الأحـــــــلام الممكنــــــة.. والأحــــــلام المستحيلة!
على مدى سنه كاملة كنا نستمع إلى المرشحين للرئاسة وهم يعرضون أفكارهم وبرامجهم، ويواجهون النقد والهجوم، ورأيناهم وهم يطوفون أنحاء البلاد من أقصاها إلى أقصاها.. ذهبوا إلى القرى والكفور وعزبة الصفيح، ونثروا الوعود بلا حساب وصدق عليهم التعبير الشعبى بأنهم جعلوا البحر طحينه، فهل كل ما قيل يمكن تحقيقه أم هى مجرد وعود انتخابية ينطبق عليها المثل الشعبى «كلام الليل مدهون بالزبده، فإذا طلعت عليه الشمس يسيح»؟.
وبالفعل لن يستطيع أى رئيس أن يحقق كل ما جاء فى برنامجه من وعود جميلة، وكل برنامج يحتاج إلى عشرات السنين، ولكن الوعود كانت واسعة جدا، حتى أن مرشحا أعلن أنه إذا أصبح رئيسا فسوف يقضى على الانفلات الأمنى ويعيد الأمن والاستقرار إلى الشارع فى 24 ساعة لا أكثر.. ولغرابة هذا الوعد كتب بعض الشباب المشاغبين على الانترنت إن هذا المرشح لابد أنه هو الذى صنع الفوضى وأطلق البلطجية مما يجعله واثقا أنه يستطيع أن يجمعهم ويمنعهم (واللى حضر العفريت هو اللى يعرف يصرفه) ومرشح آخر أعلن أنه قادر على جلب استثمارات لمصر من الخارج بمائة مليار دولار ولديه وعود وتعهدات بذلك، وهذا وعد لا أحد يتصور كيف يمكن تحقيقه ومائة مليار دولار تساوى ستمائه ألف مليون جنيه مصرى وهذا رقم لم نسمع عنه من قبل- ومرشح أعلن أنه فى اليوم التالى لدخوله قصر الرئاسة سيكون أول قرار يصدرة هو أن يكون الحد الأدنى للأجر فى الحكومة والقطاع العام وأيضا فى القطاع الخاص (1250) جنيها دون أن يبين لنا من أين سيتمكن من تدبير الموارد لهذه الزيادة الكبيرة (وأن كانت بالطبع زيادة عادلة) مع عجز الموازنة وتضخم الديون الداخلية والخارجية وتراجع معدل النمو الاقتصادى وتوقف أكثر من ألف مصنع!
صحيح أن هذه الفترة- فترة الطموح القومى والرغبة فى تحسين الأوضاع- هى فترة الحلم ولكن من الضرورى أن هناك فرقا بين الأحلام الممكنة والأحلام المستحيلة، وفرقا بين الأحلام التى يمكن تحقيقها فى 24 ساعة والأحلام التى يمكن أن تتحقق بعد 24 شهرا وأحلام تحتاج لتحقيقها 24 سنه،وليس فى ذلك ما يدعو إلى اليأس، لأن كل عمل لابد أن يتم فى الزمن، بعض الأعمال تتم فى زمن قصير وبعضها لا يمكن أن تتم إلا فى وقت أطول، ولذلك يعد العقلاء خطة للمدى القصير وخطة للمدى الطويل، ولا يلقون الوعود جزافا ولكن يطلقون الوعود بحساب.. حساب التكلفة ومصادر التمويل وتوافر الكوادر والزمن اللازم لإعدادها وتغيير مفاهيم القيادات والعاملين.. وكل ذلك يحتاج إلى زمن.. لا شىء يمكن أن يتم بدون الزمن.. ولكن السادة المرشحين أغرقونا بالوعود ولم يقولوا متى يمكن ان يتحقق كل مشروع من المشروعات وكل فكرة من الأفكار وكل حلم من هذه الأحلام التى صورت لنا أن هذا المرشح سوف يجعل مصر أقوى وأغنى دولة فى العالم، وهذا ما جعل بعض من أعرفهم يعلقون على هذه الوعود بأنها «كلام وخلاص» و«ابقى قابلنى» مما يعنى أن وعى الناس العاديين لم يصدق أن كل هذه البرامج سيتم تحقيقها فى أربع سنوات ولاّ فى عشر.
***
كان يكفى أن يعد المرشح بأنه سوف يسعى، ويبذل جهده، ولتحديث المجتمع المصرى على ثلاث دعائم، الأولى: تكافؤالفرص بين جميع أبناء مصر دون تفرقة أو تمييز على أساس الدين أو العقيدة السياسية والانتماء الحزبى ولكن سوف يقضى على الامتيازات التى كان يتمتع بها الصفوة فى دائرة الفساد ويحرم سائر أبناء المواطنين العاديين من حقوقهم، وكم من شاب حاصل على تقدير أمتياز لم يحصل على وظيفة وحصل عليها من يحمل تقدير مقبول لأنه ابن فلان أو لأنه دفع رشوة لفلان باشا، وكم تبدد من أموال الشعب ونهبت بسبب العلاقات الشخصية والمصالح الخاصة والاشتراك فى (نادى الفساد).. لو استطاع الرئيس أن يحقق هذا فإنه يكون قد حقق معجزة لأنه بذلك سيعيد الثقة إلى النفوس، وسيعيد الاستقرار النفسى والاجتماعى إلى البلد كله، وسيعيد الشعور بالولاء والانتماء لدى الذين فقدوا الولاء والانتماء بسبب هذا الفساد. سهلة إذا حاول الرئيس القادم أن يخوض هذه المعركة، وانتصاره فيها ليس مضمونا، لأن الفساد تغلغل وانتشر، وصارت له أنياب ومخالب، وله أيضا أنصار وأتباع، والأخطر أن له فكرا فلسفيا ودينيا وأخلاقيا خاصا لتبرير الفساد. ومن الدعاه من يؤيدون الفساد ويلهجون بالدعاء للفاسدين والدعوة إلى الثقة فيهم وطاعتهم!
إذا استطاع الرئيس القادم أن يغير الحال بحيث يستوعب المجتمع جميع ابنائه، ويتقبل الناس جميعا الاختلاف بينهم فى الفكر، ويؤمنون حقيقة بحرية الرأى وعدم تحويل الأختلاف إلى عداء، والكف عن الحكم على المخالفين بأنهم كفار قريش، وبأن الصحفيين أصحاب الرأى هم سحرة فرعون ، وأن الذين يطالبون بتحديث المجتمع هم حزب الشيطان.. إذا توقف هذا التدهور فى الفكر فسوف يكون هذا حلما يفتح الباب للتقدم، وإذا بقى هذا (الفساد الفكرى) فلن تتقدم مصر حتى ولو تدفقت عليها المائة مليار وأكثر.. الأموال وحدها لا تصنع الحضارة.. العقول هى التى تصنع الحضارة وتوّلد الأموال.
ولا أعرف كيف سيعمل الرئيس القادم وقد أصبح لدينا 57 حزبا، و14 حزبا جديدا تحت التأسيس، و668 تيارا وائتلافا شبابيا وسياسيا، والمشهد السياسى يخيم عليه عدم الاستقرار،والاعتصامات والمظاهرات مستمرة، وسقف المطالب الفئوية يرتفع كل يوم دون توقف، والوضع الاقتصادى غير مستقر، والبطالة زادت خلال السنه ونصف السنه الماضية، والأسعار ارتفعت وجعلت الحياة صعبة على ناس ومستحيلة على آخرين، وحالة القلق سائدة ونلمسها فى تصرفات الناس فى الشارع وحتى فى البيوت..
***
ليس معنى ذلك أن الرئيس القادم لن يفعل شيئا، فليس لدى شك فى أن كل من رشح نفسه كان فعلا يريد أن يحقق أحلامه، ولكن البعض كانت أحلامه واقعية وممكنة والبعض الآخر كانت أحلامه مستحيلة التحقيق فى المدى المنظور وبالقدرات والامكانات المتاحة والمتوقعة.. الرئيس القادم لديه فرصة تاريخية لتحقيق الممكن وإذا تفهم ما قاله استاذنا محمد حسنين هيكل من أن فترة رئاسته هى فترة انتقال من مرحلة انفجار الثورة إلى مرحلة البناء، وهى فترة ستكون مزدحمة بالهواجس، مكشوفة للمطامع وللتدخلات والاعتراضات، وسيقف فى طريقه أنصار النظام السابق والمنتفعون منه، وأيضا خصوم التقدم فى الخارج، وهؤلاء وهؤلاء سيخوضون فى الفترة القادمة آخر معاركهم لكيلا تحقق الثورة أهدافها التى تتعارض مع مصالحهم.
الرئيس لن يكون زعيما، ولا قائدا أملهما يهبط عليه الوحى، وسيعمل للخدمة العامة مع شعب اكتسب الوعى والإرادة وقادر على أن يوجه السفينة فى الاتجاه الصحيح ولن يسمح أبدا بالانحراف عن طريق الثورة.
إذا أدرك الرئيس ذلك فيكفى ليكون رجل المرحلة.

 
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف