نظريـة جديدة: العـلاج بالقـراءة
بمناسبة الاحتفال بيوم الكتاب العالمى أتمنى أن يعرف كل مصرى أحدث نظرية للعلاج وهى العلاج بالقراءة، ولهذا السبب انتشرت المكتبات فى المستشفيات الأمريكية ضمن مشروع أطلقوا عليه (القراءة العلاجية). ولأن الإنسان كائن متكامل ولا يمكن فصل التأثير المتبادل بين الجسم والعقل والحالة النفسية والمؤثرات الخارجية، ظـهر الاهتمام بطرق جديدة للعلاج مساعدة للعلاج الطبى منها العلاج بالموسيقى، والعلاج بالرسم، ثم اكتشف العلماء مؤخرا أن العلاج بالقراءة هو أهم هذه العلاجات المساعدة.
وفى كتاب للدكتور شعبان خليفة أكبر أساتذة المكتبات فى العالم العربى شرح للتجارب والنظريات العلمية التى أثبتت أن التفاعل بين شخصية القارئ والإنتاج الفكرى الذى يقرؤه، له تأثير مباشر على الإنسان ويساعد على علاج كثير من حالات الاختلالات النفسية كما يساعد فى تنمية الشخصية. وأصبح شائعا استخدام القراءة للعلاج من المخاوف المرضية (الفوبيا) مثل الخوف من الظلام، أو من الأماكن المرتفعة أو الأماكن المغلقة، أو الخوف من الفشل فى الحياة العملية، أو الفشل فى الزواج، أو فى الدراسة.. الخ ونجحت تجارب المعالجين النفسيين والاجتماعيين فى علاج حالات القلق، والمشاكل الجنسية، وتعاطى المخدرات، وحالات الإحباط، والفشل فى تكوين علاقات ناجحة مع الآخرين.. وحتى مشاكل الطلاق والشيخوخة والاكتئاب تحسنت بالقراءة.. والمهم هو ماذا نقرأ؟ وكيف تقرأ؟.. فاختيار الكتاب المناسب والتفاعل مع الأفكار والمعلومات التى تقرؤها فيه هو الذى يحدد لماذا ينجح هذا العلاج مع شخص ولا ينجح مع شخص آخر.
يشير الدكتور شعبان خليفة إلى البحث العلمى الذى قام به اثنان من العلماء المشهورين هما جلاسجو وروزين سنة 1978 ونشر فى مجلة علم النفس الأمريكية وكان بعنوان (أدلة العلاج بالقراءة) كما يشير إلى دراسة مهمة غيرت مجرى التفكير بين المشتغلين بالطب والعلاج النفسى وكان موضوعها (العلاج بالكتب) ونشرت هذه الدراسة سنة 1968 .
العلماء توصلوا إلى أن القراءة تساعد الإنسان على أن يتفاعل ويرتبط بشخصية، أو فكرة، أو رمز مما يجده فى قراءته. هذا التوحد مع شخصية معينة أو مع فكرة، أو مع قيمة أخلاقية، يؤدى إلى تطور ونضج فى الشخصية. ووجد العلماء أن القراءة تساعد على التنفيس عن الانفعالات والمخاوف التى تكمن فى اللاشعور ويجهلها الإنسان ولا يلمس سوى آثارها فى تفكيره وسلوكه ومشاعره دون أن يدرى السبب. ووجدوا أيضا أن القراءة تساعد الإنسان على الوصول إلى حالة قريبة من الحالة التى يصل إليها فى المرحلة الأخيرة من العـلاج النفسى وهى حالة (الاستبصار) أى اكتشاف ما فى داخل عقله ونفسه فى اللاشعور وكان خافياً عليه، وبعد ذلك اكتشفوا أن القراءة تساعد الإنسان على التخلص من الأفكار السوداوية، ومشاعر الغضب، وتخلصه أيضا من عقدة الذنب. أى أن القراءة تقوم مقام المعالج النفسى أو تساعده على الأقل.
وبناء على ذلك أصبحت هناك عيادات للعلاج بالقراءة داخل المكتبات، وفيها يتجمع الذين يعانون من حالات نفسية ليستمعوا إلى قصة من القصص المشهورة ويناقشوا تصرفات الأبطال ويحاولوا تحليل مواقف كل شخصية من شخصيات الرواية، وينتقل الحوار بعد ذلك إلى المرحلة الثانية وفيها يتحدث المريض عن مشكلة معينة، ثم يشير عليه الموجه فى هذه العيادة إلى قراءة كتاب معين أو قصة أو ديوان شعر. ووجد المعالجون أن ذلك ساعد فى تحسين ثقة المريض ورفع مستوى احترامه وتقديره لنفسه.
ونتيجة لنجاح هذا الأسلوب فى العلاج أصبحت هناك قواعد للعلاج بالقراءة، ونشأ فرع جديد من فروع علم النفس هو علم نفس الكتاب، وأصبحت هناك تخصصات فى هذا الأسلوب العلاجى، ففى مستشفيات الأمراض العقلية يستخدم أسلوب للعلاج بالقراءة يختلف عن الأسلوب المناسب للقراءة فى علاج المرضى فى المستشفيات العلاجية، أو فى مؤسسات رعاية الطفولة أو الشيخوخة، ويختلف عن علاج نزلاء السجون والمؤسسات العقابية لكى يتخلصوا من دوافعهم العدوانية وميلهم لارتكاب الجرائم، ويختلف كذلك عن العلاج بالقراءة للتلاميذ والمراهقين فى المدارس والأندية.
ما هى أنواع الكتب التى يعالجون بها؟.
يقول الدكتور شعبان خليفة: إن كل إنتاج فكرى، مهما كان موضوعه، يمكن أن يساعد على العلاج، وأهم المجالات التى تأكدت جدواها بالتجربة هى: الكتب المقدسة، وقد نجحت أساليب العلاج بقراءة القرآن والتأمل فى معانيه، ويلى ذلك قراءة القصص القصيرة، وقصص الخيال العلمى، والشعر، وسير الأنبياء وقادة الفكر والناجحين فى الحياة.
يقول لنا الدكتور شعبان خليفة فى كتابه الذى أصدرته الدار المصرية اللبنانية: إن مؤسس علم نفس الكتاب هو نيقولاس روباكين وإن هذا العلم له قواعد ومبادئ منها أن الكتاب ليس وعاءً لنقل معلومات وأفكار فقط، ولكنه وعاء يتفاعل معه القارئ، ويجسد من خلال هذا التفاعل ظواهره النفسية، طبقا لنوع وقيمة الكتاب الذى يقرؤه. وهناك قوتان تعملان معا أثناء القراءة: القوة الأولى: هى عقل المؤلف وأفكاره، والقوة الثانية: هى عقل القارئ الذى يعيد فهم وتركيب ما فى الكتاب طبقا لمفهومه وشخصيته هو. ولذلك فإن كل قارئ يخرج من قراءة الكتاب بانطباع يختلف عن الانطباع الذى يخرج به غيره بعد قراءة نفس الكتاب، وحتى الإنسان الواحد إذا عاد بعد مضى سنوات إلى قراءة كتاب سبق له أن أعجب به، فسوف يخرج بانطباع مختلف، وربما يجد أن رأيه فى الكتاب لم يعد كما كان، وعلم نفس الكتاب يقول عن اللغة التى يقرؤها الإنسان: هى أدوات تفرز فى نفس القارئ خبرات قديمة وتثير حالة عقلية، فالقارئ ليس سلبيا يتلقى ما يقرؤه فقط، ولكنه يتفاعل بعقله ومشاعره وخبراته مع ما يقرؤه، سواء شعر بذلك أو لم يشعر، وهذا ما يجعله يتفاعل مع ما يقرؤه لأول مرة بطريقته، وإذا أعاد القراءة بعد فترة يجد نفسه يتفاعل مع نفس المادة بطريقة مختلفة، ومن فوائد القراءة أنها تساعد على تنشيط الذاكرة. والكلمات لها تأثير فى العقل وتحرك التفكير والذكريات والانطباعات التى يختزنها العقل الباطن والعقل الواعى. والقراءة تساعد على تكوين أرضية مشتركة من الأفكار والمشاعر والسلوك مع الآخرين.. والكتاب يكون له تأثير أقوى على القارئ الذى يتفق مع المؤلف فى جانب من خصائصه النفسية.. ويلاحظ القارئ أن بعض الكلمات التى يقرؤها قد تتسبب فى إثارة قوية لما فى داخل ذاكرته.. وهذا ما يفسر اختلاف الرأى ورد الفعل بين قارئ وآخر لنفس الكتاب.. والقراء يختلفون فى قدراتهم العقلية وفى تكوين شخصية كل منهم وتجاربه ومشاعره وتربيته ونظرته للحياة، وكل ذلك يؤثر فى تفاعله مع ما يقرؤه. هناك قارئ لديه قدرة على الفهم والتفاعل مع أفكار مجردة، وقارئ آخر لا يفهم إلا الحديث عن الأشياء المحسوسة والتى لها فائدة وعملية، وهناك قارئ يركز أثناء القراءة وقارئ آخر يقرأ دون تركيز أو تأمل للمعنى الذى يقصده الكاتب والمعانى التى وراء السطور.
والمجلس الوطنى للشيخوخة فى أمريكا ينظم برامج للقراءة لكبار السن لمدة ثمانية أسابيع تشمل قراءات فى الأدب، والفلسفة، والتاريخ، وعلم النفس، بعد أن ثبت أن هذا البرنامج أفاد المشتركين فيه ممن كانوا يعانون من الملل وفقدان الإحساس بالحياة، وأعاد إليهم الثقة بالنفس واحترام الذات، وساعد على زيادة رغبتهم فى الحياة والاندماج فى المجتمع. وأكثر من ذلك فقد نظم البروفيسور دانيل سوينى عالم النفس الأمريكى برنامجا لعلاج المرضى من كبار السن أعمارهم بين الخمسين والتسعين، بعضهم لديه تلف فى المخ، وبعضهم يعانون من أعراض الفصام (شيزوفرينيا) واضطرابات المخ المزمنة، وبعضهم لا يكاد يتكلم أو يتحرك، وتحسنت حالة معظمهم بعد انتهاء هذا البرنامج.
وفى كتاب الدكتور شعبان خليفة إشارات إلى عشرات التجارب والدراسات وقوائم اختيار كتب العلاج التى تساعد على ربط القارئ بالواقع، وتعيد إليه الرغبة فى الحياة والإحساس بما فيها من جمال ومتعة، وتضيف إليه تجارب إنسانية يستخلص منها المعنى الذى يعينه على الشفاء، وقد وجدوا فى الولايات المتحدة أن الرواية هى أكثر الأنواع الأدبية انتشارا فى العلاج بالقراءة للكبار، أما للأطفال فإن القصة هى الأكثر انتشارا يليها كتب التراجم عن الأبطال والشخصيات البارزة، وبعد سن الثانية عشرة تبدأ فروق القراءات تظهر بين الجنسين فتستمر فى قراءة القصص، بينما يقسم الأولاد وقتهم بين القصص والكتب العلمية، وفى سن الشباب تظل القصص هى المفضلة للقراءة ويتفاعل الشاب مع أحداث وشخصيات القصة ويتأثر بها فى حياته.
ولو أننا وضعنا برامج للقراءة المنظمة على أسس علمية للأطفال والمراهقين والمرضى ونزلاء السجون وكبار السن ممن يعانون من الآلام الجسمية والنفسية للشيخوخة. ربما نقلل من استخدامنا للأدوية وذهابنا إلى الأطباء والمستشفيات.. وربما يشفى الشباب من الإدمان والميل للعدوان والعنف.. ومن الهوس والهستيريا والحالات النفسية التى نعانى منها.. وما أكثرها!!