هــــؤلاء أنصفـــوا الإســــلام : راهـبة تدافـع عن الإسـلام
كان سلمان رشدى وروايته (آيات شيطـانية) أكبر تعبير عن العداء للإسلام، ولذلك حقق من هذه الرواية أرباحاً تفوق الخيال وحظـى باهتمام إعلامى لا مثيل له، لأنه قدّم للتيار المعادى للإسلام فى الغرب مادة تبرر الحرب على الإسلام والمسلمين، بعد أن صور الإسلام فى روايته على أنه دين القتل والإرهاب، وأشار إلى الرسول (ص) (ماهاوند) ليشير إلى أنه نبى مزيف، مصاب بالهلوسة، وتأتيه نوبات من الصرع يدعى أنها الوحى. ويصور زوجـات الرسول- أمهات المؤمنين- على أنهن غانيات يعملن فى بيت للدعارة اسمه (الحجاب) وكبيرتهن تروى كيف تزوجها النبى (ص) هى والسيدة عائشة فى يوم واحد.
ويصـور سلمان رشدى فى روايته مكة على أنها مدينة الجاهليـة، والرسول (ص) على أنه نبى الجاهليـة، وجبريل عليه السـلام على أنه مؤيد للواط، وأن الشيطـان خدع الرسول (ص) وأجرى على لسانه آيات تجعـل لأوثان الجاهلية شفاعة، ويدعى أن الصحابى الجليل سلمان الفارسى- رضى الله عنـه- قام بخداع الرسول وتزوير الوحى.
وسلمان رشدى ليس كاتباً كبيراً على أية حال، وروايته. بإجماع النقاد.. ركيكة ومفككة، ولكنه- مع ذلك- نال شهرة عظيمة ربما تنافس شهرة كبار كتاب الغرب من أمثال هيمنجواى، وأندريه جيد، لمجرد أنه أساء إلى الإسلام، وزاد من قيمته عند أعداء الإسلام أنه كان مسلما وارتد عن الإسلام. باع دينه بعد أن هاجر من بلده- الهند- ليعيش فى بريطانيا ويحصل على الجنسية البريطانية، وكانت هذه الرواية هى الثمن الذى دفعه وحصل فى مقابله على ملايين الدولارات، وشهرة عالمية، واستضافة مفتوحة فى الولايات المتحدة..
ولكن سلمان رشدى على أية حال ليس الأول أو الأخير فى سلسلة أعداء الإسلام، ومع كثرة أعداد هؤلاء الأعداء على مدى التاريخ منذ بداية ظهور الإسلام وحتى اليوم، فإن الإسلام يثبت كل يوم أنه أقوى من كل أعدائه، وأن الله هو الذى أنزل القرآن وهو الذى يحفظه ويحفظ دينه من سهام العداء والأعداء. وهو- سبحانه- الذى يوحى إلى بعض أصحاب الضمائر فى الغرب ليدرسوا هذا الدين بموضوعية ويقولوا عنه، وعن رسوله، كلمة الحق.
ومـن هؤلاء المنصفين للإسلام الكاتبة البريطانية- أيضا- كارين أرمسترونج (Karen Armstrong) وهى فى الأصل راهبة، تحولت إلى البحث فى تاريخ الأديان، وقد تركت الرهبنة بعد أن وجدت أن حياة الأديرة لا تناسب طبيعتها وتمسكها بحرية التفكير للوصول إلى الحقيقة دون ضغط عليها، وتوصلت إلى أن هناك قاسما مشتركا بين ديانات التوحيد الثلاث وأن القيم الجوهرية فى كل الديانات واحدة.
وكارين أرمسترونج تقدم الدليل للغرب على أن الإسلام دين من عند الله، وأن محمدا (ص) رسول بعثه الله بدين الإسلام، وأن هذا الدين للبشر جميعا وليس للعرب وحدهم- وبموضوعية ملحوظة قامت بتصحيح المفاهيم المغلوطة عن الإسلام.. وقد اتخذت من ردود فعل المسلمين إزاء كتاب سلمان رشدى (آيات شيطانية) ومبالغة الغرب فى الدعاية لهذا الكتاب، منطلقا لكتابها (محمد: سيرة النبى) ولحسن الحظ أن هذا الكتاب ترجمه إلى العربية اثنان من أكفأ المترجمين وأكثرهم خبرة ودقة هما الدكتورة فاطمة نصر، والدكتور محمد عنانى، وقدما للكتاب بمقدمة مهمة قالا فيها إن حافزهما على ترجمة هذا الكتاب ليس هو الزهو بذلك الصوت الغربى المسيحى الذى حاول إنصاف الرسول (ص) وقدم شهادة موضوعية عنه وعن الإسلام، فهما لن تضيرهما عداوة أو تنصفهما صداقة أحد. والكتاب موجه إلى القارئ الغربى وليس إلى القارئ العربى المسلم، فلن يضيف إليه جديدا، ولكنه نموذج للكتابة الموضوعية غير المتحيزة. خاصة وأنها تكشف فى هذا الكتاب التناقض فى العقلية الغربية بين ادعائها بأنها عقلية علمية وموضوعية ومحايدة، وبين تحيزها المبدئى ضد الإسلام ورسوله دون دراسة أو تحليل كافيين لعقائد الإسلام وسيرة الرسول وتاريخ الحضارة الإسلامية.
***
فى مقدمة الكتاب تسجل كارين أرمسترونج كيف أصبح الدين من جديد قوة لم تكن تخطر على بال الذين كانوا يفترضون أن الدين خرافات بدائية تجاوزها الإنسان، وكانت تجليات القوة للدين فى البلاد التى كانت تنتمى إلى الاتحاد السوفيتى وعاشت سنوات طويلة فى ظل سياسة الإلحاد الرسمية. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتى عاد أهل هذه البلاد إلى ممارسة شعائرهم الدينية. وفى الغرب ظهرت نزعة العودة إلى الدين بل والتشدد فيما يعرف بالأصولية الدينية، واكتسب الإيمان الدينى طابعا سياسيا حادا. وذلك دليل على أن الناس يحتاجون إلى الدين وإلى الإيمان، بحيث يمكن القول بأن (الغريزة الدينية) هى أهم غرائز الإنسان، وهذه الغريزة- مثل غيرها من الغرائز- يمكن تسخيرها للخير أو للشر. وقد بدأت تنهار حواجز الخوف التى تفصل بين الأديان، ويحاول علماء اليهودية والمسيحية الآن التوصل إلى التفاهم بعد عداء المسيحيين للسامية، ولكن لا يزال الإسلام، وهو أحد الأديان الثلاثة الكبرى، خارج دائرة هذه النوايا الطيبة، وما يزال مرتبطا بنظرة سلبية، مع أن بعض الديانات غير السماوية مثل البوذية، والتاوية، وغيرهما من عقائد الشرق الأقصى ينظر إليها فى الغرب بتعاطف لا يحظى به الإسلام مع أنه الدين الأقرب إلى تراث اليهودية والمسيحية.
تقول كارين أرمسترونج: إن لدينا فى الغرب تاريخاً طويلاً من العداء للإٍسلام، راسخ الجذور، ولم يعد يمنع الناس شىء عن مهاجمة هذا الدين حتى لو كانوا لا يعرفون عنه غير أقل القليل. ويرجع هذا العداء إلى الفترة التى نشأت فيها الإمبراطورية الإسلامية فى القرن السابع الميلادى، وكانت أوروبا منطقة متخلفة، وامتدت الفتوحات الإسلامية بسرعة إلى معظم مناطق العالم المسيحى فى الشرق الأوسط، وإلى الكنيسة المسيحية العظيمة فى شمال أفريقيا، وكان زحف الإسلام بهذه القوة والسرعة خطراً داهماً يتهدد الغرب، إذ تساءلوا: هل تخلى الله عن المسيحيين ومنح رضاه لهؤلاء (الكفار)؟ وحتى بعد أن خرجت أوروبا من عصورها المظلمة وأنشأت حضارتها العظيمة ظل لديها الخوف من توسع الإمبراطورية الإسلامية، خاصة وقد تأكد لأوروبا عجزها عن التأثير فى تلك الثقافة القوية، وكان الفشل هو نهاية المشروع الصليبى فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر. ولم يلبث العثمانيون أن جاءوا بالإسلام إلى داخل أوروبا نفسها، وكان من المحال على المسيحيين الغربيين أن يلتزموا بالعقلانية أو الموضوعية تجاه العقيدة الإسلامية، فكانوا ينسجون من خيالهم صورا مخيفة عن اليهود، ويرسمون فى نفس الوقت صورة شائهة للإسلام تعبّر عن الشعور بالقلق فى أعماقهم من هذا الدين.
وتقول كارين أرمسترونج: إن علماء الغرب كانوا يهاجمون الإسلام ويصفون محمدا (ص) بأنه المدعى الأكبر، ويتهمونه بأنه أنشأ دينا قائما على العنف والسيف لفتح العالم، وحرفوا اسم محمد إلى (ماهوميت) تعبيرا عن كراهيتهم للاسم ولصاحبه، وقد أصبح اسم (ماهوميت) البعبع الذى يخيف الناس فى أوروبا حتى أن الأمهات كن يستعملن الاسم لتخويف أطفالهن. وكانت المسرحيات الغربية تصور (ماهوميت) ودعوته فى صورة العدو للحضارة الغربية، حتى أصبحت هذه الصورة الزائفة للإسلام من الأفكار الراسخة التى لا تزال تؤثر حتى اليوم فى آراء ونظرة الغربيين إلى العالم الإسلامى. وزاد من تعقيد المشكلة أن المسلمين قابلوا عداوة الغرب لهم بالعداوة للغرب.
***
وتدلل كارين أرمسترونج على خطأ التصور الشائع فى الغرب عن الإسلام على أن مبادئه فى جوهرها تدعو إلى العنف والتعصب، وتقول إن ما يقال عن أن الإسلام دين عدائى يحمل فى دعوته الكراهية للغرب غير صحيح، والدليل على ذلك أن المسلمين عندما التقوا بالغرب الاستعمارى فى القرن الثامن عشر شعر معظمهم بالانبهار بحضارة الغرب وحاولوا تقليدها، ولكن هذا الإعجاب زال كما زال الحماس لتقليد الغرب بعد أن قاسى المسلمون من الظلم والاستغلال من الاستعمار الغربى. وكان ذلك هو السبب فى ظهور الأصولية الإسلامية المعادية للغرب ردا على الأصوليات الغربية المعادية للإسلام.
وترى كارين أرمسترونج أن القرن العشرين شهد فى أواخره نمو الأصوليات فى كل الديانات تقريبا، السماوية منها وغير السماوية، فقد خرج الأصوليون الهندوس ضد المسلمين فى الهند، كما بدأ الأصوليون اليهود فى بناء المستوطنات على الأراضى التى اغتصبوها فى الضفة الغربية وغزة وأقسموا على أن يطردوا العرب من الأراضى المقدسة. ونجح فى الولايات المتحدة القس المسيحى الأصولى جيرى فالويل واليمين المسيحى الجديد فى جذب أعداد كبيرة من الأمريكيين منذ الثمانينات من القرن العشرين وحتى اليوم، ويدعو للدهشة النمو الهائل لهذا التيار وتأثيره على السياسة الأمريكية. وهذا يعنى أن الأصولية ظهرت فى جميع الديانات فى موجة واحدة فى أنحاء العالم، ومن الخطأ القول بأن المتطرفين الإسلاميين هم الذين يمثلون عقيدة الإسلام، وكذلك من الخطأ القول بأن آية الله الخمينى هو التجسيد للإسلام، بنفس القدر الذى يجعلنا نرفض القول بأن الحاخام المتطرف مائير كاهانا بسياساته غير الأخلاقية كان التجسيد لليهودية.
