كوندوليزا.. ماذا بعد الاعتراف ؟
ببساطـة مستفزة اعترفت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس بأن الولايات المتحدة ارتكبت آلاف الأخطـاء فى العراق، ولكنها مع ذلك حققت الهدف الاستراتيجى وهو- كما قالت- الإطـاحة بنظـام حكم صدام حسين، ولم تكتف الوزيرة بذلك، ولكنها ألقت على الأنظمة العربية وحدها المسئولية عن الأزمات والكوارث التى تحيط بالدول العربية دون إشارة إلى مسئولية الإدارة الأمريكية التى نفذت الاستراتيجية التى اخترعتها بإثارة (الفوضى الخلاقة) فى المنطقة فحققت الشق الأول وهو الفوضى ودمرت كل شىء فى العراق: الإنسان، والنبات، والثروة البترولية، والمدن ولكنها لم تستطـع- ولن تستطيع- أن تحقق الشق الثانى وهو إعادة بناء عراق ديمقراطـى يتمتع شعبه بخيراته ولا يستمر النهب إلى ما لا نهاية.
?الوزيرة التى تعكس تصريحاتها مدى التخبط فى السياسة الخارجية الأمريكية ربما تتصور أن الشعوب العربية فاقدة للذكاء والذاكرة، فلا يزال الجميع يذكرون أن استراتيجية الحرب كما أعلنها الرئيس بوش ونائبه تشينى ووزير الدفاع رامسفيلد ومستشارة الأمن القومى وقتها كوندوليزا رايس كانت تدمير أسلحة الدمار الشامل التى قالوا علنا ورسميا إنهم على يقين من وجودها ثم ظهر بعد ذلك أنهم جميعا كانوا يعلمون أنها غير موجودة، وإذا كانت استراتيجية الدولة العظمى قائمة على غزو البلاد للإطاحة بحكامها المستبدين، فإن هذا يعنى أن الولايات المتحدة سوف تصبح البديل للشعوب، فالشعوب هى التى تختار زعماءها وهى التى تطيح بهم، أما تدمير بلد ونشر الخراب فيه بالصورة التى أصبح عليها العراق لتخليصه من حاكم مستبد، فهو أشبه بالنكتة السخيفة التى تقول إن أسهل طريقة للقضاء على المرض هى القضاء على المريض!
وهل يمكن أن يكون شعب العراق الذى عانى من حكم صدام أحسن حالا عندما يعيش تحت الاحتلال العسكرى؟.. وهل ستتولى حكومة أمريكا إدارة شئون دول المنطقة، كما نرى فى لبنان أيضا وفى غيره؟.. فقد أصبحت أمريكا اللاعب الأكبر فى لبنان الآن وكان حادث اغتيال رفيق الحريرى الفرصة التى جعلتها تتدخل فى الانتخابات، وفى النزاع السياسى بين رئيس الجمهورية الذى يمثل تيارا ورئيس الحكومة الذى يمثل التيار الآخر، ولا يخفى على أحد أن الهدف الحقيقى لهذا التدخل هو إعادة الأوضاع فى لبنان وفقا لنظرية الفوضى الخلاقة، لإعادة بناء لبنان جديد يضمن الأمن لإسرائيل ويقضى على كل احتمالات المقاومة لاعتداءات إسرائيل المتكررة على لبنان.. ونفس الهدف تحاول الإدارة الأمريكية تحقيقه بتشجيعها للمعارضة السورية فى الداخل والخارج للتحريض على إثارة الفوضى الخلاقة فيها أيضا، وبالقطع هناك دول أخرى سيأتى عليها الدور وهناك عمليات فوضى من هذا النوع تعمل الإدارة الأمريكية على إعدادها وإعداد كوادرها!
ومما يؤكد أن الاستراتيجية الأمريكية ليست مقصورة على العراق أن الوزيرة لم تتحدث عن نظام صدام الاستبدادى وحده.. بل تناولت أنظمة الحكم فى الدول العربية ووضعتها فى سلة واحدة، ووصفتها بالاستبداد، وبأنها تثير اليأس الشديد وأنها تغذى أيديولوجية الحقد التى تدفع بأشخاص إلى لف أجسادهم بالقنابل أو مهاجمة مبان بالطائرات، ووعدت كوندوليزا رايس فى حديثها فى المعهد الملكى للشئون الدولية فى لندن بأن تصبح ثقافة الدول العربية مثل ثقافة أمريكا الديمقراطية، ومثل ثقافة العراق بعد أن أصبح ديمقراطيا، وتصورت الوزيرة أن أحدا ممن سمع حديثها يمكن أن يعتبر ذلك حديثا جادا وليس نكتة!
تحدثت الوزيرة عن نجاح الولايات المتحدة فى إقامة الديمقراطية فى العراق، بينما كتب توماس فريدمان فى نيويورك تايمز فى نفس اليوم أن مستقبل العملية الأمريكية فى العراق على المحك مع دخول الحرب مرحلة خطيرة من العنف والوحشية وينذر بحرب أهلية، وأن العراقيين يعيشون الآن فى دائرة الخوف والانتقام، ولن يجدوا الحماية إلا فى ميليشيات من طائفتهم وليس من الشرطة أو الجيش.
وتعلن الإدارة الأمريكية بفخر نجاحها فى بناء قوات جيش وبوليس فى العراق، بينما يقول فريدمان فى مقاله نقلا عن مصادره إن التشويش والنزاع بين العسكريين الأمريكيين والجيش العراقى ووزارة الداخلية العراقية أدى إلى موقف يجعل المواطن العراقى لا يعرف ما إذا كان رجال الأمن المتواجدون فى الشوارع من الأصدقاء أم من الأعداء أو هم من الإِرهابيين، أو من مجموعات اللصوص والمجرمين، فالجميع يظهرون بنفس الزى.. والنتيجة أن المواطنين والمحلات تتعرض للسرقة ويتم اختطاف المواطنين بسهولة فى وضح النهار، مع أن الناس يرون قوات الأمن فى كل مكان!
هذه الصورة الحزينة للواقع العراقى الآن يعلنها توماس فريدمان القريب من المخابرات الأمريكية ومن البيت الأبيض الذى كان متحمساً لغزو العراق معلنا بأن ذلك سيحقق لأمريكا عدة أهداف: تدمير القوة العراقية التى قد تمثل تهديدا لإسرائيل فى يوم ما، والسيطرة على البترول والتواجد العسكرى الأمريكى فى المنطقة بما يمثله من قوة ردع وضغط على دول المنطقة.
وليس فريدمان وحده الذى يرسم هذه الصورة المأساوية التى آل إليها العراق بعد الغزو والاحتلال، فقد تزايد عدد الكتاب الذين لم تعد ضمائرهم تحتمل كل هذه الدماء التى تسيل على أرض العراق دون توقف منذ ثلاث سنوات، وقد لخصت مراسلة صحيفة واشنطن بوست فى العراق (جاكى سبينر) ما يحدث بقولها: إن الأمريكيين لا يحتملون العراقيين، ولا أستطيع أن أمنع نفسى من الشعور بالغضب كلما شاهدت جنودا أجانب يتجولون فى العراق وكأن البلد ملكهم، بينما الاتصالات مقطوعة بين الأمريكيين والمواطنين العراقيين، والعسكريون الأمريكيون يعاملون العراقيين على أنهم إرهابيون، العراق الآن مكان مخيف، فظيع، عنيف، ويجب أن يتحاشى الزائر للعراق الظهور بمظهر الإنسان العبد أمام العراقيين والعراقيات الذين لا يشعرون بالسعادة على الاطلاق.
ليس ذلك فقط.. بل إن العراقيين والعراقيات يعانون من الاضطرابات النفسية والعصبية، كما جاء فى تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية ذكرت فيه أن الشباب والمراهقين أصبحوا ميالين للعنف ويعانون من عدم الشعور بالأمان وأن الكبار مصابون بالاكتئاب، يقول التقرير: إن العراقيين يعيشون فى مرحلة اكتئاب نفسى شديد ازدادت حدته خلال السنوات الثلاث الماضية لما شاهدوه من قتل واختطاف وانفلات أمنى وما قاسوه من إهانات وبطالة وانهيار الخدمات الأساسية.
وهذا التشخيص جاء فى تقرير لمدير مصحة الرشاد للأمراض النفسية قال فيه أيضا: إن العراقيين فى حاجة إلى علاج نفسى جماعى، وأن الحالة العامة أصبحت لا تطاق نتيجة الخوف من الانفجارات المفاجئة التى تحدث فى كل مكان وفى أى وقت ومشاهدة حمامات الدم ورؤية العسكريين الأمريكيين فى شوارع بغداد، مما يصيب العراقيين بأمراض الكبت النفسى، والمشكلة أن معظم مصحات الأمراض النفسية والعقلية أغلقت لعدم وجود أدوية أو لأنها دمرت فى غارات أمريكية، مما أدى إلى هجرة الأخصائيين المتميزين، ولم يعد فى العراق سوى مصحتين فقط للعلاج النفسى لا يقدمان علاجا حقيقيا لعدم وجود أدوية وأجهزة، وذكرت الوكالة حالة خبير عراقى فى علم الجيولوجيا أصيب بانهيار عصبى عندما شاهد جنديا أمريكيا يصوب مدفعه إلى مواطن عراقى ويقتله، مع ملاحظة أن معظم حالات الأمراض النفسية والعصبية تعالج وفقا للمعتقدات الشعبية ولا تذهب إلى المصحات بسبب الخجل من ناحية وعدم وجود رعاية كافية من ناحية أخرى.
هل هذا هو نعيم الاستقرار والرخاء والديمقراطية الذى يتحدث عنه الرئيس بوش وأعوانه كل يوم ويقولون إنه النموذج الذى ستصبح دول المنطقة كلها على مثاله؟
إن حرب العراق بحق هى حرب الأكاذيب.. حرب القوة التى لا يهمها القانون أو العدل أو أرواح البشر.. حرب تدعى الإدارة الأمريكية أنها لإعادة الحرية والكرامة إلى الشعب العراقى، بينما اهدرت ما كان لديهم من حرية وكرامة ويكفى أن القادة العسكريين الأمريكيين يتحدثون عن المواطنين العراقيين على أنهم (الأعداء) وهم يشرحون لجنودهم خطط الهجوم على المدن والمذابح فى الفلوجة وغيرها، ويكفى أن عملاء أمريكا أعلنوا أخيرا أن الحال فى العراق الآن أسوأ مما كان فى ظل الحكم الدكتاتورى السابق.
هل سيستمر الحال كما هو عليه الآن؟
الرأى العام الأمريكى بدأ يفيق ويدرك الحقيقة بعد أن نجحت الإدارة الأمريكية فى السنوات الثلاث الماضية فى تخدير الجميع بإثارة الرعب من تكرار هجوم 11 سبتمبر وترديد الأكذوبة الكبرى بأن العراق خطر على الأمن القومى لأمريكا.. الآن مظاهرات فى المدن الأمريكية وفى أنحاء العالم، وتيار قوى فى الكونجرس يطالب بوقف هذه المهزلة التى تستنزف أموالاً وأرواحاً أمريكية دون طائل وتزيد الكراهية لأمريكا فى المنطقة، وفى العالم كله وتضر بمصالحها الحيوية على المدى البعيد، وحتى عراب الحرب توماس فريدمان الذى كان يصفق للانتصار الأمريكى الساحق عاد أخيرا ليقول: لا أعرف ما يجب عمله لإنقاذ الموقف، ولكن على الأقل يجب التوقف عن الكذب وتقديم صورة زائفة عما يحدث.. ويؤسفنى أن أكون متشائما ولكن يجب قرع أجراس الإنذار لأن الذى يحدث فى بغداد أمر بالغ السوء.. ولا تصدقوا أحاديث فريق بوش المتفائلة.
هل نصدق كوندوليزا أو نصدق فريدمان؟
يبدو من مجمل الصورة أن الإِدارة الأمريكية تبحث الآن عن كيفية التغطية على هزيمتها فى العراق، وأنها تتخبط فى السياسات والقرارات، وتريد من الآخرين إنقاذها وحفظ ماء وجهها، وآخر ما وصل إليه تفكيرهم أن تتولى قوات من الدول العربية والإِسلامية تحمل المخاطر، وإعادة الأمن والاستقرار فى أنحاء العراق، ومواجهة هجمات جماعات المقاومة وميليشات الطوائف وعمليات الإرهابيين على أن تبقى قوات الاحتلال الأمريكية فى معسكراتها تنعم بالاستقرار لسنوات لا يعلم أحد مداها وراء الجدران والأسلاك الشائكة، وتترك الأرض الخراب ليتحمل الشعب العراقى تكلفة إعادة البناء الذى يستغرق عشرات السنين، وفقا للتقديرات المتفائلة.
ولكن هذه الخطة التى تصلح لسيناريو فيلم من أفلام هوليود سوف تواجه بالفشل أيضا، فكل الطرق مسدودة ونهايتها الفشل، والحل الوحيد هو الانسحاب تدريجيا وبعد الانسحاب يمكن للدول العربية والإسلامية أن تشارك فى حفظ الأمن إذا تلقت دعوة من حكومة عراقية تعمل تحت العلم العراقى وحده، بحيث يعود العراق إلى الشعب العراقى وحده.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف