الإسلام والقوى الكبرى.. صفحات من التاريخ
أصدرت منظمة الأمن والتعاون الأوروبى قراراً يقضى بإنشاء منصب ممثل شخصى لرئيس المنظمة مهمته تعقب مظـاهر العداء للإسلام فى دول أوروبا، واعتمد هذا القرار فى المؤتمر الوزارى الثانى عشر للمنظمة فى 8 ديسمبر 2004. وفى نفس الوقت قررت المنظمة أيضاً تعيين ممثل شخصى لمكافحة مظـاهر العداء للسامية. وفى ذلك اعتراف رسمى بأن ظـاهرة العداء للإسلام فى أوروبا وصلت إلى درجة تستلزم التحرك على أعلى مستوى سياسى لمواجهتها، وكذلك الاعتراف بأن معاداة الإسلام أصبحت مساوية لمعاداة السامية.
وكان المفروض أن تدرك الدول الإسلامية أهمية هذا الاعتراف وتبدأ حملة واسعة فى الولايات المتحدة ودول أوروبا لمواجهة تيار العداء للإسلام فيها، ولكن الدول الإسلامية- فـيما يبدو- لم تتنبه إلى أهمية هذا الاعتراف وهذا القرار.
وقد تم تعيين جونتر مولاك Gunter Mullak مفوضا للاتحاد الأوروبى للحوار بين الإسلام والغرب ومقره فى بروكسل، ولم تتحرك الدول الإسلامية للتعامل معه والاستفادة من وجوده لإثارة القضايا والمشاكل التى تهم المسلمين فى أوروبا.
والغريب أن بعض الأوروبيين كانوا أكثر حرصا على الدفاع عن الإسلام من كثير من المسلمين، وفعلوا ذلك فى وقت مبكر جداً. ومثال ذلك ما ذكره المفكـر الألمانى باول شمتز فى كتابه (الإسلام: قوة الغد العالمية) الذى تحدث فيه باستفاضة عن العدوان الغربى على العالم الإسلامى بعد الحرب العالمية الأولى التى كانت الحد الفاصل للنزاع بين دول الغرب الاستعمارية وتركيا التى كانت تمثل الإمبراطورية الإسلامية. فقد أسفرت هذه الحرب عن فقدان العالم الإسلامى للاستقلال ووقوعه فريسة للتبعية للغرب. وكان زحف القوات الأوروبية فى أراضى الدول العربية والإسلامية متمما لعملية إخضاع المارد الإسلامى والقضاء على حريته السياسية. وبذلك وضعت الدول الغربية يدها على غنيمة اعتقدت أن أحدا لن ينازعها عليها. ولكن قيود الاستعمار الغربى التى كبّلت العالم الإسلامى لعشرات السنين تحطمت بعد انفجار ثورات شعبية وتضحيات بأرواح عشرات الآلاف من أبناء الشعوب الإسلامية. وكانت هذه الثورات نتيجة تفاعل قوى كامنة فى طبيعة الشعوب الإسلامية لا يعرفها إلا من درس عقائد هذه الشعوب وأخلاقها وتاريخها وتكوين مجتمعاتها. وهذه القوى الروحية الكامنة هى السر فى نزعة الاستقلال وقوة الرفض للسيطرة الأجنبية مهما كانت قوة المستعمر، ومهما طال العهد بسيطرته.
يقول باول شمتز: إن شبحا خرج من بين الأنقاض التى خلفتها الحرب العالمية الأولى، فانتشرت الثورات ضد الاستعمار الأوروبى رافعة راية العقيدة. وتجمع المسلمون حول أيديولوجية إسلامية جديدة لمواجهة الخطر القادم من الغرب، وظهر التيار الدينى الإسلامى الرافض لكل ما هو غربى. وطوال السنوات التى سيطر فيها الاستعمار خيم الجمود على العالم الإسلامى فى القرون الماضية وأصابه الوهن، وسيطرت عليه أفكار معادية للعلم والتحديث صدَّعت بنيانه. وقد ظهر مدى الضعف الذى أصاب العالم الإسلامى حين تقدمت وسائل المواصلات وبدأ اتصاله بالحضارة الغربية. وكان من نتيجة احتكاك العالم الإسلامى بالغرب أن تبلورت حركات التجديد الدينى والحركات القومية، وبدأ الصراع بين الحركة الدينية والحركة القومية، ولكن كان لهما موقف موحد فى مقاومة (تغريب) العالم الإسلامى ورفض الاتجاه الداعى إلى التنازل عن القيم الإسلامية تحت دعاوى التحديث واللحاق بالعصر وتقليد الغرب على أنه الذى يملك مقومات الحضارة الجديدة. فلم يغير مجتمع إسلامى طبيعته الإسلامية ويقلد أسلوب الحياة الغربية، وإن كان ذلك لم يمنع الدول الإسلامية من أن تأخذ من الغرب ما?لا?يتعارض مع مبادئ الإسلام من ثقافة وتكنولوجيا وعلوم حديثة. وسارت نحو التحديث ولم ترفض كلية التفاعل مع الغرب، وظهرت حركات قوية تدعو إلى بناء دولة حديثة ولكنها ظلت حريصة على التمسك بالعقيدة والمبادئ الإسلامية.
ويرى باول شمتز أن الوحدة الفكرية للإسلام والعقيدة التى لا خلاف عليها بين سائر المسلمين أيقظت فى جماهير العالم الإسلامى الشعور بوحدة المصير، والسعى إلى استعادة القوة العالمية للإسلام، ويقول: إن هناك عنصرًا مهما يجمع بين المسلمين فى أنحاء العالم هو العقيدة المشتركة التى تجذبهم نحو غاية واحدة مهما اختلفت أساليب حياتهم، كما يجمع بينهم أيضا اشتراكهم فى معاداة الهيمنة الأجنبية. ويقول: إن ظاهرة العداء للاستعمار الغربى يلمسها المرء فى كل مسلم أينما يولى وجهه فى أنحاء العالم الإسلامى، كما يلمس المرء أيضاً أن الحيوية فى العالم الإسلامى بدأت مع قوة الشعور بوحدة مصير المسلمين. وهذا الشعور تولد فى المعارك ضد الاستعمار الغربى فى كل رقعة فى العالم الإسلامى. ويوما بعد يوم ازداد رفض هذا العالم الإسلامى للقوى الأجنبية التى تستغل ثروات المنطقة وتعوق تقدمها.
***
ويدلل باول شمتز على التلازم بين الإسلام والكفاح من أجل الحرية باشتراك طلبة وشيوخ الأزهر فى ثورة 1919 فى مصر، بل إنهم هم الذين كانوا قيادة هذه الثورة ووقودها، وكذلك عندما حاولت إنجلترا فرض الوصاية على العراق بجعل حقول البترول تحت سيطرتها، وقف رجال الدين مع ضباط الجيش العراقى السابقين فاندلعت ثورة مايو 1920 التى استمرت مشتعلة 6 أشهر، وسقط فيها ضحايا كثيرون، وأخيراً اضطرت بريطانيا إلى الاستسلام، وخرج العراق من الوصاية المباشرة لبريطانيا واستعاد حريته وسيادته على أرضه.
ويشير باول شمتز إلى دور العقيدة والشعور بالوحدة الإسلامية فى الكفاح المرير حول مسألة فلسطين، فقد كان العالم الإسلامى ظهيرا وسندا دائما للشعب الفلسطينى، ووقف المفكرون المسلمون ضد دعاوى بريطانيا والحركة الصهيونية، ولم يكن أحد فى بريطانيا- وقتذاك - يتصور أن المسلمين سيكون لهم هذا التأثير فى فلسطين. ولم يكن أحد فى الغرب يدرك أن العقيدة الإسلامية تدفع المسلم إلى التضحية بحياته دفاعا عن حرية بلاده. ولم يعرف الغربيون مدى تغلغل المبدأ الإسلامى: (من مات دون أرضه فهو شهيد، ومن مات دون ماله فهو شهيد).. وهكذا ارتبطت الأيديولوجية الوطنية بالأيديولوجية الدينية فى مواجهة الاستعمار والاحتلال والاستغلال من الغرب.
ويقرر باول شمتز أن الحركات الوطنية فى العالم الإسلامى أظهرت أن الإسلام ليس مجرد طقوس وعبادات، وأنه لا يعادى التطور وبناء الدولة الحديثة، وأنه ليس مرتبطا بالشكل البدائى للحياة التى كان عليها المسلمون منذ قرون كما روج ذلك كثير من مفكرى ومستشرقى الغرب، وكما شاع فى فترة انحطاط العالم الإسلامى.
ويرصد باول شمتز بعد ذلك بدء ظهور القومية العربية التى جمعت بين الدول العربية برباط اللغة والثقافة والتاريخ المشترك والدين، وعبأت الرأى العام فى الدول العربية نحو العداء للنفوذ الأجنبى، ورفض بعثات التبشير الأوروبية التى كانت طليعة الاستعمار الغربى. وهذا ما حدث فى كل الدول الإسلامية من مصر إلى شمال أفريقيا، وكذلك فى إيران التى قاد فيها علماء الدين الصراع ضد الاحتلال البريطانى دون اعتبار لتفوق القوات البريطانية فى السلاح. وحتى تركيا التى قاد فيها أتاتورك ثورة للتحديث وللقضاء على الدولة العثمانية، وفصلت بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، بقى الإسلام فيها قوة كامنة فى أعماق الشعب التركى إلى أن ظهر مرة أخرى متوافقا مع نزعة التحديث والتفاعل مع الغرب.
ويسجل باول شمتز أحداث التحول فى تركيا بفصل الدين عن الدولة فى نوفمبر 1922 بناء على فتوى دينية أعلن فيها رجال الدين الأتراك أن الدين للعبادة والحكم من شأن رجال السياسة على ألا يخرجوا على الدين، ولم يقع الخلاف بين السلطة ورجال الدين إلا عندما قام أتاتورك بطرد أسرة العثمانيين، وتحول الخلاف بمرور الأعوام إلى دعوة متطرفة من نظام الحكم للتحرر من الدين استخدمت فيها السلطة العنف ضد رجال الدين خاصة بعد اكتشاف مؤامرة لاغتيال كمال أتاتورك فى 15 يونيو 1926 واتهام عدد من رجال الدين بالاشتراك فيها، ولكن بقيت فى تركيا مراكز قوى ذات ثقل لدى الشعب حافظت على الدعوة إلى عودة الدين إلى مكانته الطبيعية.
ويعتبر باول شمتز أن اجتماع مئات الآلاف من المسلمين من جميع أنحاء العالم فى مكان واحد فى موسم الحج يخلعون عنهم كل خلاف سياسى ومذهبى ولا يذكرون إلا ما بينهم من رابطة الأخوة فى العقيدة يؤكد وحدة المسلمين.
ويرصد باول شمتز أيضاً موجة التجديد فى المجتمعات الإسلامية منذ انعقاد المؤتمر الإسلامى فى عام 1926 كبداية لانتزاع القوة العالمية للإسلام.
***
ويرى باول شمتز أن السلطة الدينية انفصلت عن السلطة السياسية الدنيوية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. فقد حكم الخلفاء دون أن يدعى أحد منهم أن له الحق فى القيام بما كان يقوم به النبى، ولكنهم مارسوا الحكم وتنظيم شئون الدولة، ورعاية المسلمين، وإمامتهم فى الصلاة، ويشرحون للناس تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يحاولوا الادعاء بأن لهم قداسة. أو أن فيهم صفات النبوة، أو أن لهم الحق فى أن يضيفوا أو ينقصوا فى الدين، فلم تكن لهم سوى السلطة الدنيوية وتنفيذ ما جاء فى الكتاب والسُنّة وما فيه مصلحة المسلمين فى شئون حياتهم، ولم تكن للخليفة سلطة روحية كتلك التى يتمتع بها بابا روما. بل كان الفقهاء يتمتعون بالاستقلال فى الفكر والفتوى عن الخلفاء والحكام فى الدولة الإسلامية. ولم يكن للخلفاء والحكام سلطة الإفتاء فى الدين بل كانت لهم سلطة الحكم وإدارة شئون الدولة بما لا يتعارض مع مبادئ الدين. وكان علماء الدين لا يتولون سلطة الحكم، والحكام لا يتولون سلطة استنباط الأحكام الدينية، ويصل باول شمتز من ذلك إلى أن الفصل بين الدين والدولة كان قائماً فى العالم الإسلامى منذ البداية، مع التزام الجميع بالأحكام والمبادئ الأساسية للإسلام.
***
ويسجل باول شمتز مظاهر التقدم الحضارى فى الدول الإسلامية بعد الحرب العالمية الأولى بإنشاء المدارس والجامعات، حتى أصبح خريجو بعض هذه الجامعات فى مستوى نظرائهم من خريجى جامعات أوروبا، وأسهموا فى التطور الاقتصادى والاجتماعى فى أوطانهم وتولوا الأعمال التى كانت وقفا على الأوروبيين، وتقدمت بعض الدول الإسلامية فى المجال العسكرى وبناء جيوش حديثة، وأصبح فى بعض الدول الإسلامية فائض من الخبراء والمثقفين يسهم فى بناء نهضة الدول الأخرى، وازداد التعاون الثقافى والعلمى بين البلاد الإسلامية، فأصبح أمرا شائعا عقد مؤتمرات دورية للأطباء والمعلمين والمهندسين ورجال الأعمال والخبراء فى الإدارة وفى مختلف المجالات الأخرى. ويشارك فيها ممثلون من الدول العربية والإسلامية، وفتحت فروع للبنوك العربية والإسلامية فى عدد من الدول الإسلامية دون عوائق، وأصبح تواجد الصحف ووصول الإذاعات وشبكات التليفزيون إلى أنحاء العالم الإسلامى عاملا من عوامل التقريب بين الشعوب الإسلامية. وازدادت الدعوة فى الدول العربية والإسلامية إلى الاعتماد على الذات والتصدى للأطماع الغربية، وكل ذلك يعنى أن العالم الإسلامى لم يعد لقمة سائغة للاستعمار الغربى كما كان فى الماضى.
