لم أكن وحدى.. ولم أكن الأول.. ولا الأخير!
دخلت مبنى دار المعارف العريق فى 4 يناير 1994 فلم أشعر بالغربة، وغادرته يوم 4 يوليو 2005 فلم أشعر أننى أفارقه، لأن صلتى بدار المعارف قديمة جدًا ترجع إلى الخمسينيات، وما زلت أشعر بأننى مدين لها بالفضل فى فترة التكوين وحتى اليوم. ومجلة أكتوبر هى الابنة المدللة لدار المعارف وعلاقتي بها أيضًا قديمة ومنذ العدد الأول وأنا أتابعها..
وهذا هو السبب فى أننى أشعر بأننى أحمل جنسية مزدوجة بانتمائى إلى الأهرام وإلى دار المعارف ومجلة أكتوبر، فالأهرام بالنسبة لى هو وطنى الصغير، وعشت فيه سنوات طويلة وأحببت كل من فيه، وكان المبنى ذاته جزءًا منى وكنت أنا جزءًا منه.. بدأت فيه محررًا عام 1970 إلى أن أصبحت نائبًا لرئيس التحرير ومسئولاً عن صفحات الرأى ومحررًا لباب (مع القانون) لأكثر من أربعة عشر عامًا، وقبل ذلك تدرجت فى مواقع كثيرة من القسم القضائى إلى القسم الدينى إلى التحقيقات إلى الدسك المركزى وهكذا.. ولم أكن أتصور أن يكون لى مكان فى الصحافة فى غير الأهرام، ولكنى عندما وجدت نفسى فى دار المعارف ومجلة أكتوبر شعرت أننى فى بيتى وكأنى لم أغادر الأهرام. وبهذا الشعور عبرت عن انتمائى لهما بالاستمرار فى كتابة مقالى الأسبوعى فى الأهرام (بدون مقابل مادى لمدة 11 سنة و6 شهور) مع عملى اليومى فى دار المعارف ومجلة أكتوبر، وكان هذا العمل فى الحقيقة يستغرق نهارى وليلى وعلى حساب أسرتى وأصدقائى.. فى دار المعارف ومجلة أكتوبر كانت أسرتى وأصدقائى.
ومنذ البداية وضعت لنفسى خطًا حرصت على الالتزام به. أن أحافظ على شخصية أكتوبر التى تميزت بها، وأن أقود عملية الاستمرار والتطوير فى نفس الوقت مع زمـلائى الذيـن وجـدت منهـم تعـاونًا سأظل أذكره لهم بالعرفان، وهذا ما جعلنى لا أستجيب لدعـوة مـن كانوا يطالبوننى بقيادة انقلاب لتغيير كل شىء بدعوى أن أترك (بصمة).. ووجدت من الزملاء الذين عاصروا ولادة المجلة من يشاركنى الرأى فى أن المجلة سارت قبلى على الطريق الصحيح، وعلىّ أن أدافع عن الشعار الذى ظللت أردده دائمًا وهو: ما جئت لأنقض بل لأكمل، ورفضت حتى تغيير حجم المجلة المميز.
ولم نساير تيار الإثارة و(الفرقعة) و(الفبركة) التى انتشرت فى بعض الصحف، ولم نلجأ إلى جذب القارئ وزيادة التوزيع بالثلاثية المعروفة: الجنس، والفضائح، والجريمة، وهى ثلاثية تستخدمها الصحافة الرخيصة وتحقق بها توزيعًا يفوق توزيع الصحافة المحترمة، ومن الأمثلة الشهيرة أن مجلة (بلاى بوى) توزع عشرة أضعاف ما توزعه مجلة محترمة مثل (نيوز ويك) أو (تايم) أو (الايكونومست) ولكن الفارق كبير عندما ننظر إلى (القيمة) و(التأثير) و(المصداقية) ونوعية القراء..
مجلة أكتوبر مجلة محترمة. تحترم عقل القارئ، وتنأى بنفسها عن الخوض فى أعراض الناس، أو النيل من كرامة إنسان، أو توجيه اتهام بدون سند ودليل، ولا تقبل أبدًا ارتكاب جريمة (اغتيال الشخصية) التى يستبيح آخرون لأنفسهم ارتكابها ببساطة.. وأعتقد أننى حافظت على ذلك طوال أحد عشر عامًا ونصف العام.. كنت خلال هذه الفترة أذكّر نفسى بدعوة الشيخ متولى الشعراوى لى حين سألته أن يدعو لى فى بداية عملى فرفع يديه وقال: أسأل الله لك أن تؤثر الصدق على السبق.. وقد حرصت على ذلك فعلاً، وساعدنى على ذلك مجموعة من الصحفيين المحترفين الذين عايشوا المجلة من بدايتها، ويؤمنون بأن الصحافة رسالة وليست تجارة.. ومسئولية وليست وظيفة.. يحكمها الضمير وليس قانون العرض والطلب.. ولا تقبل أن تحقق زيادة التوزيع باستخدام الأساليب البهلوانية والإثارة والبطولات الزائفة الدونكيشوتية.. وكنت حريصًا على أن تضع (أكتوبر) أمامها مسئوليتها عن الأمن القومى ولا تقبل المساس به من قريب أو بعيد بأية صورة.
