كيسنجر يقول لكم!
منذ أيام نشر هنرى كيسنجر مقالا بعنوان (الواقعيون فى مواجهة المثاليين) اعتبر فيه الإدارة الأمريكية الحالية مثالية فى تفكيرها وسلوكها السياسى، ودعاها إلى الموازنة بين المثالية والواقعية السياسية التى يجوز ألا تغيب عن استراتيجية القوة العظمى.
ويدعو كيسنجر صانعى السياسة فى الولايات المتحدة إلى تفهم تاريخ وثقافة كل مجتمع وأوضاعه الاقتصادية قبل الحكم عليه أو التعامل معه. ويعيب على النزعة المثالية التى تسيطر على الفكر السياسى فى الإدارة الأمريكية أنها متعجلة وتريد إحداث التغيير فى الدول بسرعة قد تعرضها للخطر، وتبنى قراراتها على استسهال التغيير عن طريق الحملات العسكرية والعمل على تغيير نظم الحكم. ويحذر كيسنجر من أن هذا الفكر هو الذى كان الدافع للحروب الدينية فى القرن السابع عشر، وحروب الثورة الفرنسية فى القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، كما كان الدافع وراء الانقلابات الشيوعية التى فشلت بعد ذلك، وكذلك كان وراء التيارات الإسلامية المتطرفة فى الوقت الحاضر.
ويدعو كيسنجر الإدارة الأمريكية إلى الواقعية بمعنى وضع سياسة طويلة الأجل والمواظبة على تنفيذها على مراحل، وكل مرحلة منها تناسب الظروف الواقعية لكل مجتمع دون إغفال القيم المثالية التى لا يمكن الوصول إليها بقفزة واحدة. ويرى أن المثالية فى السياسة الأمريكية الحالية ترفض نظرية التدرج والمراحل وتريد الوصول مباشرة وفورا إلى الهدف النهائى دون مراعاة للاعتبارات والظروف المحلية ولا حتى للاعتبارات الجيوبوليتيكية لكل مجتمع. ويقول إن هذه هى النزعة التى تسببت فى الحروب الصليبية، بينما تقضى الواقعية السياسية إلى إدراك التطور التاريخى لكل مجتمع وعدم فرض نموذج واحد على جميع المجتمعات برغم الاختلافات الجوهرية فى درجة نمو كل منها.
ويضع كيسنجر ما يسميه (أجندة الحرية) التى تستطيع بها الولايات المتحدة تحقيق النجاح فى قيادة التحول الديمقراطى فى العالم، وتشمل المبادئ الآتية:
? إن عملية التحول الديمقراطى لا تتم بقرار ولا تتحقق بضربة واحدة.
والانتخابات ليست دليلا على اكتمال بناء الديمقراطية ولكنها مجرد بداية لطريق طويل.
? إن الأمريكيين يحتاجون إلى تفهم أن عليهم أن يتحملوا نتائج عملية التغيير التى يدعون إليها، فقد تكون النتائج فى غير صالح أمريكا وعلى عكس ما يتوقع صانعو السياسة فى واشنطن.
? إن الانتخابات الحرة لا تؤدى بالضرورة إلى الديمقراطية، لأن الحركات الراديكالية تعتمد آليات الديمقراطية ويمكنها استغلال الانتخابات للسيطرة والانقضاض وتنفيذ مشروعها كاملاً.
? إن الوجود العسكرى الأمريكى فى دولة ما لا يعنى أن أمريكا قادرة على إدارة سياسته والتحكم فى مساره، بل قد يحدث العكس، وليس من السهل تكرار نموذج الاستعمار الأوروبى فى السيطرة على الشعوب لاختلاف طبيعة الشعوب فى هذا العصر عنها فى العصور السابقة، وبخاصة الشعوب المكونة من تعدد عرقى ودينى، فهذه الشعوب تحتاج إلى نظام حكم قائم على الموازنات، وهذا ينطبق على العراق وأفغانستان ولبنان، فهذه المجتمعات لا يمكن فرض نموذج جاهز عليها، ولا بد من التعامل معها بمزيج من المثالية والواقعية، وفى دول أخرى مثل مصر والسعودية فإن السياسة الأمريكية إذا أخطأت فى مراعاة التوازن بين المثالية والواقعية فقد تكون النتيجة كارثة للشرق الأوسط كله.
أما نصيحة كيسنجر لتعامل الإدارة الأمريكية مع الصين وروسيا فلا بد من مراعاة التراث التاريخى والهوية الوطنية لكل منهما.
ويختم كيسنجر نصيحته للإدارة الأمريكية بأن تضع فى اعتبارها أن المفاهيم الأمريكية صالحة للتطبيق فى أمريكا، وهى نتيجة ظروف خاصة بأمريكا منها خصوصية تكوين المجتمع الأمريكى وتطوره الاجتماعى والاقتصادى والسياسى. وما يناسب المجتمع الأمريكى قد لا يناسب مجتمعات أخرى مختلفة فى تركيبتها التاريخية والثقافية، وأية محاولة لفرض النموذج الأمريكى عليها سيؤدى إلى استفزاز المشاعر الوطنية وتوحد الرافضين للسيطرة الأمريكية، وتكون أمريكا هى الخاسرة. والخلاصة أن الاستراتيجية الأمريكية لتنفيذ (أجندة الحرية) لا بد أن تكون نابعة من داخل كل مجتمع ومتجهة إلى تحقيق قيم الديمقراطية الصحيحة.
هذا ما يقوله كيسنجر الذى يعتبر أكبر مفكر استراتيجى فى الولايات المتحدة الآن..
يطرح هذه الرؤية من أجل حماية المصالح الأمريكية أولا وأخيرا ولا بد أن يجد آذانا صاغية.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف