحرص على أداء فريضة الصيام يوجب ملاحظة دقيقة للشمس ومعرفة ساعة شروقها وغروبها، وكان تحديد بداية ونهاية شهر رمضان دافعا للتعمق فى دراسة علوم الفلك وإنشاء المراصد العلمية. وبنفس الروح تفوق البيرونى فى علم الجغرافيا وما زال كتابه (الآثار الباقية عن القرون الخالية) شاهدا على ما بلغه علماء المسلمين من تقدم فى مناهج البحث العلمى. وكان الملاحون المسلمون يجوبون المحيط الهندى منذ القرن التاسع الميلادى. وفى القرن العاشر قدم التاجر العربى سليمان أول وصف للصين قبل ماركوبولو (1254- 1324) بثلاثة قرون. وكان ابن بطوطة (1304- 1356) الرحالة العظيم أول من دل العلماء على وصف جميع البلدان العربية حتى بخارى وأفغانستان والهند وسيلان والصين. وكان الجغرافى المسلم العظيم الإدريسى (المولود فى 1101م) أول من قام بتأليف كتب مزودة بخرائط للعالم فى القرون الوسطى، وقدم مساهمة رئيسية للملاحة، واستندت خرائطه على تحديد دقيق لخطوط الطول والعرض، ورسم الشواطئ ومجارى الأنهار. والإنسانية مدينة للعالم المسلم ابن ماجد الذى ولد عام 1430م صاحب أهم كتاب فى الملاحة (الفوائد فى أصول علم البحر) وكان بحارا عظيما أطلق عليه اسم (أسد العواصف)، ويحاول الباحثون الغربيون أن يغفلوا أنه هو الذى قاد أسطول فاسكو دى جاما البرتغالى من الشاطئ الأفريقى إلى كالكوتا فى الهند عام 1498، وكان فاسكو دى جاما يعتبره (كنزا عظيما).
***
ويستمر جارودى فى ذكر فضل الإسلام والمسلمين على الحضارة الغربية إلى أن يصل إلى أن المسلمين هم أول من أنشأ الحدائق الجميلة كما فى أصفهان، وشيراز، وقصر الحمراء، وجنة العريف فى غرناطة.
وفى علم الجيولوجيا كان علماء المسلمين أسبق من علماء أوروبا بقرون، ودرسوا الجبال والسهول، والمحيطات والأنهار، والمياه الجوفية، وقد تعلم المهندس الإيطالى (جيرا نيللو توريانو) من المسلمين أصول الهيدروليكا فى طليطلة، كما درس كيفية صنع المهندسين المسلمين للنافورات وناضحات الماء المستخدمة للرى وطواحين الهواء والآلات الموسيقية. وكانت اكتشافات واختراعات المسلمين الأساس الذى بدأ منه (توريشلى) فى إيطاليا فى القرن الرابع عشر اختراع مقياس الضغط الجوى (البارومتر). كما كان لعلوم المسلمين الفضل فى نشأة علوم الميكانيكا فى أوروبا.
***
ويتوقف جارودى بإعجاب شديد عند ابن خلدون، ويرى أنه رجل يندر أن يكون له مثيل، فهو ذو فكر شامل.. فنان، ورجل دولة، وفقيه، ورجل قانون، وفيلسوف.. كل ذلك فى رجل واحد. (1332- 1406م). وسيظل مذكورا فى التاريخ بمؤلفه العظيم الذى وضعه فى القرن الرابع عشر الميلادى وأسس به علم التاريخ وعلم الاجتماع، وكان أول من وضع نظرية علمية لارتقاء الحضارات وانهيارها، ونظرية فى أصول الحكم، ووضع المنهج العلمى للبحث التاريخى يقوم على التفسير والتعليل ولا يكتفى بسرد الأحداث، وكان ابن خلدون على وعى بأنه يؤسس علما جديدا ولذلك كتب فى المقدمة الشهيرة: (.. ابدأ بذكر الأسباب العامة فى دراسة الأحداث الخاصة.. وسأتناول التاريخ بالتفسير والتعليل مرجعا الأحداث إلى أسبابها وأصولها.. وطريقتنا فى معالجة هذا الموضوع تشكل علما جديدا قائما بذاته) وهو أيضا أول من ربط بين الملاحظة الشخصية والتفكير النظرى، وأول من لفت الأنظار إلى أثر المناخ والجغرافيا والاقتصاد على حياة الشعوب، وأول من درس بنية المجتمعات وتقسيم العمل، وأول من قال بأن (ما نلاحظه من اختلافات فى عادات الشعوب وأفكارها مرده إلى الطريقة التى تتدبر بها قوتها)، وربط بذلك بين الاقتصاد والظواهر والعلاقات الاجتماعية. وهو أول من وجه النقد إلى المؤرخين الذين اكتفوا بتسجيل وقائع التاريخ دون بحث عن الأسباب الظاهرة والخفية وراء الأحداث التاريخية.
ويطالب جارودى علماء الغرب بالاعتراف بأن علماء الطب المسلمين هم أول من اكتشف العلاقة بين الحالة النفسية والحالة الجسمية التى اكتشفت حديثا باسم (السيكوسوماتيك). ويقول: إن الكنيسة وقفت فى وجه نمو الطب وتطوره، وفى عام 1215م أصدر البابا أنوسانت الثالث القرار التالى: (يحظر، تحت طائلة الحرمان، على كل طبيب العناية بمريض إذا لم يعترف ويقر بذنوبه، لأن المرض ينجم عن الخطيئة).
ويعلق جارودى على ذلك بأن نتيجة لهذا التفكير فإن كلية الطب فى باريس لم تكن تملك- منذ 600 عام- سوى مجلد واحد فى كل العلوم الطبية فى العالم، وكان هذا المجلد للرازى العالم المسلم، الذى ما زال تمثاله قائما فى هذه الكلية إلى جانب تمثال ابن سينا حتى اليوم. وموسوعة الرازى الطبية هى المؤلف العلمى الوحيد الذى استمر تأثيره يشع فى الغرب عشرة قرون. وقد طبع بحث الرازى أكثر من أربعين طبعة وهو عن بعض الأمراض مثل الجدرى والحصبة وقد كتبه فى مطلع القرن العاشر الميلادى، وظل المرجع الوحيد ألف عام. أما ابن سينا فكان تأثيره فى الغرب يفوق التصور، فقد ظل كتابه (القانون) الذى ترجمه إلى اللاتينية (جيرارد دى كريمون) هو موسوعة الطب التى تدرّس فى أوروبا حتى عصر النهضة وتميز بوضوح تصنيف الأمراض، والدراسة المنهجية لأعراض كل منها، وطريقة تشخيص الأمراض وبخاصة أمراض الكلى، والرئة، وخراج الكبد، وغيرها من الحالات الدقيقة. وكان ابن سينا- مثل الرازى- عبقرية شاملة.. كان طبيبا، وعالما فى الفيزياء، وفيلسوفا، وعالما دينيا، وشاعرا. كذلك كان الحسن بن الهيثم المولود فى البصرة عام 965 ميلادية والمتوفى فى القاهرة عام 1039م الذى كان عالما عظيما فى الرياضيات، والفلك، والهندسة، وعلم البصريات، ونقل روجر بيكون مؤسس المنهج العلمى الحديث كتاب ابن الهيثم عن تشريح العين وكيفية الإبصار، وكتب روجر بيكون: (إن الفلسفة مستخلصة من العربية). كما كان ابن الهيثم أول من قدم وصفا تشريحيا للعين. وكان أبو القاسم الموصلى أول من يعالج العتامة فى عدسة العين بإجراء جراحة دقيقة بواسطة الامتصاص بإبرة مجوفة وذلك فى عام 1000م. ولم ينجح الغرب فى إجراء مثل هذه العملية إلا فى عام 1846م بعد 8 قرون!
وكان العالم المسلم ابن النفيس المتوفى عام 1288م أول من اكتشف الدورة الدموية الصغرى قبل هارفى بأربعمائة سنة، وقبل ميشيل سيرفيت بثلاثمائة سنة، ووصف أحد تلاميذ ابن الهيثم (ابن القفّ) الأوعية الشعرية فى العين التى لم يتعرف عليها أول عالم غربى (مالبيجى) إلا عام 1660م بالميكرسكوب بعد ثلاثمائة سنة. وقد استخدم المسلمون المصل الواقى من الجدرى قبل اكتشاف أول عالم غربى لهذا المصل (جيينر) بألف سنة. ودرس العالم الجراح الأندلسى أبو القاسم المتوفى عام 1013م مرض السل الذى يصيب الفقرات قبل أول عالم غربى (بيرسيفال بوت 1713- 1788م) بسبعمائة وخمسين سنة، واخترع طريقة لربط الشرايين بعد بتر الأعضاء قبل أول عالم غربى (امبرواز باريه 1517- 1590م) بتسعمائة سنة، وكان له الفضل فى اختراع أدوات جراحية لم تكن معروفة وبعضها ما زال يستخدم إلى اليوم بعد تطويرها بالتكنولوجيا الحديثة.
***
إن جارودى يعلن للعالم أنه لم يعتنق الإسلام إلا بعد أن تعمق فى دراسة أصول الدين ومبادئ الشريعة والفقه، والتعرف على تاريخ الحضارة الإسلامية بالتفصيل، وهو فى ذلك قد تفوق على كثير من المسلمين الذين لا يعرفون فضل الإسلام والحضارة الإسلامية على النهضة العلمية والاجتماعية والفكرية التى تباهى بها دول الغرب اليوم.
ولأن جارودى اكتشف المنبع، فقد عاد إليه مخلصا بعد رحلة طويلة عايش فيها الإلحاد، والشك، والفلسفة المادية، والفكر الماركسى، والحضارة الغربية، ثم وصل إلى اليقين، وكان صوته مدويا فى الغرب دفاعا عن الإسلام، وتحمل بسبب ذلك الكثير من الاضطهاد والمطاردة إلى حد محاكمته والتهديد بسجنه، ولكنه- مثل كل المؤمنين الصادقين- يختبر الله صدق إيمانهم، وعندما يثبتون على الحق يجزيهم بأحسن ما عملوا.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف