تحذير للشباب .. والمثقفين
منذ سنوات نشرت بعض فقرات من وثيقة غير معلومة المصدر، تحمل فيما يبدو تعليمات أو توجهات لعمل سرى بين الجماهير فى الدول العربية، وقد أحاط الشك بهذه الوثيقة وقتها، وقيل إنها مزيفة ومدسوسة لإثارة المخاوف لدى الشعوب العربية، ولكن الأيام تثبت أن ما جاء فيها لم يكن من صنع الخيال.
ومهما يكن حولها شكوك فإن تأمل ما جاء فيها يمكن أن يلقى الضوء على أمور كثيرة مما يجرى الآن فى الساحة العربية.
وكانت الوثيقة فيما أذكر-تتضمن سطورا مختصرة مثل: الوقيعة بين الجماهير والسلطة الحاكمة، إثارة القلاقل والمشاكل الداخلية، إثارة عناصر لديها استعداد لانفعال من الطلبة الهدف أن تنشغل الدولة بمشاكلها الداخلية وينشغل الشعب بالخلاف مع الدولة.
وكان فيها أيضا: تشكيك فى قدرة المجتمع على التقدم وتحقيق الأهداف المعلقة، هز الثقة بالنفس. إثارة موجات من الغضب والقلق، نشر إحساس باليأس والتشكيك فى القدرة على تنفيذ الوعود، إثارة النزاعات الطائفية.. تشويه الأعمال التى تفاخر الحكومات بإنجازها والتشكيك فى جدواها والتقليل من أهمية كل عمل يتم أو تعتزم الحكومات عمله.
شغل الرأى العام بخلافات حول أحداث وأشخاص الماضى، وخلافات حول موضوعات يطول فيها الجدل مثل الخلافات فى المسائل الدينية.
الهدف: شغل الناس عن التفكير والعمل للحاضر والمستقبل.
التركيز على الشباب.. والهدف: التغلب على النزعة الوطنية والتشكيك فى التعاون العربى وفى جدوى المشروعات.
عدت إلى هذه النقاط التى نقلتها فى مفكرتى عن الصحيفة التى نشرتها بعد أن تابعت الأيام الماضية ما تبثه القنوات الفضائية العديدة التى ازداد عددها بشكل يلفت النظر ويدعو للتساؤل عن مصادر تمويلها والأهداف التى تسعى إلى تحقيقها، ومن تحليل سريع لمضمون الرسالة الإعلامية فى هذه القنوات وجدت أنها لا تخرج عن النقاط التى جاءت فى هذه الوثيقة القديمة المجهولة المصدر، ثم وقعت فى يدى دراسة بعنوان الدبلوماسية الشعبية والتأثير على الشعوب فى مجلة (فورن أفيرز) الأمريكية عدد ديسمبر 2003 وهى من أكثر المجلات السياسية المتخصصة احتراما تبين كيف تعمل مخابرات الدول مع وزارات الخارجية والإعلام، وتشير إلى الدروس المستفادة من نتائج هذه الحملات فى سنوات الحرب الباردة من خلال النشاط الذى كانت ترعاه أجهزة المخابرات مع الجماهير فى مختلف الدول، وكان صناع السياسة يدركون أهمية هذه الوسائل ويعتبرونها أكثر أهمية من استخدام القوة العسكرية، وكانوا يؤمنون بأن الاعتماد على الإعلام والحوار المباشر للتأثير فى الناس من الأمور الضرورية لجذب العناصر التى لديها استعداد للتعاون، وبخاصة الشباب.الذى يمتلئ بالطموح ولا يستطيع أن يحقق طموحاته.
وتقول الدراسة إن الحملات السياسية والثقافية عن طريق الإعلام والاتصال غير المباشر كانت سلاحا فعالا فى الحرب الباردة، ودارسو علوم الإعلام والاتصال يعرفون نظرية (الإعلام على مرحلتين) وذلك بالتأثير على عناصر لديها القدرة على التعامل مع الجماهير والقدرة على الكتابة والخطابة والاتصال بالناس والدخول فى حوارات ومعارك لفظية، وهؤلاء يقومون بعد ذلك بالاتصال بالناس العاديين دون أن يظهر المحركون الأصليون فى الصورة، وهذا ما يفسر الزحام فى الأثير لكثرة الإذاعات والفضائيات كما يفسر كثرة الصحف والكتاب وأساليب التأثير وكثرة الحديث عن الإحباط وأزمة الهوية ونقد الحكومات بأساليب ساخرة لا تدع مجالا للتفكير الجاد وتحول الأمور المصيرية إلى مادة للاستهزاء كما تبيح ارتكاب الجريمة التى يحذر منها علماء الإعلام والدين وهى جريمة (اغتيال الشخصية) وهناك فرق بين نقد أعمال الشخصية العامة وبين الإساءة إلى هذه الشخصية وتشويه صورتها أمام الرأى العام دون استناد إلى وقائع ولكن بمجرد السخرية والاستهزاء وإثارة الشكوك حولها.
وتتحدث الدراسة عما تسميه (عملية التغيير الثقافى) فتشير إلى الآثار التى تترتب على نجاح عمليات التأثير على العقول وغرس أفكار وقيم مختلفة عن الأفكار والقيم السائدة فى المجتمعات بما فى ذلك الأفكار والقيم المتعلقة بالسياسة والدين والفن والأخلاق.. الخ وعملية التعبير الاجتماعى والثقافى هذه يمكن أن تحقق الأهداف التى يحققها العمل العسكرى دون خسائر بشرية.
قد يرى البعض أن هذه النظريات قديمة كانت تستخدم فى مرحلة الحرب الباردة للتأثير على الشعوب، وهؤلاء يرون العالم بمنظار وردى فيجدون كل شىء طبيعيا، وأن مثل هذه الأفكار من أوهام المؤمنين بنظرية المؤامرة، وليس فى العالم مؤامرات من أى نوع، والعلاقات الدولية قائمة على النوايا الحسنة، وهؤلاء من حقهم أن ينعموا بهذه الفكرة التى تجلب لهم المبرر للراحة النفسية والاسترخاء، ولا تدعوهم للقلق أو الاستنكاف.. ولكنى مع احترامى لهؤلاء أقول إن الحذر واجب وإذا تركنا الوثيقة المجهولة المصدر والدراسات الأمريكية جانبا فإن الواقع أمامنا يدعونا للحذر ويدعونا أيضا للعمل.