البهائية.. والدستور.. وحقوق الإنسان
شهدت ساحات المحاكم مساجلات فقهية ودستورية وقانونية فى قضايا البهائية على مدى عشرات السنين، وانتهت إلى إرساء مبادىء لا تدع مجالاً للشك فى أن البهائية عقيدة منحرفة وليست ديانة يمكن الاعتراف بها، والقبول بتسجيلها فى الوثائق الرسمية.
وحين وقفت المصالح الحكومية أمام سؤال: ماذا تكتب فى خانة الديانة لمن لا يريد أن يكون مسلمًا أو مسيحيًا أو يهوديًا، ويريد أن يسجل فى هذه الخانة أنه بهائى؟ وتوصلت فى النهاية إلى وضع خط فى هذه الخانة دلالة على أن هذا الشخص لا يعتنق ديانة من الديانات المعترف بها.
وفى مجلس الدولة ملف قضية تاريخية تمثل مرجعًا أساسيًا لكل من يريد أن يتعرف على جميع الجوانب المتصلة بالبهائية. القضية مقيدة فى الجدول العمومى لمحكمة القضاء الإدارى برقم 195 لسنة 4 قضائية.
وكانت الدعوى مقامة من موظف بهائى يطلب الحكم بصحة زواجه من سيدة بهائية، وما يترتب على ذلك من علاوة اجتماعية للزواج وإعانة الغلاء للطفل الذى أنجبه. وحكمت المحكمة بأن دعوى المدعى ساقطة ومنهارة، ولا سند لها فى القانون أو الواقع، ورفضت طلب الموظف. وناقشت المحكمة بصبر عجيب جميع الجوانب المتصلة بالعقيدة البهائية، وفندت حجج الدفاع مستندة إلى رأى المفتى ومجمع البحوث الإسلامية، وناقش ما أبداه الدفاع حين قال إنه لا يتعرض إفتاء المؤسسة الدينية بكفر البهائيين، لأن ذلك من اختصاص رجال الدين، ولكنه يعترض على هذه الفتوى من بطلان زواج البهائى ببهائية أو غير بهائية، لأن زواج المرتد والمرتدة لم يتعرض لبحثه أحد من فقهاء الإسلام، ورأى الدفاع أنه يمكن قياس زواج البهائيين بزواج الذميين وهم عند الحنفية أهل الكتاب والمجوس، وقد قرر الفقهاء صحة زواج الذميين وما يترتب عليه من آثار.
وقالت المحكمة ردًا على ذلك إن الفتاوى الشرعية الصادرة من جهات الاختصاص حكمت بأن البهائية تخالف سائر الملل السماوية، ولم ينكر الدفاع أن البهائية عقيدة تؤمن بأن بهاء الله الذى نادى بها من المرسلين، وأن رسولين هما الباب وبهاء الله بلغا هذا الدين إلى أهل الأرض بعد أن فسد الدين الإسلامى وأصبح غير صالح لمسايرة التطور الذى وصلت إليه البشرية، وأن الباب جاء لإعلان دورة دينية جديدة من شأنها أن تختم الدورة السابقة وأن تعطل شعائرها وعاداتها وكتبها ونظمها، كما أن بهاء الله كان هو البشرى وهو موعود كل الأزمنة، وللبهائية كتب مقدسة هى أصل الاعتقاد.
قالت المحكمة إنها اطلعت على كتب البهائية التى قدمها الدفاع ورأت أن كتاب (الأقدس) لبهاء الله يجرى على نسق القرآن، كما وجدت فى هذا الكتاب اعتقاد البهائيين بأن بهاء الله صعد إلى الرفيق الأعلى فى سنة 1892، وعين فى وصية مكتوبة ابنه الأكبر عبد البهاء خليفة له، وصعد عبد البهاء إلى الرفيق الأعلى فى نوفمبر 1921، كما اطلعت المحكمة على قانون الأحوال الشخصية، وعلى دستور المحفل البهائى، ونماذج وثائق الزواج وعلى كل منها منقوش بالخط الفارسى (بهاء يا إلهى). كما اطلعت على كتاب جورج تاونزند وهو بعنوان (موعود كل الأزمنة) وهو من رجال الكنيسة فى أيرلندا وترجمته بهية فرع الله، وطبعه المحفل البهائى بمصر والسودان سنة 1946، وفى هذا الكتاب يقول المؤلف: (لقد أثبت الذين تزعموا الإسلام أنهم عاجزون عجزًا مخزيًا عن إدراك عظمة الباب والاعتراف بصحة رسالته..) كما جاء فى الكتاب أن البهاء هو الأب الأبدى يحقق أبناءه الإخاء ويحيا بينهم على الأرض مما يدل على اعتقادهم بأن الإله قد حل فى البهاء.
وقالت المحكمة إن قانون الأحوال الشخصية وفق الشريعة البهائية يناقض أحكام الإسلامية والمسيحية واليهودية فى الزواج، والميراث، وغيرهما. وأن دستور المحفل البهائى ينص على وجوب الطاعة من الخضوع لكل ما جاء فى الآثار المقدسة للأمر البهائى، ولكل عبارة من العبارات الواردة فى وصية عبد البهاء المقدسة، ورأت أنها تخالف الديانات السماوية. أما القول بأن اعتبار البهائى مرتدًا لا يمنع من صحة زواجه من بهائية مرتدة أو من غير بهائية فقالت المحكمة إن فقهاء الإسلام فى كل عصر أفاضوا فى الكلام عن زواج المرتد وأجمعوا على اختلاف مذاهبهم أنه باطل بطلانًا أصليًا، وأشارت المحكمة بالتفصيل إلى المراجع الفقهية التى استندت إليها فىالحكم ببطلان زواج البهائى بزوجة بهائية أو غير بهائية. وما جاء فى الحكم من مناقشة فقهية لهذه المسألة يصلح مرجعًا للباحثين فى هذا الموضوع ومنها على سبيل المثال ما جاء فى كتاب العلامة زيد العابدين بن نجيم الملقب بأبى حنيفة الثانى من أن المرتد لا يصح منه النكاح والذبيحة والصيد والإرث والشهادة، وذكرت المحكمة أمثلة كثيرة من كتب الفقه الأساسية والتى أجمعت أيضا على أن ابن المرتد مسلم فى نظر الإسلام سواء كان حمله قبل الردة أو بعدها ما دام أحد أبويه أو أجداده مسلما.
وماذا عن النص الصريح فى الدستور الذى يكفل الحرية الدينية؟
قالت المحكمة: إن الشريعة الإسلامية هى الأصل الأصيل لكل تقنين يصدر فى البلاد، وكانت للمحاكم الشرعية فى مصر ولاية القضاء كاملة فى مختلف أنواع القضايا الشخصية والمدنية والجنائية واستمرت كذلك ثلاثة عشر قرنًا إلى أن جاءت الامتيازات الأجنبية وبعدها أنشئت المحاكم الأهلية والمحاكم المختلطة وصدرت قوانين وضعية لتطبقها المحاكم، وبعد ذلك ألغيت المحاكم المختلطة وبقيت المحاكم الأهلية التى وضعت قوانينها فى عهد نوبار باشا رئيس الوزراء بواسطة لجان كان معظمها من رجال التشريع الأجانب أو من الأجانب المتخصصين، وقبل إصدارها عرضت على شيخ الأزهر الشيخ المنيلاوى وعرضت على علماء الأزهر فأقروا بأنها لا تخالف الشريعة الإسلامية، وبعضها لا يعتمد على نص أو رأى فى الإسلام ولكنها من قبيل المصالح المرسلة التى ترك الإسلام لأهله الاجتهاد فيها بحسب ظروف المكان والزمان. وبعد ذلك نص أول دستور فى مصر على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمى. وبناء على ذلك حكمت المحكمة بأن حرية الاعتقاد التى قررها الدستور مقيدة بدليل أن النص فى البداية كما جاء فى الأعمال التحضيرية للدستور كان كما يلى: إن حرية الاعتقاد الدينى مطلقة – فلجميع سكان مصر الحق فى أن يقوموا بحرية وعلانية أو غير علانية بشعائر أى دين أو عقيدة ما دامت هذه الشعائر لا تنافى النظام العام أو الآداب العامة. وهذا النص وضعه اللورد كرزون وزير خارجية إنجلترا فى ذلك الوقت ليتضمنه الدستور المصرى، وكان هذا النص يتسع للاعتراف بحرية ممارسة أية عقيدة أو ملة سواء كانت معترفًا بها أو مبتدعة، وسواء كانت سماوية أو بشرية، ولكن واضعى الدستور تنبهوا إلى أن ذلك يمكن أن يؤدى إلى الفوضى والمساس بحقوق خطيرة مثل الإرث، والنسب، والزواج، وحقوق الفقير ومعدومى الأهلية، ولذلك طالب الشيخ بخيت شيخ الأزهر بأن يكون النص مقصورًا على الأديان المعترف بها بحيث لا يسمح بإحداث دين جديد أو أن يأتى شخص بشىء جديد، وأيد هذا الاقتراح الأنبا يؤنس ممثل الكنيسة القبطية فى اللجنة التحضيرية للدستور وقال إن سر جيوس خرج على الدين المسيحى وشرع فى استحداث دين جديد، وطلب من الحكومة الترخيص له بذلك فرفضت، وهذا دليل على أنه لا يمكن الترخيص بغير الأديان المعترف بها. وفى مناقشات هذه اللجنة قال الشيخ بخيت شيخ الأزهر إن الاعتقاد شىء والدين شىء آخر، فالمسلمون افترقوا إلى ثلاث وسبعين فرقة- لكل فرقة اعتقاد خاص- مع أن لهم دينًا واحدًا. وعلى ذلك فإن النص فى الدستور على حرية الاعتقاد تعنى حرية المسلم فى أن يغير مذهبه مثلا من شافعى إلى حنفى أو أن يترك مذهب الشيعة وينضم إلى مذهب السنة أو الخوارج أو المعتزلة، كذلك يحمى النص المسيحى الذى يخرج من المذهب الكاثوليكى مثلا إلى المذهب البروتستانتى أو الأرثوذكسى، ولكن هذا النص لا يحمى شخصًا يدعى أنه المسيح نزل إلى الأرض، أو أنه المهدى المنتظر، أو أنه رسول جديد يهبط عليه الوحى من السماء، أى أنه صاحب كتاب سماوى. إذ لا حماية لهذا المدعى فى الدستور. هذا ما حدث فى اللجنة التحضيرية لدستور 1923، وحدث أيضا أن قال شيخ الأزهر- الشيخ بخيت- فى اللجنة: (أطلب أن ينص على أن الدين الرسمى للدولة المصرية هو الإسلام) وأخذت الآراء على هذا الاقتراح فوافقت عليه اللجنة بالإجماع دون أى اعتراض أو تعليق، ثم كررت تلاوته وتكررت الموافقة بالإجماع فى أربع جلسات متتالية..
وبعد أن شرحت المحكمة تاريخ ميلاد النص فى الدساتير المصرية على حرية العقيدة وانتهت إلى أن الدستور لا يحمى المذاهب المبتدعة التى تحاول أن ترقى بنفسها إلى مصاف الأديان السماوية وهى ليست إلا زندقة. ولذلك فإن المحكمة تهيب بالحكومة أن تأخذ للأمر أهبته بما يستأهله من حزم لتقضى على الفتنة فى مهدها لأن تلك المذاهب المخربة مهما تسللت فى غفلة من الجميع متخذة من التشدق بالحرية والسلام، ومن تمجيدها لبعض الأديان سترا لما تخفيه من زيغ وضلال، فإنها لا تلبث أن تعرف أمرها، وينكشف سترها، وقد تكون قد استمالت إليها الكثيرين من الجهلة والسذج، وبذلك قد تثور نفوس المؤمنين حفاظًا لدينهم، وتكون هذه هى الفتنة بعينها التى قصد الدستور وقاية النظام العام من شرورها.
ثم تعرضت المحكمة أخيرًا إلى حجة الدفاع بأن مصر ملتزمة بميثاق حقوق الإنسان وفى مادته الثامنة عشرة: (لكل إنسان الحق فى حرية الفكر والضمير والدين، وهذا الحق يكفل له الحرية فى تغيير دينه أو معتقده وحرية الإعراب عنها بالتفكير والممارسة والعبادة وإقامة الشعائر الدينية)، فقالت المحكمة: إن المواثيق الدولية غير ملزمة للمحاكم إلا بعد أن تصدر بأحكامها قوانين من السلطة التشريعية، كما أشارت المحكمة إلى الولايات المتحدة- وبها مقر الأمم المتحدة- لم تطبق ما جاء فى ميثاق حقوق الإنسان عن عدم التفرقة والتمييز بسبب العرق أو اللون أوالجنس أو اللغة أو الدين، فالتميز فى الولايات المتحدة أمر معروف.
هكذا ناقشت محكمة القضاء الإدارى فى هذا الحكم الذى صدر يوم 26 مايو 1952 كل ما يمكن أن يثار حول البهائية من المسائل الشرعية والدستورية والقانونية، ولذلك نرى أن المحكمة الدستورية العليا حكمت بعد ذلك بدستورية قانون حظر نشاط البهائية وكررت تقريبًا نفس الأسباب.
وكما دخل هذا الحكم التاريخ دخل القضاة الذين أصدروه التاريخ أيضًا وهم المستشار عبد المجيد التهامى، والمستشار على منصور، والمستشار عبد العزيز الببلاوى، وكان حكم المحكمة الدستورية برياسة المستشار بدوى حمودة.. وجميعهم من أعظم رجال القضاء الذين عرفتهم مصر وتفخر بهم.