الثورة فى فكر طه حسين
حين عاد طه حسين من فرنسا عام 1919 كان قد تجاوز الثلاثين كان متحمسًا لثورة 1919 كما كان مؤمنا بأن دور العلماء والمثقفين سيكون هو الأكبر فى القيادة. كان طه حسين قد تخصص فى علم التاريخ وتعمق فى دراسة علم الاجتماع على يد «درو كايم» مؤسس على الاجتماع الفرنسى الذى كان يرى مثل أستاذه سان سيمون أن الحكم الصالح هو الذى يقوم على العدل ويحقق التقدم، ولا يقوم بهذه المهمة إلا العلماء بما لديهم من معرفة وبما اكتسبوا من وعى بتجارب الأمم.
كان طه حسين يرى أن الساسة الذين يقودون الثورة سيختلفون فى يوم قريب أو بعيد وأن العلماء والمفكرين هم القادرون على تحقيق التوازن وحسم الخلافات ولن ينحازوا إلى الأحزاب كغيرهم من عامة الناس لكنه بعد شهور من عودته وجد أن العلماء والمفكرين لم يكونوا كما توقع، وأنهم يسيرون مع العامة كأنهم من قبيله «غزية» يتمثلون قول الشاعر الجاهلى:
وهل أنا إلا من «غزية» إن غوت
غويت وإن ترشد «غزية» أرشد
اكتشف طه حسين أن العلماء والمفكرين كانوا يؤمنون بالثورة ولكنهم يؤمنون بأنفسهم أيضًا ولذلك يقدرون لأرجلهم مواضعها بحسب مصالحهم وأهدافهم، أما عامة الناس والشباب خاصة - فكانوا مؤمنين بالثورة مخلصين لها، ويعرضون صدورهم لرصاص الإنجليز بينما كان بعض الساسة يتعاملون من الإنجليز ومع القصر، ثم اشتد الخلاف بين قادة الأحزاب حول من الذى يمثل السلطة الشرعية وله الحق فى التفاوض مع الإنجليز باسم مصر مع أن الجميع كانوا يعلنون أن هدفهم من المفاوضات هو الحصول على «الاستقلال»، ولكن الصراع كان حول: من الذى سيتاح له الحصول على الاستقلال، وكانت دهشة طه حسين أن وجد العلماء والمفكرين هم أيضًا منقسمين،فريق يرى: لا رئيس إلا سعد وفريق آخر يرى: « إنما المفاوضات لمن ولى الحكم».. ولم يتورع أنصار سعد من إعلان موقفهم: «الحماية على يد سعد ولا الاستقلال على يد عدلى» وكان ذلك ما دفع طه حسين إلى مهاجمة الوفد خاصة بعد أن أدى الانقسام إلى فشل المفاوضات فيفرح الوفديون بهذا الفشل.. ووجد طه حسين نفسه يسير عكس التيار وينحاز لعدلى يكن وليس لسعد.
***
ولكن موقفه تغير بعد نفى سعد وقد رأى مثل كل المصريين أن نفى سعد إهانة للوطن كله، وبعد عودة سعد وتصريح 28 فبراير 1922 أصبح لمصر الدستور الذى ينص على الديمقراطية وعلى حقوق المصريين، وأصبح السلطان أحمد فؤاد ملكا، وأصبح لمصر الحق فى أن يكون لها وزارة للخارجية وسفراء فى الخارح، ولكن أنصار سعد كانوا يرون ذلك التصريح وما ترتب عليه بأنه يضر ولا ينفع وطه حسين يرى أن شيئًا خير من شىء وأن القليل سيكون بعد ذلك كثيرًا وأن حصول المصريين على هذه «المكاسب» هو اعتراف من سلطات الاحتلال بحق المصريين فى الاستقلال.
ولكن الأمر لم يكن سهلا، فقد نشأ الخلاف بين القصر وبين رئيس الوزراء عبد الخالق ثروت حول الدستور والنصوص الخاصة بالديمقراطية، وشن طه حسين حملة على القصر دفاعا عن الديمقراطية، ولكنه فوجئ بأن ثروت باشا يبدى عدم ارتياحه لهذه الحملة، ويجد طه حسين نفسه بين عدوين: الوفديون يرونه مارقا، والقصر يراه ناكرا للجميل، ويرى هو أنه يرضى ضميره ويؤدى واجبه.
***
يقول طه حسين إنه فى هذا الوقت شعر بأنه ضيع سنوات من عمره فى السياسة وكان الأفضل له وبلده أن يتفرغ للعلم والتعليم ويعطى وقته كله لطلابه فى الجامعة ولتأليف الكتب، بدلا من أن يحترق بنار السياسة، ويعترف بأنه لقى الكثير من أهوال السياسة، واحتمل الكثير من أثقالها وتعرض لسخط المتطرفين حينا وسخط المعتدلين حينا آخر، ويرى أنه فعل ما فعل إرضاء لضميره، وتحمل هو وأسرته نتائح ذلك من تضييق عليه وصل إلى حد فصله من الجامعة... كانت شخصية طه حسين العملية غير قابلة لأن تنكسر تحت الضغط أو الإغراء وكان يردد لكل من يقدم له النصيحة بأن يتراجع عن الهجوم على القصر قول أبى نواس:
وما أنا بالمشغوف ضربة لا زبٍ
ولا كل سلطان علىّ أمير!
***
كان طه حسين يرى أن المثقف الحق يجب أن يحتفظ لنفسه بالحرية وبالكرامة وبالصراحة مهما لقى من متاعب ويستشهد دائما بالتاريخ وما فيه من سير الذين ضحوا بالحياة فى سبيل الرأى، وأن المجتمع المتحضر هو الذى يكفل للعلماء والأدباء والمفكرين الحرية ولاتفرض عليهم القيود، وليست الحكومة وحدها هى التى يجب أن تسمح بالحرية بل إن الشعب أيضا عليه ألا يضيق بآراء من يختلف عن الرأى السائد وكان يرى أن الحرية تحمّل صاحبها أعباء ثقيلة من المسئولية، فالحرية ليست حرية الهدم والإساءة لكنها حرية من أجل البناء وإقامة مجتمع العدل، لأن الحرية والعلم والثقافة هى ركائز الحضارة والقوة والثروة.
كان طه حسين منحازًا للشباب ويقول: ويل للشيوخ إذا لم يكن لهم جيل جديد يتفوق عليهم.. وكان ينبه فى معظم مقالاته إلى خطورة انقسام المجتمع إلى قلة من الأغنياء وأغلبية من الفقراء يسميهم « المعذبون فى الأرض» وبسبب ذلك كان القصر يعادى طه حسين.
***
كان طه حسين يرفض الخلط بين الدين والسياسة ويقول إن استغلال السياسيين للدين فى الشرق العربى إنما هو نتيجة الجهل وقلة التجربة " وأيضا نتيجة الانتهازية والنفاق السياسى" وأن هذه الحالة لن تدوم، ولا بد أن يشعر الساسة غدا أو بعد غد بأن استغلال العواطف الدينية لمصلحة الأهواء السياسية شر منكر يضر كثيرا ولا يغنى شيئا، وسيأتى يوم تتحقق فيه الحرية التى استمتع بها العرب فى القرون الوسطى.
***
وفى وقت مبكر طرح طه حسين السؤال الذى يتردد اليوم: أين أدب وفن الثورة؛ ويجيب بأن الثورة تغير أولا نظم الحكم وأوضاع الحياة العامة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أما التغيير فى نفوس وأذواق وعقول الناس فإنه يحتاج إلى وقت طويل، والثورة فما بلغت من القوة والعمق لا تغير الروح ولكنها تغير بسرعة كل ما هو مادى أما ما يتعلق بالروح فإنه يتغير على مهل، والدليل أن الإسلام يغير الأدب والشعر الجاهلى تغييرًا كبيرا إلا بعد نصف قرن ولم تنشئ الثورة العباسية أدبها وفكرها إلا بعد أكثر من نصف قرن، والثورة الفرنسية التى مهد لها الفكر والأدب فى القرن الثامن عشر لم تنشئ أدبها وفكرها إلا فى أواسط القرن التاسع عشر. وكل ثورة هى فى حقيقتها ثورتان: ثورة السياسة تغيرالنظم القائمة، وثورة العقل التى تؤدى إلى رقى الشعب وإلى الإصلاح والتجديد، وثورة العقل تسبق الثورة، والسياسة تمهد لها، ثم تأتى الثورة بعد ذلك بفكر جديد وأدب وفن جديدين بعد أن تستقر الثورة وترسيخ قيمها فى المجتمع.