واليوم أشعر بالرضا لأن (أكتوبر) لم تخرج أبدًا عن التزامها بتوثيق كل معلومة تنشرها، واحترامها للحياة الخاصة، ومحاربتها لمحاولات إشعال الفتنة الطائفية بين المسلمين، والأقباط لتمزيق وحدة الوطن، أو بين السنة والشيعة لتمزيق وحدة المسلمين، وعدم نشر أية مواد تخدش الحياء أو استخدام ألفاظ غير لائقة. وباختصار فإن أكتوبر مشهود لها بالتزامها الصارم بميثاق الشرف الصحفى وبالقواعد والقيم الأخلاقية لمهنة الصحافة، وهذا ما تشهد به تقارير المجلس الأعلى للصحافة.
ومن حسن الحظ أن المجلة لم تتعرض لانقلابات مع كل رئيس تحرير جديد، واستمرت فى تقدمها على نفس الطريق وكأنه كان هناك اتفاق صامت بينهم- وبدون ترتيب- على أن تسير المجلة بخطوات ثابتة، وألا تتعرض إلى هزات تغير من شخصيتها المتميزة، وأن يكون التطوير والإضافة من خلال الحفاظ على هذه الشخصية. بحيث تظل مجلة أكتوبر هى مجلة أكتوبر.. متجددة، ولكنها ليست متقلبة.. تتطلع إلى المستقبل، دون أن تتنكر لماضيها. وها هى قد وصلت إلى سن الثلاثين.. سن الفتوة، والحيوية والنضج واكتمال الشباب.. وها هى تضيف جديدًا.. وتدفع فى عروقها بدماء جديدة تضيف إليها رؤية الجيل الجديد..
خاضت (أكتوبر) معارك صحفية وفكرية وسياسية كثيرة.. ضد الإرهاب والتعصب والفكر الرجعى والجمود فى تفسير وفهم النصوص.. وضد العملاء فى الخارج الذين يعملون على إثارة الفتنة الطائفية.. وضد الاستغلال والجشع والاحتكار والرأسمالية المتوحشة.. وضد الفساد والإهمال والبيروقراطية.. وضد محاولات إفساد الحياة السياسية وضد ظهور مراكز قوى جديدة.. وضد الاحتلال الإسرائيلى والأمريكى وسياسات الهيمنة.. وضد الاستعمار الجديد وأعوانه.. وضد المناورات المستمرة للالتفاف على ثوابت السياسة الاجتماعية التى ترتكز على مبادئ العدالة وتكافؤ الفرص والمساواة بين المصريين جميعًا، والرعاية التفضيلية للفقراء ومحدودى الدخل وتأمين حياتهم.
أكتوبر منذ نشأتها حريصة على نشر الفكر التقدمى الذى يسهم فى إلقاء الضوء على مشكلات المجتمع بجرأة ولا تكتفى بعرض السلبيات، وتجتهد فى تقديم أفكار وبدائل وحلول لها.. ومنذ بدايتها وهى مجلة للتنوير والتقدم والبناء.. هى ضد دعاة العودة إلى عصور مضت وانتهت وتجاوزها الزمن.. وهى منبر للفكر الدينى المعتدل المستنير.. وهى منبر مفتوح لكل الآراء.. وساحة للتنوع الثقافى والفكرى.. ساحة عربية وليست ساحة مصرية فقط.. هى مجلة تؤمن بالقومية وبوحدة المصير العربى، وترفض الدعوات للانعزالية والتقوقع على الذات والحرمان من الرصيد الهائل للتضامن العربى.. تؤمن بأن لا حياة لمصر بدون العرب ولا حياة للعرب بدون مصر..
وهى مدرسة صحفية متميزة وليست تكرارًا أو تقليدًا لغيرها من المجلات.. ولذلك ارتبط بها قراؤها كما ارتبطت هى بهم، وحرصت على أن تعكس نبض ومشاعر المواطن العادى.. ولم أكن أدهش حين يزورنى أحد القراء ليقول لى إنه يحتفظ بجميع أعداد أكتوبر منذ عددها الأول، لأن ذلك كان يتكرر كثيرًا..
أما الحديث عن المؤسسة الأم.. دار المعارف.. فهو حديث يطول سأعود إليه بالتفصيل فيما بعد.. لأنه حديث ملىء بالمشاعر والذكريات.. فدار المعارف لها فى نفسى مكانة كبيرة جدًا.. فهى قلعة عظيمة للحفاظ على الثقافة الجادة والفكر الرفيع فى مواجهة كتب الضحالة والإسفاف والخرافة.. وهى رمز للتواجد الثقافى لمصر فى أنحاء العالم العربى.. ولا أنسى حين قابلت مفتى جبل لبنان مع فضيلة شيخ الأزهر فبادرنى بقوله: نحن تلاميذ دار المعارف.. تعلمنا من ذخائرها وكتبها القيمة.. ولا أنسى حديث حاكم الشارقة حين قال لى: إن دار المعارف ليست ملكًا لمصر وحدها بل هى ملك لكل المثقفين العرب.. وهى منارة أضاءت العقول.. ومثل هذا سمعته فى كل بلد عربى زرته، بل سمعته فى الصين والهند وباكستان.. ووجدت كتب دار المعارف فى مكتبات الجامعات والمراكز الثقافية والإسلامية هناك..
ودار المعارف هى الدار التى بدأ ارتباطى بها منذ الشباب المبكر، كنت أتردد على مكتباتها فى الإسكندرية حين كنت طالبًا بجامعتها.. وفى القاهرة حين أصبحت أعيش فيها.. ومكتبتى الخاصة مليئة بكتب دار المعارف منذ الخمسينات.. ولذلك أعتبر نفسى محظوظًا لارتباطى بالأهرام وبدار المعارف وأعتبر نفسى تلميذًا لهما معا، وأشعر أنهما على طريق واحد منذ البداية، وهما من المؤسسات المعدودة فى العالم التى تجاوز عمرها مائة عام، فالأهرام ولد فى عام 1876 فبلغ عمره الآن 130 عامًا، ودار المعارف هى أقدم دور النشر فى مصر والعالم العربى، أنشئت عام 1890 فبلغ عمرها 116 عامًا.. ومعروف أن الأهرام أنشأه سليم وبشارة تقلا، ودار المعارف أنشأها نجيب مترى، ودار الهلال أنشأها جورجى زيدان. والثلاثة قدموا من لبنان وقدموا خدمات جليلة للثقافة والفكر والوعى السياسى والاجتماعى، وهم رموز لوحدة الثقافة العربية والخروج من إطار الإقليمية المحدودة، وقد أثبتت دار المعارف على مدى تاريخها الطويل أنها قاعدة حية للتفاعل بين تيارات الثقافة العربية.
ولا أظن أن مثقفًا فى العالم العربى لم يحرص على متابعة سلسلة (اقرأ) التى اختار اسمها الأديب الكبير الراحل أحمد أمين، لتكون سلسلة شعبية أنيقة ورخيصة الثمن تصدر شهريا منذ عام 1943، ونشرت لكبار الكتّاب فى مصر والعالم العربى مثل طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، والدكتور حسين فوزى، ومحمد فريد أبو حديد، والدكتور شوقى ضيف، والدكتور عبد العزيز كامل، والدكتور حسين مؤنس، وعلى الجارم، إسحق موسى الحسينى، وسامى الدهان، وغيرهم وغيرهم ممن لا يمكن حصرهم فى هذا الحيز المحدود.
وقد لا يعرف كثيرون أن دار المعارف أصدرت فى عام 1945 مجلة (الكتاب) للتعريف بالكتب الجديدة ومناقشة قضايا الفكر والثقافة العربية والأجنبية، وفى نفس العام أصدرت أيضًا مجلة (علم النفس) المتخصصة فى الدراسات النفسية وكان يرأسها الدكتور مصطفى زيور أكبر أساتذة علم النفس، كما أصدرت فى عام 1948 (مجلة التربية) لنشر الدراسات الحديثة عن التربية للباحثين العرب ولتبادل الآراء والتجارب حول تطوير أساليب التربية فى مختلف الأقطار العربية وكان رئيس تحريرها هو إسماعيل القبانى الذى أصبح بعد ذلك وزيرًا للتربية والتعليم.. وليس من أبناء جيل الخمسينيات من لا يعرف مجلة (سندباد) التى أصدرتها دار المعارف عام 1952 وانتشرت انتشارًا كبيرًا بين الأطفال فى جميع البلاد العربية وساعدتهم على التعبير عن أفكارهم بلغة عربية سليمة وغرست فيهم أنبل المعانى الأخلاقية والدينية والوطنية.. وكان رئيس تحريرها محمد سعيد العريان أستاذ التربية الكبير.. ولدار المعارف 143 سلسلة كل منها تحتوى عشرات الكتب.. وقد حرصت على إنشاء موقع على الإنترنت يحتوى على قوائم بإصدارات دار المعارف التى تزيد على سبعة عشر ألف عنوان. وقد حرصت على زيادة الاهتمام بنشر كتب الثقافة العلمية لإيمانى بأن هذا العصر هو عصر العلم والتفكير العلمى. كما كانت مجلة أكتوبر أول مجلة تظهر على موقع خاص بها على الإنترنت، وكان الفضل فى ذلك إلى مجموعة من الكفاءات الفنية والإدارية بإشراف الزميل أحمد شاهين مدير التحرير.
ولأن مجلة أكتوبر هى الابنة المدللة لدار المعارف كنت أرى أن البداية يجب أن تكون بتطوير دار المعارف. فبدأت بالمطابع تجديد ماكينات الطباعة.. وإضافة خطين للتجليد يعملان بتكنولوجيا حديثة.. وإنشاء قسمين للجمع والتوضيب بالكمبيوتر بدلاً من طريقة الجمع التصويرى التى انتهى عصرها.. وشراء ثلاث ماكينات طبع أوفست من أحدث طراز.. وإنشاء قسم جديد لتجهيز ألواح الطباعة بالتكنولوجيا الحديثة.. ثم إنشاء مطبعة جديدة ثانية.. ومع التوسع ضاق بنا المبنى القديم فأصبحت المؤسسة تشغل المبنى الثانى بالكامل المكون من 6 طوابق.. وكان مشروعى الذى بدأت فى الخطوات الأولى لتنفيذه هو تزويد المطابع بماكينة طباعة ويب أوفست حديثة لمضاعفة الطاقة الطباعية وتحسين طباعة أكتوبر..
وأصبحت دار المعارف ومكتباتها مزودة بأجهزة كمبيوتر، بالإضافة إلى كمبيوتر رئيسى جديد تحفظ فيه جميع بيانات المؤسسة والعاملين فيها ويقدم خدماته أيضًا لعدد من المؤسسات والشركات الأخرى.
ولسوء حظى تعرض الدور الخامس لمبنى المؤسسة للحريق بسبب ماس كهربائى. ولكن تم إعادة بنائه وتجهيزه بأفضل مما كان عليه والحمد لله.. ومن المشروعات التى تم إنجازها إنشاء مخازن مملوكة للمؤسسة للاستغناء عن المخازن المؤجرة.. وتجديد 6 مكتبات لدار المعارف وإنشاء مكتبة جديدة فى ماسبيرو.
قصتى مع دار المعارف ومجلة أكتوبر قصة طويلة.. كل يوم فيها قصة مليئة بالتفاصيل والجهد والسهر، لم أكن وحدى.. كان معى رجال وسيدات أعتز بكل منهم لأن ما بذلوه كان أكبر من الطاقة.. لم يكن هؤلاء مجرد موظفين وصحفيين.. ولكنهم كانوا جنودًا فى معركة.. ولذلك أقول- وأعترف- بأن كل ما حدث من تطوير فى دار المعارف سواء فى مجال النشر، أو المطابع، أو التسويق، أو الإنشاءات والمشروعات، أو المركز الإلكترونى، أو فى المركز العربى للبحوث والإدارة (اراك)، أو فى المخازن والشئون الإدارية، أو فى الرقابة والتخطيط والمتابعة.. كان بفضل جهود وإخلاص العاملين فى المؤسسة الذين أحمل لهم الشعور بالامتنان دائمًا.. وكل تطوير حدث فى دار المعارف انعكس بطبيعة الحال على مجلة أكتوبر.. الابنة المدللة لدار المعارف.
والحديث يطول.. وهذه مجرد إشارات إلى أن يتاح الحديث بالتفصيل بإذن الله.
والآن بعد أن سلمت الراية إلى من يستحقها، أشعر بالرضا لأننى أديت واجبى بالشرف والأمانة كما عاهدت ربى. وأشعر بأننى فخور بالسنوات التى أمضيتها فى هذه المؤسسة العريقة التى لم ولن تنقطع الصلة الروحية التى تربطنى بهـا أبدًا. وستبقى فى قلبى ما حييت.