وفى تحليلها لأسباب انتشار الأصولية فى العالم الإسلامى تقول إن ذلك يرجع إلى زيادة السكان، وعلى سبيل المثال فقد كان عدد سكان إيران قبل الحرب العالمية الثانية لا يزيد على 9 ملايين نسمة، ووصل عددهم فى سنة 1992 إلى 57 مليونا ويبلغ متوسط العمر 17 سنة، وبالتالى فإن هذا التكدس السكانى وطبيعة الشباب الميالة للتطرف من أهم عوامل الأصولية فى إيران وفى غيرها من الدول الإسلامية. ولا يعرف معظم الغربيين الإسلام ليفرقوا بينه وبين الممارسات المتشددة التى ترتكب باسمه. فعندما يحتجز المسلمون الشيعة الرهائن يشعر الناس فى أوروبا وأمريكا بالنفور من الدين الإسلامى نفسه دون أن يدركوا أن هذا السلوك ليس تعبيرا عما جاء فى القرآن عن حسن معاملة الأسرى، ولكن وسائل الإعلام والصحافة فى الغرب لا تتناول مثل هذه الأحداث بموضوعية. والمثال الآخر على ذلك تناول الإعلام الغربى لفتوى الإمام الخمينى بإهدار دم سلمان رشدى، دون أن تشير إلى آراء أغلبية علماء المسلمين الذين عارضوا هذه الفتوى، وخاصة من الأزهر- الذى يتمتع بمكانة مرموقة- بالقول بأن الشريعة الإسلامية لا تسمح بالحكم بإعدام أحد دون محاكمة عادلة، ولا تمتد سلطتها القضائية إلى خارج العالم الإسلامى، وفى مارس 1989 عقد المؤتمر الإسلامى وأعلنت فيه 44 دولة إسلامية رفضها بالإجماع لفتوى الخمينى، مع ملاحظة أن عدد الدول الإسلامية فى العالم 45 دولة، لكن الإعلام فى الغرب لم يعرض هذا الرفض بالتوسع الذى عرض به فتوى إهدار دم سلمان رشدى وما صاحبه من مقولات عن البربرية والهمجية فى الدين الإسلامى. وكثيرا ما?تعمل الصحافة ووسائل الإعلام فى الغرب على إثارة نوازع التعصب لدى الغربيين، كما?فعلت خلال أزمة البترول فى حرب أكتوبر 1973، فقد أجمعت وسائل الإعلام على إثارة المخاوف الغربية القديمة من (المؤامرة الإسلامية) للسيطرة على أوروبا وأمريكا!
وترى كارين أرمسترونج أن حال المجتمع الإسلامى فى المرحلة الحالية يبرر نظرة الغرب النمطية إليه. فحياة الأفراد رخيصة، والحكومات تجنح أحيانا إلى الفساد والاستبداد، والنساء يتعرضن للقهر، ويرجع الغربيون ذلك إلى الإسلام ذاته دون أن يروا أن ذلك راجع إلى المرحلة التى تمر بها المجتمعات الإسلامية وهى مرحلة ما قبل التحديث، فالأسباب اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية وليس من بينها الدين، لأن الدين الإسلامى لا يدعو، ولا يشجع، على الاستبداد أو الفساد أو التخلف أو قهر المرأة. ولكن- مع ذلك- يلاحظ وجود رغبة فى الغرب لإلقاء كل خلل فى العالم الإسلامى على الدين، حتى عادة ختان الإناث وهى عادة أفريقية انتقلت إلى المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية، ولكن الغربيين يتحدثون عنها على أنها من تعاليم الإسلام.
***
تركز كارين أرمسترونج على فكرة أساسية عندها هى أن الأديان أنظمة إنسانية، ويمكن بالطبع لأبناء كل دين أن يرتكبوا أخطاء وينسبوها إلى الدين أو يتصوروا أنها من الدين، لكن ذلك لا يعنى أنها من الدين فعلا، فالدين شىء وممارسات وأفكار الناس الدينية شىء آخر، قد تكون مطابقة وقد تكون مخالفة فى كثير أو قليل لجوهر الدين. وتقول: إن الإسلام يتميز بكثير من المُثل العليا التى ألهمت اليهودية والمسيحية، واليهودية والمسيحية لا يحق لهما احتكار الإيمان بالله، والدعوة إلى العدل واحترام الإنسانية لأن الإسلام يدعو إلى هذه المبادئ، وتقول: إن الإسلام فى تفسيره لعقيدة التوحيد يتميز بعبقرية خاصة، وعلى الغرب أن يتعلم منه، وتضيف: لقد أدركت هذه الحقيقة منذ بدأت أتعرف على الإسلام، وكنت أجهل هذا الدين جهلا تاما، وكان أول ما نبهنى رحلة قمت بها إلى مدينة سمرقند ورأيت أن العمارة الإسلامية تنطق بروحانية حافلة بأصداء الكاثوليكية التى كنت أدين بها يوما ما. وفى عام 1984 كلّفت بإعداد برنامج تليفزيونى عن مذهب التصوف الإسلامى، فعكفت على دراسة فكر الصوفية المسلمين، فبهرنى تقديرهم للأديان الأخرى، وهذه الصفة لم أعثر عليها فى المسيحية، وكان ذلك تحولا فى نظرتى إلى الإسلام، ووجدتنى متعطشة لمعرفة المزيد، وأخيراً أهتديت أثناء دراستى للحروب الصليبية والصراع العربى الإسرائيلى الدائر فى الشرق الأوسط إلى سيرة محمد (ص) وإلى القرآن وهو الكتاب المُنزل، وبعد ذلك لم أعد من المؤمنين بالمسيحية أو الممارسين لشعائرها، ولا أنتمى إلى أى دين آخر، لكنى عكفت على مراجعة أفكارى عن الإسلام، وإعادة النظر فى التجربة الدينية ذاتها، فرأيت أن الأنبياء والرُسل فى الأديان الكبرى تتشابه رؤاهم تشابها كبيرا، حول حقيقة الله.
وتشير كارين أرمسترونج إلى الكتابات السابقة عن محمد (ص) وأهمها كتابى (مونتجومرى وات) وهما: (محمد فى مكة) و(محمد فى المدينة) وتقول عنهما إنهما كتابان دراسيان موجهان للطلبة، وكل منهما يفترض معرفة القارئ بحياة محمد وهى غائبة عن كثيرين، وكتاب (مارتن لنجز) وهو بعنوان (محمد: سيرة حياته استنادا إلى أقدم المصادر) وفيه معلومات باهرة استقاها من كتب السيرة من القرن الثامن الميلادى إلى القرن العاشر، ولكن هذا الكتاب موجه إلى المقتنعين بالإسلام ورسوله ولا يناقش المخالفين والرافضين، وكتاب المستشرق الفرنسى (ماكسيم رودنسون) وهو بعنوان (محمد). وتقول كارين أرمسترونج: لقد تعلمت من كتاب رودنسون كثيرا ولكنه كتبه من وجهة نظر المتشكك، وركز على الجوانب السياسية والحربية فى حياة النبى (ص) ولذلك لا يساعد قارئه الغربى على تفهم الرؤية الروحية للنبى محمد.
وبعد هذا الاستعراض تتحدث عن منهجها فى دراسة شخصية الرسول (ص) فتقول إن نقطة الانطلاق هى أننا نعرف عن محمد أكثر مما نعرف عن أى مؤسس لأى دين من الأديان الرئيسية الأخرى، وأن دراسة حياته يمكن أن تهبنا إدراكا عميقا ومهما لطبيعة التجربة الدينية. وترى كارين أرمسترونج أن التجربة الدينية التى خاضها محمد (ص) تتشابه مع تجارب أنبياء بنى إسرائيل، ومع تجربة القديسة تيريزا، ولقد نجح محمد نجاحا سياسيا غير عادى، ويميل المسيحيون إلى التشكك فى الطابع الإلهى لهذا الانتصار الدنيوى، وتتساءل: ألا يوجد طريق آخر يوصلنا إلى الله سوى طريق الإخفاق الذى سلكه المسيح؟
***
الفصل الأول من كتاب كارين أرمسترونج بعنوان (العدو محمد) تقول فيه إن الغربيين أدانوا المشهد الذى ظهر فيه المسلمون فى إحدى المدن البريطانية وهم يحرقون رواية سلمان رشدى ولكنهم لم يتذكروا حوادث إحراق الكتب فى أوروبا المسيحية على مر القرون. وعلى سبيل المثال فقد قام الملك لويس التاسع ملك فرنسا بإدانة التلمود اليهودى باعتباره هجوما خبيثا على شخص السيد المسيح، وكان الملك لويس التاسع يشغل منصب قديس رسمى فى الكنيسة الكاثوليكية، وأصدر أمرا بحظر الكتاب، وأضرمت النار فى جميع النسخ أمام الملك، ولم يقبل مناقشة خلافاته مع الجاليات اليهودية فى فرنسا بالوسائل السلمية، وقال: إن الأسلوب الوحيد للمناقشة مع اليهودى أن تقتله بطعنة نافذة فى بطنه بأقصى ما يصل إليه السيف. وكان لويس التاسع هو الذى بدأ الحملة الأولى من محاكم التفتيش، ولم يكتف بإحراق كتب من اعتبرهم المارقين من المسيحيين بل أحرق المئات من الرجال والنساء منهم، كما كان يكره المسلمين، وقاد حملتين من الحملات الصليبية ضد العالم الإسلامى.
وتعتبر كارين أرمسترونج أن التاريخ المرير للعلاقات بين المسلمين والغرب بدأ بالهجوم على النبى محمد (ص) فى الأندلس. ففى عام 850 ميلادية خرج راهب اسمه (بير فكتوس) إلى السوق فى قرطبة وكانت عاصمة الأندلس الإسلامية، فقابل بعض المسلمين وسألوه أن يفاضل بين النبى عيسى والنبى محمد، فانطلق يصب وابلا من الشتائم زعم خلالها أن نبى الإسلام دجال ومولع بالجنس وأنه هو المسيخ الدجال، وسرعان ما ألقى به فى السجن. وكانت تلك حادثة شاذة فى قرطبة، لأن العلاقات كانت طيبة بين المسلمين والمسيحيين، وكان الحكم الإسلامى فى الأندلس يعطى الحرية الدينية للمسيحيين واليهود، وكانت الحضارة الإسلامية وروح التسامح الدينى فيها سابقة لجميع دول أوروبا.
وعندما وصل (بير فكتوس) إلى القاضى كان يرتعد خوفاً ورعبا، ولكن القاضى لم يصدر حكما بإعدامه لإهانته الإسلام ورسوله، لأنه رأى أنه كان ضحية استفزاز من المسلمين، ولكن (بير فكتوس) بعد إطلاق سراحه ظل يسب نبى الإسلام سبا بذيئا فلم يجد القاضى بدا من الحكم بإعدامه، فتجمع عدد من المسيحيين وكونوا جماعة اعتبرت (بير فكتوس) شهيدا، وبعدها بأيام ظهر راهب آخر يدعى (إسحق) ظل يسب الإسلام ونبى الإسلام بحرارة جعلت القاضى يظن أنه مخمور أو مختل عقليا، ولما استمر فى السباب وهو فى كامل وعيه لم يجد القاضى بدا من الحكم عليه. ولم يكن المسلمون يضيقون بمعتقدات الديانات الأخرى بما فيها نقاط الخلاف مع الإسلام، لأن الإسلام ولد فى ظل التعددية الدينية، وتعايش مع جميع العقائد على مر العصور، ولم يكن القانون فى الامبراطورية الإسلامية يحرم الدعوة المسيحية وكان يشترط فقط ألا يتعرض المسيحيون فى دعوتهم للهجوم على النبى محمد (ص).
ولم تمض أيام على إعدام إسحق حتى وصل 6 رهبان من الدير نفسه وقاموا بالتهجم على النبى محمد (ص) بصورة مقذعة، وانتشرت هذه الظاهرة حتى بلغ عدد من حُكم عليهم 50 واشترك أسقف قرطبة فى إدانتهم ولكنهم اعتبروا (شهداء قرطبة) وانتشرت هذه القصة فى الغرب. وكان الإسلام فى ذلك الوقت قوة عالمية، وكانت أوروبا قد اكتسحتها القبائل الهمجية وأصبحت بركة راكدة، وكان العالم يبدو كأنه قد أصبح كله إسلاميا، كما نرى العالم اليوم كأنه أصبح كله غربيا. وظل الإسلام فى كل العصور يمثل التحدى للغرب.
وكانت صيحات التهجم على الإسلام ورسوله التى أطلقها (شهداء قرطبة) تستند إلى وهم فى عقول (سيطر عليها الرعب) أن محمدا دجال، نصب نفسه نبيا ليخدع العالم، وأنه فاسق يدفع أتباعه إلى محاكاته، وأنه يجبر الناس على اعتناق عقيدته بحد السيف.. وانتهت هذه الأوهام إلى القول بأن الإسلام ليس دينا، بل هو بدعة، أو صورة مشوهة من المسيحية.
هذه الصورة التى تكونت من الأوهام فى الأندلس، أسدل عليها ستار النسيان ثم عادت بعد 250 سنة لتردد نفس هذه الأوهام. وهناك بعض الباحثين المتعمقين حاولوا وضع تصور موضوعى لنبى الإسلام وللدين الذى أتى به، لكن الصورة المشوهة استمرت على المستوى الشعبى. وما تزال آثار هذه الأوهام القديمة موجودة حتى يومنا هذا. وما زال شائعا فى الغرب القول بأن محمدا ليس سوى رجل قام باستغلال الدين لتحقيق الفتوحات وسيادة العالم، وأن الإسلام دين عنف وحرب، على الرغم من ظهور دراسات تبين خطل هذه الأسطورة.
***
وكان جهل الأوروبيين بالإسلام فى زمن الحرب الصليبية يصل إلى تصورهم للمسلمين بأنهم يركعون أمام ثلاثة آلهة هى (أبولو) و(تيرفاجان) و(محمد) ولم يعتبروا المسلمين بشرا مثلهم، ولذلك قاموا بارتكاب مذبحة لا مثيل لها فى التاريخ لسكان القدس المسلمين. وقالوا إن المسلمين وباء لا بد من تطهير الأماكن المقدسة منه. وكانوا عندما يتحدثون عن المسلمين يطلقون عليهم اسم (القذارة).
وتشير كارين أرمسترونج إلى أن أوروبا كان اهتمامها بالنبى محمد (ص) يكاد يكون معدوما حتى عام 1100 ميلادية، وشاعت المعرفة به فى 1120 على أنه (ماهاوند) عدو الممالك المسيحية، وتنقل عن الباحث البريطانى (د.و. ساذرن) سطورا عن دراسته بعنوان (صور الإسلام فى الغرب فى العصور الوسطى) يقول فيها: لا شك أنهم عندما وضعوا هذه الأساطير والأوهام، كانوا يرون أنها الصورة الحقيقية،. ولم تتغير صورة محمد وأتباعه كثيرا عن كونهم أبناء الصحراء. وتعلق على ذلك بأن هذا الطابع الخيالى لشخصية (ماهاوند) هو الذى أدى إلى صعوبة النظر إلى النبى محمد (ص) فى الغرب على أنه شخصية تاريخية جديرة بالدراسة كما يفعلون مع نابليون أو الإسكندر الأكبر، ولهذا كانت الصورة الخيالية لشخصية (ماهاوند) فى رواية سلمان رشدى متفقة مع هذه الأوهام الغربية الراسخة بعمق، ومن ذلك الزعم بأن الرسول (ص) كان ساحرا خدع الناس بمعجزات زائفة، وأنه قام بتدريب حمامة على التقاط حبات البازلاء من أذنيه حتى يبدو للرائى كأن روح القدس تتنزل عليه وتهمس له بالوحى، وقالوا أيضاً إنه (ص) كان يعانى من الصرع، وأفاضوا فى الحديث عن حياته الجنسية.
تعلق كارين أرمسترونج على كل ذلك بأن المسيحيين الغربيين لم يستطيعوا تفسير الرؤية الدينية الرائعة والمقنعة التى أتى بها محمد (ص) وسر نجاحها إلا بإنكار الوحى والقول بأن الإسلام فرقة خارجة على المسيحية. كما تفسر قلق المسيحيين من الإسلام بالأعمال العدوانية التى ارتكبوها باسم المسيحية ضد المسلمين فى الحروب الصليبية وهى ممارسات لا علاقة لها بدعوة السلام التى جاء بها المسيح. وتقول إن الكنيسة كانت تفرض على رجال الدين الامتناع عن الزواج مع رغبتهم فيه، فكانت المبالغة فى الروايات عن الحياة الجنسية للنبى محمد (ص) تعبيرا عن الكبت الذى يعانى منه هؤلاء أكثر مما هى تعبير عن الحقائق. أما اتهامهم للإسلام بأنه لا يعترف بالحرية الدينية فهى إلقاء التهمة على الآخر، لأن الغرب- وليس الإسلام- هو الذى منع حرية المناقشة فى المسائل الدينية وكان يعاقب كل من يخرج على الفكر الذى تفرضه الكنيسة بالحرق على أيدى (محاكم التفتيش) وكذلك قامت- بعد ذلك حركة اضطهاد البروتستانت والكاثوليك بعضهم البعض بسبب الخلافات الدينية بين الطائفتين.
ولما كانت اليهودية هى الدين الأجنبى الوحيد فى أوروبا فى ذلك الوقت، فقد بدأت الحملات الصليبية بمذابح لليهود فى وادى نهر الراين وكانت تلك أولى المذابح الجماعية فى أوروبا وأصبح العداء للسامية مرضا مزمنا حتى أن الأساطير الأوروبية وصلت فى عدائها لليهود إلى حد القول بأن اليهود يقتلون الأطفال ويمزجون دماءهم بخبز عيد الفصيح العبرانى، وأنهم يدبرون مؤامرة دولية للإطاحة بالمسيحية. وتقول كارين أرمسترونج إن مثل هذه الأساطير المعادية لليهود لم يظهر مثلها فى العالم الإسلامى فى أى عصر من العصور. لكن التعصب كان فى أوروبا. حتى أنه بعد الاستيلاء على الأندلس وجنوب إيطاليا وصقلية وعودتها إلى المسيحية بقى فى هذه المناطق مسلمون ويهود فرضت عليهم العزلة، ومنعت الحكومة المسيحيين من التعامل معهم، وصدرت تشريعات كنسية خاصة فى المجلسين البابويين أحدهما عقد سنة 1179 والثانى فى سنة 1215 تعتبر اليهود والمسلمين (العدو) وتفرض هذه التشريعات عقوبات على كل من يتعامل مع المسلمين واليهود أو يشاركهم الطعام بالطرد من الكنيسة ومصادرة الممتلكات. وقد أصدر البابا جريجوريوس التاسع فى عام 1227 مراسيم بابوية تفرض على المسلمين واليهود أن يرتدوا ملابس مميزة، ويحظر عليهم الظهور فى الشوارع أثناء الأعياد المسيحية، ويحرم توليهم مناصب حكومية فى البلاد المسيحية، ومنع الجهر بالأذان حتى لا يؤذى أسماع المسيحيين. وبعد ذلك أعلن البابا كليمنت الخامس (1305- 1314) أن وجود مسلم على الأرض المسيحية يعتبر إهانة لله. وقبل ذلك قام ملك فرنسا (شارل آنشوا) عام 1301 بإبادة من بقى من المسلمين أبناء صقلية وجنوب إيطاليا. وقد ظلت محاكم التفتيش فى أسبانيا تضطهد المسلمين وذريتهم على مدى 300 سنة.
