لماذا نظلم نصر أكتوبر؟!
مرت ذكرى حرب أكتوبر دون أن تلقى ما تستحقه من اهتمام الأجهزة والمؤسسات المسئولة عن الإعلام والثقافة والتعليم. على الرغم من أن هذا النصر الذى حققته قواتنا المسلحة مضى عليه 33 عامًا، وهناك جيل كامل من المصريين لم يعيشوا هذه الأيام التى ملأت بنشوة النصر قلوب المصريين، والتى أعادت لمصر أرضها المحتلة، وعبرت بالمصريين جميعا عن حالة الإحباط التى كانت سائدة بعد هزيمة 67 إلى حالة من الثقة بالنفس وبالأمل فى تحقيق الكثير مما كان يبدو مستحيلا، فلقد عبرت قواتنا القناة، ودمرت حصون العدو واضطرته إلى الانسحاب وكان ذلك يبدو من المستحيل.
لابد أن يتعمق فى نفوس الجيل الجديد كيف أن المصريين لا يعرفون المستحيل، إنهم قادرون على عبور الأزمات الصعاب مهما كانت صعوبتها ومهما بدت وكأن التغلب عليها مستحيل.
حتى اليوم، وبعد مرور 33 عامًا لم يتم إنتاج فيلم كبير أو مسرحية أو أوبريت أو رواية عن ملحمة عبور القناة ومراحل الإعداد لها التى بذل فيها أعز الرجال الدم والعرق، وضحوا بأرواحهم من أجل تحرير أرض الوطن المقدسة وتطهيرها من دنس الاحتلال.. سيناء ارتوت بدماء المصريين على مر العصور من أجل الحرية. ولم تعلن وزارة الثقافة عن مسابقة تخصص لها جوائز كبيرة لأحسن إنتاج أدبى وفنى وتشكيلى عن انتصارات أكتوبر مع أنها تنفق عشرات الملايين على حفلات الرقص ومسرح العبث، ولا يمكن أن تدعى الوزارة ضيق ذات اليد وعدم كفاية ميزانيتها وهى تبعثر الكثير من الأموال فى برامج لا تعمق الإحساس الوطنى، ولا تنمى الشعور بالولاء والانتماء لدى المصريين عمومًا ولدى الشباب بصفة خاصة مع أن الشكوى من اغتراب الشباب وشعورهم بالإحباط على كل لسان.
ولأن الذين يتولون قيادة معظم المؤسسات المسئولة عن الوعى وبناء العقول عاشوا أيام أكتوبر ويعلمون تفاصيلها فإنهم ربما يظنون أن كل المصريين مثلهم يتذكرون أيام الحرب وزهو الانتصار بكل تفاصيلها، وبالتالى فإنهم ليسوا فى حاجة إلى من يروى لهم تفاصيل ما جرى فى هذه الحرب وما قبلها وبعدها. ولم يخطر ببالهم أن 33 عامًا مرت، ومعنى ذلك أن أكثر من نصف الشعب العربى أعمارهم تقل عن الأربعين لم يعايشوا الحرب ولا يعرفون الكثير عنها إلا بعض أحداث وعموميات وشعارات وأغنيات تتردد فى هذه المناسبة كل سنة.
