الغرب هو الجانى دائمًا.. والإسلام هو المجنى عليه !


فى يوم 14 أبريل 2005 أعدت لجنة حقوق الإنسان فى الأمم المتحدة فى دورتها المنعقدة فى جنيف قرارا يكلف الأمم المتحدة بمراقبة إهانة الأديان، وإهانة الإسلام بصفة خاصة، ودراسة أوضاع المسلمين والشعوب العربية فى أنحاء العالم لرصد التمييز الذى يتعرضون له، ورصد عمليات الهجوم وتخريب المساجد والممتلكات الإسلامية.
وفى نفس اليوم نشرت الصحف ملخصا لكتاب صدر فى كوبنهاجن عن حياة الملكة مارجريت ملكة الدانمارك، وهو تسجيل لمقابلات مع الملكة سجلتها الكاتبة الصحفية أنيليسا بيستروب، قالت فيه الملكة: إننا لم نكن ننظر إلى الإسلام بجدية. بل كنا كسالى وغير معنيين بالأمر ولا نريد أن نقيم علاقة مع المسلمين.. وكنا لسنوات طويلة نواجه الإسلام محليا وعالميا ونعتبره التحدى الذى يهدد وجودنا، والآن يجب أن نعيد النظر بجدية فى هذا الموقف..
وقالت ملكة الدانمرك أيضاً: إننى منبهرة من هؤلاء الناس المتدينين الذين يرافقهم الدين فى حياتهم من الصباح إلى المساء، ومن وقت ولادتهم إلى موتهم، وهذا ينطبق أيضا على المسيحيين المتدينين.
وقالت: لوقت طويل تم شحننا ضد هؤلاء المسلمين لأننا كسالى وغير مهتمين بالموضوع، ولم نتعلم عن الإسلام كثيرا ولم نقرأ الكتب الإسلامية، وأعتقد أننا يجب ألا نظل كذلك، وأن نفتح الحوار مع المسلمين، ونقيم معهم علاقة، ونتصدى للمتشددين، ونتعرف على الإسلام بشكل أفضل، ولا ننظر إلى جميع المسلمين على أنهم كلهم سواء.
وعلّقت الصحافة على ذلك بأن الملكة توجه فى هذا الكتاب رسالة إلى الشعب الدانمركى والحكومة المتشددة فى سياساتها تجاه الأجانب وبخاصة المسلمون. وهى كملكة لا تتدخل فى السياسة، إلا أنها رأت أن الأمور قد وصلت إلى درجة تدفعها إلى أن توجه النصيحة إلى الحكومة وإلى الشعب بأن يكون منفتحا على الشعوب الأخرى وبخاصة المسلمون، وأن يقرأ ويتعلم حقيقة الإسلام.
وفى ندوة عقدت فى مدينة روتردام الهولندية فى شهر أبريل 2005 كان عنوان الندوة (الإسلام والاندماج) والموضوع الرئيسى فيها محاولة بعض الأطراف استغلال أحداث الإرهاب فى أنحاء من العالم للإساءة إلى الإسلام، مع أن هذه الأحداث نتيجة ظروف لا?دخل للإسلام بها. وتناولت الندوة محاولات إبعاد الإسلام عن المشاركة فى الحياة العامة والتضييق على المسلمين المقيمين فى هولندا.
فى هذه الندوة قال رئيس وزراء هولندا- يان بيتر بالكنندا: إن الإسلام كدين لا يُشكِّل أى خطر على المجتمع الهولندى أو على المجتمعات الغربية عموما، وأن الجماعات المتطرفة الإسلامية وغير الإسلامية هى التى تسىء إلى الإسلام، وعلى مجتمعات الغرب احترام معتقدات الآخرين وهذا هو السبيل الوحيد لحل جميع الخلافات بين الطوائف المختلفة، وكرر تعبيره عن احترام الإسلام، وقال إن الحكومة الهولندية تعمل على إدماج المسلمين المقيمين فى هولندا فى المجتمع الهولندى ومعالجة أسباب انعزالهم. وتقرر فى ضوء مناقشات هذه الندوة إصدار وثيقة رسمية باسم (اتفاق المواطنة) لمحاربة التمييز ضد المسلمين. وقررت بلدية روتردام توزيع هذه الوثيقة على سكان المدينة.
قبل ذلك، فى يناير 2004 ألقى كوفى عنان الأمين العام للأمم المتحدة محاضرة فى مقر المنظمة الدولية بنيويورك انتقد فيها بكلمات صريحة ومباشرة المضايقات التى يتعرض لها المسلمون، وحملة التمييز ضدهم، التى ازدادت بعد أحداث 11 سبتمبر. وفى هذه المحاضرة طالب الأمين العام للأمم المتحدة بتصحيح الأخطاء التى ارتكبت فى حق المسلمين عبر التاريخ، وذكر ما حدث للمسلمين أثناء الحروب الصليبية، وفى البوسنة، والسياسات الإسرائيلية فى فلسطين وفى الشرق الأوسط عموما، وما يحدث فى العراق.
ولم يكن كوفى عنان وحده الذى أعلن بصفته الدولية حقيقة ما يواجه المسلمين من حملة كراهية منظمة، فقد سبقه إلى هذا الموقف بابا الفاتيكان الراحل يوحنا بولس الثانى حين انتقد القانون الفرنسى الذى يحظر ارتداء الحجاب فى المدارس الحكومية على الفتيات المسلمات فى فرنسا، وأبدى البابا مخاوفه من تعرض الحريات الدينية فى أوروبا للخطر بسبب تعنت السلطات فى موقفها من منع الفتيات من تغطية رؤوسهن. وكانت لكلمات البابا أصداء سبّبت إحراجا لعدد من الحكومات الغربية، ولكن- مع ذلك- لم تغير من الأمر شيئا.
وتزامن مع ذلك موقف الرئيس الألمانى فى ذلك الوقت (يوهانس راو) برفض ظواهر التمييز ضد المسلمين فى المجتمعات الغربية، وقال: (إذا صدرت فى ألمانيا قوانين لمنع غطاء الرأس فى المدارس باعتباره رمزاً دينياً، فسيكون من الصعب الدفاع عن ارتداء الرهبان مسوحهم. والدستور الألمانى يقرر معاملة متساوية للأديان فى مجالات الحياة العامة ومنها المدارس. وإن مستقبل ألمانيا بوصفها مجتمعا ذا طابع مسيحى لن يتقرر بنوع الملابس التى يرتديها تلاميذ المدارس مهما يكن عددهم.
وكان الرئيس الألمانى بذلك يرد على المستشار الألمانى جيرهارد شرودر عندما أعلن أن من حق الثقافة الألمانية، بوصفها وليدة الفلسفة الإغريقية الرومانية والديانة اليهودية المسيحية وأفكار عصر التنوير، أن ترفض غطاء رأس التلميذات المسلمات فى المدارس بوصفه رمزا دينيا.
ولا شك أن ما قاله الرئيس الألمانى له أهمية كبيرة، لأن أوروبا لم تعرف شخصية عامة فى وزن الرئيس الألمانى لديها الشجاعة لأن تعارض إصدار قوانين تمنع المسلمات من ارتداء غطاء الرأس فى المؤسسات الإسلامية. والرئيس يوهانس راو بالذات له أهمية خاصة غير أنه رئيس دولة غربية، لأنه أقرب السياسيين الألمان إلى الكنيسة الإنجيلية، وهو ابن واعظ.
***
هكذا نرى أن موقف الغرب من الإسلام قد أصبح موضوعا للجدل على أعلى المستويات السياسية ولم يعد مقصورا على المفكرين والكُتّاب ورجال الدين. وهذه هى الحقيقة منذ البداية، ولكن السياسيين كانوا غالبا يتحفظون فى إعلان مخاوفهم من الإسلام، ويكتفون بوضع الخطط وتنفيذها للحد من انتشار الإسلام فى الغرب، وللسيطرة على بلاد المسلمين، وإلصاق التهم بهم وتصويرهم على أنهم إرهابيون لتبرير العدوان عليهم.
وهذا الموقف ليس جديدا، ففى الغرب كتابات كثيرة تنبه إلى ضرورة تفهم الإسلام والنظر إليه بعين الإنصاف والتعامل معه بما يستحق من الاحترام. لأن عداء الغرب للإسلام هو الذى أدى إلى رد الفعل السائد فى العالم الإسلامى تجاه الغرب، كما أن هناك كتابات أخرى تنبه الغرب إلى أن العالم الإسلامى يمر الآن بمرحلة جمود وضعف، لكن هذه المرحلة لن تستمر إلى الأبد، ولا بد أن يعد الغرب نفسه للمرحلة القادمة التى ينهض فيها العالم الإسلامى ويحقق التقدم الذى يستحقه لما يزخر فيه من كفاءات بشرية وثروات طبيعية ومالية وموقع حاكم على خريطة العالم، وهؤلاء يرون أن أهم عناصر القوة فى العالم الإسلامى هى القوة الروحية، قوة الإيمان واليقين.. وهذه القوة مهملة اليوم، ولم يدرك العالم الإسلامى خطورتها بعد، ولكن سيأتى يوم يعود فيه الوعى إلى العالم الإسلامى وتصبح هذه القوة الروحية أساسا لجمعهم على طريق واحد، ومن هؤلاء الباحث الألمانى باول شمتز صاحب كتاب (الإسلام: قوة الغد العالمية) الذى ترجمه من الألمانية الدكتور محمد شامه وصدر باللغة العربية فى عام 1974، وكتب مقدمته العربية الدكتور محمد البهى وزير الأوقاف الأسبق.
فى رأى هذا الباحث الألمانى أن الحرب العالمية الأولى أدت إلى القضاء على الأفكار الإنسانية فى الغرب ودفنتها فى ساحة القتال، ولم يتبق لدى الغرب فى علاقته بالعالم سوى الخوف: الخوف من الصين والدول الآسيوية، والخوف من الشعوب الأفريقية ونموها البشرى الهائل، والخوف من العالم الإسلامى لعدة أسباب تحتاج إلى تحليل، منها على سبيل المثال:
1 - الخوف من أن يعيد التاريخ نفسه ويستعيد العالم الإسلامى القوة العالمية التى كانت له لعدة قرون، خاصة إذا تغيرت الروح وتحول المسلمون إلى استثمار عناصر القوة لديهم بالطريقة الصحيحة، وهذا ما سبق أن نبه إليه الكاتب البريطانى هيلير بيلود Hilaire Belod الذى توفى سنة 1953 كتب يقول: (لا يساورنى أدنى شك فى أن الحضارة التى ترتبط أجزاؤها، وتتماسك أطرافها وتحمل فى طياتها عقيدة مثل الإسلام ستكون خطرا على الآخرين، وقد يعارض هذا الرأى من يرى أن الإسلام فقد سيطرته على مفاتيح التقدم المادى والتكنولوجى ولم يلحق بالتقدم العلمى الحديث، لكن تعويض ذلك ليس بالأمر المستحيل.. ولا أستطيع أن أدرك لماذا لم يعوض العالم الإسلامى ما فاته فى ميادين العلم والتكنولوجيا، إذ لا تحتاج علوم الهندسة الحديثة إلى عقلية خاصة، وتحتاج فقط إلى دراستها، ومع ذلك فإن التقدم المادى ليس كل شىء، لأن الحضارة الإسلامية ما زالت محتفظة بجوهر تماسكها وتفوقها وهو الإسلام.
ولعل هذا ما يفسر السياسات الغربية التى تحجب أسرار التفوق العلمى والتكنولوجى وتحتكرها لنفسها لكى يظل حال العالم الإسلامى على ما هو عليه. كما قد يفسّر سياسات الغرب للحيلولة دون ظهور كيانات عربية أو إسلامية موحدة، والاستمرار فى تنفيذ سياسة فرق تسد بمنتهى الدقة، لأن وحدة العالم الإسلامى مع القوة الروحية التى يملكها إذا أضيف إليها التفوق المادى، أو على الأقل إذا أمكن تجاوز حالة التخلف المادى، فإن هذا (الخطر الإسلامى) الذى يتخوفون منه سوف يعود إلى سابق عهده.
***
وباول شمتز الألمانى يتساءل: لماذا لا يتعلم العالم الإٍسلامى ما تعلمناه فى مجال التكنولوجيا، وهذا ليس صعبا، بينما استعادة الغرب للقوة الروحية- التى يتميز بها الإسلام- هى المسألة الصعبة!
2 - إن التقدم الاقتصادى الكبير الذى حققه الغرب كان بسبب تخلف العالم الإسلامى، فهذا العالم يضم أكثر من 1200 مليون نسمة ويمثل سوقا كبيرة تحقق الانتعاش للاقتصاد الغربى، ويحتل مساحات ومواقع استراتيجية حاكمة على خريطة العالم. وفيه ثروات كثيرة لا يحسن المسلمون استغلالها وهى تمثل عماد النهضة الاقتصادية والصناعية فى الغرب، وفى نفس الوقت فإن هذا العالم الإسلامى تحدث فيه تغيرات عميقة، وتظهر كفاءات وطبقات متعلمة لديها تطلعات للحاق بالغرب، وترى أنها ليست أقل شأنا من أمثالها الغربيين، مما يهدد السيطرة الاقتصادية والسياسية للغرب على العالم الإسلامى فى المستقبل القريب أو البعيد. ولمواجهة هذه الظاهرة ليس أمام الغرب سوى تفكيك العقيدة الإسلامية، وتخفيف العلاقة بين المسلمين ودينهم، وتشكيك المسلمين فى هذا الدين، وتوجيه حملات لتشويه الإسلام تصل أصداؤها إلى العالم الإسلامى وتؤثر فيه.
يقول باول شمتز: (إن انتفاضة العالم الإسلامى صوت نذير للغرب، يستلزم تجمع الدول الغربية لمواجهة هذا العملاق الذى بدأ يصحو. ويستشهد على ذلك بالحركات الوطنية التى كانت تقود النضال ضد الاحتلال وتطالب بالاستقلال وإعادة بناء الدول الإسلامية وفقاً لمواصفات الدولة الحديثة. ويشير إلى دور علماء الإسلام فى هذه الحركات الوطنية مما أدى إلى تقارب بين العناصر القومية والدينية.
ويقول الباحث الألمانى: (إن قوة القرآن فى جمع شمل المسلمين لم يصبها الوهن، ولم تنجح الأحداث والهزائم التى مرت على المسلمين فى القرون الأخيرة فى زعزعة ثقتهم به كقوة روحية تجمع التيارات المختلفة.. إن الروح الإسلامية ما زالت تسيطر على تفكير وعواطف القادة فى العالم الإسلامى وستظل هذه الروح ما دامت هناك شعوب ربطت مصيرها بتعاليم الإسلام وتعتقد أن الرباط الجامع بين شعوبها المختلفة فى الجنس واللون هو الإسلام، ويبدو من الصعب جداً تغيير هذا الحال).
ويدلل على فكرته بما حدث فى تركيا بثورة كمال أتاتورك التى تحررت من الدين وكانت عنيفة فى ذلك، ورغم مرور السنين على هذا النهج فما زالت فى تركيا حتى اليوم مراكز قوى ذات ثقل وتأثير على الشعب التركى تتمسك بالإسلام، وتدعو إلى العودة إليه. وكذلك الحال فى شمال أفريقيا، فقد اندلعت ثورات ضد الاستعمار الغربى فيها وكانت أهم أسبابها المباشرة: الأزمة الاقتصادية التى سبّبها الاستعمار وضاقت الحياة على أهل البلاد، بينما يستنزف الاستعمار ثرواتها، وكان هذا السبب الوطنى ينطوى على سبب آخر أقوى هو العامل الدينى، فالدين والوطنية اجتمعا ضد الاستعمار والاستغلال الغربى.
***
ويستشهد باول شمتز على ارتباط الوطنية بالإسلام فى العالم الإسلامى، بدور الأزهر فى مواجهة الاستعمار الفرنسى ثم الاستعمار البريطانى، ويقول: (إن موقف الأزهر من القوى الغربية معروف، فهو لا يهادن المستعمر، ويعبئ المسلمين بمشاعر الكراهية للأجانب الذين اقتحموا ديار الإسلام، ويحرضهم على النضال ضد الاستعمار ومقاومته).
ويصل من تحليله إلى أن نقطة التصادم بين الغرب والعالم الإسلامى هى تضارب المصالح. مصالح الغرب تدفع إلى احتلال واستغلال أسواق وثروات وأرض العالم الإسلامى والإبقاء عليه فى حالة انقسام وتخلف لكى تسهل السيطرة عليه، والعالم الإسلامى أدرك أن من حقه أن يعيش حرا، ويوجه ثرواته لصالح الشعوب الإسلامية، ويتقدم فى الصناعة والتكنولوجيا، ويخرج من نطاق السيطرة والتبعية للغرب. وهذا الصراع وإن كان فى جوهره صراعا اقتصاديا واستراتيجيا وسياسيا، إلا أن الإسلام يدخل فيه لأنه القوة التى تعوق المخطط الغربى وبالتالى يمكن أن تكون عقبة فى طريقه. وليس أمام الغرب إلا أن يحول دون صعود العالم الإسلامى ووحدته.
والوحدة الإسلامية كما يراها باول شمتز لا تعنى تجمع الدول الإسلامية فى دولة واحدة، لأن هذا الغرض مستحيل، وقد باءت بالفشل كل المؤتمرات واجتماعات القادة فى الدول الإسلامية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى اليوم فى التقدم خطوة واحدة نحو هذا الهدف، مع أنهم يتحدثون عنه كثيرا، والممكن الآن هو توحيد الأهداف السياسية الوطنية بين الدول الإسلامية ضد الاستبداد الداخلى ومقاومة الهيمنة الخارجية، وحتى هذا الهدف لن يتحقق فى المستقبل القريب لوجود عوائق كثيرة لا بد من التغلب عليها أولا، وهذا يحتاج إلى زمن قد يطول، وربما يحتاج إلى أجيال جديدة بفكر مختلف عن فكر الجيل الحالى من قادة العالم الإسلامى.
وهو يشير أيضا إلى فكرة (الجامعة الإسلامية) التى كان ينادى بها جمال الدين الأفغانى وكان يدعو إلى أن تكون بلاد المسلمين للمسلمين يتنقلون فيها بحرية ويطردون منها المستعمرين، وكان مفهوم هذه الجامعة الإسلامية هو الرابطة التى تحقق التنسيق بين المسلمين فى توجهاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم يكن حلم جمال الدين الأفغانى قادراً على التحليق إلى حد تصور أن يصبح العالم الإسلامى كيانا واحدا.
***
كان العالم الإسلامى قبل الحرب العالمية الأولى يعيش فى سبات عميق، ويعانى من الفقر والتخلف والجهل ويعتبر ذلك قدراً مقدوراً عليه، كما كان الاستعمار الغربى قد استطاع فرض سيطرته وتولية أنصاره وعملائه، ولكن الأمر اختلف بعد الحرب العالمية الأولى، وتغيرت مناطق كثيرة فى العالم، أما منطقة الشرق الإسلامى فقد تحولت تحولا جذريا، فقد بدأت تظهر فيها دول حديثة على أساس قومى، وبدأت الاتصال بالبلاد الغربية، واحتكت بالحضارة الغربية، ونتج عن ذلك أن تغير شكل بنائها الاجتماعى والاقتصادى والسياسى، وقامت دويلات مستعمرة أو نصف مستعمرة على أنقاض الأوضاع السياسية فى هذه المنطقة الممزقة التى كانت تتنازعها أطماع السياسة الدولية كما كانت على مدى عشرات السنين حقل تجارب لاختبار القوى الاستعمارية الكبرى. ووضعت الحرب حدا لهذه المنازعات بتقسيم المنطقة على الدول الاستعمارية، غير أن الدول الجديدة حاولت بناء كيانها بمجهودها الذاتى وبمعاونة بعضها البعض. وباختصار فإن الانهيار الذى عم المنطقة أثناء الحرب العالمية كان سببا فى ظهور حركة تدعو إلى إيقاظ الوعى التاريخى وإلى الاستقلال السياسى، وبدأت دول الشرق الإسلامى تظهر على مسرح السياسة العالمية بعد أن ظلت سلبية وغائبة عشرات السنين، وبدأت تطالب بحق تقرير المصير، وبذلك بدأت حقبة جديدة فى تاريخ النزاع بين الشرق والغرب.
ويضيف باول شمتز سببا آخر للخوف من الإسلام فى الغرب هو الزيادة السريعة فى السكان، وبذلك فسوف يتضاعف عدد السكان فى العالم الإسلامى بينما يقل عدد السكان فى بعض دول الغرب أو يبقى العدد ثابتا تقريبا، مما يترتب على ذلك من خلل فى موازين القوى البشرية، وسوف يدعو ذلك الملايين من العالم الإسلامى إلى الضغط على الغرب للحصول على أكبر قدر من الثروات الطبيعية فى أرضهم فيكون ذلك على حساب النمو الاقتصادى فى الغرب، أو أن تندفع هذه الملايين إلى الهجرة نحو الغرب المتقدم فيتغير التركيب الديموجرافى وتتسع رقعة الإسلام فى الغرب.
***
ويتوقف باول شمتز عند مرحلة النزاع بين بريطانيا والقومية الإسلامية فى فلسطين وقد اتجهت السياسة البريطانية فيه إلى حل يخالف ما اتخذته فى احتلالها للعراق. قد استدعت بريطانيا إلى الشاطئ الاستراتيجى المهم- وهو الجناح الشرقى الذى يحمى قناة السويس- حليفا يقف بجانبها ويساعدها على منع التقاء العالم الإسلامى. وكان وعد بلفور لليهودية العالمية فى طابعها الصهيونى بمنحها أرضا فى فلسطين لإقامة دولة تساعد على حماية المصالح البريطانية ضد القومية العربية والثوار العرب، وكانت بريطانيا تعرف القيمة الاستراتيجية لفلسطين، وكان هناك اقتراح أثناء إعداد معاهدة سايكس- بيكو بتدويل فلسطين، وكان الهدف إبعاد المصالح الفرنسية عنها لكى ينحصر النفوذ الفرنسى فى تونس والجزائر وسوريا ولبنان، وكان هذا الاقتراح يتضمن أن تتولى بريطانيا مراقبة هذا التدويل. ومن هنا بدأ الانتداب البريطانى على فلسطين، وبدأ دخول الصهيونية العالمية فى الصراع الدائر على فلسطين، وقدمت نفسها على أنها ستكون الحاجز الذى يخفف الضغط العربى والإسلامى على الاستعمار البريطانى. وحتى عام 1930 لم يكن المهاجرون اليهود إلى فلسطين يزيدون على 7 آلاف مهاجر لكن هذه الهجرة أثارت ثائرة العالم العربى والإسلامى ضد بريطانيا، ففتحت بريطانيا باب الهجرة اليهودية حتى بلغ عدد المهاجرين عام 1932 حوالى 9500 يهودى، وصل عددهم فى عام 1933 إلى ما يزيد على 32 ألفا، وفى عام 1934 أصبح عددهم 42 ألفا، وقفز العدد عام 1935 ليصبح 62 ألفا، وأدت السياسة البريطانية إلى اقتطاع جزء من المنطقة العربية بالقوة ليعيش فيه مهاجرون من بلاد غير عربية، وكان وعد بلفور إيذانا بإنشاء وطن قومى لليهود فى أرض مملوكة للعرب والمسلمين، لكن هذا الوطن اليهودى كان يحقق مصالح بريطانيا الاستراتيجية التى كانت تستعمر الدول العربية، وكانت بريطانيا حريصة على أن يظل الصراع فى المنطقة بين شعب يهودى يحاول إثبات وجوده وسط تزاحم الشعوب الإسلامية ودفاعها عن وطنها. وكانت بريطانيا ترى أن استمرار هذا الصراع هو الضمان لاستمرار هيمنتها وسيطرتها على هذه المنطقة الاستراتيجية التى تعتبر مفتاح الشرق، وكان التفكير الاستراتيجى البريطانى قائما على أن الدولة اليهودية والدول العربية والإسلامية سوف يزيدان الارتباط بها ويحتميان، وسيجد العرب أنهم محتاجون إلى استمرار استعمارها للمنطقة.
لكن الذى حدث عكس ذلك، فإن الولاء الإسرائيلى لبريطانيا تحول بعد ذلك إلى الولايات المتحدة. وتعمق فى نفوس العرب والمسلمين الشعور بمرارة الهزيمة التى كانت هذه المرة هزيمة حاسمة، وقد تفجرت مشاعر العداء فى جميع الدول العربية والإسلامية للاستعمار الغربى (البريطانى والفرنسى والإيطالى) وخرجت موجات الرفض من المساجد بما يعبئه هذا الدين (الإسلام) فى نفوس أتباعه من كراهية للاستعمار، وقاد علماء المسلمين الثورات ضد الاستعمار فى مصر وتونس والمغرب والجزائر وغيرها، وارتكب الاستعمار الغربى أخطاء فادحة بالاعتداء على المساجد والمقدسات الإسلامية فأشعل وعمّق الإحساس بأن العدوان من الغرب موجه إلى الإسلام ذاته، بعد أن أصبح الدين والوطنية مزيجا واحدا وقوة دافعة لحركات التحرر فى العالم العربى والإسلامى.
***
ويروى باول شمتز (قصة الخداع الغربى الكبرى للمسلمين) عندما بدأت ايطاليا تحت حكم موسولينى التوسع الاستعمارى فوجهت أطماعها إلى العالم الإسلامى، وفى الفترة من 1928 حتى 1932 واجه الاستعمار الايطالى فى ليبيا مقاومة عنيفة كان دافعها حماية الإسلام من الغزاة الأجانب، ولم تتمكن ايطاليا من فرض سلطانها فى ليبيا إلا بعد أن ساقت الجزء الأكبر من الشعب الليبى إلى معسكرات الاعتقال، ولكن نضال السنوسيين أثبت قوة العقيدة الإسلامية فى تحريك الثورة ضد القوات الأجنبية، وقد اعترف بذلك الجنرال (جرازيانى Graziani) فى تقريره عن المعركة مع السنوسى يتحدث فيه عن صلابة المقاومة بقيادة الشيخ عمر المختار. وبعد أن وقع عمر المختار فى الأسر سأله الجنرال: لماذا تصر على المقاومة ضد ايطاليا؟. فكان الجواب: لأنه واجب العقيدة المقدس، ويقول باول شمتز: إن المعارك فى ليبيا أكدت التضامن النضالى لجميع العالم الإسلامى تجاه الأطماع الاستعمارية للقوى الغربية، فالصحافة فى الدول الإسلامية- من القاهرة حتى كابول- هاجمت ايطاليا الفاشية وأثارت الرأى العام الإسلامى ضدها وعبأت الجماهير الإسلامية بالغضب على قوات الاحتلال الإيطالية فى ليبيا، وانبرت الأقلام تروى للرأى العام بإسهاب الفظاعة والوحشية الإيطالية لتحريض العالم الإسلامى لاتخاذ موقف مضاد تجاه إيطاليا الفاشية.
وما حدث لإيطاليا فى ليبيا حدث لها فى اليمن وهو أيضا ما حدث للاستعمار الغربى فى كل دول العالم الإسلامى، فقد كان الإسلام هو القوة المحركة للغضب والرفض والمقاومة ضد الاستعمار وهذا ما جعل الغرب يدرك أن الإسلام يمثل عقبة كبرى أمام أطماعه ومخططاته، وأن العدو هو الإسلام، وأن السبيل الوحيد لاستقرار النفوذ الغربى فى العالم الإسلامى يستلزم القضاء على هذا الدين أو تشويهه أو تفكيك العقيدة على الأقل، وذلك بعد أن فشلت الجهود لاستخدام نغمة الصداقة مع الشعوب الإسلامية لتحقيق الأغراض السياسية لدول الغرب الاستعمارية.
ويشير باول شمتز إلى معاهدة (سايكس- بيكو) التى وقّعت عام 1916 بين فرنسا وبريطانيا لتقسيم العالم العربى- بينهما بعد هزيمة الامبراطورية العثمانية فى الحرب العالمية الأولى، وبذلك عادت المواجهة بين العالم الإسلامى والغرب الاستعمارى، وبفضل تطور المواصلات أصبح العالم الإسلامى المترامى الأطراف متصلا وازداد فيه الشعور بالجوار وبالرابطة الإسلامية وتأكدت أسس الشعور الجماعى بوحدة مصير الدول الإسلامية. وبدأ العالم الإسلامى يستيقظ. ولذلك واجهت حملة نابليون مقاومة عنيفة، وفى نفس الوقت فإن نظم الحكم الاستبدادية فى العالم الإسلامى نجحت فى استخدام الإسلام وسيلة لاستمرارها فى الحكم، وذلك بإشاعة الكراهية للغرب وتعميق الشعور لدى الشعوب الإسلامية بأن المحافظة على الجمود والتخلف هما الضمان للصمود ورفض نموذج الحكم الغربى الكافر، ورغم أن هذه الأنظمة كانت تدّعى الإصلاح. فإنها فى الواقع كانت ترفض كل ما هو جديد.. وهذا هو السبب فى الجمود الذى أصاب العالم الإسلامى لسنوات طويلة. وقد امتد الجمود إلى النواحى السياسية والاقتصادية والتكنولوجية كما امتد الجمود إلى فهم المسلمين للإسلام.
***
ويرى باول شمتز أن محاولات الإصلاح فى تركيا ومصر وغيرها من الدول الإسلامية استعانت بالغرب لتقليد النموذج الغربى، وفتحت الباب للنفوذ الأوروبى، فدخل الاستعمار الاقتصادى وبعده دخل الاحتلال العسكرى البريطانى مصر عام 1882 وفقدت الدولة سيادتها، وحدث نفس الشىء فى إيران وتركيا، فقد استدعت إيران بعثة عسكرية من انجلترا وفرنسا عام 1817 للعمل كخبراء لتدريب القوات الإيرانية على الأساليب الحربية الحديثة، وفى مرحلة تالية استعان شاه إيران بخبراء من النمسا وإيطاليا وفرنسا لتحديث بلاده، فكانت هذه البعثات الأجنبية مقدمة لتغلغل النفوذ الغربى وانهيار الدولة الإيرانية، وكذلك فى تركيا فقد فتح أتاتورك الباب للعقل الغربى والنفوذ الغربى، ولم يستطع التخلص منهما بعد ذلك، ولم تستطع البلاد الإسلامية الدفاع عن نفسها ضد أوروبا التى اتخذت موقفا هجوميا، وازداد ضعف العالم الإسلامى، وأدى ذلك كله إلى سقوطه سياسيا، وأدت مأساة سقوط العالم الإسلامى فى قبضة النفوذ الغربى إلى تعميق مشاعر العداء فى الجانبين، ولم تكن أمام العالم الإسلامى وسيلة لمقاومة الاحتلال الغربى سوى تعبئة الشعوب دينيا، فأصبح الإسلام هو السلاح السياسى ضد الدول الغربية، وظهرت الدعوة إلى الوحدة الإسلامية كوسيلة دفاعية فى مواجهة عدوان الغرب.. وزاد ذلك من مشاعر العداء لدى كل طرف للآخر.
***
وقد حاربت دول الغرب فكرة الوحدة الإسلامية، وامتدت حروبها إلى الإسلام ذاته، ويقول باول شمتز إن الغرب يخشى من هذه الوحدة، ويجند قواه لمنع حدوثها، وقد نبه إلى خطورة الوحدة الإسلامية أغاخان زعيم المسلمين فى الهند وصديق انجلترا، فقد كتب فى عام 1914 يقول: إن المسلمين فى الهند لم ينعزلوا عن إخوانهم المسلمين، فبينهم وبين إخوانهم المسلمين فى البلاد الأخرى وحدة لا تقبل الانفصال، وتعلو على الخلافات المذهبية، فقد اجتمع المسلمون على تعاليم القرآن وأسهم فى وحدتهم تاريخ وفلسفة العرب والشعر الفارسى، والمصرى والمغربى والأسبانى، وهناك رابطة روحية تجمع الأتراك والعرب والفرس والهنود.. هذه الرابطة هى الإسلام الذى يعمّق فيهم وحدة الفكر والشعور.
***
وينتهى باول شمتز إلى أن هذه الوحدة الإسلامية هى القوة العالمية الكبرى التى يخشى الغرب ظهورها، ويعمل بكل قواه لمنع ظهورها، وذلك بسياسات متعددة لتفكيك العالم الإسلامى وإثارة الخلافات داخل هذا العالم الإسلامى، وبتعميق النزاعات الوطنية فى كل دولة لكى تتغلب على النزعة إلى الوحدة الإسلامية.
ويضرب باول شمتز المثل بما حدث فى مصر بعد احتلالها عام 1882 وخضوعها للسيطرة البريطانية، فقد ظهرت فيها الحركة الوطنية ضد الحكام الرجعيين أصحاب السيادة المطلقة، وضد الاستعمار الأجنبى فى نفس الوقت، وإن كانت بريطانيا قد استخدمت الخديوى وحكومته لتحقيق مطامعها الاستعمارية، ومع ذلك فقد استمرت الحركة الوطنية فى مصر وانتشرت بعد الحرب العالمية الأولى إلى الأجزاء الأخرى من العالم العربى والإسلامى فظهرت فيها حركات مماثلة للحركة الوطنية فى مصر.
وكان مصطفى كامل- كما يقول باول شمتز- من زعماء الحركة الوطنية الذين تعاطفوا مع إخوانهم فى تركيا، وكان قد درس فى فرنسا، وأصبح بعد عودته إلى الوطن زعيما لتيار يعادى الاستعمار، ويؤكد مفهوم (الوطن). وأصدر مصطفى كامل فى عام 1895 نشرة بعنوان (مصر الحرة) حدد فيها معالم الدولة المصرية التى يسعى لتحقيقها، وقال فيها: (أريد أن أبعث الوطنية فى بنى وطنى، تلك الوطنية التى تعيد مصر للمصريين، وتعيد المصريين لمصر، وأسس جريدة اللواء لتحقيق هذا الهدف وتبلورت الحركة الوطنية بعد ذلك فى تيارين: الحزب الوطنى الذى تزعمه مصطفى كامل، وحزب الأمة (الوفد) الذى تزعمه سعد زغلول، وفى عام 1907 تألف الحزبان وكونا جبهة سياسية متينة رسمت برنامجها السياسى على الدعوة إلى الاستقلال، وجلاء الجيش البريطانى، وظهر حزب الدستوريين الذى قام على فكرة أن انحسار النفوذ البريطانى يمكن أن يتم تدريجيا، وعلى مدى زمن طويل، يجرى فيه بناء سلطة الدولة المصرية. وبعد ذلك وجد الثوار فى مصر أن عليهم مواجهة عدوين وليس عدوا واحدا أحدهما هو الاحتلال البريطانى، والثانى هم عملاء الاستعمار من المصريين.
وفى تركيا ظهرت ثورة شعارها (تركيا للاتراك) كما فى ثورة مصر التى رفعت شعار (مصر للمصريين) ورفعت الثورة فى إيران أيضا شعار تحرير البلاد من التبعية للروس والبريطانيين الذين منحهم الشاه حقوقا وامتيازات واسعة، والقضاء على استبداد الشاه الذى أفسد البلاد.
وكان الإسلام قاسما مشتركا فى كل هذه الثورات.
***
ولقد تنبه الغرب إلى خطورة الإسلام فى العصر الحديث عندما بدأت الثورة الوطنية فى إيران بدأت بمظاهرة من المسجد واعتصم المتظاهرون فيه، وكانت هذه بداية الكفاح ضد استبداد الشاه فى ديسمبر 1905، واضطر الشاه مظفر الدين إلى تنفيذ مطالب الشعب الإيرانى، ووعد بالاعتراف بالدستور الذى يعطى الشعب حقوقه، وأنشئ أول برلمان إيرانى نتيجة هذه الثورة الوطنية فى أكتوبر 1906، وبعد الشاه مظفر الدين جاء ابنه الشاه محمد الذى عقد معاهدة فى 1907 مع روسيا وانجلترا لتقسيم إيران إلى منطقة نفوذ روسية وأخرى بريطانية ، واستمرت الثورات فى إيران ولم تخمد إلا بعد زوال النفوذ الأجنبى.
بعد ذلك ظهرت موجة الإصلاح لتجديد الفكر الإسلامى، وكان جمال الدين الأفغانى أول من رفع لواء هذه النهضة وظل يجوب العالم الإسلامى شرقا وغربا لتعبئة القوى حول دعوته وأسس مدرسة فكرية تدعو إلى الإصلاح السياسى، وتهاجم الأوضاع الفاسدة فى الحكم وفى الحياة السياسية والاجتماعية، كما تهاجم الحكومات الاستبدادية، ونجح الأفغانى فى دعوته إلى تحرير الأزهر من نظام التعليم التقليدى الذى توارثه الخلف عن السلف، وحين اضطر إلى مغادرة مصر عام 1879 ترك فيها عددا من التلاميذ نشروا أفكاره، وكان أبرزهم الشيخ محمد عبده الذى تولى منصب الإفتاء ودعا إلى إصلاح مناهج الأزهر وتحققت معظم آرائه التقدمية بعد معارضة من الشيوخ الذين قاوموا الإصلاح والتجديد، وظل الأزهر مهدا للدعوة إلى النهضة الإسلامية واستمدت منه الجماهير القوة لمحاربة الاستعمار، وظهرت فيه طبقة الزعماء الإسلاميين الجدد الذين عملوا على تخليص الأزهر من الجمود الذى سيطر عليه لعدة قرون.
ترك جمال الدين الأفغانى مصر مطرودا لأن دعوته أقلقت الخديوى توفيق ومستشاريه الأوروبيين وهزت مراكزهم، فقرروا التخلص من هذا المشاغب الخطير، كما كانوا يسمونه، فاتجه إلى الهند وهناك واصل دعوته ضد الاحتلال البريطانى للهند فطرده الإنجليز منها عام 1882 بسبب ما وصفوه بالنشاط الهدام الذى أفسد عليهم الجو فى البلاد وأيقظ المعارضة ضدهم، فذهب إلى أوروبا، وعاش فيها منفيا سبعة أعوام متنقلا بين عواصمها حتى دعاه الشاه مظفر الدين إلى طهران عام 1889، فكان نشاطه وتأثيره فى إيران مثل نشاطه وتأثيره فى مصر وتركيا والهند، وكان تأثيره يسرى بين الناس بسرعة فائقة والتف حوله الناس يطالبون معه بالتجديد والنهضة والثورة على الجمود، فاضطر إلى الهرب إلى لندن عام 1892 بعد أن انقلب عليه الشاه، وفى عام 1895 طلب السلطان عبد الحميد من الأفغانى أن يعود من لندن إلى القسطنطينية فذهب إلى تركيا وواصل دعوته هناك، وترك له السلطان حرية الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، لكنه انقلب عليه بعد ذلك عندما هاجم الأفغانى استبداد السلطان عبد الحميد، وأخيرا دس أعوان السلطان السم للأفغانى، ولكن أفكاره ظلت حية بعد موته، واستمر تأثيرها فى كل المدارس الدينية الإسلامية تقريبا.
وبعد فترة ظهرت دعوة أخرى مختلفة عن حركة التجديد التى قادها الأفغانى، وكانت هذه الحركة تتسم بالتعصب والتمسك حرفيا بالنصوص، والدعوة إلى العودة إلى العصور الماضية والرجوع بالمجتمع الإسلامى إلى القرون الأولى، ووصلت إلى تحريم خروج المرأة، وإلزام الرجال بإطلاق اللحية وإلى هدم الأضرحة، واعتبر هؤلاء المتعصبون أنفسهم أنهم هم الذين طهروا الإسلام، وامتد نشاط هذا التيار المتشدد ليغزو العالم الإسلامى ويمحو آثار حركة التجديد التى قادها الأفغانى وتلاميذه، وأفرخت بعد ذلك الجماعات الإرهابية التى عانى منها العالم الإسلامى وامتد خطرها إلى الغرب، وكانت بذلك مفجرة الشرارة لموجة جديدة من العداء للإسلام فى الغرب أقوى من كل الموجات السابقة وأشد خطرا على أوطان المسلمين، وعلى الإسلام ذاته.
***
وفى رأى باول شمتز أن أهل السنة بدأوا فى تجديد دينهم والعودة إلى المبادئ الصحيحة للإسلام، وكانت بداية اليقظة الإسلامية بتأثير عدوان الغرب على بلاد المسلمين، ورد فعل على الاستعمار الغربى الذى اقتحم هذه البلاد بقوة السلاح. ولم تكن اليقظة بين أهل السنة وحدهم، ولكنها شملت الشيعة أيضا، وظهرت قيادات دينية وفكرية فى المذهب الشيعى حملت لواء الإصلاح الدينى فى المجتمع الشيعى ونادت بالعودة بالدين الإسلامى إلى صفائه الأول.
ولكن عملية الإصلاح الدينى لم تكن دائما على الطريق الصحيح، ولم تلتزم بالسماحة، والبساطة، والاعتدال الذى يميز الإسلام، فقد ظهر التشدد والتطرف تحت ستار التمسك بالأصول وبالممارسات والسلوك مما كان عليه المسلمون الأوائل من أبناء القبائل فى مجتمع المدنية، وكانت دعوة هؤلاء المتطرفين قائمة على استنكار ورفض أدوات الحضارة والتحديث ومبتكرات العلم والتكنولوجيا، وتكرار الهجرة والحياة فى الصحارى والمغارات أو- على الأقل- التمسك بكل ما هو قديم ورفض كل ما هو جديد. كذلك ظهرت فى الشيعة دعوات تطرف من نوع آخر. فقد دعا الشيخ أحمد العاصى الذى توفى عام 1826 إلى أن الإمام الثانى عشر المختفى ما زال حيا إلى اليوم وسيعود فى يوم من الأيام ليملأ الأرض عدلا، وفى زمن غياب الإمام لا تنقطع صلته بشعبه، ولكنه يتصل به فى أثناء فترة الانتظار عن طريق زعيم روحى، فعاد التصور الذى مضى عليه قرون مرة أخرى، واعتقد كثير من الشيعة أن هذا الشيخ وتلميذيه من بعده هم رسل الإمام الثانى عشر الغائب، ملأهم بروحه، وأمدهم من فكره، مع أنهم لم يدَّعوا أبدا أنهم على صلة شخصية بالإمام الغائب.
وعادت موجة الانحراف مرة أخرى عام 1844 حين ظهرت هذه الحركة مرة أخرى فى صورة جديدة، فقد ادّعى (ميرزا على محمد) أنه على صلة مباشرة مع الإمام الغائب الذى اختفى قبل ألف عام، وأذاع أنه يمهد الطريق لعودة الإمام الغائب، ولقب نفسه باسم (باب الله) وصدق كثير من الشيعة هذا القول، وانطلقت حركة فى إيران باسم البابية، تشبه حركة قامت فى الغرب قبل ألف عام ادعت أنها تهيئ المسيحيين لاستقبال المسيح الذى أوشك أن يعود ليحكم ويملأ العالم عدلا وسلاما.
وازداد اتباع هذا (الباب) وتملكتهم العصبية الدينية، واستولى عليهم شعور العقيدة المتوهج، وأصبحوا خطرا على الإسلام وعلى الفكر الدينى الشيعى، كما كانوا خطرا على السلطة السياسية فبدأت فى مطاردتهم. وربط (الباب) تعاليم الدين بطريقة ملتوية باتجاهات وأفكار غربية، فأنكر الحدود والجهاد ومنع الحجاب، ودعا إلى تحريم تعدد الزوجات. وتطورت هذه الدعوة حتى تحولت إلى الدعوة إلى القضاء على الدولة وإقامة مملكة دينية جديدة على أنقاضها يكون على رأسها (الباب) الذى يمهد الطريق لعودة الإمام الغائب. وهكذا تشابكت الأهداف السياسية بالأهداف الدينية، وصارت الدعوة إلى المبادئ الدينية وسيلة بعض الفرق الإسلامية للوصول إلى السلطة.
وفى أوائل عام 1850 ألقى القبض على (الباب) وظل فى السجن بضعة أشهر، ثم نفذ فيه حكم الإعدام يوم 8 يوليو 1850 مع أحد تلاميذه، وبعدها ظهرت أساطير حول ما ظهر من كرامات ومعجزات أثناء تنفيذ الإعدام، وانتشرت هذه الأساطير على أيدى أتباعه، ومن هذه الأساطير أن الحراس عندما ربطوا (الباب) وتلميذه مع بعضهما بالحبال وضع التلميذ رأسه على صدر (الباب) وحين أطلق الحراس أول دفعة من الرصاص، وانقشع الدخان، رأى الواقفون (الباب) وتلميذه واقفين بدون قيود، وكانت المعجزة أن الرصاص أصاب القيود وأصابتها الدفعة الثانية وهما بلا قيود. وأوقدت هذه الأسطورة فى أتباعه حماسا لا يوصف، دفع بهم إلى الاستشهاد فى سبيل دعوته، فتم إعدام أعداد لا حصر لها، كان يتم وقوفهم صفوفا أمام حائط ويتم إعدامهم بالرصاص بصورة جماعية فوجا بعد فوج، ومع ذلك، استمرت هذه الدعوة على يد الخليفة الذى عينه (الباب) قبل إعدامه، وكان الخليفة (ميرزا يحيى) لا يقل عنفا فى دعوته عن (الباب) إلى أن دبرت الحركة محاولة لاغتيال الشاه ناصر الدين وفشلت المحاولة فكانت هذه بداية حملة لإعدام وسجن وطرد أتباع هذه الحركة، ولكن (ميرزا يحيى) زعيم الحركة استطاع أن يهرب من إيران إلى بغداد هو وأخوه غير الشقيق (بهاء الله) وجمع من أتباعه واتخذوها منفى لهم يمارسون منها نشاطهم ويمتد تأثيرهم على إيران عن طريق الإيرانيين الذين يمرون ببغداد وهم فى طريقهم لزيارة الأماكن المقدسة فى النجف وكربلاء، وأقلق هذا الأمر شاه إيران (ناصر الدين) فطلب من الباب العالى فى تركيا إبعاده، فاستجاب الباب العالى ونقل (ميرزا يحيى) إلى الطرف الغربى من الإمبراطورية العثمانية بعيدا عن إيران. وفى هذا المنفى الجديد أعلن الأخ غير الشقيق لميرزا يحيى أن الإمام الثانى عشر الغائب عاد فى شخصه، وأن روح الإمام الغائب حلت فيه، فهو الإمام الغائب قد عاد، وصدقه ناس كثيرون واتبعوه، ووقعت بين هذه الطائفة وبين أنصار أخيه (ميرزا يحيى) مشاحنات، وتطورت العداوة بين أنصار الأخوين إلى صراع حقيقى اضطر السلطة التركية إلى التدخل، فأرسلت الباب (ميرزا يحيى) هو وأتباعه إلى جزيرة قبرص وكان قد سمى نفسه (صبح أزل) أى (الفجر الخالى) أرسلت أخاه (بهاء الله - الإمام العائد) وأتباعه إلى فلسطين واتخذ مدينة عكا منفى له. وصلت العداوة بين الفريقين إلى حد أن أصبح أتباع كل فريق على قائمة المطلوبين للقتل على يد الفريق الآخر، وكان كل فريق قد وصل إلى درجة اليقين بأن قتل أتباع الفريق الآخر عمل من أعمال العبادة والتقرب إلى الله ثوابه الجنة!
مات (ميرزا يحيى) فى منفاه فى قبرص، وتفرق أتباعه من بعده، أما أخوه (بهاء الله) فقد ظل فى عكا ثلاثين عاما محاطا بأتباعه إلى أن مات فى عام 1892 ودفن فى مقبرة على أطراف المدينة فى مقبرة تحوطها حديقة فيحاء. وخلال هذه الأعوام الثلاثين التى عاشها فى عكا ظل (بهاء الله) على اتصال بأتباعه فى إيران حتى وصل عددهم فى بعض التقديرات إلى مليون شخص، وكونوا خلايا سرية، وأشعلوا ثورة فى إيران عام 1908.
وبعد موته انقسم والدا (بهاء الله) إلى فريقين وتولى كل منهما زعامة طائفة، وبدأ ابنه الأكبر (عبد البهاء) فى الدعوة إلى اعتبار الإنجيل والتوراة مصدرا للشريعة الإسلامية مع القرآن، واجتذبت هذه الدعوة أتباعا لها فى أوروبا والولايات المتحدة، وأقيمت مراكز للطائفة فى فرنسا وإنجلترا وأمريكا، وكان من أتباع هذه الطائفة وكيل وزارة فى الولايات المتحدة هو (بريان Bryan) كان يتردد على قبر (بهاء الله) للزيارة، وترك منصبه أثناء الحرب العالمية الأولى لأنه اعتقد أن سياسة الرئيس الأمريكى ويلسون لا تتمشى مع مبادئ الطائفة. وامتد تأثير البهائية من المجال الدينى إلى المجال السياسى والاجتماعى.
هذه القصة عن البابية والبهائية التى خرجت من عباءة الشيعة ليست شيئا غريبا، لأن هناك طوائف وجماعات متطرفة ومنحرفة خرجت من عباءة السنة أيضا، وتاريخ الإسلام لا يخلو فى كل مرحلة من مراحله من فئة أو جماعة أو طائفة تلبس أهدافها السياسية وأطماعها فى الوصول إلى السلطة بمظهر دينى، وتضيف إلى الإسلام ما ليس من طبيعته، وفى كل مرحلة تجد هذه الطوائف أنصارا يقدمون على الموت طواعية على ظن بأن هذا الموت يقربهم إلى الله ويجزيهم عنه بالجنة.
ومثل هذه الأفكار والمذاهب والجماعات الغريبة تدعو المعتدلين فى الغرب إلى الظن بأن هذا هو الإسلام، فيشعرون بالخوف من هذا الدين الذى يمتلئ تاريخه بالقتل والدماء، وهناك جماعات معينة – دينية وسياسية – تجعل رسالتها الإساءة إلى الإسلام واختيار النماذج الشاذة والضالة وتركز عليها الأضواء وتصورها على أنها الممثلة لحقيقة الإسلام، وتسهم بذلك فى تشويه صورة الإسلام، حتى أصبح الإسلام هو الضحية دائما من الجانبين: من أعدائه، ومن بعض أتباعه.
وهذا ما يدعو المخلصين للإسلام إلى أن يتحركوا فى اتجاهين: الاتجاه الأول التصدى لأمثال هذه الجماعات وكشف ما فى دعواتها من انحراف عن صحيح الدين، وتوعية جموع المسلمين إلى أن دين الإسلام بسيط يتفق مع الفطرة السليمة، ليس فيه تعقيدات نظرية أو أساطير، وهو دين يخاطب العقل السليم، ويصل إلى القلوب النقية ببساطته وتسامحه ودعوته الدائمة إلى السلام وإلى التعاون بين البشر جميعا على اختلاف عقائدهم وألوانهم ولغاتهم باعتبار البشر جميعًا أبناء آدم وحواء، فهم من أب واحد وأم واحدة، وأن الاختلاف بين البشر لحكمة إلهية أخبرنا بها الله فى كتابه: (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا).
أما الطريق الثانى للدعوة إلى تصحيح صورة الإسلام فهو التوجه إلى الغرب، وتقديم الصورة الصحيحة للإسلام بالمنطق وباللغة التى يفهمها الغرب. فهذا العمل الإيجابى لمواجهة الحملات العدائية ضد الإسلام أفضل من الاكتفاء بالشكوى من الظلم الذى يتعرض له الإسلام فى الغرب. وفى الغرب كثيرون يريدون معرفة الإسلام، ويبحثون عن كتب تشرح الإسلام بأسلوب منطقى وعصرى، وتتشوق إلى من يحدثها عن الإسلام بلغة العصر وليس بلغة القرون الوسطى، وما دمنا نؤمن بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان فلابد أن نقدمه لأهل كل عصر وكل مكان بما يناسب عقولهم ودرجة تقدمهم الثقافى والحضارى.
وإذا لم يقم المسلمون بهذا الواجب فسوف يظل الإسلام مظلوما وهدفا لحملات التشكيك والتشويه ما دام أتباعه هم الذين تخلوا عن واجبهم ولم يدركوا ما يفرضه التقدم على الدعوة والدعاة من ضرورة التجديد.. تجديد الفكر الدينى.. وتجديد الخطـاب الدينى.. أولا وقبل كل شىء.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف