الموقف الأمريكى فى علبة شيكولاته !
صورة واحدة من عشرات الصور التى التقطت للقاء شارون مع الرئيس بوش تلخص وتجسد الموقف الأمريكى من إسرائيل، ومن القضية الفلسطينية، ومن العالم العربى والإسلامى.
الصورة للرئيس بوش وهو يقدم بنفسه إلى رئيس الوزراء الإسرائيلى شيكولاته صناعة أمريكية على كل قطـعة منها علم إسرائيل صنعت خصيصا لهذه المناسبة!
ورئيس الولايات المتحدة حين يستقبل قادة الدول لإجراء مباحثات رسمية مهما أحيطت بجو البساطـة، فإن كل كلمة، وكل لفتة، من الرئيس الأمريكى محسوبة، ومدروسة، ويتم إعدادها بمعرفة كبار المستشارين والخبراء فى البيت الأبيض. وعلى ذلك فإن استقبال شارون فى مزرعة الرئيس بوش وليس فى المكتب البيضاوى، وبملابس خفيفة تعبيرا عن علاقة خاصة وشخصية يرفع فيها الرئيس الأمريكى التكليف والرسميات، ثم قيام الرئيس بوش باصطحاب شارون فى جولة فى المزرعة لمشاهدة الخيول وقطـعان الأبقار وليقضى شارون وقتا فى مداعبة كلب الرئيس.
كل ذلك له دلالة ويحمل رسالة إلى الشعب الإسرائيلى، وإلى الشعب الأمريكى، وإلى الشعوب العربية بالطبع.
ومع حرارة اللقاء لم يشر الرئيس بوش فى مباحثاته مع شارون إلى ما يحدث فى القدس رغم اشتعال الموقف حول المقدسات الإسلامية، وقد أجاد شارون التحضير لهذا اللقاء بإطلاق العنان للمتطرفين للتهديد باقتحام المسجد الأقصى وتدنيسه، والتهديد بهدمه، وهو يدرك جيدا أن مثل هذه الخطوة لا بد أن تشعل النار فى الأراضى الفلسطينية، ولا بد أن يخرج الفلسطينيون عن وعيهم تحت ضغط هذا الاستفزاز، وبذلك يخلق جوا من الأزمة يمكن أن يتطور إلى إشعال الانتفاضة من جديد فتكون فرصته لهدم كل ما تم بناؤه للتهدئة والإعداد لمفاوضات السلام، ويعود الفلسطينيون مرة أخرى إلى نقطة الصفر، فيعود إلى احتلال الأراضى الفلسطينية ويستأنف جرائم القتل والتدمير واستباحة الأراضى الفلسطينية. فاختيار التوقيت قبل لقائه بالرئيس الأمريكى، واختيار المكان- القدس- ليس جديدا، فهو يكرر السيناريو الذى اتبعه من قبل حين اقتحم المسجد الأقصى وأدى استفزازه لمشاعر الفلسطينيين إلى تحقيق هدفه فى خلط الأوراق، وخلق الجو لإشعال الانتفاضة مما أعطاه ذريعة لإلغاء أوسلو وواى ريفر وتفاهمات تينيت وخطة ميتشل، وكل الجهود السابقة للتوصل إلى السلام، وفرض الحصار على الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات واتهامه بأنه إرهابى وفى كل ذلك كانت الولايات المتحدة تؤيده وتساعده وتدعم سياساته.
فى نفس الوقت فتح شارون الباب للمتطرفين والإرهابيين الإسرائيليين للقيام بمظاهرات واقتحام الأراضى الفلسطينية بحجة رفضهم لخطة شارون بالانسحاب من غزة وإخلاء المستوطنات غير الشرعية، لكى يظهر شارون للرئيس الأمريكى أنه يواجه موقفا صعبا ومعارضة قوية وأن إقدامه على سحب قوات الاحتلال من غزة ومن بعض الأراضى الفلسطينية فى الضفة، وإخلاء بعض المستعمرات الصغيرة العشوائية، مغامرة قد تكلفه منصبه، وقد تكلفه حياته، بل ربما تؤدى إلى حرب أهلية بين الإسرائيليين أنفسهم كما أعلن قبل ركوبه الطائرة إلى تكساس (!).
وكل هذه الملاعيب لا تنطلى على الفلسطينيين والسياسة الإسرائيلية تستخدمها دائما، وتجند الإعلام والكونجرس وجماعات الضغط اليهودية فى أمريكا لتصوير هذه التمثيليات على أنها حقيقية، وقد بالغ شارون فى ذرف دموع التماسيح إلى حد أنه أدلى بتصريح لشبكة تليفزيون (إن.بى.سى) الأمريكية قال فيه: إن الأجواء فى إسرائيل فى حالة من التوتر تبدو كأننا عشية حرب أهلية، ولقد دافعت طيلة حياتى عن اليهود، الآن لأول مرة أدافع عن نفسى منهم!.
هكذا فرض شارون موضوع المباحثات مع بوش قبل اللقاء. استبعد مناقشة موضوع استمراره فى بناء السور الفاصل الذى يضم أراضى الفلسطينيين إلى إسرائيل ويمزق الأراضى الفلسطينية ويجعل التنقل والتواصل بين الفلسطينيين تحت رحمة الجيش الإسرائيلى. واستبعد مناقشة موضوع قيامه ببناء مستعمرات جديدة وتوسيع المستعمرات القائمة. واستبعد مناقشة استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين رغم التزام الفصائل الفلسطينية باتفاق القاهرة بالتهدئة ووقف أعمال العنف. وفرض على اللقاء موضوع إطلاق صاروخين على مستعمرات إسرائيلية لم يحدثا أى خدش فى شخص إسرائيلى، ولم يشر إلى قيام القوات الإسرائيلية بقتل ثلاثة صبية كانوا يلعبون الكرة فى ساحة فى الأراضى الفلسطينية قريبة من القوات الإسرائيلية. وأصابوا خمسة صبية آخرين بعد ذلك بإصابات خطيرة لمجرد تلويحهم لجنود الاحتلال، والقوات الإسرائيلية تتوغل فى المدن الفلسطينية ضاربة عرض الحائط باتفاق شرم الشيخ. لقد اعتبر شارون إطلاق هذه الصواريخ الفلسطينية الطائشة انتهاكا خطيرا لتفاهمات شرم الشيخ ولم يعتبر قتل الفلسطينيين انتهاكا لهذه التفاهمات.
وطبعا وجد شارون تفهما من الرئيس بوش، ووجد لديه إدانة للوجود السورى فى لبنان وضرورة خروج القوات السورية من لبنان باعتبارها- فى نظر بوش وشارون- قوات احتلال، ولم يتطرق الحديث- ولو بالتلميح- إلى وجود الاحتلال العسكرى الإسرائيلى فى مزارع شبعا اللبنانية والجولان السورية. لأن ما تفعله إسرائيل حلال وتستحق عليه التحية بالشيكولاته الأمريكية وعليها العلم الإسرائيلى، وما يفعله غيرها حرام ويستحق عليه العقاب، بل إن البحث تناول زيادة الضغوط الأمريكية على إيران لكى تصبح المنطقة كلها كما تريد إسرائيل.
وفى العام الماضى عندما التقى شارون بالرئيس بوش عاد بموافقة الرئيس الأمريكى على الحل الإسرائيلى للصراع من جانب واحد وفقا لمخطط شارون. وتناسى الرئيس الأمريكى خريطة الطريق وهى من إعداده، وتنازل عن وعده القاطع فى شرم الشيخ بإقامة الدولة الفلسطينية فى نهاية 2005، ووافق الرئيس بوش على أن ينفرد شارون بفرض حدود الدولة الفلسطينية وإبقائها وراء الأسوار، وحصل شارون أيضا على مباركة الرئيس بوش لضم الأراضى التى يريدها من الضفة الغربية ورفض عودة اللاجئين الفلسطينيين، والاستمرار فى اغتصاب القدس.
وفى مقابل ذلك تفضل الرئيس الأمريكى بتقديم تصريحات للفلسطينيين لم ينفذ منها شيئا على الأرض، فهى مجرد تصريحات للتهدئة وامتصاص الغضب وإعطاء أمل كاذب فى العدالة الأمريكية وفى الإنصاف على يد الرئيس المؤمن الذى يجسد القيم الأمريكية فى الحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان (!).
هل يريد الرئيس بوش حقيقة أن يدخل التاريخ كصانع للسلام العادل فى الشرق الأوسط لكى يقضى على مشاعر الغضب التى تفجر الإرهاب العشوائى فى كل مكان وتهدد العالم؟.
إذا كان ذلك حقيقيا فكيف انتهى لقاء الشيكولاته بدعم الرئيس بوش لسياسات شارون بالاحتفاظ بالكتل الاستيطانية المقامة على الأراضى الفلسطينية؟. وكيف انتهى اللقاء بتأكيد وعد بلفور الجديد الذى أعطاه بوش لإسرائيل فى العام الماضى بعدم العودة إلى حدود 67 وعدم عودة اللاجئين وعدم عودة القدس؟. وهل سيبتلع العرب العبارة التى طالب بوش فيها بإزالة البؤر الاستيطانية العشوائية وعدم توسيع مستوطنات الضفة وهى فى الحقيقة تأييد لوجود المستوطنات القائمة الآن وإزالة بعض العشوائيات فقط؟. وهل من الإنصاف أن يطالب الرئيس بوش الفلسطينيين بوقف نشاط الفصائل ولا يطالب الإسرائيليين بوقف عمليات الجيش واعتداءات ميليشيات المستوطنين المسلحين؟، ولماذا لم يطلب نزع أسلحة المستوطنين؟.
إن الرئيس بوش يواصل الضغط على الفلسطينيين ويقدم إليهم كل يوم مطلبا جديدا يجردهم من حقوقهم خطوة خطوة، ولا يطلب فى المقابل شيئا من إسرائيل.
لماذا يقدم الرئيس بوش لإسرائيل الشيكولاته، ويقدم للفلسطينيين العلقم؟ *