هل هذا هو الشرق الأوسط الجديد؟!
أعلنت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية أن تدمير لبنان بالآلة العسكرية الإسرائيلية وقتل المئات وتشريد مئات الآلاف وهدم البيوت.. كل ذلك ليس سوى (آلام الولادة لشرق أوسط جديد مسالم) وهذا التصريح الخطير من وزيرة الدولة العظمى لابد أن يثير القلق فى العالم وفى الدول العربية بصفة خاصة، ومن الطبيعى أن نتساءل: ما هى الخطة الأمريكية بالضبط لإنشاء هذا الشرق الأوسط الجديد، وإذا كانت ولادته تقتضى استخدام الجيش الإسرائيلى أحدث تكنولوجيا الأسلحة الأمريكية الذكية، فإلى أين ستتجه هذه الأسلحة بالدمار بعد لبنان؟ وأخشى أن يكون مشروع الشرق الأوسط الجديد هو بدء تنفيذ مشروع استعمارى رهيب قيل إن إسرائيل أعدته وكانت تعتزم البدء فى تنفيذه مع الولايات المتحدة فى فترة الثمانينيات، ولكن التنفيذ تأخر كثيرا ربما لأن الإدارات الأمريكية ترددت فى تنفيذه إلى أن جاءت الإدارة الحالية التى يقودها تيار اليمين الجديد العدوانى الذى يؤمن بمبدأ القوة والتوسع فى الحروب وتغيير منطقة الشرق الأوسط لكى تصبح إسرائيل المهيمنة عليها وينتهى الصراع فى المنطقة بإجهاض عناصر القوة العربية فى دولة بعد الأخرى.
ظهر هذا المشروع لأول مرة فى أغسطس 1982 حين قامت رابطة خريجى الجامعات الأمريكية العرب بنشر وثيقة إسرائيلية لم يصدق أحد من العرب ما جاء فيها، وسارع أنصار أمريكا وإسرائيل فى المنطقة بتكذيبها، كانت الوثيقة بعنوان (الخطة الصهيونية لإسرائيل فى الثمانينيات) وقد نشرها أول مرة باللغة العبرية المفكر الإسرائيلى المعروف (إسرائيل شاحاك) وكان فى ذلك الوقت أستاذا بالجامعة العبرية فى القدس ورئيس جماعة حقوق الإنسان المدنية. وذكر فى مقدمته لها أن هذه هى الخطة المفصلة لما تعتزم إسرائيل أن تفعله فى الشرق الأوسط بتقسيم المنطقة إلى دويلات صغيرة، وتفكيك الدول العربية القائمة. والفكرة فى ذاتها ليست جديدة فهى تتردد كثيرا فى الفكر الاستراتيجى الإسرائيلى ويعتبرها العرب نوعا من الخيال أو الأحلام المستحيلة أو وسيلة من وسائل الحرب النفسية وغرس الإحباط لدى العرب ولكن زئيف شيف الباحث والمحلل العسكرى الإسرائيلى الشهير كتب فى صحيفة هآرتس فى أواخر الثمانينيات يقول: (إن أفضل ما يمكن أن يحدث فى العراق ويحقق مصالح إسرائيل أن يتم تجزئة العراق إلى دولة شيعية ودولة أخرى سنية وفصل المنطقة الكردية عن العراق) وعلق على ذلك إسرائيل شاحاك بقوله: إن هذا الجانب من الخطة قديم جدا! والواقع فى العراق الآن يدل على أن ما يقوله الإسرائيليون يفعلونه!
الوثيقة الإسرائيلية ظهرت لأول مرة فى مقالة باللغة العبرية فى مجلة (اتجاهات) وهى مجلة المنظمة الصهيونية العالمية بالقدس فى عددها رقم (14) فى فبراير 1982 وكانت المقالة بقلم (أودينون) ثم ترجمها إسرائيل شاحاك من العبرية إلى الإنجليزية وبعد ذلك قامت رابطة خريجى الجامعات الأمريكية العرب بترجمتها إلى العربية. وفى المقدمة التى كتبها إسرائيل شاحاك يقول إن العلاقة القوية بين ما جاء فى هذه الوثيقة وبين تفكير المحافظين الجدد فى الولايات المتحدة علاقة واضحة.
وهى تبين أن إسرائيل تعلن أن هدفها هو الدفاع عن مصالح الغرب فى الشرق الأوسط بينما الهدف الحقيقى للمؤسسة العسكرية والسياسية فى إسرائيل هو تحويل إسرائيل إلى قوة إمبريالية عالمية!! وهنا نلاحظ أن المحافظين الجدد كانوا ينشرون عقيدتهم السياسية منذ ربع قرن إلى أن أصبحوا القوة المؤثرة فى الإدارة الأمريكية الآن.
ماذا فى هذه الوثيقة؟
فى البداية تقول الوثيقة إن إسرائيل تحتاج فى الثمانينات إلى منظور جديد يتناسب مع موقعها وأهدافها القومية بالعمل على تحقيق الأهداف التالية:
بالنسبة لمصر: تقول الوثيقة إن تجزئة مصر إقليميا إلى مناطق جغرافية منفصلة هو الهدف على الجبهة الغربية وإذا تمت تجزئة مصر فإن بلادا مثل ليبيا والسودان وغيرهما من الدول العربية البعيدة عنهما لن تبقى على حالتها الحالية وستلحق بمصر. والرؤية متمثلة فى دولة قبطية فى صعيد مصر تعيش إلى جانب عدد من الدول الصغيرة شمالها وجنوبها تديرها سلطات محلية بعد زوال الحكومة المركزية وهذه الرؤية -هى المفتاح للتطور التاريخى للمنطقة كما يقول شاحاك- قد أصيبت بنكسة بسبب اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل ولكن ذلك لا يعنى التخلى عن المضى فى العمل لتنفيذها على المدى البعيد!
وبالنسبة للبنان: تقول الوثيقة إن لبنان تمكن تجزئته إلى خمس مقاطعات وفقا للتقسيم الطائفى لسكانه وهذا التقسيم سوف يخدم العالم العربى بأجمعه بما فى ذلك مصر وسوريا والعراق وشبه الجزيرة العربية، ولذلك فإن لبنان يجب أن يكون البداية لتنفيذ هذا المشروع الكبير!
وبالنسبة لسوريا: تقول الوثيقة إن سوريا تمكن تجزئتها فى مرحلة لاحقة إلى مناطق عرقية ودينية بنفس الطريقة التى سيتم تنفيذها فى لبنان، وهذا هو الهدف الرئيسى لإسرائيل على الجبهة الشرقية على المدى البعيد كما أن القضاء على القوة العسكرية لهذه الدول هو الهدف الأول لإسرائيل على المدى القصير، وتقسيم سوريا يكون على أساس دولة علوية على طول الساحل السورى ودولة سنية فى منطقة حلب ودولة سنية أخرى فى دمشق معادية لجارتها السنية فى الشمال ودولة للدروز يمكن أن تنشأ فى الجولان والأفضل أن تكون فى حوران وشمال الأردن وبذلك يتحقق السلام والأمن لإسرائيل على المدى البعيد وهذا الهدف يمكن الوصول إليه وتحقيقه كما تقول الوثيقة!
وبالنسبة للسودان تشير الوثيقة إلى إمكان تقسيمه إلى ثلاث دول باستغلال الأوضاع العرقية والقبلية فيه.
وبالنسبة للعراق: تقول الوثيقة إن العراق بما فيه من ثروة نفطية وعوامل سياسية وقبلية وعرقية ودينية تساعد على التمزق الداخلى فهو المرشح أولا للبدء فى تنفيذ خطة التجزئة، وتحقيق ذلك يمثل أهمية أكبر من أهمية تجزئة سوريا، فالعراق أقوى من سوريا وهذه القوة العراقية هى مصدر التهديد الأكبر لإسرائيل وإن حربا عراقية إيرانية طويلة سوف تضعف العراق، وتؤدى إلى انفجار الصراعات الطائفية مما يسهل سقوط الدولة داخليا وعجزها عن تهديد إسرائيل ويخرج العراق من قائمة الدول المعادية لإسرائيل، وخاصة بعد تقسيم العراق إلى مقاطعات أو دويلات وفق تقسيمات عرقية ودينية كما حدث فى سوريا أثناء الحكم العثمانى وبذلك تنشأ ثلاث دول أو أكثر حول البصرة وبغداد والموصل!
وبالنسبة لشبه الجزيرة العربية: تقول الوثيقة إن شبه الجزيرة العربية بأكملها مرشحة للتجزئة عندما تتزايد عليها الضغوط الداخلية والخارجية وخاصة السعودية وبغض النظر عن كونها قوة اقتصادية اعتمادا على النفط فإن هذه القوة يمكن التأثير عليها حتى تتقلص على المدى البعيد كما يمكن تعميق الانشقاقات والانقسامات الداخلية باستغلال طبيعة البنية السياسية والسكانية الحالية.
وبالنسبة للأردن: تقول الوثيقة إنه يمثل هدفا استراتيجيا مباشرا على المدى القصير وهو لن يمثل خطرا حقيقيا على إسرائيل بعد أن تتم تجزئته، وبعد ذلك توجه سياسة إسرائيل نحو تصفية الأردن.
وتنتقل الوثيقة إلى رسم الخطوات العملية لتنفيذها فتقول:
إن العرب والإسرائيليين لم يفرقوا فى يوم من الأيام بين المناطق التى احتلتها إسرائيل عام 1967 والمناطق التى ضمتها فى عام 1948، واليوم لم يعد لهذه التفرقة أى معنى والمشكلة ينبغى النظر إليها فى صورتها الكلية دون تفرقة ينبغى أن يكون واضحا فى ظل أى موقف سياسى أو عسكرى فى المستقبل وهذا يعنى التخطيط لضم الأراضى المحتلة فى 67 كما حدث لأراضى 48 أما حل مشكلة العرب الذين يمثلون الأقلية فى إسرائيل فتقول الوثيقة إن ذلك لن يتم إلا إذا إلتحق هؤلاء العرب بإسرائيل كدولة لها حدود آمنة تمتد إلى نهر الأردن إلى ما هو وراء ذلك تلبية لاحتياجات وضمانات بقائها وأمنها فى هذا العصر النووى الذى ستدخله إسرائيل فى القريب العاجل (كان ذلك فى الثمانينات) ولم يعد من الممكن أن تعيش إسرائيل وثلاثة أرباع سكانها اليهود مكدسون على الشريط الساحلى المزدحم مما ينطوى على مخاطر على أمن إسرائيل ولذلك فإن إعادة توزيع السكان هو الهدف الاستراتيجى الداخلى بالدرجة الأولى وإلا فإن الوجود الإسرائيلى سوف يتجمد ولهذا فإن وجود إسرائيل يستلزم أن تكون (يهودا وسامرا والجليل) داخل حدودها وهذه هى الضمانة الوحيدة للبقاء وإذا لم يصبح الإسرائيليون هم الأغلبية فى المناطق الجبلية فإنها لن تتمكن من حكم البلاد وستكون مثل الصليبيين الذين فقدوا هذه البلاد واضطروا للرحيل عنها، وضاعت منهم لأنهم عاشوا فيها كأجانب وهذا يجعل إسرائيل مضطرة إلى إعادة التوازن فى بلدها سكانيا واستراتيجيا واقتصاديا وأن تسيطر على مصادر المياه من بئر سبع إلى الجليل الأعلى كهدف قومى ضمن النظرة الاستراتيجية الرئيسية المتمثلة فى الاستيطان فى الأجزاء الجبلية التى تخلو من اليهود اليوم (فى الثمانينات).
هذه الوثيقة على خطورتها لم يلتفت إليها خبراء الاستراتيجية والسياسة فى العالم العربى. وكنت قد نشرت أجزاء منها فى مقال فى الأهرام فى ذلك الوقت وتوقعت ردود فعل لإثبات إن كانت صحيحة أو مجرد فرقعة أو بالونة اختبار وكنت أريد أن أتأكد من مدى صحتها أو من كونها (فرقعة إعلامية) وذكر لى بعض المحللين الاستراتيجيين أن لديهم شواهد على صحتها ولكنهم لم ينشروا ذلك فى مقالاتهم.
بقى أن نعرف أن إسرائيل شاحاك الذى نشر هذه الوثيقة كان وقتها فى المعارضة وكان من الرافضين للسياسات العدوانية الإسرائيلية. وقد تكرر نشر هذه الوثيقة بعد ذلك فى أكثر من مجلة من المجلات المتخصصة، ولذلك لا يمكن الإدعاء بأنها مجهولة كما لا يمكن قراءتها بدون النظر إلى ما يحدث على أرض الواقع لكى يأخذ العرب الحذر مما يمكن أن يحدث بعد ذلك والحذر من طبيعة المؤمن الذى لا يلدغ من جحر واحد مرتين!