وحتى وزارة التعليم التى كان المفروض أن تقدم لتلاميذها كتابا للقراءة الحرة خارج المقرر عن حرب أكتوبر، كما كانت تفعل من قبل وتقرر كتابا عن فارس الشهباء أو عن شوقى أو غيرهما، ولعل فى هذه الوزارة من لديه فكرة عما تقرره المدارس فى الخارج على تلاميذها فى مختلف المراحل من كتب للقراءة فى شتى المجالات لتكوين ثقافتهم السياسية والأدبية والعلمية وتعويدهم على قراءة كتب للمتعة وللمعرفة وعدم الاكتفاء بالكتب المقررة للامتحانات. لكن وزارة التعليم عندنا لم تفعل ذلك وتكتفى ببضعة سطور هزيلة لا تشبع رغبة التلميذ فى معرفة كل شىء، وبالتفصيل وبأسلوب أدبى مشوق، عن المعارك السياسية والإعلامية والعسكرية وصور البطولات النادرة التى يستحق كل منها كتابا مستقلا مثل عبد العاطى صائد الدبابات الذى دمر 22 دبابة بصواريخ (آر. بى. جيه) ومثل محمد المصرى الجندى البسيط الذى دمر 20 دبابة وأسر ضابطًا برتبة كبيرة وعددًا من الجنود الإسرائيليين، وحصل كل منهما على وسام نجمة سيناء أعلى وسام للشجاعة فى القتال. وهناك الكثير والكثير من الأبطال فى مختلف الأسلحة والرتب من القادة الكبار والضباط والجنود حصلوا على نجمة سيناء، ويستحق كل منهم كتابا يروى قصة حياته وبطولته وشجاعته، ليكون قدوة ومثالاً يحتذى فى الشجاعة والفداء. كذلك فإن تعليم التلاميذ تفاصيل الحرب، وعناصر خطة القتال، وعوامل النصر، تنمى فيهم ملكة التفكير العلمى والتخطيط والإيمان بأهميتها، وتغرس فيهم الايجابية وروح الابتكار والمبادرة، وتدعوهم إلى معرفة قيمة الصبر وتحمل المشاق والاستعداد الجيد لكل معركة من معارك الحياة فى السلم والحرب. وبالإضافة إلى ذلك- تجعلهم يشعرون بالانتماء والارتباط بالأرض والوطن والاعتزاز بآبائهم وأجدادهم الذين ضحوا من أجلهم، لكى يتقبلوا هم أيضا أن يضحوا من أجل من سيأتى بعدهم.
شىء غريب أن يقتصر الاحتفال بنصر أكتوبر على المراسم الرسمية، ويوم إجازة، وإذاعة الأغانى التى هزت قلوب المصريين أيام الحرب ليوم واحد ثم تعود إلى الأرشيف. دون أن تكون هناك برامج تشرح بأسلوب بسيط يناسب الصغير والكبير والمتعلم والأمى لكل من الشباب والكهول والأطفال، ولا نكتفى بندوات المفكرين ورجال الاستراتيجية الذين يقومون بتحليل المعارك والنتائح ولا يستطيع أن يتابعهم إلا من يعرف تطورات الأحداث، وعاشها ويقدر على فهم المصطلحات التى يستخدمونها فى أحاديثهم، وهم- مع أهمية ما يقولون- لا يتعرضون بالشرح لحكاية قصة الحرب، هذه ليست مهمتهم.. حكاية الحرب مهمة آخرين من الكتاب ورجال الإعلام والمؤلفين المتخصصين.
وحتى الدراسات الاستراتيجية عن الحرب ما زالت تحتاج إلى جهد كبير.. ولولا الندوة الاستراتيجية المتعمقة التى نظمتها القوات المسلحة عام 1998 بمناسبة مرور 25 عامًا على الحرب، وبعض مذكرات قليلة جدًا للقادة الذين نثق من صدق وموضوعية روايتهم للأحداث، لولا ذلك لما وجدنا فى أيدينا ما يفيدنا فى معرفة الحقائق بتفاصيلها حول هذه الحرب المجيدة. وما زالت الوثائق الخاصة بها من الأسرار العسكرية، وكثير من قادة الأسلحة الذين كانت لديهم شهادات مهمة عن تفاصيل المعارك رحلوا دون أن ينشروا شهاداتهم، وبذلك سنظل فى دائرة تكرار الحديث بالشعارات والعبارات الانشائية عن عبور الهزيمة، وتحدى المستحيل، والنصر العظيم، دون أن نقول للشباب الأسباب والمبررات التى تجعلنا نصف هذه الحرب بهذه الأوصاف.
حتى اليوم ليس لدينا متحف كامل عن حرب أكتوبر ولولا أن القوات المسلحة بادرت بإنشاء بانوراما أكتوبر لما وجدنا مجالا يجسم لنا البطولات والانتصارات التى حققها رجالنا، مع أن هذه الحرب تستحق تخصيص متحف لها فى كل محافظة لكى يتاح لجميع تلاميذ مصر زيارته ويشاهدوا ويستمعوا إلى قصة الحرب التى قال المصريون فيها للعالم: نحن هنا.
وكانت وزارة التعليم فى السنوات الماضية تنظم مسابقة سنوية للتلاميذ فى جميع المراحل لكتابة مقالات وأبحاث وأشعار ورسم لوحات عن حرب أكتوبر ولكنها توقفت عن ذلك، وتوقفت أيضًا عن التقليد القديم الذى كان يجعل حصص اليوم السابق أو اللاحق ليوم 6 أكتوبر للحديث عن حرب الكرامة وعبور الهزيمة.
نحن مقصرون فى أمور كثيرة.. مقصرون فى حق أنفسنا وفى حق بلدنا وتاريخنا وأجيالنا الجديدة، ونتعلل بمشاغل الحياة وبكثرة المشاكل، وقد يكون ذلك صحيحاً ولكنه عذر غير مقبول لأنه ليس أمام الدولة مهمة أهم من ذاكرة وعقول أبنائها وتنمية الشعور الوطنى فى نفوسهم ولا يمكن التسامح فى التقصير فى حق هذه المناسبة الوطنية الكبرى التى ينبغى أن يكون إحياؤها واجبًا مقدسًا لا يمكن التهاون مع المقصرين فى أدائه على أكمل وجه، فهى ذكرى مشرفة للوطن والوطنية، ومناسبة لنا جميعًا، لتقديم واجب التعبير عن الامتنان والاحترام لكل من شارك فى هذه الملحمة وتذكر كل شهيد، فالشهداء أفضل منا جميعًا، وهم أولى بالتكريم الدائم من كل من يحصلون على التكريم من الأحياء مهما كانت قيمة ما يقدمونه.
ومع ذلك فإن الفرصة ما زالت قائمة ويجب أن يتداركها الجميع فى المؤسسات الحكومية والأهلية، فهذه الملحمة ليس حدثًا نذكره يومًا واحدًا فى السنة، ولكنها صفحة ناصعة من تاريخنا الحديث نشعر بالفخر وبالثقة بالنفس وبالأمل كلما قرأنا سطرًا من سطورها المضيئة، ابتداء من معركة رأس العش إلى إغراق المدمرة إيلات إلى معركة جزيرة شدوان، وعمليات الصاعقة خلف خطوط العدو فى سيناء، ومعركة بناء حائط الصواريخ وكيف استطاع المصريون أن يجعلوا من الأسلحة الدفاعية أسلحة هجومية، ثم إعداد الدولة للحرب، وإعداد خطة الحرب، وإعداد الدول العربية للمشاركة التى أسفرت عن الوقفة التاريخية باستخدام البترول العربى سلاحًا فى المعركة، إلى مشاركة الدول العربية بقوات وأسلحة على الجبهتين المصرية والسورية، ثم عظمة الأداء العسكرى فى العبور والقتال فى سيناء جميع الأسلحة وخصوصا معارك السلاح الجوى وسلاح المدفعية والمشاة والصاعقة ومعركة الدبابات التى قال عنها خبراء الاستراتيجية العسكرية فى المراكز العالمية المتخصصة بأنها كانت أكبر معركة دبابات منذ الحرب العالمية الثانية.
بطولات.. وتضحيات.. وانتصار.. كيف نهمل فى إحياء ذكرى كل ذلك كل يوم وليس كل سنة؟!