بوتين فى القاهرة ..صـديق نطمئن إليه
لم تحظ زيارة رئيس دولة لمصر بمشاعر ترحيب شعبية من القلب بمثل ما حظيت به زيارة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، لم يكن الترحيب رسميا فقط لأن الشعب المصرى يعرف الوفاء ويقدر قيمة المساعدات التى قدمها الاتحاد السوفيتى فى إقامة الصناعات المصرية، وبناء السد العالى، وتسليح القوات المسلحة وتدريبها، لقد كان الاتحاد السوفيتى الصديق الذى مد لنا يد المساعدة فى كل المواقف التى اشتدت فيها حاجتنا إلى المساعدة، وقدم كل شىء دون شروط أو ضغوط ودون تدخل فى سياستنا الداخلية.
وسيظل السد العالى شاهدا على دور الاتحاد السوفيتى كصديق حقيقى أمكن لنا الاعتماد عليه، حين تخلى عنا الآخرون، وصدق فى وعوده معنا، وشارك معنا فى الإعداد لمعارك التحرير الكبرى فى الوطن العربى وفى أفريقيا، وكان وجوده سندا للشعوب الساعية إلى الحرية والاستقلال والرافضة للاستعمار والتبعية.
ومنذ أربعين عاما لم يزر مصر رئيس سوفيتى أو روسى، وكانت آخر زيارة لمصر هى التى قام بها الرئيس السوفيتى الراحل نيكتيا خروشوف عام 1964، وكذلك فإن زيارة الرئيس بوتين هى الزيارة الأولى لرئيس سوفيتى أو روسى لإسرائيل وللأراضى الفلسطينية يلتقى خلالها بشارون ومحمود عباس، ويسعى فى هذه الجولة إلى القيام بدور أكبر لروسيا فى دفع عملية السلام باعتبارها عضوا فى الرباعية المسئولة عن متابعة تنفيذ خريطة الطريق، بالرغم من وجود توتر تختلقه حكومة إسرائيل بسبب مواصلة روسيا لدعم برنامج إيران النووى السلمى، وإعلان روسيا عن تقديم صواريخ دفاعية لسوريا حتى لا يتكرر عليها العدوان الإسرائيلى حين اخترقت طائرة حربية إسرائيلية سماء دمشق، وحين تسللت طائرة أخرى قامت باغتيال أحد قادة الفصائل الفلسطينية، وقد سبق الزيارة بتصريح قال فيه: إن هذه الصواريخ لن تهدد إسرائيل، ولكنها ستجعل من الصعب على الطائرات الإسرائيلية أن تحلق على ارتفاع منخفض داخل دمشق.
وروسيا فى هذه المرحلة بدأت فى استعادة دورها ومكانتها فى الساحة الدولية بعد أن تجاوزت مرحلة الانهيار الاقتصادى التى أعقبت تفكيك الاتحاد السوفيتى وإجراءات التحول السريعة غير المخططة فى عهد جورباتشوف ويلتسين، الآن تسير روسيا على طريق التنمية وتصحيح الأخطاء الفادحة التى ارتكبها الرئيسان السابقان وتتحول إلى اقتصاد السوق بهدوء وعلى مراحل، وتعطى للقطاع الخاص مساحة واسعة دون أن تتخلى الدولة عن دورها فى قيادة عملية التنمية والإصلاح ومحاربة الفساد. وبفضل السياسات التى يتبعها الرئيس بوتين أمكن السيطرة على التضخم وعجز الميزانية وتراجع عائدات الزراعة والصناعة، وأمكن السيطرة على معدلات البطالة، ومن يزر روسيا الآن يجدها مختلفة تماما عما كانت عليه فى ظل قيادة يلتسين.. ومن يدخل الكرملين يشعر أن الرئيس بوتين يستعيد مكانة روسيا القيصرية القوية وتاريخها العريض، ويعيد إلى الشعب الروسى الاعتزاز الوطنى والثقة بالنفس.. وباختصار فإن روسيا فى عهد بوتين تتقدم بسرعة ولن تمضى سوى سنوات قليلة حتى تصبح مرة أخرى قوة عظمى مؤثرة فى السياسة العالمية.
والعلاقة بين مصر وروسيا علاقة تاريخية بمعنى الكلمة،والشعب المصرى يحمل مشاعر التقدير لكل ما قدمته روسيا، ومنذ سنة 2001 والرئيسان مبارك وبوتين يعملان معا على تنفيذ برنامج طويل الأجل لتنمية التجارة والتعامل الاقتصادى والصناعى والعلمى والتكنولوجى بين البلدين، وبينهما تفاهم على ضرورة إقامة نظام دولى متعدد الأقطاب يتميز باحترام دور الأمم المتحدة كما يتميز بالديمقراطية فى العلاقات الدولية، ويقوم على الاحترام لسيادة كل دولة من دول العالم، كما يقوم على رفض الهيمنة والاستغلال بأية صورة، وبينهما اتفاق على ضرورة انهاء الصراع العربى الإسرائيلى على أسس عادلة تعيد الحقوق لأصحابها مما يعنى إقامة سلام قابل للاستمرار.
وفى هذه الزيارة حرص الرئيس بوتين على تأكيد اهتمامه بزيادة حجم التبادل التجارى والاقتصادى والفنى مع مصر، والتأكيد على أن روسيا تعتبر مصر عضوا مؤثرا ورئيسيا فى المجتمع الدولى، ومن هذا المنطلق جاء إعلانه تأييد روسيا لحق مصر فى الحصول على مقعد دائم فى مجلس الأمن الموسع بعد الاتفاق على إصلاح مجلس الأمن وحرصه على إعلان تأييده لمبادرة مصر التى طرحتها عام 1990 لجعل منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمارالشامل واتفاق روسيا ومصر على التنسيق لتحقيق ذلك، وأكد الرئيس بوتين أيضا على موقف روسيا من ضرورة قيام السلام فى الشرق الأوسط على أساس قرارات مجلس الأمن، ومبادىء مدريد، ومبادرة السلام العربية التى أقرتها الدول العربية وخريطة الطريق وتفاهمات شرم الشيخ، أكد الرئيس بوتين كذلك حرصه على سيادة العراق ووحدته وضرورة العمل على توفير الظروف الملائمة لانسحاب القوات الأجنبية.
كان الاتفاق واضحا بين مبارك وبوتين على القضايا الأساسية مثل التعاون لمحاربة الإرهاب وفرض عقوبات تتفق مع طبيعة هذا الخطر، وكيفية دعم الحوار بين الحضارات وإدانة نظرية صدام الحضارات التى تمهد للعدوان.
وأعتقد أن هذه الزيارة تمثل نقطة تحول فى علاقات مصر وروسيا، وأتوقع أن تعقبها خطوات عملية مهمة.. ستنشأ جامعة روسية جديدة ستكون جسر التواصل الثقافى والحضارى بين البلدين.. وستتم زيارات دورية من أعضاء البرلمان فى البلدين.. وسيتم تشكيل لجنة مشتركة لإدارة الحوار الاستراتيجى بينهما.. وسيزداد حجم التبادل التجارى الذى وصل الآن إلى 750 مليون دولار، وهناك احتمال لتجاوز هذا الرقم والوصول إلى رقم مليار دولار فى العام القادم. ويواصل التبادل التجارى النمو بعد ذلك إلى ما هو أكثر فى مجالات التجارة والآلات والسلع الهندسية وإنتاج البترول والكهرباء والغاز والنقل وغيرها، وتشارك الشركات الروسية فى تحديث المؤسسات الصناعية فى مصر،وقد وصل عدد السياح الروس فى مصر إلى أكثر من 700 ألف سائح ومن المتوقع الوصول إلى رقم مليون العام القادم..
ومن حسن الحظ أن رجال الأعمال فى مصر وروسيا بينهم جسور للتفاهم وزيارات متبادلة، وقد شاركت رجال الأعمال فى العام الماضى اجتماعات فى غرفة التجارة والصناعة فى موسكو، وقد لمست فى هذه الاجتماعات اهتماما كبيرا من رجال الأعمال الروس ورغبة فى التعرف على المجالات المتاحة للاستثمار فى مشروعات كبيرة فى مصر.
ويرأس جمعية أصدقاء مصر فى روسيا ميخائيل مارجيلوف رئيس لجنة الشئون الدولية فى مجلس الشيوخ الروسى، وفى روسيا أصدقاء لمصر كثيرون يعرفون عن مصر الكثير، ويجيدون اللغة العربية، ولهم علاقات عاطفية بشعبها، وبآثارها ومعالمها وحضارتها.
ولقد أعلن الرئيس بوتين عن عقد مؤتمر دولى فى موسكو للسلام فى الشرق الأوسط يعقد فى الشهور القادمة من أجل تنشيط دور الأطراف المشاركة فى عملية السلام، وهذه خطوة مهمة يمكن أن تحرك المياه الراكدة، كما أن مباحثاته فى إسرائيل سيكون لها تأثيرها.
وحين سئل عن علاقته بالرئيس مبارك قال الرئيس بوتين: إن الرئيس المصرى معروف فى بلادنا كرجل يتحلى بالشجاعة والبسالة، نهض بهيبة مصر وعمل كثيرا لتطوير العلاقات بين مصر وروسيا، ويمكن أن يحقق التعاون المشترك نجاحا كبيرا فى مجال صناعة الطائرات والصناعات الكيميائية والأدوية والطاقة والحديد والصلب، والتعاون العسكرى، وإن لدى روسيا ومصر إمكانيات كبيرة وإرادة قوية لتطوير العلاقات القائمة بينهما.
إن علاقة روسيا ومصر قديمة وعميقة، ففى مصر رابطة لخريجى الجامعات والمعاهد الروسية تضم الآلاف، وقد تلقى التعليم فى الأزهر من روسيا أكثر من 400 طالب، أما الجامعة الروسية الجديدة فقد خصصت لها الحكومة المصرية الأرض فى مدينة بدر ويشرف على إنشائها رجال الأعمال والعلماء المصريون وسوف تشمل كليات للمعلومات وعلوم الفضاء، والاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، وهندسة آلات وبناء الطرق، وهى أول جامعة روسية فى الشرق الأوسط وأفريقيا.
هكذا لم تكن زيارة الرئيس بوتين زيارة مجاملة، ولكنها كانت زيارة عمل، ونوقشت فيها قضايا على درجة كبيرة من الأهمية، واعتقد أننا سنشهد تطورا كبيرا فى العلاقات بين البلدين لأن الرئيس بوتين رئيس نطمئن إليه ونثق فيه. *
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف