جارودى.. صوت الإسلام فى الغرب
رحل المفكر الكبير «روجيه جارودى» وترك لنا الكثير مما ستظل أجيال العرب تذكره. رحل الرجل الذى عاش 99 عاما قضاها فى النضال ضد الاستغلال والاستعمار والظلم، وأهدانا عشرات الكتب فى الفلسفة والأدب والبحث التاريخى والاجتماعى، واحتل فى تاريخ الفكر مكانة كبيرة لأنه - مثل سقراط - ظل يعلن الحقيقة ويدافع عنها، ودفع الثمن غاليا من حريته وتعرض للسجن والإهانة والتهميش، ولم يستسلم حتى آخر أنفاسه.
صحيح أنه ولد فى سنة 1913 فى فرنسا لأب ملحد وأم كاثوليكية ولكنه ظل روحا حائرة تشعر بالقلق الوجودى. جعلته يتقلب من الشيوعية إلى الوجودية، ومن الإلحاد إلى المسيحية وأخيراً وجد سلامه الروحى فى الإسلام، واكتشف زيف دعاوى الصهيونية الإسرائيلية التى تبرر اغتصاب وطن الفلسطينيين، فلم يخف الحقيقة وأعلنها فى كتابه الشهير «الأساطير المؤسسة للسياسات الإسرائيلية» ومنها مزاعمهم عما حدث لهم فى الحرب العالمية الثانية ومبالغتهم فى ذكر رقم ضحاياهم، واتخاذهم أسطورة «أرض الميعاد» مبررا للاستعمار وارتكاب المذابح، وكشف النزعة العنصرية لدى الصهيونية الإسرائيلية التى تسعى إلى تكرار ما جاء فى العهد القديم عن شرائع حصار وفتح المدن كما جاءت فى سفر التثنية - الإصحاح العشرين - «حين تتقدمون لمحارية مدينة فادعوها للصلح أولا، فإن أجابتكم إلى الصلح واستسلمت لكم فكل الشعب الساكت فيها يصبح عبيدا لكم، وإن أبت الصلح وحاربتكم فحاصروها، فإذا أسقطها الرب إلهكم فى أيديكم فاقتلوا جميع ذكورها، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما فى المدينة من أسلاب فاغنموها لأنفسكم، وتمتعوا بغنائم أعدائكم التى وهبها الرب إلهكم لكم» وليس هذا هو النص الوحيد الذى يبرر القتل والاغتصاب والعدوان، فقد ذكر جارودى نصوصا كثيرة من التوراة تحمل دعوة للاستيلاء على أوطان «الأغيار» وقتلهم سواء فى سفر التثنية أو فى سفر يشوع الذى يدرسه التلاميذ فى مدارس إسرائيل:(فاندفع الشعب نحو المدينة كل إلى وجهته واستولوا عليها ودمروا المدينة وقضوا بحد السيف على كل من فيها من رجال ونساء وأطفال وشيوخ حتى البقر والغنم والحمير) هذا بعض ما يدرسه تلاميذ المدارس الإسرائيلية، ويذكر جارودى أن أحد الأساتذة قام بإجراء استطلاع للرأى بين التلاميذ الإسرائيليين سألهم فيه: هل كان ما فعله يشوع بالقرى التى فتحها صوابا؟. وهل يفعل جيش إسرائيل اليوم بالقرى العربية ما فعله يشوع؟ فكانت الإجابة الكاسحة: نعم على السؤالين، وأثناء قصف الطائرات الإسرائيلية الفلسطينيين فى «قانا» فى المذبحة الشهيرة تم التقاط إشارات بالعبرية تقول اقصفوا واقتلوا تلك النفايات (!).
وبسبب هذا الكتاب قدم جارودى إلى محكمة باريس بتهمة التشهير بمجتمعات بسبب انتماءاتهم العرقية أو الدينية، مع أنه لم يوجه النقد إلا إلى الذين يستخدمون الدين لتبرير سياسة عدوانية، وقال جارودى: هل إذا قمنا بإدانة «طالبان» فهل يعنى ذلك التشهير بالإسلام أو أننى أدافع عن الإسلام ضد الذين يسيئون إليه ويرفعون رايته؟. وبنفس الأسلوب فأنا انتقد «طالبان الإسرائيلية» بسبب استخدامهم الديانة اليهودية لخدمة سياسة الحرب، ومعركتى ضد هؤلاء وضد مناهضة السامية التى اعتبروها جريمة يعاقب عليها القانون الفرنسى.
وصدر حكم المحكمة على جارودى بالحبس مع وقف التنفيذ وبغرامة مالية كبيرة جداً بتهمة مخالفة قانون «جيسو» الذى يعتبر الإساءة إلى اليهود أو معاداة السامية جريمة جنائية.. وقام كبار المثقفين والمفكرين فى دول أوروبا باستنكار هذا الحكم واعتبروه بداية عصر «القمع الثقافى» فى فرنسا. وقال عشرون من أكبر مثقفى إيطاليا إنهم يعبّرون عن مخاوفهم من المخاطر التى تواجهها الثقافة وحرية الفكر والبحث فى سائر بلدان أوروبا حين تحل المحاكم محل قاعات البحث العلمى لمناقشة الأفكار والآراء.
وظل جارودى على موقفه، فقال: لقد أثبتت الأحداث صحة نظريتى حول مخاطر التفسير المتطرف للكتاب المقدس وتحويل الأساطير إلى تاريخ، كما أثبتت الأحداث التى نتجت عن سياسة نتنياهو، صحة ما توصلت إليه وأثبتت صحة توقعاتى حول دور إسرائيل كمفجر محتمل للحرب العالمية الثالثة.
أدرك جارودى مبكراً جداً أن الشيوعية وصلت إلى طريق مسدود وقاده البحث إلى الإسلام فوجد فيه «الحل الوحيد لإنقاذ البشرية» ووجد أن القرآن أرسى مبادئ لصلاح البشرية مثل وحدانية الله الذى لا شريك له، ومثل المساواة بين جميع البشر دون تفرقة ولا فضل للعربى على أعجمى ولا لأبيض على أسود ولا لغنى على فقير وأساس التفاضل أمام الله أساس واحد هو التقوى، والإسلام وضع الأساس لحرية الإنسان ومسئوليته، وقد أوصى القرآن بأهل الكتاب:( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) العنكبوت 46 - والإسلام يرفض وجود وسيط بين الله والعبد.
ويعرّف جارودى قراءه فى الغرب بمساهمة المسلمين فى الحضارة الحديثة بما أخذته أوروبا من النظريات والاكتشافات العلمية والأفكار الفلسفية والفنون التى طبقت نظريات علم الجمال، والعقبة الرئيسية هى النظرة التى ينظر بها الغرب للإسلام منذ أكثر من ألف سنة، وهى نظرة الخوف، ولكن هناك عقبة أخرى هى وجود السلفيين وهؤلاء بدلا من أن يسايروا التطور والحضارة الحديثة مع الاحتفاظ بإسلامهم اختاروا احتجاز الإسلام فى قلعة ورفضوا التفاعل مع ما يجرى خارج هذه القلعة ولم يميزوا بين التعاليم القرآنية وما أضافه بعض من دخلوا الإسلام من تفسيرات ومفاهيم مصدرها حضارتهم وثقافتهم وليست حضارة وثقافة الإسلام وبخاصة نزعة التشدد والتعصب والتزمُّت، بينما الإسلام يرفض الجمود ويعطى للعقل الإنسانى الحق فى التفكير الحر وفى تجديد الفهم للدين وإعادة تفسير النصوص فى ضوء التقدم الذى يحققه العقل والعلم، ولم يبدأ انحطاط المجتمعات الإسلامية إلا عندما ساد فكر التشدد ورفض التجديد والانفتاح على العالم.
رحل جارودى وترك لنا فكرا لا بد أن نستفيد به.