***
هكذا تقلب كارين أرمسترونج صفحات التاريخ بهدف الوصول إلى جذور عداء الغرب للإسلام وللرسول (ص) إلى أن تصل إلى ملحمة الشاعر الإيطالى دانتى (الكوميديا الإلهية) وفيها يصور النبى (ص) فى الجحيم مع أرباب الفتنة التى أحدثت الانشقاق الدينى ويصوره فى عذاب مهين، وتورد كارين أرمسترونج أبياتاً من هذه الملحمة تحرج الدكتور محمد عنانى والدكتورة فاطمة نصر من ترجمتها لبشاعة ما فيها واضطرا إلى الإشارة إلى ما فعله الأستاذ حسن عثمان الذى ترجم الكوميديا الإلهية وعندما وصل إلى هذه الأبيات ذكر أنه حذفها لأنها لا تليق بمقام النبى (ص) وأن دانتى أخطأ خطأً جسيماً بكتابتها متأثرا بما كان سائدا فى عصره من عداء وجهل بالإسلام ورسوله. وترى كارين أرمسترونج أن موقف دانتى يدل على الخوف والكراهية للإسلام وهذا يناقض رسالة المحبة التى أتى بها المسيح.
وتبدى كارين أرمسترونج بعد ذلك دهشتها لأن أول صورة إيجابية للرسول (ص) فى الغرب رسمها (بيتر الفونس) اليهودى الأسبانى الذى اعتنق المسيحية عام 1106 وقضى بقية حياته فى انجلترا طبيبا للملك هنرى الأول، وكان معاديا للإسلام لكنه صوّره على أنه دين. وفى عام 1120 كان العداء للإسلام قد بلغ ذروته لكن (وليم مامزبرى) كتب دراسة يفرّق فيها بين الإسلام والوثنية فكان أول أوروبى يفعل ذلك وجاء فيها لأول مرة: (إن الأتراك وأبناء الشرق يعبدون الله الخالق، ويبجلون محمدا ليس باعتباره إلهاً بل باعتباره نبيا لهم) وهذه النظرة ما زال فى الغرب من يرفض قبولها، ولا يزال فى الغرب من يدهش حين يسمع أن المسلمين يعبدون الإله الذى يعبده اليهود والمسيحيون (!)
***
وسجل العداء أكبر مما يصل إليه الخيال، ويمكن لمن يريد معرفة المزيد العودة إلى كتاب كارين أرمسترونج ففيه الكثير، وهى بعد ذلك تتحدث فى فصل بعنوان (محمد رجل الله) عن معجزات الرسول (ص) وأولها أنه أصبحت كلمة (الله) تتردد لأول مرة فى بلاد العرب، وحقق الرسول (ص) معجزة بتوحيد العرب وكان مستحيلا أن تتوحد هذه القبائل المتحاربة، وعلى هذا فإن كان ذلك النصر السياسى هو الإنجاز الوحيد لمحمد (ص) فمن حقه علينا أن يحوز إعجابنا، لكن النجاح الأكبر لمحمد كان فى نشر الإيمان بالدين الذى غيّر مجرى التاريخ.
وتتحدث كارين أرمسترونج عن القرآن فتقول: إن الغربيين يجدون أنه كتاب صعب، ولا يعلمون أنه أنزل على محمد على مدى ثلاثة وعشرين عاما ولم يهبط من السماء دفعة واحدة مثل التوراة أو الوصايا، وكان الذين يستمعون إلى آياته يحفظونها عن ظهر قلب، بينما كان الذين يستطيعون الكتابة يقومون بتسجيلها كتابة. وقد وجد العرب القرآن مدهشا، فلم يكن مثل الشعر الذى كانوا يجيدون نظمه، ولذلك اعتنقوا الإسلام لاعتقادهم أن ذلك الأسلوب لا بد أن يكون مُنزلاً من السماء. وحتى الذين رفضوا الدعوة أصيبوا بالذهول ولم يجدوا تفسيراً لذلك التنزيل المحير. وحتى يومنا هذا تهتز مشاعر المسلمين حين ينصتون إليه ويشعرون أن صوتا سماويا يتحدث إليهم. وتقول إن عدم إحساس الغربيين بهذا الإحساس أن النصوص المقدسة يصعب تذوقها حين تترجم إلى لغات غير لغاتها الأصلية، وتضرب على ذلك مثالا معروفا لليابانيين الذين يجيدون الإنجليزية وطلبوا إثناء زيارتهم للولايات المتحدة أن يتعرفوا على الإنجيل ولكنهم بعد قراءته قالوا صراحة إنهم لم يجدوا فيه أثرا للدين. كذلك فإن أجمل أشعار شكسبير تبدو تافهة عندما تترجم إلى لغات أخرى. وبالنسبة للغة العربية فهى لغة من الصعب ترجمتها إلى لغات أخرى. لأن فى العربية شيئا ما لا يمكن نقله إلى التعبيرات اللغوية الأخرى. وحتى الخطب التى يلقيها الساسة العرب فإنها تبدو غريبة عند ترجمتها إلى لغات أخرى، فإن كانت الترجمة صعبة فى النصوص العربية عموما فإنها بالغة الصعوبة فى حالة القرآن حيث اللغة مركبة ومكثفة ومحملة بالمعانى والإيماءات، ولهذا يقول المسلمون الذين يجيدون اللغة الإنجليزية إنهم عندما يقرأون ترجمة معانى القرآن بالإنجليزية يجدون أنفسهم يقرأون كتابا مختلفا عن القرآن اختلافا كليا. ولا يترك فى نفس قارئه ذلك الحضور السماوى الذى يشعرون به عند قراءته باللغة العربية.
***
وتسجل كارين أرمسترونج تقديرها للقرآن لأنه يتحدث عن المسيح وأمه العذراء مريم باحترام ويحيطهما بقداسة كبيرة، كما يتحدث عن النبى موسى والتوراة بنفس الاحترام. وتقول إن حياة المسيح غير معروفة بتفاصيلها، ولا يعلم منها إلا القليل، لأن أول كتاب عن المسيح كان للقديس بولس بعد عشرين عاما من رحيل المسيح، ولم يهتم بحياة المسيح على الأرض وركز فقط على المعانى الروحية لحياته وبعثه، وفيما بعد ظهر كتاب مرقس بعد رحيل المسيح بأربعين عاما، وسجل فيه من أقوال المسيح أكثر مما فعل بولس، ثم ظهر كتابا متى ولوقا بعد خمسين عاما من رحيل المسيح، وكتاب يوحنا بعد مائة عام من رحيل المسيح، وهذا السرد الإنجيلى يختلف عن سيرة النبى محمد، فقد اهتمت الأناجيل بالمغزى الدينى لحياة المسيح، وحتى السرد الإنجيلى للعهد الجديد لوقائع عذابات المسيح وصلبه مشوشة تشويشا تاما كما يقول الدارسون المحدثون، ويرون أن تلك الوقائع تم تغييرها ربما لأن المسيحيين فى ذلك العصر كانوا يرغبون فى الانفصال التام عن اليهود، ولذلك يلقون مسئولية صلب المسيح على اليهود وليس على الرومان، أما أقوال المسيح فلم يسجلوا منها إلا أقل القليل، ولا يعنى ذلك- كما تقول كارين أرمسترونج- إن الأناجيل ليست ذات مصداقية، فهى تُعبّر عن حقيقة دينية مهمة. وقد وعد المسيح حوارييه أن يرسل إليهم روحه ولذلك يمكن القول بأن أكثر ما ألهموا به يمكن إرجاعه إلى السيد المسيح نفسه.
أما شخص محمد- كما تقول- وكما تظهر الكتابات فإنه يختلف كل الاختلاف عن شخصية المسيح المثالية الخارقة للطبيعة كما يظهرها الإنجيل، ورغم أنه أصبح لمحمد عند المسلمين هالة رمزية إلا أنهم لم يدعوا أبدا أنه مقدس، بل إنه- كما?تقدمه السير الأولى- شخصية إنسانية، ليس فيها تشابه مع شخصيات القديسين المسيحيين، وتماثل شخصية محمد (ص) شخصيات التوراة النابضة بالحياة من أمثال موسى، وداود، وسليمان، وإلياس، وإسحاق، وتبدو شخصية محمد شخصية قوية المشاعر ذات أبعاد مركبة، ويتمتع بمواهب روحانية وسياسية عظيمة، وكان يتملكه الغضب أحياناً كما كان شديد التأثر والرحمة، وتقول: لم نقرأ أبداً أن المسيح ضحك، ولكن كثيراً ما نقرأ أن محمدا كان يبتسم ويداعب الأطفال والصحابة، ويختلف مع زوجاته، ويبكى لموت أحد أصحابه، ويعرض ابنه الوليد مزهوا كأى أب، فإذا نظرنا إليه كشخصية تاريخية عظيمة فمن المؤكد أننا سنراه من أعظم العباقرة الذين عرفهم التاريخ. ولكى نوفى عبقريته حقها علينا أن ندرس المجتمع الذى ولد فيه، والقوى التى كان عليه أن يدخل معها فى صراع، فقد كان اليهود يؤمنون بإله واحد (يهوه) لكنهم كانوا يعتقدون فى وجود آلهة أخرى. والوصايا العشر فى التوراة تعترف ضمنا بوجود آلهة أخرى يعبدونها، مثل الوصية التى تقول: (لا يكن لك آلهة أخرى أمامى). ولم تتحقق الوحدانية فى اليهودية إلا على يد أشعيا الثانى بعد 700 سنة من خروج الإسرائيليين من مصر عام 1250 قبل الميلاد. أما محمد فقد انطلق ليجعل العرب يؤمنون بالتوحيد فى فترة لا تتعدى 23 عاما، وهذه عملية صعبة تتطلب تغيير الوعى الإنسانى نفسه.
***
وتقف كارين أرمسترونج عند مسألة حساسة فى السيرة النبوية، عندما حاولت فهم الآيات: (وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلا. ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا. إذا لأذقناك ضِعف الحياة وضِعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا) الإسراء 73- 75، فتقول: إن الدارسين فى الغرب يفترضون أن تلك الآية تشير إلى حادثة ما يدعى (آيات شيطانية) يدّعون بها أن محمدا (ص) قدم تنازلات مؤقتة للمشركين. والقصة- كما?فى طبقات ابن سعد وتاريخ الطبرى- إن الشيطان تدخل فى إحدى المناسبات، وتقول المأثورات إن محمدا (ص) أثناء تلقيه سورة النجم شعر بإيحاء أن ينطق بآيتين تقولان: إن الآلهة الثلاث اللات والعُزَّى ومناة من الممكن أن يكن وسيطات بين الله والبشر، وبما أن قريشا كانت تعتقد أنهن (بنات الله) وأنهن مقدسات، فقد ظنوا خطأ أن القرآن قد وضع هذه الآلهة فى منزلة واحدة مع الله، واعتقادا منهم أن محمدا قد تقبل آلهتهم سجدت قريش لتؤدى الصلاة مع المسلمين وبدا وكأن الخلاف قد انتهى، وتقول القصة إن محمداً (ص) تلقى الوحى الإلهى بأن قبوله الظاهرى لهذه الآلهة كان وحيا من الشيطان، وبناء على ذلك حذفت الآيتان من القرآن، واستبدلتا بآيات أخرى تلعن الآلهة الثلاث.
وتعلق كارين أرمسترونج على هذه الرواية التى يروج لها كثير من الغربيين فتقول: إن هذه القصة غير صحيحة ومشكوك فى صحتها لدى المسلمين، ولا توجد إشارة واضحة إليها فى القرآن، وفى التسجيل المبكر للسيرة فى سيرة ابن اسحق لا توجد أية إشارة إلى هذه الواقعة، كما أنها لم تذكر فى مجموعات الأحاديث الكبيرة التى جمعها البخارى ومسلم فى القرن التاسع الميلادى. وحينما يرفض المسلمون شيئا من التراث فإنهم لا يفعلون ذلك بدافع احتمال التأويلات النقدية لما يرفضون، لكن لعدم كفاية الأدلة. ومع ذلك فإن أعداء الإسلام فى الغرب- كما تقول- رأوا فى هذه القصة مناسبة كى يشككوا فى محمد (ص) وليقولوا كيف لرجل قام بتغيير الكلمات السماوية طبقا لما ارتآه أن يكون نبيا؟ ورغم ذلك فقد حاول باحثون مثل ماكسيم رودنسون، ومنتجومرى مؤخراً أن يبرهنوا على أن القصة فى صياغتها لا تحتمل تأويلا سلبيا. ولكن هذه القصة التى لم يهتم بها المسلمون ظلت على قدر كبير من الأهمية فى الغرب وتفجرت عام 1988 وهو العام الذى نشر فيه سلمان رشدى روايته (آيات شيطانية) وجعل من هذه القصة محورا لروايته.
وهذه القصة- كما تقول كارين أرمسترونج- تكرر الأساطير الغربية القديمة عن محمد (ص) وتكرر القول بأنه مدع، ذو طموحات سياسية. والأكثر إيلاما للمسلمين أنها تشوه صدق القرآن وهذا ما أثار المسلمين. فقد رأى المسلمون أن كتاب سلمان رشدى اتخذ من القصة المدسوسة عن الآيات الشيطانية عنوانا له، وقد وظّف سلمان رشدى هذه القصة ليبرهن على أن القرآن المقدس عند المسلمين لا يميز بين الطيب والخبيث وأن ما يقال إنه مشيئة الله ما هو إلا إيحاءات إنسانية كما يدعى النُقاد الغربيون.
***
وتصل كارين أرمسترونج إلى أن الذين أيدوا سلمان رشدى استغلوا ما جاء فى كتابه ليكرروا الادعاء بأن الإسلام ضد حرية الإبداع وحرية البحث العلمى، وقد تبنى سلمان رشدى الرؤية الغربية القائمة على الكراهية للمسلمين ورسولهم. وقد فتح ذلك جراحا عميقة- كما تقول- بين الغرب والإسلام. وتقول إن هذه القصة تتعارض مع الروايات الموثقة ومع القرآن نفسه، ومن الثابت أن الرسول (ص) رفض عروضا من قريش دون تردد بأن يسمح لهم بعبادة آلهتهم مع عبادة الله. ولكن فى الغرب- كما تقول- من تأثر بفكرة (السقوط) بمعناها المسيحى ليخلعها على محمد. كما أن آدم استسلم لغواية الشيطان، وفى رواية الطبرى إنكار لهذه الواقعة، ومكانة هذه الآلهة حددها القرآن بصورة قاطعة: (إن هى إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس) النجم (23)، وتقول: هذه هى أكبر إدانة قرآنية لتلك الآلهة، كما أن الإسلام جاء برسالة توحيد لا تقبل أن يكون مع الله إله آخر وليس أدل على ذلك من سورة الإخلاص التى يقرؤها المسلمون فى صلاتهم اليومية: (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) فكيف يمكن مع هذا التوحيد الخالص أن يأتى ذكر آلهة قريش وأصنامها على لسان الرسول على أن لها مكانة أو شفاعة؟
وتخصص كارين أرمسترونج صفحات من كتابها للتدليل على عدم صحة هذه الرواية المدسوسة على النبى (ص) وتقول: إن تاريخ محمد منذ بدايته فيه كراهية لآلهة قريش، ومن الأدلة على ذلك أن كبار قريش ذهبوا إلى أبى طالب- عم الرسول- وقالوا له: (يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه) وبعد فترة عادوا إلى أبى طالب ثائرين وقالوا له: (إنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك فى ذلك حتى يهلك أحد الفريقين)، وتستدل من هذا الموقف أن محمدا لم يتنازل عن محاربة آلهة قريش، بل إن قريشا عرضت عليه أن يكون ملكا عليهم وأن يجعلوه أكثرهم ثروة مقابل التنازل عن دينه فقال: (والله لو وضعوا الشمس فى يمينى، والقمر فى شمالى، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه، ما تركته).
***
بهذا المنطق تدافع كارين أرمسترونج عن الرسول وتكشف عدم صحة هذه الرواية التى أقام عليها سلمان رشدى كتابه، وهى تفعل ذلك من منطلق البحث العلمى النزيه، فهى ليست مسلمة، ولا صلة لها بالدول الإسلامية، ولكنها قرأت كل ما?كُتب عن سيرة الرسول بعقلية ناقدة. وكتبت عن الرسول بمنهج علمى مدقق لا يخضع لأحكام مسبقة، وهى تسجل بموضوعية نجاح المشروع الإسلامى بعد وفاة النبى (ص) كدليل على صدق الرسالة، وتتحدث عن الروحانية التى أسسها دون أن يعتزل الحياة، ولم ينتظر إلى حين حلول عالم يخلو من الشرور والصراعات، وسعى إلى إقامة مجتمعه المثالى فى المدينة، واحتذى المسلمون حذوه منذ البداية. وتسجل كارين أرمسترونج مشاعر الحب الجارف لمحمد (ص) لدى المسلمين، ومع ذلك فإنهم يؤكدون أنه لم يكن إلا رجلا ولم يكن إلها أو ملاكا، والنبى هو الذى قال عن نفسه إن أنا إلا ابن امرأة كانت تأكل القديد فى مكة، وذلك حرصا منه على تأكيد طبيعته كإنسان. وبذلك أصبحت حياة محمد آية من الآيات فى العالم التى يدعو القرآن المسلمين إلى التأمل فيها وتفهمها، فإن رسالته النبوية (رمز) يعكس الاستسلام التام لله، وحب المسلمين له هو ارتباط بالرمز الذى يضىء لهم حياتهم ويضيف إليها معنى جديدا..
وتقول كارين أرمسترونج إن محمدا (ص) يعتبر على المستوى الرمزى الإنسان الكامل، والنموذج. وتنظر إلى رحلة الإسراء والمعراج على أنها المثال الكامل للفناء فى الله، والمسلمون يسعون إلى محاكاة الرسول فى حياتهم اليومية لكى يقتربوا من هذا الكمال بقدر الإمكان ويقتربوا من الله.
وتختم كارين أرمسترونج كتابها بقولها إن الإسلام والغرب يشتركان فى أمور كثيرة، والمسلمون عرفوا ذلك منذ زمن محمد، إلا أن الغرب غير قادر على تقبل هذه الحقيقة، والمسلمون يشعرون أن حضارة الغرب امتهنت كرامتهم واحتقرتهم، ونحن فى الغرب بحاجة إلى أن نخلص أنفسنا من بعض أحقادنا القديمة، ولعل شخص محمد يكون مناسبا للبدء، فقد كان ذا عبقرية تستعصى على الإدراك، وأسس دينا وحضارة للإسلام، ولفظ الإسلام ذو دلالة على السلام والوفاق مع سائر البشر.
أليس من واجب المسلمين أن يقدموا التحية لهذه الراهبة العظيمة التى قالت كلمة الحق بجرأة وبراعة تفوق ما فعله المسلمون للدفاع عن دينهم فى الغرب
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف