حكايات عن عبد الناصر
كلما مرت علينا نسمات يوم 23 يوليو فإنها تعيد إلينا ذكريات وحكايات عن ثورة يوليو 1952 وزعيمها جمال عبد الناصر ونستعيد الأيام التى عشناها بزهو الانتصارات ومرارة النكسات وآلام المؤامرات والألغام التى كانت تملأ طريق الثورة وتحيط بها من كل جانب من الداخل والخارج.
لكن أكثر المؤامرات خسة كانت موجهة إلى شخص عبد الناصر بالتشكيك فى ذمته ونشر قصص عن أموال وحسابات مودعة باسمه فى بنوك سويسرا وبنوك مصر أيضا ووقع فى الفخ كُتاب كبار فرددوا هذه الحكايات بحسن نية ظنا منهم أنهم اكتشفوا قصة من قصص فساد الحكام الذين عاشوا حياتهم كلها يرددون الدعوة إلى الطـهارة والنزاهة وهم أبعد الناس عنها.
من هذه الحكايات أن عبد الناصر كانت له حسابات سرية فى بنوك سويسرا وبعد سنوات كشف الحقيقة محمد غانم أحد أشهر رجال المخابرات المصرية وكان مسئولا عن تنفيذ الكثير من العمليات السرية فى الخارج وقد أدلى بحديث أشار فيه إلى هذا الحساب السرى فقال بالحرف الواحد: (جاءت ظروف معينة أحسست فيها بأمانته المطلقة. ففى وقت معين كنت رئيسا لشركة النصر للتصدير والاستيراد التابعة لجهاز المخابرات العامة وكان المتمصرون اليهود لهم حسابات فى انجترا عندما خضعت مصر للاسترلينى. وفى عام 1947 خرجت مصر من منطقة التعامل بالاسترلينى وأصبح لها وجودها المالى المنفصل عن بريطانيا. وقد اشتملت اتفاقية عام 1947 للخروج من منطقة الاسترلينى على بند ينص على أن ذوى الجنسية المصرية الذين لهم مبالغ مودعة فى بنوك انجلترا قبل ذلك فلا يسمح لهم بالحصول على مبالغ مالية من هذه البنوك إلا بعد موافقة البنك المركزى المصرى حتى لا يتسببوا فى حدوث خلل بالبنوك البريطانية وبالتالى ضعف الاقتصاد البريطانى.
وعندما قامت حرب 1956 طلب اليهود المتمصرون من البنوك البريطانية سحب أموالهم فرفضت والتزمت باتفاقنا معها بضرورة الحصول على موافقة البنك المركزى المصرى. وقد رفض البنك المركزى التصديق بعد العدوان الثلاثى على مصر فعرضوا التنازل عن جزء من مستحقاتهم للحكومة المصرية، وكانت مصر فى أشد الحاجة إلى العملة الحرة فعرض (محمد غانم) الموضوع على حسن عباس زكى وزير الاقتصاد وقتها (وهو شاهد موجود أطال الله عمره) فوافق وكلفنى بالتفاوض معهم ووصلت معهم إلى تنازلهم عن نصف مستحقاتهــم وعندمــا عرضنـا الأمـر على الرئيس جمال عبد الناصر وافق على الفور، وبدأ (محمد غانم) فى تجميع أول مبلغ فى حساب سرى باسم شركة النصر للتصدير والاستيراد فى جنيف بحيث يودع كل منهم نصف قيمة رصيده فى بنوك انجلترا وأقوم أنا (محمد غانم) بإيداع موافقة البنك المركزى المصرى على سحب رصيده.
ولأن العاملين فى معظم البنوك السويسرية من اليهود انكشف الرقم السرى للحساب المصرى. وكانت هناك 11 محطة إذاعية سرية تعمل لصالح إسرائيل فبدأت هذه المحطات تدعى أن عبد الناصر يهرب أمواله إلى الخارج عن طريقى (محمد غانم) والدليل على ذلك أن هناك حسابا باسم عبد الناصر رقمه كذا فى بنك جنيف وعندما عرف عبد الناصر بذلك انفعل بشدة واستدعانى (محمد غانم) فورا وطلب منى إلغاء الحساب ونفذت أوامره وألغيت الحساب فورا.
هذا نص ما ذكره محمد غانم وهو الطرف الأول فى الحكاية كلها وأضاف إلى ذلك قوله: (وأنا أشهد أن كل شائعات تهريب عبد الناصر لأمواله غير صحيحة وأن المبلغ الوحيد الذى أودعناه كان باسم شركة النصر وتحت إشراف الجهاز المركزى للمحاسبات ووزارة الاقتصاد وقد أعطانى هذا انطباعا بأن ما يقال عن عبد الناصر خطأ، وأنه كان بإمكانه أن يستفيد ولكن يشهد الله أن ذلك لم يحدث مطلقا).
هذه شهادة الرجل الذى كان يعلم كل الأسرار التى أدلى بها بعد وفاة عبد الناصر بسنوات وفى وقت كانت البضاعة الرائجة هى الهجوم على عبد الناصر ومن يسئ إليه أكثر يكسب أكثر، وكان الرجل قد ترك المناصب ولم يعد يطلب شيئا أو يخشى شيئا!
وفى عموده الشهير (يوميات) فى الأهرام كتب أحمد بهاء الدين (أن الدكتور على الجريتلى-اقتصادى مصر العظيم-قال لى قبل وفاته بشهور إن العمل الوحيد الذى قبل أن يقوم به لحساب الدولة خلال عشرين عاما عندما اتهم جمال عبد الناصر باختلاس عشرة ملايين جنيه وكلفت ببحث الأمر وكتابة تقرير ولو كان عندى ذرة من الشك فى ذمة عبد الناصر لما قبلت المهمة وكان عندى رئيس اتحاد المصارف السويسرية المشهورة بحساباتها السرية وقال لى: لقد أهلكتنا المخابرات الأمريكية والإسرائيلية بحثا وتنقيبا عن حساب سرى لعبد الناصر فى بنك سويسرى فلم تجد وكانت لا تصدق أنه لا يملك أى حساب خاص فى الخارج.
وحكاية الملايين العشرة ترجع إلى الفخ الذى وقع فيه أستاذنا جلال الحمامصى فقد نشر فى الأخبار وفى كتابه (حوار وراء الأسوار) عام 1976 أن الرئيس جمال عبد الناصر حصل فى عام 1967 على قرض من الملك سعود قيمته عشرة ملايين دولار كما حصل من الملك سعود أيضا على تبرع للمجهود الحربى قيمته خمسة ملايين دولار موزعة على شيكين أحدهما بمبلغ مليونى دولار باسم صلاح نصر مدير المخابرات المصرية فى ذلك الوقت، والثالث باسم الرئيس جمال عبد الناصر وقيمته ثلاثة ملايين دولار. وبعد نشر هذه القصة قام ممدوح سالم رئيس الوزراء بتشكيل لجنة برئاسة محافظ البنك المركزى المصرى كما تم تكليف الدكتور على الجريتلى-وكان قد استقال من منصب نائب رئيس الوزراء-فى أول حكومة للثورة وآل على نفسه ألا يشغل أى منصب حكومى وألا يقبل مهمة حكومية على الاطلاق. وبعد التحقيق فى موضوع الشيكات ثبت أن هذه الشيكات تسلمها البنك المركزى المصرى من بنك مصر بتاريخ 7 يونيو 1967. وقدم بنك مصر -وفيه الحساب الشخصى لجمال عبد الناصر-بيانا إلى البنك المركزى بجميع إيداعات ومصروفات الحساب الخاص لعبد الناصر ويتبين منع عدم دخول قيمة هذا الشيك فى الحساب الشخصى للرئيس عبد الناصر وفى نفس الوقت قام المدعى الاشتراكى –الدكتور مصطفى أبو زيد فهمى- بإجراء تحقيق موسع شمل جميع الأطراف وانتهى التحقيق إلى عدم صحة هذه الواقعة.
وأثار الأستاذ الحمامصى أيضا فى مقالاته أن الرئيس جمال عبد الناصر تسلم ثلاثة ملايين دولار نقدا هدية من مندوب المخابرات الأمريكية عن طريق السيد حسن التهامى وتبين أن هذا المبلغ كانت المخابرات الأمريكية تقدمه إلى حكام مصر قبل الثورة وأن عبد الناصر طلب من حسن التهامى تسليمه إلى المخابرات المصرية لبناء برج القاهرة وإقامة برج اتصالات للمخابرات عليه!
وبعد وفاة عبد الناصر قامت الأجهزة المسئولة بحصر أمواله وممتلكاته كما قامت بالبحث عن أموال باسمه فى الخارج فلم تجد شيئا وسجلت الحقائق الآتية:
كان مرتب عبد الناصر 500 جنيه شهريا وبدل التمثيل 125 جنيها أى أن إجمالى المرتب 625 جنيها تصل إلى 395 جنيها و60 قرشا و7 مليمات بعد استقطاع الخصومات (أقساط المعاش وبوالص التأمين على الحياة وإيجار استراحة المعمورة). ويلاحظ من هذا البيان أن استراحة المعمورة التى كان ينزل فيها مع أسرته –وهو رئيس الجمهورية-كان إيجارها يخصم من مرتبه!
وينقل سامى شرف-سكرتير الرئيس جمال عبد الناصر للمعلومات والمطلع على كل الأسرار-تفاصيل تركة عبد الناصر من واقع الحصر الرسمى بعد الوفاة كما يلى:
رصيد فى حسابه الشخصى رقم 64226/99 فى بنك مصر بمبلغ 3718 جنيها مصريا و273 قرشا و200 سهم فى شركة كيما و5 أسهم فى شركة مصر للألبان وسند واحد فى البنك العقارى و600 جنيه شهادات استثمار و10 أسهم فى بنك الاتحاد التجارى و100 سهم فى الشركة القومية للأسمنت و3 سندات تأمين و100 جنيه قرض إنتاج وشهادات استثمار فى شركة الحديد والصلب بمبلغ 600 جنيه و5 وثائق تأمين على الحياة، الأولى فى القوات المسلحة بمبلغ 1500 جنيه، والثانية فى شركة الشرق للتأمين بمبلغ ألف جنيه، والثالثة فى شركة مصر للتأمين بمبلغ ألف جنيه، والرابعة فى شركة التأمين الأهلية بمبلغ 2500 جنيه، والخامسة فى شركة القاهرة للتأمين بمبلغ 2500 وكانت أقساطها تخصم من مرتبه وترك أيضا سيارة أوستن كان يملكها قبل قيام الثورة.
هذه هى كل ثروة الرجل الذى قاد ثورة غيرت وجه الحياة فى مصر وفى المنطقة وحكم مصر 18 عاما. أما ممتلكاته الشخصية فقد قامت رئاسة الجمهورية بحصرها بعد الوفاة فى سجلات رسمية وكانت كما يلى: 8 أحذية، 13 كاميرا للتصوير، آلة عرض سينما، 10 بدل، ومجموعة كرافتات، وتضمن التسجيل أن عبد الناصر استبدل من معاشه ما يعادل 3500 جنيه لتجهيز زيجات بنتيه وكان فى جيبه يوم رحيله يوم 28 سبتمبر 1970 مبلغ 84 جنيها وترك الدنيا وأسرته لا تملك مسكنا خاصا وليس لزوجته دخل خاص غير معاشها من زوجها الراحل. وكان عبد الناصر قد بنى فيلا لكل من ابنتيه سدد قيمتهما بالتقسيط مع الفوائد وكانت احداهما بمبلغ عشرة آلاف جنيه والثانية باثنى عشر ألف جنيه وقامت الأسرة بتسليم المسكن الذى كان يعيش فيه بمنقولاته التى كانت عهدة من الأشغال العسكرية، كما قامت بتسليم استراحة المعمورة.
أما الذين ظلموا عبد الناصر وأساءوا إليه فإن بعضهم بين يدى الله يحاسبهم على ما فعلوا.. وبعضهم الآخر ينتظر.