***
لكن باول شمتز يرى أن ظاهرة نمو السكان فى العالم الإسلامى يمكن أن تؤثر فى ميزان القوى بين الشرق الإسلامى والغرب المسيحى. ويشير إلى الدراسات التى دلت على أن السكان فى العالم الإسلامى لديهم خصوبة بشرية تفوق ما لدى الشعوب الأوروبية، ومن الممكن أن يؤدى تزايد السكان إلى نقل السلطة وتحول ميزان القوة العالمية نحو العالم الإسلامى.. هذا فى الوقت الذى يعكف الباحثون فى أوروبا على دراسة ظاهرة الانخفاض المستمر فى عدد السكان وعدم نجاح وسائل التشجيع على زيادة النسل، ويرى أن القوة البشرية ستظل عاملا من أهم عوامل قوة الدولة.
ويضرب باول شمتز مثالا بمصر فيقول إن عدد سكانها عام 1937 كان 16 مليونا (وأصبح العدد 72 مليونا فى عام 2004) ويقول: مع استمرار زيادة السكان على هذا النحو فى مصر وثبات عدد السكان فى أوروبا سيأتى يوم تتمكن فيه مصر من استعمار العالم(!) (ولا?نحتاج إلى التنبيه إلى أن مثل هذه الحسابات تهدف غالبا إلى إثارة القلق فى الغرب من النمو السكانى والحضارى فى الدول الإسلامية) ولهذا فإن باول شمتز يمضى فى حسابات الزيادة السكانية فى فلسطين، وسوريا، والجزائر، والمغرب، والسودان، وسائر الدول الإسلامية بالأرقام ليصل إلى أن هذه القوة البشرية ستكون فى المستقبل عاملاً من عوامل القوة العالمية للإسلام والمسلمين، خاصة إذا أضيف إليها أن تفوق أوروبا فى التكنولوجيا لن يستمر مع اتجاه الشعوب الإسلامية إلى التعليم والبحث العلمى والأخذ بمناهج العلوم الحديثة، ومع دخول الدول الإسلامية فى مجالات الصناعة واستخدام المواد الخام التى كان يستغلها الغرب، ومزاحمة منتجات الدول الإسلامية للمنتجات الأوروبية شيئا فشيئا فى أسواق الدول العربية والإسلامية، وتفتح أذهان العالم العربى إلى أهمية البترول.. كل ذلك أدى إلى تغير ملحوظ، وبعد أن كانت الدول الإسلامية فقيرة ومتخلفة اقتصاديا وثقافيا، ولم يكن لها أهمية سوى موقعها الجغرافى، ووجود الثروات الطبيعية فى أرضها، أصبحت الدول الإسلامية على وعى بأهمية الاستفادة بثرواتها وإقامة صناعات بتروكيماوية وغيرها.. ولم تعد النظرية القديمة مؤكدة والتى كانت تقول إن سيطرة شركات البترول الكبرى وتسلطها فى العالم الإسلامى ستكون الضمان لتحويل الاستقلال السياسى للدول الإسلامية إلى مجرد واجهة تخفى وراءها استمرار الهيمنة بصورة أو بأخرى. وإذا استمر معدل التقدم فى الدول الإسلامية على ما هو عليه- دون أن ينتكس- فإن الدول الإسلامية سوف تخرج حتما من دائرة الوصاية الأوروبية فى وقت قريب. وإذا كان فى الغرب من يرى عكس ذلك ويقول إن هيمنة الغرب سوف تستمر مع اختلاف الشكل، حيث تكون الهيمنة الاقتصادية أساسًا للهيمنة السياسية. وهؤلاء يرون أن فى إمكان دول الغرب أن تشعل المنافسة بين الدول الإسلامية ذاتها لكى تنشغل بها عن الصراع مع الهيمنة الغربية، ويمكن أن يدعوها إلى الاستعانة بالقوى الغربية فى صراعها هذا مع (الأخوة فى العقيدة)، فإن مسار الأحداث يثبت عكس ذلك فى كثير من الأحيان.
***
ويضرب باول شمتز مثالاً للهيمنة الاقتصادية الغربية على دول العالم الإسلامى بسيطرة الدول الغربية على آبار البترول، ومثالاً آخر بتحويل مصر إلى مزرعة للقطن لسد احتياجات مصانع الغزل والنسيج فى بريطانيا. وكيف تحصل الدول المتقدمة فى الغرب على المواد الخام من الدول الإسلامية بثمن بخس، ثم تردها إليها بعد تصنيعها بأغلى الأسعار. فقد كانت الملابس المصنوعة من القطن- منذ زمن بعيد- أهم أنواع السلع التى تورد إلى بلاد الشرق الإسلامى. واحتلت إنجلترا المركز الأول فى تصدير ما تحتاج إليه هذه البلاد منها. وكانت فى المنطقة التى خلف ميناء ليفربول تقع مقاطعة لانكشير أكبر المراكز العالمية لصناعة القطن منذ نهاية القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وكانت مصانع لانكشير تستورد القطن الخام من غرب الهند، ثم فيما بعد بدأت تستورده من الولايات المتحدة فى منتصف القرن التاسع عشر. أى أنها كانت تعتمد على المواد الخام من مناطق ليست تحت سيطرة السلطة البريطانية مما سبب للصناعة فى لانكشير متاعب كثيرة خاصة عندما اندلعت الحرب الأهلية فى الولايات المتحدة فى ستينات القرن التاسع عشر فتأثرت زراعة القطن فتوقف تصديره، فأدى ذلك إلى توقف مصانع لانكشير، وعاشت هذه المنطقة بعمالها ورجال أعمالها أعواما صعبة من الجدب والفقر والبطالة. وهذا ما جعل بريطانيا تتجه إلى إدخال زراعة القطن فى المناطق الواقعة تحت نفوذها، خاصة بعد أن بدأت أمريكا نهضتها الصناعية بعد انتهاء الحرب الأهلية وأصبحت تستهلك إنتاجها من القطن لتغذية صناعاتها. هنا بدأت السياسة البريطانية فى الاعتماد على القطن من الهند، وإجبار الفلاحين فى مصر على التوسع فى زراعة القطن- على الأسس التى وضعها محمد على قبل ذلك بعشرات السنين- حتى صارت مصر أهم مركز لإنتاج أجود أنواع القطن، إلا أن هذه السياسة البريطانية جعلت مصر بلدا يعتمد على زراعة محصول واحد لصالح بلد واحد يتحكم فى الأسعار. ولم تستطع مصر إنتاج الطعام الذى يكفيها. ومما زاد من تبعيتها وفقدان استقلالها أن بريطانيا كانت تراقب المداخل والممرات ومنافذ الدخول للمواد التموينية المستوردة لكى تكون هى المصدر الوحيد لها. وأدخلت بريطانيا زراعة القطن فى مناطق أخرى خاضعة لنفوذها منها السودان، والعراق، والأناضول. كما قامت فرنسا بجهود مشابهة لتطوير زراعة القطن فى سوريا. ثم عملت ألمانيا أيضا على زيادة زراعة القطن فى إيران لتكون مصدرا لما تحتاج إليه الصناعة الألمانية. وتطورت زراعة القطن فى البلاد الإسلامية بمساعدة الخبراء الأوروبيين واحتلت مركزا اقتصاديا مهما، وأصبح إنتاج القطن مهما فى التجارة العالمية.
لكن صناعة القطن فى بريطانيا واجهت بعد ذلك مصاعب بسبب ظهور النزعة القومية للاستقلال الاقتصادى وبدء إقامة صناعات وطنية للغزل والنسيج فى الهند ومصر وغيرهما من الدول التى تعتمد عليها صناعة الغزل والنسيج فى لانكشير. وعانت بريطانيا من آثار نزعة الاستقلال الاقتصادى هذه؛ لأنها كانت تهدف إلى تحرير البلاد الإسلامية من التبعية للدول الغربية المتقدمة فى الصناعة، وإلى خلق فرص عمل لتحسين حياة الشعوب الإسلامية، وخفض أسعار السلع بتصنيعها فى أماكن إنتاج الخامات وتوفير تكلفة شحن الخامات إلى البلاد الصناعية وإعادة استيرادها بعد تصنيعها، وهذا ما دعا الدول الكبرى إلى إنشاء مصانع لها فى الدول الإسلامية للاحتفاظ بالسيطرة الاقتصادية وتأمين مصالحها التجارية. وحتى هذه السياسة واجهت مقاومة فى بعض دول العالم الإسلامى ومنها مصر على سبيل المثال. ففى عام 1937 أرادت شركة (Bred Dyers Association) بناء مصنع لها فى مصر لتصنيع القطن المصرى، للاستفادة من وجود الخام ورخص أجور الأيدى العاملة، ولكن مصر رفضت قيام مصانع أجنبية، وكان الرفض إجماعيا من الشعب والحكومة، لحماية شركات الغزل والنسيج المصرية الناشئة من المنافسة التى سيترتب عليها تهديد الصناعة الوطنية والاقتصاد القومى، وكان الدافع لرفض إقامة مصانع أجنبية فى مصر أن المصريين رأوا أنها ستؤدى إلى التأثير على الإرادة الوطنية الداعية إلى تصنيع البلاد. وكانت النتيجة أن تقدمت صناعة الغزل والنسيج فى مصر وازداد عدد العاملين فيها سنة بعد أخرى، وبدأ الإنتاج المصرى يكتسب شهرة عالمية.
***
وما حدث فى مصر حدث فى دول إسلامية أخرى، ففى تركيا صدر قانون رعاية الصناعة عام 1929 وتضمن تقديم دعم مالى كبير من الدولة للقطاع الخاص، وأدى ذلك إلى زيادة عدد الشركات الصناعية فى الفترة من 1929 إلى عام 1936 وتضاعف عدد الشركات ثلاث مرات فى هذه الفترة القصيرة. كذلك قامت الدولة بإجراء مسح شامل للأراضى بحثا عن الثروات المعدنية والمواد الخام، وأنشأت أكبر بنك فى تركيا لتمويل شركات البحث عن المعادن، وأصدرت قانونا لحماية الثروة المعدنية من الاستغلال الأجنبى، وكانت النتيجة اكتشاف أغنى مناطق الحديد فى العالم فى تركيا. كما بدأت تركيا تنفيذ خطة فى عام 1934 لخمس سنوات لإقامة صناعات النسيج، والتعدين، والورق، والحرير الصناعى، والزجاج، والصناعات الكيماوية، واشترطت أن يكون العمال كلهم من الأتراك. وبعدها نفذت خطة خمسية ثانية شملت صناعات تكرير البترول واستكمال بناء هيكل التصنيع، واستفادت بقرض من روسيا فى صورة آلات للمصانع سددت قيمته بعد 20 عاما. وساعد على الإٍسراع فى تنفيـذ الخطتـين مساهمة بنك تركيا (S’umerbank) فى التمويل، وحصول?المصانع الجديدة على دعم من الدولة، وكانت الخطة الخمسية الثانية بداية لإنشاء الصناعات الثقيلة فى تركيا من أجل تلبية احتياجات الدولة فى حالة الحرب.
وهذا أيضاً ما تكرر فى إيران. وقد كانت سلطة الحكومة فى دفع عملية التصنيع أقوى مما حدث فى تركيا، فقد بدأت إقامة صناعات بترولية بتمويل من عائدات بيع البترول. واعتمدت الصناعة على المواد الخام المحلية. وتوسعت صناعات القطن والسكر. وقد أسست الحكومة الإيرانية البنك الزراعى الصناعى فى عام 1933 لتنفيذ مشروعات التصنيع، وركزت على البحث عن المعادن، وتم اكتشاف أنواع جيدة جدا من الحديد والنحاس.
وهكذا صاحبت اليقظة الدينية فى العالم الإسلامى نهضة اقتصادية وعمل كبير لتحقيق الاستغلال الكامل سياسيا واقتصاديا، وهذا ما أدى إلى انزعاج دول الغرب وتحول استراتيجيتها للسيطرة على العالم الإسلامى بأساليب جديدة مختلفة عن الأساليب التقليدية القديمة.
***
ويسجل باول شمتز أن مصر سبقت كل دول المنطقة فى مجال الصناعة، بهدف إنشـاء صناعـات وطنية تدعم استقلال الدولة وتستوعب الزيادة فى السكان، وقام بنك مصر بدور كبير فى إنشاء صناعات متعددة وتمويل الصناعات التى يقيمها القطاع الخاص، وساعد ذلك على قيام صناعات وورش كثيرة. وبعد ذلك أنشأت مصر بنك الصناعة، وسيطر على سياسة الحكومة الشعور القومى لذلك صاحب ذلك إجراءات لحماية المنتجات الوطنية. وفى أوائل عام 1937 أعلن وزير المالية المصرى أمام البرلمان أن الحكومة قررت إنشاء مصانع لتصنيع الأسلحة لتغطية احتياجات الجيش المصرى، وأنها قررت الاستعانة جزئيا بالشركة البريطانية Imperial Chemicak Industrty. وبدأت الحكومة أيضا فى إجراء مسح شامل للأراضى اكتشف من خلاله أن مصر غنية بالمعادن المختلفة، منها البترول، والزنك، والمنجنيز، وعرق الذهب، وفى عام 1937 أنشأت مصر سد أسوان وقناطر أسيوط لاستخدام مساقط المياه فى النيل فى توليد الكهرباء لخدمة حركة التصنيع.
ونشطت حركة التصنيع أيضا فى دول إسلامية أخرى. ففى العراق قامت صناعات بتمويل من الدولة.
والخلاصة- كما يقول باول شمتز- فإن موجة التصنيع انتشرت فى العالم الإسلامى، وكانت مصاحبة لمواجهة السعى إلى الاستقلال والتحرر من الاستعمار والتبعية للغرب. وفهم الغرب من ذلك أن العالم الإسلامى بدأ يستيقظ ويكتسب عوامل القوة، وأدرك أن عقيدة الإسلام سوف يرتفع صوتها.
ونخلص نحن من ذلك، مما لم يقله باول شمتز، أن موجة العداء للإسلام فى الغرب لها أسباب عديدة من بينها هذه اليقظة والنزعة للاستقلال مما يهدد الغرب فى مصادر ثروته وقوته: البترول، والأسواق، والموقع، وهى العوامل التى اعتمد عليها الغرب فى بناء ثروته وسيطرته على العالم، ولهذا فلن تسمح دول الغرب للدول الإسلامية بأن تصل إلى درجة من التقدم العلمى والصناعى والحضارى يقارب ما وصل إليه الغرب، ووسائل الغرب لتحقيق ذلك كثيرة أولها: عقيدة حتمية الصراع مع الإسلام باعتباره الطاقة الروحية الكبرى المحركة للمسلمين وتدفعهم إلى اكتساب القوة والعزة ورفض الخضوع لأية قوة أجنبية. ومن هنا ظهرت نظرية الغرب أن الإسلام هو العدو.
***
ويستمر باول شمتز فى بحث العلاقة بين الإسلام والقوى العظمى، ويبدأ بروسيا لأنها فى البداية كانت معادية للإسلام وللأديان عموما وفقا للنظرية الماركسية المادية التى تنكر وجود الله، وتقول إن الدين أفيون الشعوب، لكنها أدركت دور الإسلام فى الصراع مع الاستعمار الغربى فسرعان ما غيرت موقفها الأيديولوجى، وأصدرت بيانا للمسلمين فى 24 نوفمبر 1917- بعد 6 أسابيع فقط من قيام الثورة الشيوعية- وجهت فيه نداءات للتحريض ضد الدخلاء الأجانب والاستعمار الغربى فى العالم الإسلامى، وتضمن البيان نداء إلى المسلمين فى روسيا جاء فيه: (لقد سقطت ممالك المغتصبين الرأسماليين، وإن الأرض تغلى تحت أقدام المعتدين الاستعماريين. يا مسلمى روسيا. يا من خربت مساجدكم، نعلن لكم أن عقائدكم الدينية وشعائركم ومنشآتكم الحضارية والقومية ستصبح ابتداء من اليوم مصونة، ولن تمتد إليها يد آثمة. سوف تتمتعون بجو من الحرية وهذا حقكم).
وكان داخل حدود روسيا فى ذلك الوقت 20 مليون مسلم. وبعد ذلك وجهت الثورة البلشفية نداء إلى المسلمين خارج روسيا جاء فيه: (يا مسلمى الشرق: يا إيرانيون. يا?أتراك. يا عرب. يا من قام المغتصبون الاستعماريون باستغلال ثرواتكم والاعتداء على حرياتكم وأوطانكم وقسموا بلادكم، وأشعلوا الحرب العالمية، إن الجمهورية الروسية ترفض الغزو المسلح لأراضى دولة أجنبية، وستسحب القوات الروسية فورا من إيران، وإن معاهدتى تقسيم تركيا واغتصاب أرمينيا لم يعد لهما وجود. وكان هدف الشيوعيين عقد تحالف مع المسلمين لمقاومة الغرب الرأسمالى الاستعمارى. وفى يناير 1918 أنشأت حكومة روسيا الجديدة (لجنة إسلامية مركزية) لتتولى شئون المسلمين فى روسيا، ثم فى أرمينيا، وعقدت هذه اللجنة مؤتمرا فى ديسمبر 1918 بهدف إنشاء خلايا شيوعية فى الدول الإسلامية، وتكونت خلال هذا المؤتمر (رابطة تحرير الشرق) وتأسست فعلا فى عام 1920 مدرسة عليا فى طشقند لتدريب الكوادر الشيوعية وتعليمهم لغات الدول الإسلامية، وأصبحوا مندوبين للحزب الشيوعى للتحريض على الثورة ضد الاستعمار الغربى ونشر الشيوعية. وفى عام 1920 نظمت الحكومة الروسية مؤتمرا فى (باكو) ووجهت الدعوة إلى 2500 من بلاد العالم الإسلامى وحضر منهم 1800، لأن بريطانيا منعت المدعوين من الهند وإيران والعراق وغيرها، وانقسم الحاضرون إلى فريقين: فريق يرى أن الثورة ضد الاستعمار هى مرحلة تؤدى إلى الثورة الاشتراكية فى الدول الإسلامية، وفريق يرى أن مساندة روسيا للثورات الوطنية وحركات التحرير ضرورية، أما مسألة التحول إلى الشيوعية بعد ذلك فهى مرفوضة للتعارض الجوهرى بين الإسلام والفلسفة الماركسية المادية. ورفض معظم المشاركين ما كان مطروحا فى المؤتمر من الربط بين الإسلام والشيوعية واعتبارهما وجهين لعملة واحدة. كما قيل. ورفضوا التحليل الذى كان معدا لهم بأن الإسلام يدعو إلى المساواة وإلغاء الفوارق بين الطبقات وفقًا للنظرية الماركسية ولذلك فإنه يتفق مع الفكر الشيوعى، وهذا ما يجعلهما شيئا واحدا. وكان هذا الرفض هو الذى أعاق انتشار الفكر الماركسى فى البلاد الإسلامية، لأن الفكر الاجتماعى، والمساواة، والعدالة الاجتماعية فى الإسلام قائمة على أساس عقائدى مختلف عن الأساس الذى قامت عليه النظرية الشيوعية.
***
وساعدت روسيا شعب أفغانستان على مقاومة الاحتلال البريطانى فيها وكانت أفغانستان تحت الوصاية البريطانية- وأسست (حركة الاستقلال الوطنى الأفغانية) وتم اغتيال الأمير حبيب الله حاكم أفغانستان عميل الإنجليز، وتولى شقيقه الحكم وكان مواليا لروسيا فتدفقت الأسلحة الروسية إلى أفغانستان، واضطرت بريطانيا تحت ضغط المقاومة المسلحة إلى التنازل عن تمثيل أفغانستان فى السياسة الخارجية، ثم وافقت على قيام (المملكة الأفغانية) ومنحها الاستقلال فى شئونها الداخلية والخارجية، ووقعت فى نوفمبر 1921 معاهدة فى كابول بإنهاء الوصاية البريطانية على أفغانستان. وسارعت روسيا بالاعتراف باستقلال أفغانستان، وتوطدت بعد ذلك الصداقة الروسية الأفغانية إلى أن وقعت أفغانستان معاهدة تحالف مع روسيا فى فبراير 1921، ونصت على التزام الطرفين بعدم عقد معاهدة مع طرف ثالث يمكن أن تضر بمصالح الآخر، وأعطت هذه المعاهدة روسيا الحق فى إنشاء خمس قنصليات فى مدن أفغانستان، بالإضافة إلى السفارة الروسية فى العاصمة كابول، وتعهدت روسيا بتقديم مساعدة مالية لأفغانستان قيمتها مليون روبل من الذهب سنويا، وهو ما يوازى المساعدة التى كانت تقدمها بريطانيا للأمير السابق. وفيما يتعلق بالمنازعات على الحدود تنازلت روسيا عن مناطق الحدود التى ضمتها أفغانستان من أراضى بخارى، وروسيا، وفى مقابل ذلك التزمت أفغانستان بأن توجه خطوط مواصلاتها، عبر روسيا فى الشمال وليس عبر الهند كما كان من قبل.
كل ذلك ولم تحقق روسيا هدفها الحقيقى وهو تحويل أفغانستان، أو تركيا، أو إيران، أو مصر، أو أية دولة إسلامية لتصبح دولة شيوعية تطبق الماركسية اللينينية. ذلك لأن الإسلام كان هو السياج الذى حمى هذه البلاد من الشيوعية، ولم تحقق روسيا سوى إنشاء خلايا شيوعية سرية محدودة لم تؤثر فى الحياة السياسية أو فى العقيدة فى العالم الإسلامى.
وفى سياق استعراض علاقة القوى الكبرى بالعالم الإسلامى فإن بريطانيا كان لها دور كبير فى تخلف العالم الإسلامى باحتلالها لعدد من الدول المهمة مثل مصر والعراق ودول الخليج، كما كان للاحتلال الفرنسى دور فى تخلف دول إسلامية مثل الجزائر وسوريا ولبنان. وقد أدى الاحتلال إلى ترسيخ العداء من الجانب الإسلامى للغرب باعتباره قوة استعمارية هدفها استغلال الدول الإسلامية والسيطرة على مقدراتها، وهذا ما أدى إلى قيام الثورات الشعبية ضد الاحتلال. وبعد سنوات من النضال سقط فيها ملايين الشهداء اضطرت القوى الاستعمارية إلى أن تتراجع عن مخططاتها القديمة، وتحولت من الاحتلال العسكرى إلى السيطرة الاقتصادية واستنزاف الثروات بطرق مختلفة من الدول الإسلامية. وفى كل الثورات كان الإسلام هو العامل الأساسى الذى أيقظ فى الشعوب الرغبة فى الاستقلال والحرية. وهذا ما حدث أيضا فى إيران التى انتفض شعبها بالثورة على الاحتلال البريطانى.
ولقد كان العالم الإسلامى ميدانا من أهم ميادين الحرب الباردة بين الكتلتين السوفيتية والغربية، وظل السباق مستمرا بين الكتلتين للسيطرة على الدول الإسلامية إلى حين انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى.
ومن الطريف أن الدول الغربية التى أرسلت جيوشها لغزو الدول الإسلامية واحتلالها، كانت تدعى أنها تحترم الإسلام وتسعى إلى حمايته، ومن أمثلة ذلك ما فعله نابليون حين قاد جيوشه واحتل مصر واقتحم جنوده المساجد بالخيول والأحذية، فقد أصدر نابليون بيانات يدعى فيها أنه يحترم الإسلام ويؤمن به. والأكثر من ذلك أن بعض قادة جيش الاحتلال الفرنسى أعلنوا إسلامهم وتزوج أحدهم وهو الجنرال مينو من سيدة مسلمة من رشيد اسمها زبيدة، وأسمى نفسه عبد الله مينو، لكن ذلك لم يخدع الشعب المصرى ولم يقلل من ثورته على الاحتلال والمحتلين.
***
وعندما قام موسولينى برحلته إلى ليبيا عام 1933 ليتفقد قوات الاحتلال الإيطالى فيها، حاول أن يكسب الإسلام إلى جانبه فأعلن فى تصريحاته العلنية بأنه صديق للإسلام والمدافع عنه، وكان ذلك أشبه بما فعله القيصر ويلهالم الثانى فى عام 1898 إذ أعلن هو الآخر أنه حامى حمى الإسلام، وبعد الاثنين زار المندوب السامى البريطانى السابق فى مصر اللورد لويد أحد المساجد فى لندن وألقى فيه خطبة أشاد فيها بمكانة الإسلام بين القوى العالمية وأهمية أن تعود القوة إلى الإسلام والمسلمين مرة أخرى، وكان مما قاله اللورد لويد: (أعتقد أن الإمبراطورية لا يمكنها البقاء دون حماية كاملة من المسلمين فى جميع أنحاء العالم. وفى اعتقادى أن الإسلام بإمكاناته الروحية قوة من القوى السياسية فى العالم، وسوف أعمل كل ما أستطيع لتوجيه بريطانيا نحو إنشاء علاقات ود وصداقة مع الإسلام ومع المسلمين فى كل مكان من العالم).
قبل ذلك، حين كان اللورد لويد ممثلا للاحتلال ويحتل منصب المندوب السامى البريطانى فى مصر كان مثالا للقسوة والفظاظة فى تعامله مع المصريين، أدت إلى وقوع خلافات حادة بينه وبين الوطنيين المصريين مما اضطر الحكومة البريطانية إلى استدعائه وتعيين آخر مكانه، ولهذا اعتبر البعض أن ما قاله فى خطبته فى مسجد لندن مفاجأة لم يتوقعها أحد، خاصة وهو أحد الأعضاء المتشددين فى الجناح اليمينى لحزب المحافظين، لكن المصريين لم يبتلعوا الطعم، وكان رد فعل الصحافة المصرية رفضا لهذا الموقف المراوغ لأن عداءه للإسلام والمسلمين كان معروفا جيدا لكل المصريين، ولم يخرج عن ذلك رد الفعل فى بقية الدول الإسلامية. وفسر المصريون التغيير فى موقف اللورد لويد إلى إحساس البريطانيين بالأخطار التى تهدد وجود قوات الاحتلال البريطانية فى الدول الإسلامية، وإلى انزعاج الغرب من نشاط اليابان فى ذلك الوقت واهتمامها بالإسلام، وصاحب ذلك تنامى القوة الذاتية فى عدد من الدول الإسلامية ومنها مصر. ونشرت إحدى الصحف المصرية تعليقًا قالت فيه: (إن الصداقة بين دولة الاحتلال والشعوب الإسلامية الواقعة تحت الاحتلال لا تخرج عن أن تكون علاقة بين السيد والخادم، أو بين القوى والضعيف، مقصود بها خضوع أحد الطرفين للآخر، ولن يقبل المسلمون صداقة بهذا المعنى. وقالت إن من الأخطاء الجسيمة أن يعتقد الغرب أن الشرق الإسلامى راضٍ بوضعه الحالى وأن ملايين المسلمين سوف يحنون رؤوسهم أمام تفوق قوى الغرب المادية، فهذا الانحناء مؤقت، وسيأتى وقت يصبح فيه المسلمون قادرين على طرد الاستعمار الأجنبى، فإذا تحدث الغرب اليوم عن الصداقة فيجب أن يقبل صيغة أخرى مخالفة لما يريده الغرب، وأن يقدم أدلة مقبولة على طى صفحة الاستعمار وفتح صفحة جديدة قائمة على الاحترام قبل أن ينتظر موافقة المسلمين على هذه الصداقة).
وهكذا كانت تعليقات الصحافة المصرية، ويعلق على ذلك باول شمتز قائلا: إنها تدل على طابع تفكير المسلمين فى تلك الفترة، ويشير إلى أن العالم الإسلامى يتأهب للوثوب والنضال، وإن الشعور بالنقص الذى تولد فى نفوس المسلمين نتيجة للهزيمة العسكرية والسياسية قد انتهى وحلت مكانه إرادة للبناء وعدم التفريط فى شىء للمستعمر.
***
ويستشهد باول شمتز على اليقظة الإسلامية بما حدث فى وسط أفريقيا التى كانت ساحة النضال بين الإسلام والغرب، حيث أحاطت بعثات التبشير المسيحية الغربية بسكان هذه المناطق، ومع ذلك فإن الزحف الروحى الإسلامى امتد وضاعت جهود المبشرين، وانتشر الإسلام لبساطته وتناوله لأمور الدين والدنيا معا، وهذا ما أثار مخاوف الغرب من أن يكتب الفشل النهائى للبعثات التبشيرية، وخاصة أن انتشار الإسلام كان يصاحبه انتشار روح المقاومة للاستعمار الأجنبى وإيقاظ حركات التحرر الوطنى والاجتماعى.
***
ويرى باول شمتز أن مأساة الحرب العالمية الأولى هزت أوروبا من الأعماق وأدركت بعدها مدى الخسارة التى تكبدتها بسبب هذه الحرب فى الشرق الإسلامى، ولذلك بدأت فى إعادة تكوين الجبهة الأوروبية الداخلية من جديد حتى تستعيد قدرتها على التحكم فى توجيه مجرى التاريخ. كما بدأت أيضاً فى تعويض ما فقدته كقوة سياسية وثقافية، لها دور أساسى فى السياسة العالمية، ومن هنا ظهرت فكرة الوحدة الأوروبية، وكان ظهورها بعد نشأة فكرة الوحدة الإسلامية، ومع ذلك فقد سارت الوحدة الأوروبية نحو هدفها خطوة بعد خطوة دون أن تفقد مسارها على مدى السنين، بينما تراجعت فكرة الوحدة الإسلامية. وإن كانت الوحدة الأوروبية لم تتم على أساس وحدة العقيدة الدينية، أو وحدة اللغة، أو الأصل العرقى الواحد، إذ بين الدول الأوروبية خلافات واختلافات كثيرة، ولكنها قامت على أساس الوحدة الجغرافية ووحدة المصالح الاقتصادية والسياسية.
ويرصد باول شمتز ظاهرة قد تخفى عن كثير من الباحثين، وهى خوف أوروبا من الشعوب الأفريقية والآسيوية، وتزايدهم السكانى الذى يمكن أن يصبح عاملاً من عوامل القوة إذا أحسنوا توجيهها فى بلادهم وكذلك الخوف من هجرة الأفريقيين والآسيويين والمسلمين إلى أوروبا، فإن مجرد وضع أقدامهم فى الدول الأوروبية يمكن أن يؤدى مع الزمن إلى تغيير الطبيعة السكانية فى هذه الدول وتغيير الطابع الحضارى والثقافى المميز لها، ونشوب صراع بين القيم الأوروبية والقيم التى يعمل هؤلاء المهاجرون على غرسها فى المجتمع الأوروبى.
وفى نفس الوقت فإن باول شمتز يلاحظ أن العالم الإسلامى يستعيد الثقة بالنفس، وتزداد طموحاته لتعويض سنوات التخلف، وهذا ما جعل بعض المفكرين فى الغرب يتنبأون بدورة جديدة للتاريخ يمكن أن يعود فيها العالم الإسلامى إلى سابق عهده حين كان قوة سياسية وعسكرية وثقافية فى مواجهة الغرب. ويتحدث باول شمتز عن المستقبل كما يراه فيقول: إن قوة العالم الإسلامى سوف تثبت وجودها إذا أدرك المسلمون كيفية استعادتها والاستفادة بها، وحين يحدث ذلك فسوف تنقلب موازين القوى فى العالم. وقد أدرك المفكر البريطانى(هيلير بيلوك) (Hilaire Belloc) مدى فاعلية هذه القوة حين قال: (لا يساورنى شك فى أن الحضارة التى ترتبط أجزاؤها، وتتماسك أجزاؤها، وتحمل فى داخلها قوة عقيدة مثل الإسلام، ستكون خطرا على أعدائها، وربما يقال إن العالم الإسلامى فقد الكثير من عوامل القوة وأهمها العلم، والتكنولوجيا، وصناعات السلاح الحديثة، وهذا صحيح، وهو أمر يثير الحيرة، لأن العالم الإسلامى قادر على تعويض ما فاته، ولديه قدرات بشرية وثروات طبيعية، وعقلية المسلمين لا تعجز عن التفوق فى العلوم الطبيعية والهندسية وغيرها بدلاً من أن يظل تفوق المسلمين فى العلوم اللغوية وتفسير النصوص فقط. وعموما فليس من المستحيل أن يستعيد العالم الإسلامى تفوقه العلمى والمادى، ولكن سيكون من الصعب على العالم الغربى أن يستعيد الطاقة الروحية التى فقدها وأصبح غارقا فى عبادة المادة).
ويعلق باول شمتز على المفكر البريطانى (هيلير بيلوك) فيقول: يبدو أن ما يقوله هذا المفكر عن استعادة العالم الإسلامى سوف يتحقق يوما ما ولن يكون هذا اليوم بعيدا جدا، فقد بدأت بعض الدول الإسلامية فى بناء هيكل سياسى ونهضة علمية وهما أهم عناصر القوة بالإضافة إلى الموقع الاستراتيجى. وكلما سار العالم الإسلامى على هذا الطريق أصبح قادرا على التعامل مع القوى العظمى فى العالم دون تردد، ودون شعور بالنقص، ودون خوف مما لدى دول الغرب من قوة تضمن له فى هذه المرحلة تفوقه الاستراتيجى.
***
والغريب أن باول شمتز بعد كل هذا التفهم والتعاطف مع العالم الإسلامى، وبعد رؤيته المتفائلة لمستقبله وقدرته على استعادة القوة والتعامل مع القوى الكبرى على أساس جديد تنتهى معه سنوات التبعية والاستغلال، فإنه يوجه نداء إلى الدول الغربية قائلاً: إن انتفاضة العالم الإسلامى صوت نذير لأوروبا، ولا بد لها من التجمع والاستعداد لمواجهة هذا العملاق الإسلامى الذى بدأ يصحو وينفض النوم عن عينيه!
وهذا يعنى أن بعض المدافعين عن الإسلام بحرارة لا يستطيعون إخفاء مشاعر الخوف من أن يعود العالم الإسلامى إلى عصور ازدهاره، ويدخل كشريك فاعل مع القوى الكبرى فى التقدم الحضارى وفى توجيه السياسة العالمية وفق معادلة جديدة لا يكون فيها طرف قوى غالب وطرف ضعيف مغلوب.
وأعتقد أن هذا النداء الذى وجّهه هذا المفكر الألمانى إلى الغرب هو فى ذات الوقت نداء إلى العالم الإسلامى يدعو إلى اليقظة، والحذر، والعمل، والتماسك، ويجب أن تستوعب مغزاه العقول.
ومع ذلك فإن شمتز يناقش بموضوعية النظرية التى يرددها بعض مفكرى الغرب التى تقول إن الإسلام لا يتقبل نظم الحكم الديمقراطية، وأنه حين يأمر المسلمين بإطاعة الله والرسول وإطاعة أولى الأمر فإنه يفرض عليهم الطاعة لله وللحاكم، ويسوى بين طاعة الله ورسوله وطاعة الحاكم وهذا المفهوم لا يتفق مع مفهوم الديمقراطية الذى يجعل السلطة للشعوب، هى التى تختار الحاكم بالانتخاب المباشر، وتختار ممثليها فى البرلمان الذين يتولون سلطة التشريع وتوجيه ومحاسبة الحاكم، ويرد على ذلك بأن الإسلام يتوافق مع نظم الحكم فى كل عصر، وعندما كان الحكم للخلفاء الراشدين كان اختيارهم بصورة من صور الانتخاب الحر المباشر وكانوا يسمونها (البيعة) وكان للشعب سلطة الرقابة ومحاسبة الحكام، والدليل على ذلك ما قاله الخليفة عمر بن الخطاب للناس: إن رأيتم فىّ اعوجاجا فقوّمونى فوقف رجل من عامة الناس وقال له: (لو رأينا فيك اعوجاجا لقوّمناك بسيوفنا يا عمر) ولم يغضب عمر، ولم يعاقب الرجل على جرأته، ولكن قال: الحمد لله الذى جعل فيكم من يقوّم عمر بسيفه?(!). هذا الموقف يجسد نموذجا للديمقراطية لا نجده فى تاريخ الدول الغربية فى أى عصر من العصور القديمة أو الحديثة. وهو دليل على أن الإسلام سبق إلى تطبيق الديمقراطية وإن لم يكن يستخدم هذا اللفظ الذى لم يدخل فى القاموس السياسى إلا فى العصر الحديث.
والدليل على رفض الإسلام لاستبداد الحكام ظهور الحركات الوطنية مثل حزب القوميين الأتراك (تركيا الفتاة) والقوميين المصريين (مصر الفتاة) وأمثالهما واشتداد المقاومة ضد الباب العالى وإنهاء الحقبة التاريخية التى كانت فيها الخلافة العثمانية تحكم وتدعى أنها تحكم باسم الإسلام، وأن الخارج على سلطتها خارج على الإسلام، وبهذه الثورات الشعبية انتهى عصر الاستبداد والحكم المطلق للدولة العثمانية، وبدأ تنفيذ سياسات للإصلاح فى الدول الإسلامية للحد من سلطة استبداد الحكام وإنهاء نظم الحكم التى تضفى على نفسها ثوبا إلهيا، وظهرت مكانها نظم أقرب إلى الديمقراطية تعطى للشعوب حق ممارسة السلطة، وأخذت بعض الدول الإسلامية نموذج الديمقراطية الغربية دون أن ترى فيه ما يتعارض مع مبادئ وجوهر الدين الإسلامى، ومع مشاركة الشعوب فى الحكم وتقرير مصير بلادها شاركت فى الدفاع عن حرية بلادها ومقاومة الاستعمار والنفوذ الأجنبى، وأخذت حركات التحرر فى الدول الإسلامية بكثير من فكر الغرب. ولا شك أن تطبيق نظم التعليم وبناء الجيوش والمدن وغيرها من أوجه الحياة وفقا للنظم الغربية قد ساعد على تقدم العالم الإسلامى وانفتاحه على العالم بحيث اقتربت بعض الدول الإسلامية من الدرجة التى وصلت إليها بعض الدول الأوروبية. ولقد تنبه غالبية المسلمين إلى أن الإسلام ليس طقوسا للعبادة فقط، وأنه فى حقيقته روح تدفع المؤمنين به للعمل والتقدم ومسايرة حركة التطور والتجديد العالمية، وهذا ما بلوره بعد ذلك الزعيم مصطفى كامل، والمفكر الإسلامى المجدد جمال الدين الأفغانى، والإمام محمد عبده، وامتدت جذور هذه النهضة بعد ذلك فأثمرت العديد من المفكرين المجددين فى العالم الإسلامى من أمثال محمد إقبال مؤسس دولة باكستان الحديثة.
وإذا كان فى الغرب من يرى أن الإسلام يرفض الديمقراطية والتطور والحداثة، فإن من بين المسلمين من يردد ذلك وإن كانوا قلة، ولكن فى الغرب مفكرين يرون أن الإسلام قوة للتقدم وليست للتخلف، ودعوة للقوة وليس للتخاذل والضعف، ودافعا للتقدم للأمام وليس للتراجع للخلف. والمبدأ الإسلامى أن المؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف، فالإسلام فى جوهره دعوة للقوة بكل عناصرها ومقوماتها وأدواتها، والقول بغير ذلك جهل بالإسلام وإساءة إليه.